وكلما فكرت في كفاحنا السياسي أحس ألما للعقم الذي لازمه إلا القليل من الثمر الذي حاول المستبدون والمستعمرون إفساده. فقد أثمر هذا الكفاح دستورا غيره المستبدون مرة ثم عطلوه مرة ثم ألغوه واستبدلوا به آخر مرة. ونجحوا في أن جعلوا ديمقراطيتنا كاريكاتورية. ولكن مما يبعث السرور إلى نفسي أني لم أتضعضع ولم أترك المعسكر الوطني لمكافحة المستبدين والمستعمرين كما فعل كثير من الأدباء ممن طمسوا النور الذي كان في قلوبهم وأطفئوا وهج نفوسهم كي يصلوا إلى حياة أو مال فانخاروا إلى الاستعمار الأجنبي أو الاستبداد الوطني.
في خدمة الشباب
منذ تأسست جمعية الشبان المسيحية في القاهرة حوالي 1922 وأنا عضو فيها. ولكن عضويتي كانت شكلية إذ كنت قليل الزيارة لها. وبقيت على ذلك نحو ست أو سبع سنوات حين طلب مني سكرتيرها الأستاذ نجيب قلادة أن أقبل المناظرة مع الأستاذ توفيق دياب بشأن الأدب المكشوف والادب المستور. وكنت أنا في موقف الدفاع عن الأدب المكشوف باعتبار أن الأدب يجب أن يكون حرا طليقا لا يتقيد بأي قيد سوى ضمير الكاتب. وكان الأستاذ توفيق دياب يرى أنه يجب أن تكون هناك قيود وحدود اجتماعية لا يجوز للكاتب أن يتجاوزها.
وأحدثت هذه المناظرة اهتماما بين الشبان ولغطا غير منير في المجلات. وحوالي 1929 زاد اتصالي بالجمعية وعرفت سكرتيريها الأمريكيين والمصريين. ثم حوالي 1933 رغب إلي الأستاذ نجيب قلادة كي أكون مستشارا للمكتبة. ومنذ تلك السنة إلى الآن وأنا أزور الجمعية نحو ثلاثة أو أربعة أيام كل أسبوع تقريبا.
ورأيت في اتصالي بالشبان فائدة كبيرة لي ولهم؛ فقد كانت مهمتي الأولى أن أوجههم إلى القراءة وأعين لهم الكتب التي يستطيعون الانتفاع بها سواء أكانت عربية أم إنجليزية أم فرنسية. وكنا نعقد اجتماعا كل يوم اثنين نتحدث فيه حديثا «عائليا» وكلنا قعود، بعضنا يشرب الشاي أو يدخن على مقاعد مريحة. وكانت أحاديثنا تتناول بالطبع مشكلات الشباب سواء أكانت ثقافية أم جنسية أم عائلية. ولذلك كان الاتجاه الجنسي يزداد بروزا في هذه الأحاديث. ومن هنا الفائدة التي وجدتها لنفسي من هذه الأحاديث؛ فإن هؤلاء الشبان كانوا «المواد الخامة» التي استطعت أن أدرس بها الطبيعة البشرية.
ذلك أن هؤلاء الشبان كانت تترجح أعمارهم بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين؛ ولذلك كانت المشكلة الجنسية بارزة عندهم جميعا. وهذه المشكلة الأصلية تحرك مشكلات عائلية واقتصادية واجتماعية أخرى. وكثيرا ما وجدت أن أحد الشبان كان مثقلا أو مرهفا بالعاطفة الجنسية التي كان يتخلص منها بالعادة السرية. وكثيرا ما كنت أجد أن الخيبة في الامتحانات المدرسية تعود إلى الانغماس في هذه العادة التي يزيد خطرها فداحة أن الجنسين لا يختلطان. فإن اعتزال كل جنس للآخر يحمله على الاستسلام للخيال ثم يلتزم هذا الخيال حتى يعود وكأنه في «شيزوفرنيا» أي هذا الجنون الذي يتسم بالاستسلام التام للخيال والانفصال التام من الواقع ومن المجتمع.
وكثيرا ما فكرت في هذا الموضوع المعقد أي كيف يرفه الشاب الأعزب المرهق بالعاطفة الجنسية عن نفسه في مجتمعنا المصري الانفصالي. وما زلت أذكر شابا كان حوالي العشرين جاء إلي في ذل وصغار يلمح أحيانا ويصرح أحيانا بأنه لا يطيق حالته وأن يوشك على عمل خطير إن لم يتخلص من العادة السرية. وكان قد أمعن فيها حتى صار يحلم أحلاما جنونية، وكان يبقى طوال النهار التالي وهو مكتئب بسببها لأن هذه الأحلام كانت تبدو له حقيقية، وبكلمة أخرى شرع عقله يختلط.
ورأيت أن أنصح له بالرقص مع إحدى الفتيات. ونفر هو من هذا الاقتراح، كما كان ينتظر؛ لأن المستسلم لهذه العادة يؤثر الانفراد والخيال ويكره الاختلاط والواقع. ولكني بعد جهد استطعت أن أقنعه بأن يحاول هذه التجربة؛ إذ لعلها تنجح. وكان له أصدقاء يرقصون فرافقهم، وبعد المحاولات الأولى الفاشلة تم التعارف بينه وبين بضع فتيات وحذق بعض الرقصات وصار يزور المراقص.
ورأيته بعد نحو شهرين فخلوت به وسألته عن حاله فأخبرني - وأنا في دهشة عظيمة - أنه منذ تعلم الرقص كف عن العادة السرية. وكان تعليله عجيبا، فقد قال إن في الرقص من الشهامة والذوق والجمال - وهي صفات تلازم الرقص - ما يناقض الذلة والصغار والحقارة التي في العادة السرية. وتأملت الشاب وهو يصرح بهذه الكلمات فوجدت في وجهه وإيماءته مصداق ما يقول، فقد ذهب عن وجهه التردد والخوف وازدان بجرأة وشهامة.
وكان في هذا الكلام نور لي. وبالطبع كانت الحالات تختلف. فهناك من كان ينجع فيه النصح بالاهتمام بالكتب والثقافة. وهناك من كان يجد في النجاح المدرسي ما يشغله عن هذه العادة. ولكن الرقص كان من أعظم الوسائل الشفائية وخاصة للحالات الخطيرة.
صفحة غير معروفة