وإذا تركنا هذا النقص في حرية الفكر باعتباره أحد الأسباب لتعطيل التأليف الحر في مصر فإنه يبقى علينا أن نقول إن هناك نقصا آخر يساعد على هذا التعطيل هو تقصير دور النشر في القاهرة وبيروت وغيرهما عن خدمة المؤلفين بترويج مؤلفاتهم بالطريق التجارية المألوفة في بيع أية سلعة أخرى. فإن الكتاب في السوق سلعة لا تختلف من غيرها وتحتاج إلى الأساليب التي تروج بها السلع الأخرى في نظامنا التجاري الحاضر. كما أن إخراج الكتاب بالطبع والتغليف لا يزال دون ما يستحق من العناية.
ولهذا لا يزال المؤلفون يستعينون بالصحافة على التأليف. ولا أكاد أعرف مؤلفا عربيا يجد كفاية عيشه من التأليف وحده؛ إذ هو في أغلب الحالات يستعين بعمل آخر. وأقرب الأعمال إلى التأليف هو الصحافة.
ولكن الصحافة للمؤلف تنفع وتضر.
فهي تنفع لأنها تلصق المؤلف بالجمهور وتبرز في وعيه أحداث العالم وتطوراته وتحمله على أن يكون شعبيا في أغلب الحالات. ولكنها تضر من حيث تعويده السرعة بل العجلة في التأليف والرضا بالنتيجة الوقتية دون التمهل والإتقان.
وظني أنه يمكن المؤلفين أن يرصدوا حياتهم أو معظمها للتأليف إذا وجدوا الخدمة المتقنة من الناشرين في الارتقاء بالطبع والإخراج مع النشاط في التوزيع. •••
وأخيرا أحب أن أنبه إلى أن التأليف ليس صناعة أو حرفة وإنما هو حياة؛ ذلك أن موظف الحكومة أو المتجر أو المصنع أو صاحب الدخل من العقار أو الأرض أو الشركة، كل هؤلاء يعملون - إذا عملوا - انتظارا للأجر أو الربح. وليس لعملهم أية علاقة بحياتهم، عملهم ينفصل من حياتهم إذ هو وسيلة للحياة وليس الحياة نفسها.
ولكن المؤلف يحيا في مؤلفاته كما أن مؤلفاته تحيا فيه. فهو مشتغل الفكر دائب التأمل يمارس الحياة وهو يلحظ منها موضوعاته التأليفية. بل إن هذه الموضوعات تغمره وتتدخل في علاقاته العائلية والاجتماعية والاقتصادية.
وحياة التأليف هنا تشبه حياة الفلاحة التي تغمر الفلاح في كل يوم من أيام حياته، بل في كل ساعة؛ فهو لا ينتظر منها الأجر فقط إذ هو يحياها في نخاع عظامه. أي إنه لا يجعل من الفلاحة وسيلة للعيش فقط وإنما هو يحيا حياة الفلاحة والزراعة، حياة الريف التي يجعل منها هدفا أكثر مما يجعل منها وسيلة.
ذكريات من حياة «مي»
قصة «مي» هي عندي ذكرى ثم أسف.
صفحة غير معروفة