المقدمة
الطفولة والصبا
أمي وإخوتي
القاهرة فيما بين 1903 و1907
أول وجداني الذهبي
كرومر وجورست وكتشنر
الآفاق الأوروبية تتفتح لي
أنا أربي نفسي
تربيتي الأدبية
تربيتي العلمية
ذكريات الحرب الكبرى الأولى
ثورة 1919
زوجة وأطفال
شخصية عرفتها
كفاحي الثقافي
كفاحي السياسي
في خدمة الشباب
من الأفلام الماضية
بعض الأدباء الذين عرفتهم
التدابير الإنجليزية لفقرنا وجهلنا ومرضنا
فلسفة وديانة
هذا العمر
من 1919 إلى 1947
برنامج السنوات العشر القادمة
عشر سنوات
سن السبعين
السبعون سنة الأولى من عمري
مؤلفاتي التي وجهتني
ذكريات من حياة «مي»
المقدمة
الطفولة والصبا
أمي وإخوتي
القاهرة فيما بين 1903 و1907
أول وجداني الذهبي
كرومر وجورست وكتشنر
الآفاق الأوروبية تتفتح لي
أنا أربي نفسي
تربيتي الأدبية
تربيتي العلمية
ذكريات الحرب الكبرى الأولى
ثورة 1919
زوجة وأطفال
شخصية عرفتها
كفاحي الثقافي
كفاحي السياسي
في خدمة الشباب
من الأفلام الماضية
بعض الأدباء الذين عرفتهم
التدابير الإنجليزية لفقرنا وجهلنا ومرضنا
فلسفة وديانة
هذا العمر
من 1919 إلى 1947
برنامج السنوات العشر القادمة
عشر سنوات
سن السبعين
السبعون سنة الأولى من عمري
مؤلفاتي التي وجهتني
ذكريات من حياة «مي»
تربية سلامة موسى
تربية سلامة موسى
تأليف
سلامة موسى
العالم طيب ... إني أبارك على الحياة.
رامبو
المقدمة
ميلاد كل منا هو مغامرة مع القدر، نخرج إلى العالم بكفاءات وراثية لا تتغير من أبوين لم نخترهما. ونعيش في وسط، تتكون فيه نفوسنا وتملى علينا فيه العقائد وطرز السلوك، قبل أن نستطيع أن نغيره. ثم تتوالى علينا الحوادث التي تقرر اتجاهاتنا في الحياة وتقع بنا الكوارث التي نتكيف بها وننزل على مقتضياتها. وعلى الرغم من أننا جميعا نصاغ في قالب البشرية، فإن كلا منا فذ في هذه الدنيا قد كتبت حظوظه - أو أكثرها - قبل أن يولد، إن خيرا وإن شرا. ولذلك فإن قصة كل منا هي قصة فذة مفردة تستحق أن تروى وتقرأ.
وكلنا يحب أن يتحدث عن نفسه، وأحيانا يسرف ويدمن في هذا الحديث حتى يثقل على إخوانه. ولكن - مع ذلك - لا تكاد تخلو حياة إنسان مما يجدر ذكره للمغزى أو العبرة إلا إذا كانت حياة أبله قد مرت الاختبارات دون أن ينفعل بها. وواضح أن مثل هذه الحياة لا تزيد كثيرا - من حيث المغزى أو العبرة - على حياة البقول.
وأحيانا تضطرب العصور التي يعيش فيها المجتمع، فيبعث هذا الاضطراب وجدانا - أي وعيا - بالأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع؛ فيذكو، حتى العقل الخامد. ويتنبه، حتى القلب الغافل. ونأخذ جميعا في التساؤل والاستطلاع، ونرفض التسليم بالقيم السابقة أو الطاعة للتقاليد الموروثة. ثم نتطلع إلى المستقبل ونحاول أن نخترع الأساليب الجديدة للعيش.
وقد قضيت عمري إلى الآن 1947، وهو يقارب الستين، في بقعة مضطربة من هذا الكوكب، هي مصر. وعشت هذا العمر وأنا أرى انتقالها المتعثر من الشرق إلى الغرب؛ أي من آسيا إلى أوروبا. وعاينت مخاضها وهي تلد هذا المجتمع الجديد الذي لا يزال طفلا يحبو، كما عاينت كفاحها للإنجليز المستعمرين وللرجعيين المصريين. وكل هذا يستحق أن يروى وأن يقف عليه الجيل الجديد.
وأنا إذن في هذه السيرة لست مؤرخا لنفسي فقط؛ إذ إني حين أترجم بحياتي وأصف للقارئ كيف تكونت شخصيتي وكيف ربيت نفسي، بل حين أعزو إلى نفسي بعض الفضل في تحطيم المعابر التي كانت تصل يومنا بأمسنا، أي بالقرون المظلمة، وتحاول ربط تاريخ الغد الحافل بالاقتحام والشجاعة والرؤيا بتاريخ الأمس وهو مأساة حالكة بالظلم والفاقة والجهل والجبن، في كل ذلك إنما أروي تاريخ العصر الذي عشت فيه وتاريخ الجيل الذي كنت أحد أفراده.
ولكني، مع أني سأروي تاريخ مصر أو أشير إلى الأعلام البارزة فيه مدة حياتي، فإني مع ذلك لن أكون الراوي الموضوعي؛ لأني في هذه السيرة، سوف أنظر بعدستي الذهنية وأؤثر الانفعال الذاتي على الحقيقة الموضوعية؛ لأني أترجم بالسيرة قصدا أولا، وأدون التاريخ عرضا ثانيا.
وواضح أن كل سيرة يرويها صاحبها يعيبها نقص هو الذاتية؛ إذ يشق على أذكى الناس أن يحلل نفسه ويعرض لتاريخه التحليل والعرض الموضوعيين، ولكن هذا العيب هو أيضا ميزة؛ لأن القارئ ينتفع بشيء آخر لا يجده في الرواية الموضوعية، يكتبها غيرنا عنا، وهو أنه سيقف على وقع الحوادث في الكاتب.
وقد يعيب السيرة الذاتية أيضا أن مؤلفها لن يبوح بكل ما يعرف، وخاصة إذا كان ما يحب أن يبوح به يتصل بأشخاص لا يزالون أحياء يكره أن يؤلمهم. وهناك أشخاص هم في وجداني الآن حين أذكرهم أحس أن أنفاسي تنهدات لفرط ما أساءوا إلي، ولكني لن أكتب شيئا عنهم؛ لأنهم لا يزالون أحياء. ويعيب السيرة الذاتية أيضا أن كاتبها لا يحسن التحليل لنفسه؛ لأن كثيرا مما يراه غيره فيه يعمى هو - لذاتيته - عنه. وأخيرا يعيب السيرة الذاتية أن مؤلفها سيثرثر كثيرا، وقد يغلو عن صناعته كأنها كل شيء في حياته. فالأديب يتحدث عن الأدب، والطبيب عن الطب. ولكن قليلا من العناية بالتنبه الوجداني عند الكاتب يؤدي إلى إصلاح هذا النقص.
ونحن، حين نكتب تاريخنا بيدنا، نمتاز من حيث إننا نكتب عن موضوع لا يعرف تفاصيله أحد مثلنا. وهذه ميزة كبرى وخاصة إذا حرصنا على ألا تغمرنا التفاصيل فنخطئ الأبعاد ولا نرى الغابة، في نظرة شاملة مترامية؛ لأننا نشتغل برؤية الشجرة القريبة منا.
وقد يكون الدافع الأول لكتابة هذه السيرة أني أحس - إلى حد كبير - أني منعزل عن المجتمع الذي أعيش فيه لا أنساق معه في عقائده وعواطفه ورؤياه. وعندئذ تكون هذه الترجمة التبرير لموقفي مع هذا المجتمع وهو موقف الاحتجاج والمعارضة؛ فأنا أكتب كي أسوي حسابي مع التاريخ.
وكل حياة - بصرف النظر عن الحياة البقلية البلهاء التي أشرت إليها - تستحق أن تعرف وتروى أخبارها واختباراتها؛ لأننا - كما يجب أن نقرأ عن القمم التي وصل إليها العبقري أو القديس - كذلك يجب أن نعرف الأعماق التي هبط إليها المجرم؛ إذ إن كليهما إنسان ومن حقنا أن نقف على مقدار العمق الذي تهوي إليه الطبيعة البشرية كما نقف على الارتفاع الذي تسمو إليه. ولذلك أيضا يجب ألا نستصغر قيمة السيرة، يكتبها المتوسط العادي وحتى المنحط الشاذ؛ لأن في تخلفه عن اللحاق، أو في عجزه عن السبق، عبرة قد يرجع مغزاها إلى المجتمع الذي عاش فيه فتقع تبعته على بيئته وليس عليه. وعندئذ تكون سيرته دعوة إلى هذا المجتمع كي يتغير ويتطور.
وحين يكتب أحدنا سيرته، ويخلص بقدر ما تتيح له ظروفه، يعرض - من حيث لا يقصد - للعوامل التي كونت شخصيته وربته؛ لأننا لا نتربى في المدارس فقط. إذ تربينا أيضا للعائلة التي نشأنا في أحضانها الناعمة أو بين أشواكها الخشنة. كما يربينا الشارع الذي اختلطنا بأبنائه، ثم بعد ذلك - أي بعد العائلة والمدارس - نعيش نحو خمسين أو ستين سنة ونحن نتربى بالصحف التي نقرأ كل صباح وبالكتب التي نستنير بها. ثم بالعمل الذي نرتزق به؛ لأن هذا العمل - بما فيه من حقوق وواجبات - يكلفنا تكاليف مختلفة، ويحملنا على الاختلاط والتعرف إلى الشخصيات البارزة التي كان لها أثر التوجيه الحسن أو السيئ في المجتمع، كما أن تتابع الحوادث وتغير الدنيا بالمخترعات الآلية أو الكيماوية، ثم اختباراتنا ومحننا؛ كل هذا له أثر التكوين والتربية. وكل من يكتب سيرته إنما هو الواقع يشرح للقارئ كيف ربى نفسه أو كيف ربته الحوادث. وليس معنى هذا أن التربية كانت حسنة؛ إذ ربما كانت سيئة، فإن المجرم قد انتهى إلى مأساته باستجابات ورجوع بينه وبين الوسط المادي والاجتماعي. ولو أنه استطاع أن يشرح لنا الحوادث التي انتهت به إلى الجريمة ويحلل مواقفه المختلفة من المجتمع لأخرج لنا كتابا منيرا؛ ولذلك كل سيرة - مهما يكن «سائرها» - تنفع وتنير ما دام كاتبها يكتب في إخلاص وما دام على شيء متوسط من الذكاء يحمله على أن يبصر بالعوامل المختلفة.
و«تربية سلامة موسى» هي سيرتي أبسطها لقراء الجيل الجديد حتى يعرفوا ما لم يروه أو يختبروه من الحوادث التي مرت بنا فيما بين 1895 و1947. وأعود فأكرر أنها ليست تاريخا وإنما هي وقع التاريخ في نفسي. وسيرتي هي أولا وآخرا تربيتي. وقد اقتبست العنوان من هنري آدمز، ووجدت في معناه مغزى قد ينتفع به القارئ.
وقد كتبت فصول هذه السيرة في سنتين ونشرت بعضها في المجلات؛ ولذلك قد يجد القارئ تكرارا لأن النية لم تكن في الأصل تهيئة كتاب، بل كانت مقصورة على اختيار بعض الحوادث التي مرت بحياتي مما يصح أن يكون له مغزى للقارئ أو يجد عنده اهتماما.
الطفولة والصبا
رأيت القرن التاسع عشر بعين الطفولة، ورأيته وهو خلو من الغش لم يلابسه شيء من مخترعات القرن العشرين. وهذا ما لا يستطيع أن يقوله أوروبي؛ لأن إيماءات القرن العشرين كانت تبدو واضحة في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا. أما في مصر فقد حدث العكس، وهو أن تراث القرن التاسع عشر بل بعض القرون التي سبقته بقيت عالقة ببداية قرننا هذا. وما زلنا في 1947 نرى هذا التراث على أثقله في طبقاتنا الفقيرة. وليس هذا من ناحية الوسط فقط حيث الفقر المذل، بل من ناحية النفس أيضا، حيث الرضا بالحظ المقسوم والإيمان بالخرافات والتسليم بالنظم الإقطاعية كأنها الشيء الطبيعي لمجتمعنا.
أجل! لقد ركبت الحمار من محطة القاهرة إلى عابدين، ورأيت الجاموسة تحضر كل يوم من العزبة إلى منزلنا بالزقازيق كي تحلب ثم تعود. وضربت من أختي لأني ناديتها باسمها من الشارع؛ إذ كان يعد من الشعائر الاجتماعية العامة ألا تعرف أسماء الفتيات. وعشت في الزقازيق حين لم تكن تعرف المصابيح؛ حتى إننا كنا - حين نزور بعض أقاربنا - نحمل معنا «فانوسا» نسترشد به في ظلام الشوارع. ورأيت أحد المجرمين يشنق في ميدان الزقازيق، وبقيت نحو عام وأنا أفزع من اسمه، وكان يدعى «سيد أهله». ولم أكن أستطيع النوم إلا وأنا متعلق بعنق أمي، ولم أكن أستطيع الدخول في المرحاض إلا بمرافقة الخادم؛ لأن رسم المشنقة بقي حيا في مخيلتي الصغيرة. وكان من المألوف الذي كنا لا نحس فيه وخزا أو عيبا أن يجري خلفنا الفلاح نحو ساعة ونحن على الحمير وهو يلهث كأنه والحمار سواء.
وكانت لنا دار «قوراء» في الزقازيق تتسع لحمار أو بغل في فنائها الذي يستقبل السماء وتفرش أرضه أشعة الشمس. وكانت هذه المطايا أتومبيلات العائلة وفقا لشعائر القرن التاسع عشر. ولعل إرماد عيني في صباي كان يعود إلى روث هذه البهائم.
والزقازيق بلدة جديدة لا يرجع تاريخها إلى أكثر من ثمانين عاما، وجميع عائلاتها لهذا السبب ينتمون إلى بلدان أخرى. وكذلك كانت أسرتي فإنها ترجع إلى البياضية في مديرية أسيوط، وقد تركنا البياضية منذ نحو 140 سنة؛ أي في نهاية الحكم الفرنسي وبداية حكم محمد علي، وأسرتنا في مديرية الشرقية تعرف بلقب «العفي» ولا يزال هذا اللقب في البياضية على الرغم من فرقة تقارب قرنا ونصف قرن. والأصل والفرع يعيشان في يسر. ولكن ليس هناك أي تعارف بين أعفياء البياضية وأعفياء الشرقية. ولم نزر هذه القرية منذ 140 سنة.
أما لماذا هجر فرعنا الحاضر في مديرية الشرقية هذه القرية الصعيدية، فإننا نجهل تفاصيله، ولكني أرجح هذا التفسير التالي: «لما غزا نابليون مصر في أواخر القرن الثامن عشر انتعش الأقباط. ولم يكن الشعب المصري - مسلمين ومسيحيين - يحس الوجدان «الوعي» الوطني الذي نحسه في عصرنا؛ وذلك لأن الوجدان الديني كان يقوم مقامه. وفرح الأقباط بدخول نابليون واستطاعوا أن يجرءوا على تغيير ملابسهم، وأن يرحلوا عن قراهم في الصعيد إلى القاهرة، وبلدان الوجه البحري. وكانوا إلى ذلك الوقت يتعممون بالعمائم السود مع أزياء أخرى يختصون بها ويتخذونها مضطرين منذ القرون المظلمة. وكانت هذه الأزياء الخاصة تمنع تنقلهم وارتيادهم مدن القطر. فلما جاء نابليون نزعوا هذا الزي واتخذوا الزي المصري العام الذي كان ينفرد به إخوانهم المسلمون. وبذلك أتيح لهم التنقل. وأنا أعد هذا السبب الأصل لنزوح أبي جدي من البياضية إلى القاهرة، ثم إلى القراقرة في مركز منيا القمح ثم إلى الزقازيق.»
ومما يؤيد هذا التفسير قول الجبرتي في حوادث 1233 هجرية:
فيه نودي على طائفة من المخالفين للملة من الأقباط والأروام بأن يلزموا زيهم من الأزرق والأسود ولا يلبسون العمائم البيض؛ لأنهم خرجوا عن الحد في كل شيء. ويتعممون بالشيلان الكشميري الملونة والغالية في الثمن. ويركبون الرهوانات والبغال والخيول، وأمامهم وخلفهم الخدم يطردون الناس عن طريقهم. ولا يظن الرائي لهم إلا أنهم من أعيان الدولة. ويلبسون الأسلحة وتخرج الطائفة منهم إلى الخلاء ويعملون لهم نشانا يضربون عليه بالبنادق الرصاص وغير ذلك. فما أحسن هذا النهي لو دام.
ولكنه لم يدم كما اشتهى هذا العالم الأزهري الجبرتي. ويبدو أن الأقباط والأروام عادوا فتوسلوا بالقناصل الفرنسيين والإيطاليين إلى محمد علي فألغى هذا التمييز، فاستطاع الأقباط أن يختلطوا بسائر الشعب وأن يرتحلوا وينتقلوا كما شاءوا. وواضح أن الأزياء السابقة التي كانوا يتخذونها منذ الحاكم بأمر الله كانت تجمدهم في قراهم؛ لأنهم كانوا إذا انتقلوا إلى مدينة غريبة صاروا عرضة - على الأقل - للتهزئة والتعيير، إن لم يكن لأكثر من هذا.
وهجر أبو جدي قرية البياضية حوالي 1800 أو 1810 في عمامة بيضاء، وكان هذا من الانتصارات الخطيرة للقرن التاسع عشر على القرون السابقة.
وجميع أفراد عائلتنا يعدون - بحسب الترتيب المزاجي لكرتشمر - انطوائيين، يتسمون بالوجه الطويل والقامة النحيفة، والاعتكاف أو كراهة الاختلاط. وأحيانا يبدو هذا المزاج في مبالغة شاذة، حتى إني أعرف أشخاصا في أسرة العفي عاشوا كأنهم كانوا رهبانا يتوقون المجتمع ولا يحضر أحدهم عرسا أو جنازة إلا بضغط. وقد لا يجدي الضغط، ولكن هذا الشذوذ كان بالطبع نادرا.
ومات أبي ولما يبلغ عمري السنتين. ونشأت لذلك في بيت لا يزوره ضيف، إلا إذا كان من الأعمام أو الأخوال، فزادني هذا الظرف انزواء على ما ورثت من المزاج الانطوائي. وقد صار هذا الانزواء بعد ذلك فضيلتي ورذيلتي معا؛ فقد كانت تمضي علي السنة والسنتان لا أعرف فيها القعود على القهوة، كما أني إلى الآن أجهل ألعاب الحظ الاجتماعية البسيطة بالورق أو غيره مما يتسلى به غيري، كما أجهل التدخين. وما زلت أفر من المجتمعات في استحياء أو كراهة، ومع أني أحسن الكتابة فإني أسيء الخطابة؛ لأن الأولى تؤدى في انفراد، والثانية تحتاج إلى مجتمع. وقد عانيت كثيرا من هذا النقص الاجتماعي في حياتي بعد ذلك. ولكني أعزو إلى انطوائيتي هذا الاعتكاف في مكتبتي، وهو الذي بسط لي آفاقا واسعة من الحكمة وأمتعني بجنات نضرة وغرس في نفسي ديانة بشرية سامية.
وأولى الذكريات التي تمثل في ذهني من أيام الطفولة: صورة أمي وهي قاعدة إلى فراشي تصلي من أجلي وأنا مريض. ولا أعرف كنه هذا المرض الذي ألزمني الفراش نحو عام أو عامين. والأغلب أني مرضت به وأنا في الخامسة أو السادسة، ولعله كان حمى الملاريا؛ لأن الزقازيق كانت في ذلك الوقت حافلة بالبرك الآسنة. ولما قاربت الشفاء كان خادمنا عطية يحملني إلى ضريح ولي مسلم يدعى أبا عامر. ولا يزال ضريحه قائما بقرب الزقازيق. وكان يشتري الشمع ويتصدق بقروش، ويدور بي حول الضريح ويتمسح به ويقرأ الفاتحة جملة مرات وأنا على عاتقه. وكان عطية متعلقا بي يهمل شئون البيت كي يقعد بجواري ويلاعبني وأنا مريض. وبقى أكثر من عشر سنوات بعد ذلك بمنزلنا. وكان حبه لي ساذجا يطغى، فكان يلقمني الطعام حتى أعجز عن البلع، وكان هذا العجز علامة الشبع عنده، ولم يتركنا إلا بعد أن اشترى فدانا وآثر الفلاحة على الخدمة المنزلية.
ومما أذكره من تلك السنوات؛ أي بين 1895 و1898، أن وباء الكوليرا فشا في الزقازيق، فكانت النعوش تخرج متوالية وليس وراءها سوى شخصين أو ثلاثة، وعم الذعر بين السكان ولكن توالي الموت كان أيضا مجالا للفكاهات. وكنا نحن الصبيان أكثر السكان فكاهات، فكنا نسير جماعات صغيرة فإذا سمعنا فزعة الموت بصراخ النسوة قابلناها ب «هيه ...» ثم نجتمع أمام البيت كي نرى الشعائر الأخيرة. وكانت هذه الشعائر تجري في سرعة واقتضاب.
وكان مما يحدث أن بعض الصبيان الذين كانوا في جماعتنا يقع هذا الوباء في بيوتهم، فيتركونا. ولكنا لم نكن نضن عليهم بهذه المظاهرات. ولم يكونوا هم على وجدان بالمأساة إذ سرعان ما كانوا يعودون إلينا قبل أن ينفض المأتم، وأعني بالمأتم صراخ النسوة يجتمعن في البيت. أما إقامة السرادقات للعزاء فلم يكن الوقت يتسع له لوفرة الوفيات.
وأدخلت الكتاب، ولم تكن بدعة المدارس قد ظهرت في الزقازيق. وقضيت من السنين ما لا أذكره وأنا أجهل القراءة. وكانت غاية العريف أن يعلمني عن ظهر قلب بعض الصلوات، فلما حفظت «نعظمك يا أم النور»، وهو دعاء إلى العذراء، رافقني إلى البيت وقعد هو أمام أمي وانطلقت أنا أسرد الدعاء . وناولته أمي على أثر ذلك جنيها.
وتألفت في الزقازيق جمعية خيرية من الأقباط، وكان أول نشاطها أن أنشأت مدرسة «عصرية»؛ أي إنه كان بها مقاعد من الخشب ومعلمون في زي أوروبي. وانتقلنا من الكتاب إليها. وشرعنا نتعلم وندرس في جد، ثم ظهرت المدرسة «الأميرية» فدخلناها. وكان التلاميذ يلبسون الجلابيب إلى أن زار الخديوي عباس هذه المدرسة حوالي 1899 فطالبونا باتخاذ الزي الأوروبي. وحصلت المدرسة من كل تلميذ على 25 أو 30 قرشا ثمن بذلة بيضاء لكل منا. وزارنا الخديوي ونحن في هذا الزي الأبيض الناصع. ولم نعد بعد ذلك إلى الجلابيب.
ولا يستطيع مصري التحق بالمدارس المصرية الابتدائية والثانوية الأميرية فيما بين 1900 و1920 أن يقول إنه كان هنيئا بالحياة المدرسية؛ فقد كانت هذه المدارس ثكنات، وكان كل ما يستحق الاهتمام فيها هو النظام؛ أي الطاعة. ولم نكن نعرف ذلك الروح الديمقراطي الذي يعم المعاهد التعليمية في هذه السنين. وكذلك لم تكن هناك أية ألفة بين المدرس والتلميذ. وكانت هذه الصفات أبرز في المدارس الثانوية منها في المدارس الابتدائية، حتى كان العام يمر والتلاميذ لا يعرفون اسم المعلم الإنجليزي الذي كان ينطق صمته قبل حديثه بالغطرسة. وكان المعلم يسرع إلى العقوبة لأقل إيماءة مخالفة من التلميذ. وكانت العقوبة المألوفة أن يحرم التلميذ من الغداء ويعطى رغيفا يأكله وهو واقف إلى جنب زملائه القاعدين إلى المائدة. ولست أظن أنه كان يقصد بهذه العقوبة سوى تعميم الذلة والهوان بيننا.
وكان التعليم في المدارس الابتدائية أقل ذلة؛ لأن المعلمين كانوا مصريين، ولكن حتى هنا كان القرن التاسع عشر يثب علينا بأساليب في الضغط والعربدة. فكان المعلم أحيانا يعمد إلى أسلوب في العقاب يفشي بيننا الكراهة والوقيعة؛ ذلك أنه إذا أخطأ أحدنا ورده تلميذ آخر إلى الصواب عمد هذا الثاني إلى لطم الأول على خده. فإذا تعطف هذا الضارب وأدى العقوبة تأدية شكلية استعاده المعلم وطالبه بالضرب الجدي. فإذا انطلقنا بعد ذلك من الفصل إلى الفسحة أمسك المضروب بخناق الضارب وانتقم منه.
ولكننا كنا نهنأ بالإجازات المدرسية التي كنا نقضيها في الريف. وهي لا تزال تبرز في ذهني كأجمل وأنصع ذكرياتي. وفي هذا الريف اكتسبت كثيرا من الاختبارات التي لا تتحقق لأطفال المدن. وكانت قريتنا تبعد عن الزقازيق نحو ساعة على الحمار. وكنا نلعب مع صبيان المزارعين إلى الساعات الأولى من الصباح. وأحيانا كنا ندبر السرقات في الحقول للخيار أو البطيخ. ولا يزال عالقا بذاكرتي بعض الاقتحامات والصبوات؛ فقد تسلقت ذات مرة شجرة كان في أطرافها العليا عش. فلما بلغته وجدت فيه فرخي غراب، فأمسكتهما بيدي وشرعت أهبط. ولكني ما كدت أترك العش حتى وجدت ثورة من اللطم المؤلم والعض الشنيع تغمر رأسي ووجهي، وطار عقلي وأنا في هذا الاضطراب. فلم أتنبه إلى أن هذه الثورة هي أم الفرخين يساعدها أب أو عم. ولو كنت أدركت لخليت عن الفرخين ونزلت في سلام. ولكني لفرط الألم والرعب بقيت في غشية مغمض العينين وأنا ممسك الفرخين أتحسس طريقي الخطرة على فروع الشجرة إلى أن مسست الأرض. وهنا أفقت وفتحت عيني فوجدت ثلاثة أو أربعة من الغربان تصرخ بي وتسب وتهاتر بعد أن أثخنتني وضرجت رأسي ووجهي بالدماء.
ومرة أخرى في إحدى جولاتي سمعت خشخشة في ديس عند حرف القناة، فلما اقتربت وجدت جحرا وظننت أني قد هبطت على عش سأخرج منه بغنيمة. فلما أدخلت يدي قبضت على جسم طري، فجررته فإذا به ثعبان.
ولكن الريف لم يكن كله على غرار هذه المفازع؛ فإن مباهجه والأنسة الديمقراطية التي كانت تنعقد بيني وبين الصبيان الذين كانوا في سني، والليالي التي كنا نحييها في السمر أو اللعب، والاستحمام في القناة، وركوب الفرس، والجولة إلى السوق الأسبوعية، ثم إلى ذلك معيشة الريف الساذجة؛ كل هذا كانت تحفل به حياتنا في الصبا. وكنا نجد اهتمامات تشغلنا، ولم تكن كلها صبيانية؛ فإني أذكر أن ولادة الجاموسة حركت عقلي وقلبي جملة أيام، وما زالت صورتها إلى الآن ترتسم في مخيلتي وهي في حرج الولادة تئن وتلهث وتتلفت، وجميعنا حولها في عطف نتألم لها ، وكان بعضنا يدعو لها بالسلامة كأنها صديق من البشر، حتى خرج المولود بعينيه الواسعتين وهو يترنح ونحن نسنده وأمه تحنو عليه وتلحسه.
وحصلت على الشهادة الابتدائية في سنة 1903، ولا أعرف بالضبط كم كان عمري؛ لأن إثبات الميلاد لم يكن في أيامنا من القواعد الصارمة ولكن أغلب الظن أني ولدت حوالي 1887، ودخلت السنة الأولى في المدرسة الأميرية وأنا في الحادية عشرة، وهي السن التي نال فيها ابني بعد ذاك هذه الشهادة ... ومع ذلك كنت أعد من صغار السن في الفصول؛ إذ كان بيننا من بلغوا العشرين.
وعندما أقارن بين ما تعلمته بالمدرسة الابتدائية بالضرب وسائر العقوبات بما تعلمته عفوا في الريف من اختبارات في الحياة، أجد أن الريف قد علمني أكثر وأكسبني من المعارف الذهنية والروحية ما يعد تربية حقة ما زلت أنتفع بها إلى الآن. فقد اكتسبت من الريف هذا الحب للطبيعة الذي جعلني أحس سائر حياتي أن الأرض هي الأم. وأكاد وأنا في الريف أحس مثلما أحس ذلك الراهب في قصة «الإخوة كرامازوف» لدستوئفسكي، حين انبطح على الأرض يقبلها، مثل هذه العاطفة المقدسة. وظني أن هذه العاطفة هي المبعث الذي انبعث منه بعد ذلك وجداني الديني البشري واستطلاعي الدائم لعالمي النبات والحيوان واهتمامي بشئون العمال.
وكانت حياتنا بالريف سليمة من الناحية الصحية؛ فإنه على الرغم من أننا كنا ندوس الحقول ونخوض القنوات بلا حذاء ونستحم في القناة، فإننا لم نعرف البلهارسيا أو الأنكلستوما؛ وذلك لأن التربة لم تكن قد استشبعت بالماء كما هي الحال الآن، بعد أن عمت مشروعات الري التي أحالت أرض القطر المصري كلها تقريبا إلى عزبة لإنتاج القطن دون أي اعتبار لصحة الفلاحين. وأذكر أن التربة كانت أيام الجفاف تتشقق، وكان عرض الشق يزيد على عشرة سنتمترات ويغور نحو نصف متر. وفي مثل هذا الوسط لم تكن الديدان تستطيع الحياة. وكانت صحة الفلاحين سليمة وأجسامهم قوية. ولكن الإنجليز المتسلطين على بلادنا وقتئذ رأوا أن إنتاج القطن خير لهم من صحة الفلاحين.
وكانت الحياة الدينية أبرز من الحياة الاجتماعية أو المدنية في العائلات القبطية. وهذا على عكس ما نرى الآن، فإني أذكر أنه كان لعيد الميلاد ضجة عظيمة تمتاز بمقدمات ولواحق. وكنا نعد له الأيام ونتهيأ بالملابس والنقل والذبائح. وكانت تفد إلى بيتنا عجوز تقضي في كل عيد نحو شهر، لا أعرف أصلها ولكني أذكر اسمها خريستا، وكانت تقص علينا الأساطير البديعة كما تصنع لنا أنواعا من الكعك المزخرف.
وقد ورث الأقباط التعاليم الكنسية كما كانت حين تجمدت في الدولة البيزنطية فيما بين القرن الرابع والقرن السادس؛ ولذلك كانت «العذراء» بارزة بروزا يبرر وصف الأوروبيين للعقيدة المسيحية في مصر في نهاية القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر بأنها «ماريلوجية». ولكن انتشار المذهب البروتستنتي في مصر استفز الكنيسة القبطية وأثارها إلى الوجدان المسيحي. وكثير من الأقباط يأسفون على انتشار المذهب البروتستنتي في مصر، ويجدون فيه شقاقا لم يكن ضروريا. ولكني أظن أنه لولا هذا المذهب لما تنبهت كنيستنا الأرثوذكسية ولما استيقظت من نعاس القرون الماضية.
وكانت المرأة - مسلمة أو قبطية - تعيش في ظلام الحجاب لا تجالس الضيوف من الرجال. وكان هؤلاء يزورون أو يزارون في «منظرة» لا تشترك في لقائهم المرأة. وكان البرقع عاما لا تخرج امرأة إلا ووجهها مقنع. وأذكر أن أمي وإخوتي المتزوجات التزمن البرقع إلى حوالي سنة 1907 أو 1908 حين تركنه. وظني أن هذا الترك كان من أثر البروتستنت أيضا؛ لأنهم كانوا ألصق بالغربيين وأكثر أخذا بطرقهم منا نحن الأقباط الأرثوذكس.
أمي وإخوتي
لا أذكر أبي لأنه مات وأنا دون السنتين في 1889، ولكن جو البيت في طفولتي كان حافلا بذكراه؛ فقد كانت أمي تصف سنة وفاته ب «السنة السوداء»، وبقيت بذلته معلقة إلى الحائط جملة سنوات كما كانت يوم وفاته. حتى القميص المنشى بياقته المتصلة لم يكن يبرح مكانه. وكنت أسمع القصص عنه. وقد بقينا عقب وفاته نتناول مؤخر مرتبه عشرين شهرا تقريبا. وهذا بالطبع غير المعاش. ومن هنا يعرف القارئ مقدار الإفلاس الذي كانت قد هوت إليه الحكومة؛ فقد كان الموظفون تتأخر مرتباتهم سنة أو سنتين . وكانت الرشوة تتفشى لهذا السبب . وكانت وظيفة أبي «رئيس تحريرات مديرية الشرقية» ولم يزد مرتبه على سبعة جنيهات ونصف جنيه ومع ذلك ترك لنا وقت وفاته أكثر من مائة فدان. وكان الثمن المعتاد في تلك السنين عشرة جنيهات أو عشرين جنيها للفدان. وقد اطلعت على عقد بيع لجدي في نحو سبعين فدانا (حوالي 1840) وكان اهتمام الكاتب في العقد بشأن أدوات الزراعة، كالمحراث والنورج، وأوصاف الماشية، من بقرة إلى جاموسة إلى حمار، أكبر جدا من اهتمامه بالأرض التي لم تستغرق سوى ثلاثة سطور، بينما استغرقت الأشياء الأولى أكثر من أربعين أو خمسين سطرا. وكان اتخاذ البذلة الأوروبية جديدا في تلك السنين - أي قبل وفاة أبي - بين الموظفين. وكانت البذلة المألوفة شيئا يسمى «السترة الإستامبولية» وكانت سوداء بين الردنجوت والبونجور. وكنا نسمع القصص التي تروى عن التجارب الأولى في خلع الملابس القديمة واتخاذ البذلة الأوروبية. وكانت هذه القصص مجالا للتنادر والضحك.
والطفولة في أيامنا كانت أكثر إمتاعا، ولكن أقل تنبها مما هي الآن؛ لأننا قضيناها في الزقازيق والريف. وكانت الزقازيق تخلو من تلك الحركة الصاخبة الخطرة التي ترى الآن في القاهرة، فكنا نجول فيها مطمئنين أو نخرج منها إلى الحقول المجاورة، ولكن لم يكن هناك ما ينبه الذهن ويبعث الاستطلاع.
ومما أذكره وأنا في الرابعة أو في الخامسة أن شابا يدعى زغبان غرق في القناة التي أمام بيتنا. وأخرجت جثته ورأيتها محمولة على عاتقي أحد الشبان وخلفه عدد كبير من الرجال والنساء في لغط وصراخ. ثم صار لزغبان هذا روح أو عفريت يتردد في الظلام فنخوف به، وتذكره الأم لطفلها المشاغب فيسكت ويخنس.
حدث هذا حوالي 1892، وفي 1945 أي بعد 53 سنة كنت أسير إلى هذه القناة، فسمعت من إحدى الأمهات اسم زغبان تخوف به هذه الأم طفلها، وهنا عبرة تفسر لنا نشأة الخرافات.
وعاشت أمي معي إلى 1916 حين ماتت في الثالثة والسبعين. وكانت امرأة متدينة تعنى بالصلاة والدعاء وقت مرضي أيام الطفولة أكثر مما تعنى باستشارة الطبيب. وقد قضيت طفولتي وأنا في ملابس سوداء أحمل عبئا من التعاويذ يعوق الحركة الحرة، بل لا تزال في أذني علامة الخرم الذي علق به قرط إيهاما بأني لست غلاما بل بنتا حتى تتقى بذلك العين. وقد رأيت وأنا أقرأ «الأرض الطيبة» لبيرل بك أن هذه العقلية تسود الصينيين أيضا؛ فإن الأم في هذه القصة تتحدث عن ابنها كأنه بنت حتى لا تصيبه الآلهة بالعين. وقيمة الذكر تزيد على قيمة الأنثى كلما انحط شأن المرأة. ولذلك كان للغلام - ولا يزال إلى حد كبير - مكانة كبيرة في مثل الصين أو الهند أو مصر يمتاز بها على أخواته البنات.
وجميع الأمهات المصريات اللاتي ولدن قبل مائة سنة لا يختلفن. فهن طراز واحد من حيث الأمية والإيمان بالخرافات واحترام التقاليد والتزام الحجاب. ولكن إذا كان النور قد نقصهن فإن الطيبة لم تكن تنقصهن؛ لأن المطامع المالية الحاضرة لم تكن معروفة، والتفاخر بالأثاث والأزياء والمقتنيات لم يكن أيضا معروفا إلى الحد الذي بلغه اليوم. ولا أذكر يوما رأيت أمي تأكل وحدها؛ إذ كان على الدوام هناك امرأة أخرى فقيرة تتغدى معها.
وقد تركت أمي في نفسي ذكريات من الحنان لا تزال تعود إلى ذهني فتغمرني بلذة أليمة. فما زلت أذكرها وأنا في طفولتي، وأنا في الحمى أتقلب وأستيقظ في فترات فأراها قاعدة إلى جنبي تدعو وتصلي كأنها قد نسيت النوم. وكانت في سذاجة عقائدها - حين كنت أودعها للسفر إلى القاهرة وأنا بالمدرسة الثانوية - تناديني عقب خروجي من الباب وتصر على أن أدخل البيت ثانية، كأن في هذا رمزا إلى عودتي سالما بعد السفر. وكان أكثر إلحاحها علي قبيل موتها أن أتزوج؛ ولذلك في ليلة العرس، وأنا قاعد إلى جنب عروسي في الزفاف، في 1923، بعد موتها بسبع سنوات، تذكرت إلحاحها وغيابها فارتعشت وانتفض جسمي وطفر الدمع الذي لم أجرؤ على مسحه. ولكن عروسي أخبرتني بعد أيام أن بعض الحاضرين للزفاف يقولون إني كنت أبكي.
وأنا أصغر إخوتي؛ ولذلك لا أذكر اثنتين من أخواتي بالبيت لأنهما تزوجتا قبل أن أبلغ وجداني. وكل ما أذكره عنهما أننا كنا نرحل مع والدتي إلى مقرهما في ميت غمر بالهدايا من الخراف والدنادي والفواكه والنقل. ونحمل كل هذا معنا على العربات إذ لم يكن بين الزقازيق وميت غمر خط حديدي. وظني أن هذا كان يقع فيما بين 1891 و1895، ولا يزال لميت غمر أثر نضر في ذاكرتي؛ ذلك أنه كان يقصد إليها الغليون من أثينا أو أزمير أو بيروت. والغليون هو سفينة شراعية تحمل نحو عشرة أو أكثر من الأشرعة، وكانت تجتاز البحر المتوسط ثم النيل إلى أن تصل إلى دمياط فالمنصورة فميت غمر فبنها فالقاهرة، وتحمل معها جميع المتاجر من تركيا ويونان ولبنان. وكانت ترسو إلى الشاطئ فكنا نقصد إليها نحن الأطفال، مع مئات من الكبار، ونشتري النقل والفواكه المجففة والحلوى الطحينية. وكانت تبيع كل شيء تقريبا حتى ملابس الأطفال اليونانية اللونية في أحمرها وأصفرها وأخضرها. وكان رسو أحد هذه الغلايين أشبه بالأعياد؛ لأن المدينة كانت تهرع إليه وتشتري حاجتها، فتطن الشوارع بالحركة.
أما أختي الثالثة فلا أذكرها بالبيت، ولكني أذكر ضجة العرس التي علقت بذاكرتي لما كان فيها من موسيقا وثريات وسرادق يملأ الشارع أمام البيت، وبقي هذا السرادق نحو سبعة أيام أو أكثر، وانتعشنا فيه باللعب والسهر.
أما أختي الصغرى فهي الرابعة وأذكرها بنتا بالبيت قبل زواجها، وكانت تقودني إلى الكتاب ثم تأتي إلي وقت الانصراف وتعود بي إلى البيت. وكانت بيننا ألفة دامت سنوات إلى أن تزوجت وتركتنا. ويبدو أني أسأت الاستعمال لهذه الألفة؛ ففي ذات يوم وقفت في الشارع أمام البيت وناديتها باسمها كي تفتح لي، فما أدري إلا وقد انفتح الباب وانهالت هي علي ضربا لأني ناديتها باسمها؛ لأن الحجاب كان لا يزال يغشى بيوتنا، وكان يقضي بألا تذكر أسماء البنات كما يجب ألا ترى وجوههن، وظني أنها حجزت بالبيت منذ العاشرة وأفسد هذا الحجاب برنامج تعليمها. فقد كانت بالزقازيق مدرسة قبطية للبنات ولكن الرجعية الاجتماعية حالت دون الانتفاع بها. ولذلك لم تتعلم واحدة من أخواتي؛ إذ كن يحجزن بالبيت وهن حول العاشرة.
وهذه الألفة التي دامت سنوات الصبا بيني وبين أختي الصغرى بالبيت بقيت حبا وصداقة إلى يوم وفاتها في 1944 حين قعدت أمامها وهي في عذاب الذبحة الصدرية تكافح الموت إلى أن غشيتها غيبوبة الليل الطويل. وما زلت أذكر تلك الساعات المؤلمة التي كانت تهيأ فيها للاحتفال بالزواج؛ فإني لم أكن على وجدان بأنها ستفارقني وكنت مغتبطا بضجة العرس زائطا. أما هي فكانت تخطفني وأنا أمر عليها أعدو وأزأط فتعانقني وتلهث وتشهق بالبكاء. وبقينا إلى يوم وفاتها ونحن نتزاور مرة على الأقل كل أسبوع.
وفي الوسط العائلي المصري يسود الوئام والحب اللذان لا يفسدهما سوى المطامع المالية من أحد الأعضاء. ولكن أحيانا تسود الشهامة. فقد كان أبي موظفا في مديرية الشرقية. وكان هناك قانون يحرم على الموظف أن يشتري أرضا في المديرية التي يعمل فيها؛ وذلك تلافيا من استعماله وظيفته وسلطته لمصلحته الخاصة. فكان أبي يشتري الأرض ثم يسجلها باسم أحد أولاده. فلما مات كان معظم أرضنا مسجلا باسم البنتين الكبريين، اللتين تزوجتا في ميت غمر. وكان الزوجان شقيقين، وكان أبوهما غبريال سعد بك رجلا شهما. فلما رأى أن ثروة أبينا توشك أن ينتقل كثير منها إلى زوجتي ابنيه أي أكثر مما تستحقان انتظر حتى بلغت أختاي سن الرشد ثم جمعهما مع زوجيهما وحملهم جميعا على التنازل لي أنا وشقيقي، وكنت أنا في الثالثة أو الرابعة وشقيقي في السابعة أو الثامنة. وقد سمعت من أمي بعد ذلك بسنين أن هذا الرجل الشهم لم يبال أن ينتهر ابنيه حتى يجبرهما على الموافقة على التنازل. وبدهي أن مثل هذه الشهامة نادرة في أيامنا. ولا بد أيضا أنها كانت نادرة وقتئذ؛ ولذلك فإن فضل هذا الرجل عظيم، وقد بورك له في عائلته حتى أصبح نسله يعقوبيا يتجاوز المئات عدا. وكلهم تقريبا ناجح موفر المال والعمل والكسب.
والراضون عن النظام الاجتماعي الحاضر في مجتمعنا الاقتنائي كثيرا ما يذكرون العائلة وأن نظامنا يؤيدها. مع أنه لا يفكك العائلات ويضع البغض مكان الحب بين أعضائها سوى الخلافات المالية التي تلابس هذا النظام. وقل أن نجد عائلة متوسطة أو ثرية بلا خلاف مالي بين أعضائها مرجعه طمع أحد أعضائها ورغبته في الاستئثار دون الآخرين. ولم تنج عائلتنا من هذه الخلافات التي سودت العلاقات، ولو أننا كنا نعيش في نظام اشتراكي ومجتمع تعاوني غير اقتنائي لما كان هناك مجال لهذه الخلافات التي تكاد تعم العائلات في أيامنا.
واحد على آخر أو طمع واحد في آخر. وكلها مطامع مالية ما كانت لتكون لولا أننا نتعلم منذ الطفولة بأن هذا لي وهذا لك، وإنني يجب أن أتفوق عليك في اللعب والعمل وفي المدرسة والمجتمع. روح خبيث يقال لنا إنه يعمل للرجولة مع أنه يعمل للعداوة والبغض والحقد. وقد لقيت أختي الصغرى عناء بل سرقة صريحة من بعض أعضاء عائلتنا. ولم يكن المرتكب لهذه السرقة يحس أنه مجرم، بل كان يتباهى لأن روح المباراة - هذا الروح الاقتنائي الذي ننشأ عليه - قد أكسبه هذه العقلية. وكلنا مغموسون في هذا الفساد بدرجات متفاوتة. ولذلك قل أن نجد مثل ذلك الرجل الشهم الذي أشرت إليه غبريال سعد بك يعارض هذا الروح الاقتنائي ويطلب الخير لغير أبنائه.
وجميع العائلات المصرية موبوءة بالشقاق الذي يرجع إلى مطامع ثم خلافات مالية بشأن الميراث أو الوصية أو الوقف. وقد عرفت عائلات بقي الخلاف فيها بين الإخوة نحو عشر سنوات وهم مشتتون في المحاكم الأهلية، ثم المحاكم المختلطة؛ إذ كان أحد الإخوة يعمد إلى أجنبي مشاكس فيأجره على المعاكسات التي تنقل القضايا من المحاكم الأهلية إلى المحاكم المختلطة وتصل إلى الإسكندرية. يفعلون هذا وينقطع كل منهم عن زيارة الآخر وتنمحي عاطفة الأخوة بينهم فيعودون أعداء يبحث كل منهم عن دماء الآخر. ولا أكاد أجد عائلة تخلو من هذه الخلافات إلا إذا كانت تخلو من العقارات الموروثة. فقد عرفت عائلة مسلمة قريبة من عزبتنا ترك الأب فيها للورثة أكثر من 150 فدانا، ثم جعلها وقفا وعين ناظرا للوقف أكبر أبنائه. ثم فشا الخلاف بين الورثة وكانوا يزيدون على عشرة. فلم يكن من هذا الناظر إلا أن أجر الأرض الموقوفة كلها إلى رجل يوناني أو إيطالي، وجاء هذا الرجل إلى الأرض يزرعها بنفسه، وأصبح الورثة يتضرعون إليه كي يعطيهم نصف أردب من الذرة أو القمح أو جنيها أو جنيهين ... وأعرف رجلا آخر كان ثريا «باع» أرضه لورثته. ولم يكن الغرض من هذا البيع سوى التمييز لبعض دون بعض. وكان هذا البيع بالطبع صوريا. وكان يعتقد أنه سيبقى متصرفا إلى يوم وفاته. ولكنه عندما قصد إلى عزبته - عقب البيع - كي يبيع القطن، قابله الخولي وأخبره بأنه لا يملك شيئا؛ لأن ابنه الذي «اشترى» منه يمنعه من التدخل في أرضه، وحزن الرجل واحتقن الحزن في قلبه فأصابه فالج مات به بعد أقل من شهرين.
وأيام صباي يملؤها شقيقي الذي يكبرني بأربع سنوات. وكنت أعده بطلا لجراءاته واقتحاماته. وقد ذهبنا معا إلى كتاب مسيحي ثم إلى كتاب إسلامي. ثم عدت إلى كتاب مسيحي. وخرجت من هذه الكتاتيب الثلاثة بعد ثلاث أو أربع سنوات وأنا لا أحسن قراءة سطر، وإنما أحفظ عن ظهر قلب بعض الصلوات المسيحية وبعض سور القرآن. ولم أشرع في القراءة إلا بعد أن دخلت المدرسة الابتدائية التي أنشأتها الجمعية الخيرية القبطية في الزقازيق.
وكان شقيقي طفلا ذكرا بعد بنات أربع. وأذكر من بعض اقتحاماته أنه ألف في الزقازيق عصابة كنت أحد أعضائها. وألف علي الشمسي «باشا» عصابة أخرى؛ ففي ذات يوم انفردت بنا عصابة علي الشمسي وأوسعتنا ضربا وإيلاما لخصومة كانت قائمة بينه وبين شقيقي. ولكننا بعد ذلك استدرجنا علي الشمسي إلى طريق ناء شمال الزقازيق ثم أثخناه بالعصي والأحجار حتى عاد مريضا. وكان والده أمين الشمسي باشا يعرف عائلتنا لصداقة قديمة بينه وبين أبي. ولم أكن أمر عليه وهو أمام منزله حتى أقبل يده فيسألني عن أعضاء عائلتنا. وكان فيما بين 1895 و1900 مغضوبا عليه من رجال الحكم؛ لأنه كان عرابيا في ثورة 1882؛ إذ انضم إلى الحركة الوطنية ضد الخديوي توفيق مع أنه كان شركسي الأصل. وكان الصراع بين عرابي والخديوي صراعا - إلى حد بعيد - بين الأتراك والشركس من جانب وبين المصريين من جانب آخر. ولكن أمين الشمسي باشا عرف عدالة المطالب المصرية وانضم إلى العرابيين.
ولما كنت في إنجلترا في 1908 أرسلت إليه خطابا أقترح عليه فيه إنشاء مدرسة لتعليم أبناء الفلاحين الذين يعملون في أرضه وأرضنا، وكنا متجاورين لأن عزبته كانت ملكا لجدي ولا يزال اسمها «كفر سليمان» باسم جدي. وأرسلت مثل هذا الخطاب إلى كبراء المالكين من عائلتنا، ولكن خطابي لم يجد سوى التسلية عندهم جميعا؛ لأن الوجدان التعليمي كان لا يزال في مصر خامدا. ولم يكن خطابي سوى ثمرة الوسط المتمدن المتنبه لقيمة التعليم في لندن.
وقد باع جدي «كفر سليمان» هذا إلى الشمسي باشا قبل أن أولد أنا بنحو 15 سنة - حوالي 1872 - ولكني نشأت على الاصطلاح بأنه «الكفر القديم» وهو يبعد عن كفرنا الجديد بنحو كيلو متر. وقد زرته وأنا طفل مع بعض أقاربي فأروني بيتا أو زريبة كانت تسمى «بيت العبيد» أي المكان الذي كان يحجز فيه العبيد في الليل ويقفل عليهم حتى لا يفروا ...
وبالطبع لم تكن في أيامي عبودية ولا عبيد. ولكن الذكرى كانت قريبة؛ فإني وأنا طفل كنت أخوف بكلمة «فرج» وهي اسم عبد مات في إحدى غرف المنزل وبقيت ذكراه تتسلسل للتخويف من إخوتي إلي. وكذلك رأيت امرأتين سوداوين إحداهما كعب الخير والأخرى زهراء. وكانتا جارتين عندنا شملهما قانون تحرير العبيد ولكنهما لم تنقطعا عن زيارتنا. بل كانت إحداهما تقضي الشهور - عندما تترك زوجها - في بيتنا، وكانت تكل إلى أمي مفاوضات الصلح مع زوجها حين كان يعود لطلبها.
وكانت بيني وبين شقيقي نحو أربع سنوات؛ فلذلك لم تكن بيننا رفقة أو زمالة. وقد وجدت هذه الرفقة والزمالة في ابن خالة لي يدعى ميخائيل، وكان من سني. وقد ترافقنا طفلين ثم صبيين ثم شابين. ومن الذكريات البارزة في صباي مدينة بسطة الفرعونية. فقد كنت أزورها مع ابن خالتي هذا حين كانت لا تزال بيوتها قائمة. والغرف في بعض هذه البيوت كانت لا تزال تحتفظ بجوها الحميم حتى مكان المسرجة في الطاق كان واضحا بسواد دخانها. وكانت الشوارع الضيقة سالكة بين البيوت. وهذا إلى عشرات من التماثيل الحجرية، ولم يبال الإنجليز أن تمحى هذه المدينة مع قيمتها التاريخية العظمى؛ إذ جعلوا بيوتها وأنقاضها سمادا «كفريا» ينقله الفلاحون إلى حقولهم. ولم يعد لها من أثر الآن.
وكان ميخائيل يسكن في بيت يجاور منزلنا، فلم نكن ننفصل طوال النهار، وإليه أعزو نزعتي الثقافية؛ فقد كان منذ صباه يحب الشعر ويتفصح، وكنت أعجب بفصاحته. وكنا نشتري المؤيد ونقرؤه معا. بل تجرأنا ذات مرة على أن نؤلف درامة جعلنا فيها البطل ملكا يقص حلما على المسرح ثم يتحقق هذا الحلم. ولكننا لم نثابر إلى النهاية فقطعناها في منتصف الفصل الأول. وقد ثابرت أنا بعد ذلك على الدراسة وانقطع هو عنها. ولكنه لم يقاطعها؛ فإني ما زلت إلى الآن عندما ألتقي به أجد فيه الالتفات إلى الحركات الأدبية بل أجد النقد الذكي. ولكن من ينظر إليه هذه الأيام لا يعتقد أن سنه تزيد على الأربعين مع أنها لا تقل عن 59 أو 60 سنة. وقد يعزو بعضهم هذا الشباب إلى حياة السرور التي كان ولا يزال يؤثرها على أي أهتمام آخر. وبقينا مترافقين مدة التعليم الابتدائي ثم افترقنا حيث توظف هو والتحقت أنا بالمدارس الثانوية بالقاهرة. ولكنا كنا أيام الإجازات لا نفترق. وقد اهتززت سرورا وتأملا قبل سنتين عندما زارني بالقاهرة أحد الأقارب المزارعين ورأى حولي مئات الكتب، فتأملها ثم تنهد وقال: «لم يغرس فيك هذه العادة المرذولة سوى هذا الملعون ميخائيل ابن خالتك.» وقد قال هذه الكلمة الصادقة؛ لأنه كان يرانا فيما بين 1901 و1904 نقرأ معا وندرس معا في هوس لم يكن يجد فيه هو سوى خسار المال والذهن والوقت.
ولا تزال ذكريات الصداقة والرفقة بيني وبين ميخائيل عذبة في ذهني. ولم أعرف صديقا بعد ذلك لازمني وتناسقت معه في الصداقة المنيرة المربية سوى عزمي الدويري الذي عرفته في 1930 وفقدته في 1944. وكان في بداية صداقتنا خاما أخضر في ثقافته يقرأ الكتب العربية ويستضيء بمصابيح خافتة. ولكنه بعد أن عرف المؤلفين الأوروبيين انغمس في المذاهب الأوروبية والسياسية الجديدة واستضاء ذهنه بها وصار يمتاز بالعقلية العالمية. وجر عليه هذا النور الجديد عسفا من البوليس السياسي لم يباله. وكنت كثيرا ما أذكره بإعجابه القديم بأدباء البهرجة البلاغية ثم احتقاره لهم بعد ذلك فيضحك كثيرا. بل الحق أنه استحال بعد أن عرف الآداب الأوروبية خصما لهم يعد وجودهم عائقا لتطورنا الثقافي والسياسي. وظني أن هذا هو اختبار جميع المنتقلين من الأدب العربي إلى الأدب الأوروبي حين يقرءونه في لغاته الأصلية غير مترجم. وقد ترك موت عزمي في نفسي لوعة لما تنطفئ.
وقد رأيت أخواتي يمتن واحدة إثر الأخرى. والموت يفقد لذعته عندما تكون السن متقدمة؛ لأن الرحلة الأخيرة إلى الليل الطويل تسير هونا والموت يأتي على ترقب. ولكن عندما كان الموت يفجأ إحداهن وهن لا يزلن في بداية العقد السادس أو السابع كان وقعه في القلب ووطأته على العقل يحدثان جمودا كأنه كابوس اليقظة، ولكن السنين تحيل بكيمياء الزمن هذه الكوارث، حتى إني عندما أذكرهن الآن أحس الحزن عليهن في حنان ورقة وليس في ألم وغضب.
وأستطيع الآن أن أعرض لجميع الشخصيات البارزة في عائلتنا، سواء أكان هذا البروز للفضيلة أم للرذيلة، وهذه الشخصيات هي الآن فوق الخمسين أو الستين. وعندما أرجع بذاكرتي إلى أيام طفولتهم وإلى الظروف البيئية الأولى التي سعدوا أو تعسوا بها أجد التعليل الكافي لسلوكهم الحاضر. وأستطيع أن أقول - في ضوء ما أعرف من سيرتهم، بل أحيانا سيرتهم الحميمة - إن التعاسة الأولى التي ينكب بها أي إنسان في حياته إنما هي التدليل، وإن التعاسة الثانية هي الاضطهاد. فجميع أولئك الذين لقوا تدليلا أو اضطهادا في عائلتنا أيام طفولتهم فسدوا. ومعنى «الفساد» هنا ليس العجز عن الكسب أو حتى العجز عن الانتصار المألوف في معركة الحياة. ولكني أعني ذلك الفساد الاجتماعي الذي يقارب الإجرام بل هو إجرام تخفيه رفاهية العيش؛ فإن الشخصية السيكوباتية التي وصفها صديقي الدكتور صبري جرجس في كتابه واضحة في عائلتنا في جميع أولئك الذين لقوا تدليلا أو اضهادا أيام طفولتهم. وقد يقع الاضطهاد لأن زوجة الأب أساءت إلى ابن زوجها في المعاملة وميزت عليه أطفالها دونه فعلمته المكر والخبث والكذب والغش؛ فنشأ على هذه الأخلاق التي صار يعامل بها المجتمع. ولكن في ذهني زوجة أب أخرى عاملت ابن أختي الدكتور رزق الله موسى في طلخا بالنزاهة والرفق والحب، فنشأ قديسا. وفي ذهني آخر في الخامسة والستين من عمره دلله أبواه فنشأ وكل حياته جرائم. ولكن أولئك الذين وجدوا النزاهة والإنصاف في التربية أيام الطفولة هم إلى الآن - في شيخوختهم - مثال الطيبة والإحساس الاجتماعي السامي.
القاهرة فيما بين 1903 و1907
في عام 1903 اجتزنا امتحان الشهادة الابتدائية، وكنا في القطر كله لا نزيد على ثلاثمائة أو أربعمائة تلميذ. وعقد الامتحان في القاهرة. ولم يكن بالقطر كله سوى ثلاث مدارس ثانوية كانت في نظامها ثكنات يتسلط عليها الإنجليز بالأوامر العسكرية والعقوبات العسكرية. والتحقت بالمدرسة التوفيقية ثم بالمدرسة الخديوية، وكان شمال المدرسة التوفيقية وشرقها وغربها أرضا زراعية لا يباع الفدان فيها بأكثر من مائتي جنيه وقد ارتفع سعر الفدان الآن 1947 في هذه الأرض بالذات إلى نحو عشرين ألف جنيه. ولم يكن للمالكين أي فضل في هذا الثراء ولم يتعبوا لإيجاده؛ إذ إن الفضل لسكان القاهرة وتقدم المدنية.
وكان الإنجليز يحاربون شيئين في الأمة لا ثالث لهما. وكانوا يكفلون بقاءنا في ظلام الجهل وذلة الفقر بهذين الشيئين، وهما التعليم والصناعة، ونجحوا في ذلك نجاحا عظيما؛ فلم يسمحوا طوال إشرافهم على وزارة المعارف بإنشاء مدرسة ثانوية للبنات في أي مدينة من مدن القطر. وكانوا يعلموننا أن بلادنا زراعية لا تلائمها الصناعة، كأن القدر قد قضى علينا بالفقر الأبدي. وكانوا يصرون على المحافظة على «تقاليدنا». فكانت المدرسة السنية الإبتدائية في القاهرة - وكانت ناظرتها إنجليزية - تصر على اتخاذ البرقع للتلميذات وهن في العاشرة أو الثانية عشرة من العمر، وكان معلم اللغة العربية يفصل من وزارة المعارف إذا نزع عمامته وقفطانه واتخذ البنطلون والجاكتة. وتقدمت الآنسة نبوية موسى لامتحان الشهادة الثانوية في سنة 1907 من بيتها، فرفض دنلوب المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف قبولها في الامتحان. ولكنها استمرت على الكفاح وأحدثت ضجة في الجرائد، وتقدمت في السنة التالية فقبلت ونجحت. ولكن الإنجليز تنبهوا، فلم تفز فتاة مصرية بالشهادة الثانوية منذ 1908 إلى 1929 حين تقدمت الفتيات اللاتي أنشأت لهن وزارة المعارف مدرسة ثانوية في 1925 أي بعد إعلان الاستقلال بسنتين.
وكانت التلمذة في المدرسة الخديوية فيما بين 1903 و1907 سلسلة من التعذيب. فكان أحدنا يعاقب طوال العام الدراسي بالحضور يوم الجمعة في المدرسة حتى لا يهنأ بالإجازة الإسبوعية. وكان من العقوبات المألوفة أن يحضر أحدنا في منتصف الساعة السابعة صباحا أي في الظلام مدة الشتاء، ثم لا يترك المدرسة آخر النهار إلا بعد الحبس ساعة أو أكثر. وقد يكون السبب الوحيد لكل هذه العقوبات أن المعلم الإنجليزي قد طلب من التلميذ أن يقعد فوقف، أو يقف فقعد. وقد تكون هذه المخالفة محض التباس لا أكثر. ثم يتأخر المسكين في الحضور في الساعة السادسة والنصف صباحا، فيزداد عقوبة والزيادة تتراكم. وهذا إلى عقوبات أخرى مهينة مثل حرمانه من الغداء إلا برغيف يأكله وهو واقف أمام زملائه.
وكان ناظر المدرسة يدعى شارمان، وكان يتأنق في تعذيبنا. وحدث أن الجمعية الخيرية الإسلامية أرسلت على نفقتها بعض تلاميذها من مدارسها الابتدائية. وكانت تشتري لهم ملابسهم في شكة صفراء واحدة. وكان هؤلاء المساكين يخجلون من هذه الملابس الرخيصة. واشتروا غيرها من الملابس المألوفة، حتى لا يتميزوا بفقرهم أمام زملائهم. ولكن شارمان أصر على أن يلبسوا ملابسهم التي تصمهم بالفقر؛ فلبسوها وكانوا ينزوون منا في خجل.
ولست أشك أنه حين أعلنت الجرائد وفاة شارمان هذا غرقا في أواخر الحرب الكبرى الأولى، عم الفرح جميع القارئين الذين كانوا تلاميذه. وقد يستنكر القارئ هذه العاطفة منا. ولكني أؤكد أن التلمذة في تلك السنين كانت عذابا لا يطاق. وكان للمعلمين الإنجليز لذة في تعذيبنا. وكانت العلاقة بيننا وبين هؤلاء المعلمين خالية من الإحساس البشري، حتى لقد كنا أحيانا نجهل اسم المدرسين طوال العام الدراسي.
وقضيت ثلاث سنوات بالمدرسة الخديوية لا أكاد أعد أسبوعا واحدا فيها هنئت به. ولذلك تخلفت في الدراسة. وكان من أسباب هذا التخلف أيضا أني مرضت بعيني واحتجت إلى إجراء عمليتين لا يزال أثرهما المشوه باقيا. كما أني أعزو إلى عذاب المدرسة هذه العربدة الجنسية الذاتية التي انغمست فيها للترفيه عن نفسي. وإزالة الكمد الذي كانت تحدثه هذه الحياة المدرسية المرهقة.
ولكن القاهرة في تلك السنين 1903-1907 كانت حافلة ببشائر العصر الجديد. فقد رأيت فيها الأتومبيل لأول مرة. ولكن الحياة القديمة كانت لا تزال راسخة. فكان السقاء يحضر الماء في قربته لمنزلنا. وكنا أحيانا نركب الحمير من مكان إلى آخر لأن الترام كان يسير في شوارع قليلة. ولم يكن شيء من المنازل قد بني على الضفة الغربية من النيل، كما أن هليوبوليس كانت لا تزال صحراء، بل إن شمال المدرسة التوفيقية في 1903 كان - كما سبق أن ذكرت - خاليا من المباني إلا القليل المتفرق.
وكنا نتحدث في تلك السنين عن شيئين يحركان المجتمع المصري، هما الاحتلال الإنجليزي وحركة قاسم أمين لتحرير المرأة. ولم أكن أهتم بالحركة الثانية كثيرا. وكان الحزب الوطني أعظم قوة تكافح الاحتلال في ذلك الوقت. وكان قد ألفه في 1897 ستة من الشبان المتنبهين هم: أحمد لطفي السيد «باشا» ومصطفى كامل ومحمد فريد ومحمد عثمان (والد أمين عثمان باشا) ولبيب محرم - شقيق عثمان محرم باشا - وسعيد الشيمي. وكان «اللواء» - جريدة الحزب الوطني - يستهوي النفوس، وكنا نسارع إلى شرائه عقب الانصراف من المدرسة ولكن الشبان الأقباط كانوا يجدون بعض الاستياء من الدعوة الدينية في الحزب الوطني وكذلك الدعوة العثمانية - أي التركية - وكان منطقهم يقول: «إذا كنتم تدعون إلى جامعة إسلامية وإلى تأييد الحقوق العثمانية في مصر، مع أن الأتراك ليسوا فقط أجانب، بل إن تاريخهم يحفل بالمظالم في مصر؛ فإن لنا الحق في الاتجاه نحو جامعة مسيحية والاعتماد على الاحتلال البريطاني.»
وقد انتهى موقفهم هذا إلى أن حمل مصطفى كامل عليهم وأثار تعصبا دينيا ساءت عواقبه واستغله الإنجليز أيام كرومر وجورست. ولم يصلح هذا الفساد القومي غير أحمد لطفي السيد حين أسس «الجريدة » ودعا دعوة مصرية بحتة ليس فيها شيء من الدعاية للأتراك أو للعرب أو للإسلام. ولكن حتى مصطفى كامل قبيل وفاته بخمسة أشهر أو ستة أعلن في مقالات أن مصر يجب أن تكون للمصريين فقط، وصار لهذا يعارض الخديوي عباس في ممالأته للدولة العثمانية. وبلغ من معارضته له أن جريدة «المؤيد» وصفته بأنه قد أصبح يشبه عرابي.
والواقع أن المجتمع المصري في بداية هذا القرن كان مجتمعا تركيا أو كالتركي؛ فكان الاصطياف في إستنبول مألوفا. وكانت الحكومة المصرية تؤدي «الجزية» السنوية لتركيا. وكانت العائلات الغنية عائلات تركية خالصة أو خلاسية. وقلما كنا نجد «مصريا» ثريا. ولذلك حين نتأمل العائلات المصرية الثرية في 1947 نجد أنها كلها حديثة العهد بالثراء. وهذه الحال تفسر لنا سيكلوجية الحركة العرابية. فإن عرابي كان يتأمل وطنه في عام 1880 فلا يجد فيه مصريا صميما يملك شيئا يؤبه له. وأن جميع الأثرياء كانوا من الأتراك أو الألبان الذين كان محمد علي قد اختصهم بالامتيازات وأقطعهم أرض المالكين المصريين السابقين الذين استولوا على عقود امتلاكهم وأحرقها. ولذلك كنا لا نعرف رئيسا للوزارة إلا وهو تركي الأصل، بل أحيانا كانت تؤلف الوزارة وليس بين أعضائها مصري صميم واحد أيام إسماعيل وتوفيق. وكنا نرى هؤلاء الأرستقراطيين على سخفهم ونذالتهم وهم في عرباتهم يتنزهون على جسر قصر النيل. وكان يتقدمهم قواص أو قواصان وكل منهما في سترة تهريجية يحمل عصا طويلة في وضع عمودي ويعدو أمام العربة وهو يصيح بأعلى صوته: هيه. هيه.
وكانت الجرائد المقروءة في تلك السنوات ثلاثا: «اللواء» الذي كان يحرك الأمة إلى المطالبة بالجلاء ويقرؤه جميع الشبان، و«المؤيد» الذي كان يؤيد الخديوي ويقرؤه أبناء البيوتات التركية والمحافظون من المصريين، و«المقطم» الذي كان يؤيد الإنجليز ويقرؤه الموظفون. أما «الأهرام» فكانت في ركود يشبه الموت لا يقرؤها غير عدد صغير من التجار.
وكان الخديوي عباس محور الحركة الوطنية في أوائل حكمه. وهو الذي أوعز بإيجاد الحزب الوطني، وكان يعاونه بالمال. ومما زاد الخديوي اتجاها نحو الحركة الوطنية تلك الإهانات الشخصية التي كان يجدها من كرومر. فقد حصل هذا الرجل على تربيته السياسية في الهند، وكان يعامل المصريين كما كان يعامل الإنجليز الهنود قبل خمسين أو ستين سنة، وكانت له في ذلك أساليب طفلية. وقد رأيته ذات مرة وهو ينزل من عربته، فلم ينزل مستويا على قدميه كما يفعل البشر بل تقدم له خادم مصري وحمله كأنه طفل من العربة في عناية ورقة حتى حط جثته على الأرض ... وقد فعل هذا في ظني كي يثبت أنه سيد مطاع أو ملك غير رسمي. وتشاجر مرة مع الخديوي لأن الحوذي الذي كان يسوق عربة الخديوي إنجليزي. وحاول مرة - عقب انتقاد الخديوي للجيش المصري الذي كان كتشنر قائدا عاما له - أن يعين وزيرا إنجليزيا. وكان كرومر هذا من عتاة الاستعماريين، وهو الذي أحال القطر المصري كله إلى عزبة للقطن، وقتل الصناعة المصرية قتلا تاما؛ حتى إننا حوالي 1898 أنشأنا مصنعا في القاهرة لغزل القطن ونسجه، وجئنا له بمدير إنجليزي، فأصر كرومر على فرض الضرائب الباهظة عليه حتى أغلقه. ثم - وهنا عبرة - عين مديره الإنجليزي في الحكومة المصرية.
وبفضل الحزب الوطني - بل بفضل الشاب مصطفى كامل - تزايدت الحركة الوطنية وأخذت موجاتها تعلو وتزبد. ورأى كرومر عجزه عن مكافحتها. فحمله الغيظ على العنف الأحمق بل على التوحش الإجرامي، فانتهز حوالي سنة 1907 فرصة التقاء الجنود ببعض الريفيين في دنشواي إحدى القرى في المنوفية، وكانوا يصيدون الحمام الذي كان هؤلاء الفلاحون يربونه، فاشتبك الريفيون مع الإنجليز في مشاجرة انتهت بقتل بعض الإنجليز أو بالأحرى بوفاتهم. وعندئذ عينت محكمة «مخصوصة» وكان رئيسها المرحوم بطرس غالي باشا، ومن أعضائها المرحوم فتحي زغلول باشا، وكان المحامي عن الإنجليز المرحوم الهلباوي الذي صار بعد ذلك عضوا في حزب الأحرار الدستوريين. وشرع في محاكمة الدنشوائيين وعم الأمة توتر نفسي وغلت العواطف. وكتب «المقطم» بأن المشنقة أرسلت إلى دنشواي قبل أن تنتهي المحاكمة، فخجلت الحكومة وكذبت الخبر. ولكن المرجح أن المقطم كان صادقا؛ لأنه كان يتصل اتصالا وثيقا بالإنجليز في ذلك الوقت. وصدر حكم المحكمة بجلد البعض وبشنق الآخرين. وأنفذت الأحكام في القرية ذاتها. ورأى الأطفال آباءهم يشنقون أو يجلدون، ورأت الزوجات والأمهات والشقيقات والآباء أعزاءهم وهم يتدلون من الحبال أو يصرخون من الجلد.
وأذكر أني كنت في الإسكندرية في ذلك الوقت أتنزه مع أخي، وكنا نأكل في المطاعم، فلما قرأت الحكم عمني جمود يشبه الغثيان، فلم أستطع الأكل جملة أيام، ودارت في رأسي خواطر جنائية عن هؤلاء المعتدين على بلادنا وأهلنا. وخجل الإنجليز أنفسهم من هذا الحادث الإجرامي، فعزلوا كرومر عن وكالته في مصر. وكان يرأس الوزارة الإنجليزية في ذلك الوقت رجل من الحريين يدعى هنري كامبل بانرمان. ولكن وزير الخارجية المدعو جراي برر جريمة كرومر بأن وقف في البرلمان يقول: «إن التعصب الإسلامي قد تفشى في أفريقيا الشمالية كلها بما في ذلك مصر.» وكتب «المقطم» مقالا عنوانه «التعصب يمتد ويشتد.» أي تعصب المصريين المسلمين الذين يجب أن يكبحوا بمشانق دنشواي. وما زالت كلمات هذه المقال ترن في ذهني، ولا تزال «دنشواي» عندي من الذكريات النفسية الأليمة.
وقد وجدت تعزية في شيء واحد هو أن الوجدان الوطني أصبح عاما وتنبهت الأمة كأنها استيقظت من نوم. فكنت أجد بعض الشبان يشترون «المقطم» ويمزقونه حتى لا يقرأه أحد. وحتى الأقباط الذين كانوا متوجسين من حركات الحزب الوطني الدينية، أصبحوا وطنيين يكرهون الإنجليز. وكان هذا الانفعال الجديد ملحوظا في أعضاء عائلتنا. ولكن اختلاط الحركة الوطنية بالدعوة الإسلامية من ناحية وبالرغبة في السيادة العثمانية من ناحية أخرى عرقل الاندماج التام للأقباط في الحركة الوطنية. فكانوا يشيحون عنها ويذكرون حكم الأتراك ومظالمهم أيام إسماعيل وتوفيق.
وشعرت في ذلك الوقت بما زلت أشعر به الآن، وهو أن الاستعمار البريطاني ليس هو العدو الوحيد لبلادنا؛ لأن الرجعية بالتزام التقاليد، وكراهة الروح العصري في السياسة والاجتماع والعقيدة، كل هذا يتألف منه عدو آخر لعرقلة أمتنا عن التقدم. وكانت نظرية التطور التي تعلمتها من «المقتطف» قد جعلتني ألمح بصيصا من الرؤيا الجديدة ، وأن أومن بأن العلم - الذي حقق السيادة وإن لم يحقق السعادة لأوروبا - جدير بأن يرفعنا من حضيض الفقر والجهل الذي وضعنا عليه الإنجليز، وأن يحقق لنا استقلالنا؛ ولذلك وجدتني من ذلك الوقت أدعو إلى أن نعيش العيشة العصرية، وأن أناصب الرجعيين المصريين العداء الذي أناصبه للإنجليز.
وكان علي يوسف صاحب جريدة «المؤيد» معدودا بين كبراء الكتاب الصحفيين يحسن المناقشة ويلتزم المنطق والتعقل. وكان «المؤيد» قليل الانتشار يسبقه «اللواء» ويطغى عليه بمقالات مصطفى كامل النارية. ولكن «المؤيد» كان يثب في الأزمات؛ ففي حادث دنشواي مثلا أقبل عليه القراء - وهم في كمد وحزن وحيرة - يقرءونه ويتعقلون ما يكتبه عن السياسة الإنجليزية المصرية وينظرون للمستقبل من خلال بصيرته.
ولكن علاقة الشيخ علي يوسف بالخديوي جعلته يتجه صوب إستامبول أو كما كانوا يسمونها «الأستانة العلية»؛ حتى إنه عندما أسس «مجلس المبعوثان» في تركيا دعا المصريين إلى أن يرسلوا نوابا عنهم فيه؛ إذ إن مصر جزء من الدولة العثمانية ...
أما مصطفى كامل فكان يغزو قلوب الشبان. وكان إذا أعلن عن خطبة يلقيها تجمع الألوف لسماعه، وكان في شبابه وحماسته إغراء للشبان. وقد مات بالدرن ولما يبلغ الثانية والثلاثين.
وفي تلك السنين شبت الحرب بين روسيا واليابان، فاتجه الرأي العام نحو اليابانيين باعتبار أنهم أمة شرقية مثلنا، فكنا نفرح كلما قرأنا عن هزيمة روسية؛ لأن روسيا كانت تمثل في أذهان الجمهور أوروبا التي تنتمي إليها بريطانيا، كما أن يابان كانت تمثل يقظة الشرق. حتى إن مصطفى كامل ألف عنها كتابا باسم «الشمس المشرقة».
وأحدث خليل صادق نهضة أدبية في تلك السنين بسلسلة من القصص كانت تخرج كل شهر باسم «مسامرات الشعب» وهي قصص مترجمة عن الفرنسية والإنجليزية اشترك في الترجمة له فيها كتابنا المعروفون مثل حافظ عوض وعبد القادر حمزة «باشا» ومحمود أبو الفتح وغيرهم. ولكن الأدب لم «يتمصر» في ذلك الوقت؛ لأن كفاحنا للإمبيريالية البريطانية كان يستغرق كل مجهودنا، فكان الكاتب الذي يجد في نفسه القدرة على التعبير الفني يلتفت إلى السياسة قبل الأدب، ويجاهد في إيقاظ الوجدان المصري الوطني. وما نقصنا نحن من هذه الوجهة سده إخواننا السوريون واللبنانيون عنا: وهم بالطبع كانوا أقرب إلى الثقافة العصرية الأوروبية منا؛ لأنهم تعلموا في الجامعة الكاثوليكية والجامعة الأمريكية في بيروت، وهم أيضا - لأن عددا كبيرا منهم كانوا مسيحيين - لم يجدوا العائق السيكلوجي الذي كنا نجده نحن في مصر إزاء الثقافة الأوروبية العصرية.
وكنا فيما بين 1903 و1908 في تبلبل سياسي وفي تبلبل آخر أدبي واجتماعي، فقد كانت تسود وجداننا السياسي نزعتان: الأولى والكبرى هي الاتجاه نحو الدولة العثمانية، والدفاع عن استقلالنا المصري؛ بدعوى أننا جزء من هذه الدولة العثمانية. وواضح أن موقفنا هنا كان حائرا مقلقلا. ثم كانت النزعة الأخرى وقد بزغت ضعيفة تتلجلج بل لا تكاد تنطق، وهي الدعوة إلى الاستقلال المصري التام والتخلص من بريطانيا وتركيا معا.
أما التبلبل الأدبي فلم نكد نحس به في تلك السنوات. وكان جميع الكتاب، باستثناء اللبنانيين، يعنون بالأدب دراسة القدماء من العرب لا أكثر. ولكن كان هناك تبلبل اجتماعي وضع خميرته محمد عبده وقاسم أمين، ونمت وزكت هذه الخميرة في الوسط الإسلامي، وأصبح لها دعاة وخصوم.
وكان الخديوي عباس محبوبا إلى سنة 1907 يجد فيه الشباب رمزا للكفاح. وكانت شراسة كرومر - الذي كان يرغب في معاملته كما لو كان أحد مهراجات الهند - تنبه فيه هذا الكفاح. وتعلق به الجمهور وشاعت عنه مواقف وطنية. ومما سمعناه في تلك السنين أن ويصا واصف ومرقس حنا وعددا آخر - معظمهم من المحامين - قصدوا إلى سراي عابدين وانتظروا إلى أن هم الخديوي بركوب عربته، فأصروا على أن يحلوا خيولها ويجروها هم. ولكن الخديوي اتخذ موقفا معارضا لاتجاهات الشيخ محمد عبده نحو الأزهر؛ فكان - أي الخديوي - يصر على أن يبقى الأزهر كما كان منذ مئات السنين محافظا لا تتسرب إليه تيارات الثقافة العصرية، وكان محمد عبده يصر على أن يتطور الأزهر إلى جامعة عصرية. واتجه المستنيرون من الأمة وجهة محمد عبده فازوروا عن الخديوي.
ولكن أعظم ما جعل الجمهور المصري يتغير على الخديوي هو ما كان يسمى بسياسة الوفاق؛ فإن الإنجليز - بعد أن رأوا سياسة كرومر الشرسة مع الخديوي قد أحالته إلى وطني يدس لهم ويؤيد الحركات الوطنية ضدهم - عينوا السر الدون جورست وكيلا لهم بالقاهرة؛ فتحبب هذا إلى الخديوي وزاد في سلطته. وارتاح الخديوي إلى هذا التغيير ارتياحا عظيما جدا، وشرع يعارض الحركات الوطنية الدستورية، ويسير مع الإنجليز في «سياسة وفاق» كان ضررها بالأمة فادحا.
وكانت سياسة الوفاق هذه سببا في انقلاب مصطفى كامل؛ إذ إنه أبى أن يسير مع الخديوي، وأصر على الكفاح. ولم تمض سنوات حتى أصيب جورست بالسرطان ومات به في إنجلترا. وأعرب الخديوي عن حبه له، وتقديره لسياسة الوفاق بأن زاره خفية وهو على فراش الموت.
ثم جاء كتشنر، فأعاد سياسة كرومر، ولكن في فجاجة العسكري وغشومته. وعاد الخديوي إلى موقف المعارضة والمعاكسة للإنجليز.
ولو سئلت عن الفرق في القاهرة بين 1905 و1945 لقلت إن نبض القاهرة قبل أربعين سنة كان أبطأ، كما أن الإيقاع كان شرقيا في كل شيء تقريبا. فكان الناس يمشون أكثر مما يركبون. وكانت المدينة متجمعة متكتلة في رقعة صغيرة لم تستفض بعد إلى صحراء هليوبوليس أو إلى الضفة الغربية من النيل. وكنا في الملابس نعبر طور الانتقال. فإني أذكر أني لبست قفطانا بحزام وأنا تلميذ بمدرسة الأقباط في الزقازيق، وكنت في العاشرة من العمر. ثم لبست أيضا وأنا في الثانية عشرة بذلة رمادية من طراز الريدنجوت. أما نساؤنا وآنساتنا فبقين كلهن إلى سنة 1919 يتخذن البراقع والحبرات.
وكنا نقضي ليالي السرور عند الشيخ سلامة حجازي. والحق أن هذا الرجل كان ممثلا بارعا، ولكنه لم يكن يمثل قدر ما يغني؛ فقد وجد إقبالا عظيما على أغانيه فكان التمثيل عنده ملحقا بالغناء. وظني أنه كان يفعل هذا مضطرا؛ لأن كفاءته المسرحية كانت عظيمة جدا. ولا بد أنه كان يتألم لأن الجمهور لا يقدرها بل يؤثر عليها الغناء.
وكانت هناك إلى جنب مسرح الشيخ سلامة ملاه أخرى كانت غاية في الفحش، حيث كانت الراقصات يقمن بحركات وإيماءات هي في صميمها محاكاة غير فنية للتعارف الجنسي، محاكاة فاحشة رخيصة دنسة متهتكة. وقد اضطررنا بعد سنة 1922 إلى إلغاء هذا الرقص. ولكن بعض الأغاني القديمة الفاحشة لا تزال تغنى إلى أيامنا هذه.
وشرعنا - بعد ذلك بسنوات - نحس الوجدان المسرحي، وندرك معنى الدرامة ومغزاها، مما ترجمه فرح أنطون ومما مثله جورج أبيض من الدرامات عن اللغة الفرنسية.
أول وجداني الذهبي
كنت في سنة 1903 تلميذا في السنة الأولى الثانوية قد تركت بلدتي الزقازيق ورحلت إلى القاهرة؛ إذ لم تكن في تلك السنين مدارس ثانوية إلا ثلاث في القاهرة والإسكندرية. وكانت سني إذ ذاك نحو 15 أو 16 سنة، فشرعت أقرأ الجرائد اليومية وأشتري مجلتي «المقتطف» و«الجامعة» وأسأل عن الكتب. ولم تكن هناك مجلات أسبوعية. وبقيت الحال كذلك إلى أن أنشأت أنا أول مجلة أسبوعية في 1914 وهي «المستقبل».
وعرفت «المقتطف». وكان اهتدائي إليه من المصادفات البديعة التي أعانتني على التثقيف الذاتي. وكنت أشتري الأعداد القديمة - بل أحيانا الأعداد الجديدة - من الإدارة، على غلاء ثمنها، وألتهمها من الغلاف إلى الغلاف، وعندما عدت إلى الزقازيق وجدت في بيت صديق لي بقرية قريبة من الزقازيق نحو مائة عدد من هذه المجلة، فاستعرتها وقرأتها جميعها. وكان يحرر «المقتطف» في تلك السنين الدكتور يعقوب صروف. وكانت بؤرة اهتمامه الذهني في ذاك الوقت نظرية التطور التي كان يسميها نظرية النشوء والارتقاء؛ ولذلك لم يكن يخلو عدد من بحث هذه النظرية.
وفي مجتمعنا المصري كثير من الكظوم التي ترهق الذهن بالقيود والسدود. وكان الإيمان بنظرية التطور نوعا من التفريج والانتقام؛ ولذلك وجدتني في ذلك الوقت داعية متحمسا لهذه النظرية في البيت والمدرسة وفي كل مكان آخر. وشعرت كأني ممتاز بهذه النظرية. فبعثني هذا إلى التوسع فيها، وعرفت لذلك الدكتور شبلي شميل، وكان رجلا كبير الذكاء محدود المعارف. فكان يعتمد على الحجة المنطقية أكثر مما يعتمد على البينة العلمية. وفي الوقت الذي كان يعتمد فيه «المقتطف» على البينات العلمية وينقل أقوال البيولوجيين في أوروبا عن هذه النظرية، كان شبلي شميل ينافح عنها ويدعو إليها بقوة المنطق . ولكن يجب مع هذا أن نذكر فضل شبلي شميل في أنه نقل إلى العربية كتاب بوخنر في المادية العلمية. والحق أن هذه النظرية كانت رؤيا جديدة لشاب مثلي لم يكد يخرج من طور الصبا، كما كان شبلي شميل بجرأته وذكائه شخصية فذة لها قوة الإيحاء والتوجيه في نفسي.
ولكن مع ذلك لم يستطع «المقتطف» ولا شبلي شميل تكوين مدرسة فكرية؛ لأن الركود الذهني كان عاما كما كان الشرق بقواته التاريخية الساحقة يخيم علينا بل يحط علينا بكلكله. فلم يكن المجتمع المصري وقتئذ يجيز لنا أن نبوح ونعلن عن سرائرنا. فكنا لذلك أفرادا متفرقين نناقش هذه الأفكار والآراء في همس متسترين أو في استحياء يشبه الاعتذار إذا صادفنا غرباء. وكثيرا ما كنت أجد أن الحجة تنتقل من الرأس إلى الذراع، فأسارع إلى التسليم وأعلن صحة العقائد والتقاليد وكذب الآراء والعلوم؛ لأن المنكرين كانوا في العادة أكبر مني سنا وأضخم جسما ...
وإني أعزو إلى «المقتطف» هذه النزعة العلمية التي لازمتني طوال حياتي الماضية، كما أعزو إليه هذا «الأسلوب التلغرافي» الذي أكتب به والذي يظن كثيرون أنه من اختراعي. وكان الدكتور يعقوب صروف لا يعرف التزاويق بل كان في الأغلب لا يتذوق الجملة الفصيحة أو الكلمة الناصعة أو العبارة المتلألئة أو سائر تلك الألاعيب الصبيانية التي كان الكتاب يرفعون من شأنها إلى قبيل الحرب الكوكبية الأولى.
وكان يرافق هذا الوجدان العلمي بالنظر المادي وجدان أدبي آخر شرع يغمرني ويبسط لي آفاقا جديدة. ذلك أننا في تلك السنين أي حوالي سنة 1905 أو 1906 لم نكن نعرف من معنى الأدب سوى القواعد الجامدة للبيان والبلاغة التي نحفظها عن ظهر قلب في جمود أو كراهة. ولكنا كنا نتذوق شيئا من الجمال الفني في مقالات اللواء ومصباح الشرق. وكنا نقرأ كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي أو كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع. والواقع أن أسلوب الأول يخالف أسلوب الثاني؛ فإن الماوردي مسهب غير ململم أو محبوك في حين أن ابن المقفع موجز رصين مضبوط. ولذلك كانت رؤيا جديدة بل إلهاما جديدا أن أعرف مجلة «الجامعة» لفرح أنطون. ثم اقتنيت مؤلفات هذا الكاتب العظيم، فرأيت دنيا جديدة من الأدب الأوروبي لم نكن نعرف عنها شيئا من قبل. وقد مس هذا الأدب أوتارا في نفوس جميع قارئيه في الشرق العربي؛ لأن هذه الدنيا الجديدة من الأدب الأوروبي كانت تختلف - لا بل تناقض - ما تعلمنا من أدب عربي؛ ذلك لأن الأدب العربي - كما كنا نعرفه في ذلك الوقت - كان أدب السلطة والتقاليد والعقائد. ولكن الأدب الأوروبي - أو بالأصح الفرنسي - الذي نقله إلينا فرح أنطون، كان أدب الثورة والتمرد، أدب العقل الذي يحس والقلب الذي يعقل، أدب فولتير وروسو وديدرو وبرناردان دواسان بيير. وكان جميع هؤلاء مجاهدين يكافحون استبداد الملوك والأمراء واستبداد العقيدة وسلطان التاريخ.
وكنا نحن في مصر في حال اجتماعية وسياسية تحملنا على الترحيب بهذا الأدب، ففتحنا له قلوبنا، لا بل تفززنا وتمردنا. وكان هذا الأدب هو الذي هيأ فرنسا التهيئة الذهنية للثورة الكبرى. ويبدو لي الآن أن فرح أنطون لم يكن على جهل بما يعمل. فإنه خرج من لبنان حوالي سنة 1900 وكان هذا القطر يغط في ركود تاريخي آسن، وقد خيمت عليه الدولة «العثمانية» ومنعت عنه النور إلا بصيصا يتلقاه الشباب في كلية بيروت الفرنسية أو الجامعة الأمريكية. ودرس فرح أنطون الفرنسية وتشبعت نفسه وذهنه بآدابها. فلما رحل إلى مصر وجد شيئا من الحرية، ولكنه أدرك أن الظلام الذي كان يشكوه لبنان هو نفسه الظلام الذي تشكوه مصر مع فرق في الدرجة فقط. فعمد إلى هؤلاء المؤلفين الفرنسيين الذين ذكرت أسماءهم ينقل عنهم أو يستلهمهم في كل ما يكتب. ومن هنا كانت جدته وطرافته لي بل لجميع قرائه؛ فإن «المقتطف» لم يكن يعنى بالأدب. وكان «مصباح الشرق» جريدة أدبية يصدرها المويلحي، ولكن لأدب العرب فقط. أما الجامعة فانفجرت بيننا تنير وتشير وتثير؛ أي تنير عقولنا، وتشير إلى مبادئ ومناهج رتبها أدباء فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر. وكان يحس أننا في حاجة إلى هذه المبادئ والمناهج؛ ولذلك أثارنا بترجمة قصة الثورة الفرنسية لألكسندر دوماس. ولا أعرف واحدا يقظا في تلك السنين لم يقرأ هذه القصة ولم يتغير بها وبسائر مؤلفات فرح أنطون.
وكان جديرا بهذه المؤلفات أن تحدث حركة رومانسية ابتداعية في الأدب العربي، ولكنها للأسف لم تحدث. فإن خلاصتها أن الإنسان حسن مسالم، ولكن المجتمع سيئ يحمله على الرذائل. وما كان أبدعها من فكرة لمثل أمتنا في مثل ذلك العصر أي حوالي 1905 أو 1906. فإن هذه الفكرة كانت جديرة بأن تختمر وتبعث النشاط الذهني في جميع القراء، كما تبعث وجدانا أدبيا جديدا ينضج ويتوالد في شتى الأفكار والآراء.
ولعلي محتاج هنا إلى أن أشرح ماذا أقصد إليه من الاتجاه الرومانسي في الأدب؛ فإن الأدب يمكن أن يقسم من ناحية المزاج والاتجاه وقواعد التفكير واللغة بأنه أدب كلاسي اتباعي أو أدب رومانسي ابتداعي. وليس أحدهما خيرا من الآخر، ولكنهما مختلفان. وفي فترة ما تحتاج الأمة إلى النزعة الاتباعية في حين أنها في فترة أخرى قد تحتاج إلى النزعة الابتداعية.
فالنزعة الاتباعية تقتضي العناية بالماضي والجري على أساليب السلف والتقيد بالنصوص في قواعد التفكير واللغة. ففولتير اتباعي، وطه حسين في كتابه عن المعري اتباعي، والعقاد في كتبه عن رجال الإسلام الأولين اتباعي، وقس على هذا.
والنزعة الابتداعية تقتضي الخيال أكثر من التقيد بالنصوص. وهي تجنح إلى التحلل من النص والقاعدة؛ ولذلك كان روسو ابتداعيا كما أن طه حسين في «الأيام» ابتداعي، وكذلك توفيق الحكيم ابتداعي في معظم ما يكتب.
ونحن محتاجون إلى النزعتين، ولكنا في مصر أكثر احتياجا إلى النزعة الابتداعية؛ لأنها في النهاية نزعة التجديد واقتحام المستقبل.
وكان فرح أنطون فيما ألف ونقل رومانسيا ابتداعيا، بل إن أول الكتب التي نقلها عن الفرنسية كان كتاب «إميل» لجان جاك روسو، وهو يعد أساسا للحركة الرومانسية في أوروبا، حيث يقول بأن الطبيعة البشرية حسنة يفسدها المجتمع والحكومات والقوانين. وهذا الكتاب - مع الأسف - لم يطبع إلى الآن.
ولكن حياة فرح أنطون في ذلك الوقت بترت؛ لأنه وقع في مناقشات تمس الدين مع الشيخ محمد عبده، فبارت مجلته بعد الرواج، ورحل إلى القارة الأمريكية حيث اشتبك في خصومات صحفية لم يكن القلم وحده أداة الرأي والحجة فيها، فعاد مهزوما إلى مصر.
وكان أثر فرح أنطون في نفسي أني أكبرت الأدب الأوروبي إكبارا عظيما.
ولم يكن هذا غريبا في مثلي؛ فإن فرح أنطون استبدل بالماوردي عندي جان جاك روسو، وحملني على أن أستبدل بالكلمة الوضيئة والعبارة المذهبة أدب المبدأ والفلسفة والفكرة.
وعرفت فرح أنطون بعد ذلك حين اشتغلت معه في جريدة «اللواء»، وكانت جريدة الحزب الوطني يرأسها المرحوم عثمان صبري حوالي 1910، فزادني توجيها نحو الأدب الأوروبي. وعاش فرح في مصر إلى 1921 حين توفي وهو في الحادية والأربعين. وكانت وفاته نكبة على النهضة المصرية السياسية والأدبية. وكان من اللبنانيين القلائل الذين اندغموا في الحركة الوطنية المصرية اندغاما تاما. وكان سعد زغلول يحبه ويقدره. وزاره واصف غالي باشا وهو في فراش المرض قبيل وفاته بمنزل أخته السيدة روزا حداد وقدم له تحية الوفد.
والآن أعود بالذاكرة إلى هذه الشخصية الفذة وأتساءل: ما مقدار ما ضاع منا بوفاته؟
الحق أن ما فقدنا فيه عظيم فادح؛ فلو أنه عاش إلى أيامنا مثلا لطبع النزعات الأدبية والسياسية في مصر بطابعه. ولعله كان يوجه الأدب المصري هذه الوجهة الرومانسية التي آسف على أنه لا يتجهها الآن؛ لأننا على الرغم من كل جديد في هذا الأدب ما زلنا نعيش في أسر التاريخ بأدب أغلبه سلفي، نفكر بمزاج سلفي في لهجة سلفية. وأدبنا هو أبعد الآداب عن روسو، بل لقد أصبحت حركاتنا الاجتماعية سلفية أيضا كما نرى في حركة «الإخوان المسلمين».
وكان فرح أنطون بشري النزعة والإيمان، يؤمن بالإنسان ويكره الأساطير الغيبية بل يشمئز منها. وكان يمتاز بالذهن الاستطلاعي يرود كل جديد في الثقافة الأوروبية. فهو أول من كتب عن نيتشه. وأظن أني أنا كنت الثاني؛ لأن أول مقال صحفي لي كان في «المقتطف» سنة 1909 بعنوان «نيتشه وابن الإنسان» وقد وصلت إلى نيتشه مستقلا وأنا بأوروبا.
ولذلك عقب عودتي من أوروبا واتصالي به كنت لا أجد موضوعا أختلف فيه معه. وكنا نتحدث عن الاشتراكية والنزعات الأدبية الجديدة والسياسة في مصر، فنكاد نتفق في كل شيء حتى في العقيدة الدينية.
وفيما بين 1907 و1910 ظهرت قوة جديدة في مصر كان لها أثر آخر في توجيهي النفسي، وكانت هذه القوة أحمد لطفي السيد؛ ففي تلك السنين كانت الوطنية المصرية في طور اليرقة لم تنسلخ بعد إلى الجسم الحي الكامل. وكانت عرضة لأخطار شتى وتطوحات مختلفة. وحسب القارئ أن يعرف أن كلمة «وطنية» ليست عربية وأننا إنما سككنا هذه الكلمة كي نعبر بها عن وجدان جديد؛ ذلك أن مصر في بداية هذا القرن كانت لا تزال في أسر الماضي. وكانت الدولة «العثمانية» هي دولتنا التي كنا نكافح بها الإمبراطورية البريطانية. وكان بيننا متنبهون تعلموا في المدارس الفرنسية أو نبهتهم الحوادث وأيقظت فيهم وجدانا وطنيا، فلم يكونوا يسيغون منطق اللواء والمؤيد في الدفاع عن استقلال مصر بحق الأتراك في سيادتها. وكان الأقباط ينفرون من هذه الوطنية العثمانية نفورا عظيما.
وظهر لطفي السيد في الجرائد يدافع عن هذه البديهية الواضحة، وهي أن مصر يجب أن يملكها المصريون دون الأتراك ودون الإنجليز. ووجد في الأول مصادمة قوية من الكتاب الذين ألفوا الدعاية للأتراك ولكن سرعان ما انتصر وظفر بالرأي العام في مصر. ووجد الأقباط منطقا في هذه الوطنية كما وجد المثقفون فيها أملا جديدا يعبئ الأمة للإصلاح والتجديد فأقبلوا على الجريدة وشغفوا بمقالات لطفي السيد فيها.
وكثير من القراء في أيامنا - أي بعد نحو 35 سنة من هذه الحركة - لا يعرفون مقدار هذه الحركة وفضل أحمد لطفي السيد فيها؛ ذلك أننا جميعا قد اعتنقنا هذه الوطنية الجديدة - وطنية مصر للمصريين - ولم نعد نعرف غيرها. ولكن على القارئ أن يذكر أن الدولة «العثمانية» كانت شيئا أكبر من تركيا الحاضرة. وكانت إمبراطورية شاسعة لها جيوش وموظفون في اليمن والحجاز والعراق وطرابلس. وكانت الرحلة السنوية إلى إستامبول أو كما كان يصفها الصحفيون وقتئذ «دار السعادة» لا تقل في عدد المسافرين المتنزهين عن الرحلة إلى باريس . وكان حبل الدسائس لا ينقطع بين القاهرة وإستامبول. ولكنه مع ذلك كان واهيا ، كما كانت هذه الدسائس عقيمة.
وكان لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وقاسم أمين جيلا جديدا في مصر بعد الجيل الذي كان منه الأفغاني ومحمد عبده. وكان هذا الجيل أكثر جرأة؛ ولذلك نجد أن قاسم أمين يدعو إلى سفور المرأة وإلغاء الإعراب في اللغة. ولطفي السيد يدعو إلى لغة مبسطة تقارب العامية، كما نجد عبد العزيز فهمي الآن يدعو إلى الخط اللاتيني. وقد حفظ هذا الأخير شبابه الذهني إلى ما بعد السابعة والسبعين. وهو يعاني الآن من هذا الشباب عنتا من خصومه أولئك الشبان الذين شاخوا قبل الثلاثين والأربعين.
والواقع أن لطفي السيد مهد لحركة سنة 1919 بجمع الأمة على رأي موحد في الوطنية، كما أنه جعل التجديد مساغا لا يتهم القائمون به بالهوج أو الرعونة. بل أصبحت الدعوة إلى حرية المرأة وتعليمها شيئا وقورا محترما، واحترمت «الجريدة» بعد أن كانت موضوعا للنكات البذيئة.
وقد سبق أن قلت إن أسلوب المقتطف كان علميا مقتصدا وإني أخذت عنه ما أسميته «الأسلوب التلغرافي». ولكن أسلوب لطفي السيد كان موجزا مقتصدا أيضا. وهو أشبه الأساليب بأسلوب ابن المقفع، وأظن أني تأثرت به أيضا.
وقد كان هؤلاء الثلاثة: يعقوب صروف، وفرح أنطون، ولطفي السيد، من القوات التي صاغت شخصيتي الثقافية الذهنية؛ فإن الأول وجهني إلى طريق العلم، والثاني بسط لي الآفاق الأوروبية للأدب، والثالث جعل من المستطاع لي - بوصف أني غير مسلم - أن أكون وطنيا في مصر.
كرومر وجورست وكتشنر
في 1907 كنت قد بلغت حالا من القلق النفسي والثقافي جعلت مقامي في مصر شاقا؛ فقد كنت أعاني هذا الكرب المدرسي الذي أحدثه الإنجليز بنظام الثكنات في المدارس، إلى جنب نكد عائلي آخر أوجدته تلك المطامع العائلية الصغيرة التي أجد من البر أن أنساها. والقارئ يعرف أننا في مصر نكابد خلافات عائلية تتعدد مراجعها من التمييز المالي أو المطامع المالية بين الورثة إلى الاشتباكات التي تعود إلى مصاهرات سيئة تحيل العائلات إلى قبائل تحيي الثأر وتعيش السنين وهي في الشقاق والنزاع. وقد كابدت من كل ذلك مضضا وألما، ولكني كنت أجد العزاء في شغفي بالثقافة. بل لقد كانت هذه المساوئ العائلية تحملني على تجنب الاختلاط بالاعتكاف للدراسة كما كانت الدراسة نفسها سرورا أنشده كي أخفف عن نفسي هذا البلاء.
وحين أرجع بذاكرتي الآن إلى تلك الأيام أجد أن بؤرة هذه المتاعب كان واحدا أو اثنين قد أسيء إليهما في طفولتهما بالتدليل المسرف. فنشأ كلاهما على العدوان والعناد والخطف. والحق أنهما لا يزالان على هذه الحال إلى الآن.
وسافرت إلى أوروبا وأنا على غير وجهة تعليمية معينة سوى الحصول بأية وسيلة على الثقافة العصرية. وقد كان ميراثي من أبي الذي مات وأنا دون السنتين يكفل لي نحو 25 أو 30 جنيها في الشهر دخلا ثابتا. فلم أحس الحاجة إلى إعداد مهني أتكسب به. ولم تكن الوظائف مغرية في ذلك الوقت؛ لأن الحاصل على الدبلوم لم يكن يزيد مرتبه على ثمانية جنيهات.
وقصدت إلى باريس عن طريق إستامبول. وكانت الدولة العثمانية - تركيا - في تضعضعها قد شاع فيها التفكك والانحلال. وكانت غايتي من اختيار هذا الطريق أن أرى أوروبا قبل أن أهبط باريس، وقد يلذ للقارئ أن أروي له ثلاث حوادث وقعت لي في السفر لا تزال بارزة في ذهني: أولها أنه كان يرافقني في قمرة الباخرة موظف تركي كان قادما من اليمن إلى إستامبول، وكان يعرف العربية، وكان يعين مساءه بشرب زجاجة من العرق، ويعين صباحه بملء فمه ماء ثم ينفخ طربوشه نفخا من فمه ويمسحه بعد ذلك. وكنا نتحدث كثيرا عن السياسة التي كان يفيض ويصرح في شئونها عقب الكئوس الأولى من العرق. وكان يسب اليمنيين والعرب عامة. وكانت الباخرة قد قامت من بورسعيد تقصد إلى المواني الشرقية على البحر المتوسط وتلبث في كل منها نحو ثلاث أو أربع ساعات. فكنا ننزل للتفرج. فلما بلغنا أزمير اقترح علي أن يرافقني وأن نستأجر عربة لرؤية المدينة. فلما واجهنا العربات على رصيف الميناء جعل يسأل الحوذية بلغته التركية عن أسمائهم، فطلبت منه أن يخبرني عن السبب لهذه الأسئلة، فأجابني: «أسأل كي أعرف إذا كان مسيحيا أم مسلما؛ لأننا يجب ألا نركب إلا مع حوذي مسلم.» ولم يكن يعرف أني مسيحي. وبصرت عندئذ بإحدى المشكلات التي أدت في النهاية إلى موت السلطنة العثمانية؛ إذ ليس شك أن الأقليات من العرب والأرمن - لما نالها من عسف - حطمت بنيان هذه السلطنة؛ لأن هذا التعصب الديني كان يرافقه تعصب عنصري آخر ضد العرب. كما نعرف نحن مما فعله الشريف حسين الذي ألب العرب وانضم إلى الإنجليز وحارب الأتراك في الحرب الكبرى الأولى.
والحادثة الثانية أني وأنا في إستامبول دخلت قهوة تركية كان دخان النارجيلات قد انعقد فيها بحيث لم يكن الداخل ليستطيع التنفس أو رؤية السقف. وصدمني هذا الجو فارتددت بعد أن فتحت الباب. وعدت إلى الشارع. ولكني تأملت وقلت في نفسي يجب أن أعرف هذا الوسط التركي بعيوبه وميزاته. ورجعت إلى القهوة وقعدت، وأنا من الأصل أكره الدخان. وظني أني على «استهداف» طبي منه، مثل أولئك الذين يستهدفون لهباء القطن أو القمح أو عطور بعض الأزهار. ولم يمض علي بهذه القهوة نصف ساعة حتى شعرت بغثيان فخرجت وقئت في الشارع، وقصدت إلى الفندق وأنا في غاية الكرب في الرابعة بعد الظهر، وآويت إلى الفراش، وفي رأسي ضربان كأن مطرقة تدق دماغي، وتورمت الغدد في عنقي، ولم أفق إلا في صباح اليوم التالي، وكان واضحا أني تسممت بدخان هذه القهوة.
أما الحادث الثالث فهو رؤية السلطان عبد الحميد وهو يقصد من قصره إلى المسجد لصلاة الجمعة، وكنا نحن المتفرجين قد اصطففنا على الطريق وأمامنا الجنود الأتراك في صف عسكري. وكانت المدافع تطلق قنابلها والنواقيس تدق في المسجد، على غير مألوفنا في مصر. والمؤذن يهتف باللغة العربية، ويدعو إلى الصلاة. وخرج عبد الحميد في عربته وكان قد تجاوز الشيخوخة إلى الهرم المتحطم، فكان منحنيا يكاد رأسه يلمس ركبتيه. وكانت العربة تسير على مهل وهتاف القائد: «بادي شاه شوك يشا.» يبعث في كل منا حماسة تاريخية وإن تكن غير ديمقراطية. ولكن أفسد علينا هذه الحماسة التاريخية منظر آخر هو ضابط شركسي كان واقفا قريبا منا، وكان غاية في جمال الوجه وفتنة القوام، وزادت هذا الجمال شكته العسكرية الزاهية. وكان إلى جنبي وخلفي سيدات أجنبيات فأخذت عيناي تتجسس عليهن كي أرى وقع هذا المنظر فيهن، وكان ما توقعت؛ فقد تركت أعينهن عبد الحميد وتجمعت نظراتهن في بؤرة مفردة هي هذا الضابط الشركسي. وهكذا انتصر عرش الجمال والشباب على عرش السلاطين الأتراك.
وقطعت الطريق من إستامبول إلى باريس على مراحل قصيرة كي أرى العواصم الأجنبية حتى استقررت في باريس. وسأروي في فصل آخر ماذا رأيت في فرنسا. وكنت قد تركت مصر عقب خروج كرومر الطاغية الإنجليزي الذي عاث وعربد في كياننا الاقتصادي والسياسي، وعطل بلادنا من التطور، وكان السبب لخروجه فظيعة دنشواي التي فضحت الاستعمار البريطاني في جميع أنحاء العالم المتمدن.
ولم يكتب إلى الآن في اللغة العربية تاريخ كرومر؛ فقد كان هذا الرجل جاهلا يتشدق بعبارات لاتينية أو إغريقية قديمة، ولا يعرف شيئا من العلوم العصرية الجديدة. ولما ترك مصر استخدمته مجلة «اسبكتاتور» في لندن لكتابة النقد للكتب السياسية الجديدة. وكنت أقرأ مقالاته هذه وأنا في لندن فلا أجد نورا أو معرفة، ولكن حذلقة لغوية جوفاء وآراء سخيفة مغرضة. وكان استعماريا مسرفا في الاستعمار، فمنع التعليم، وخاصة تعليم المرأة، وقتل الصناعة المصرية، وأحال القطر المصري إلى عزبة للقطن. ولما أصر السر هنري كامبل بانرمان رئيس وزارة الأحرار على طرده من مصر عقب فظيعة دنشواي وقف في دار الأوبرا يودع أصدقاءه الإنجليز وأعداءه المصريين فقال هذه الكلمات التالية التي تدل على حنقه وعجزه، وذلك في 4 مايو من 1907:
أخاف أن أكون قد أتعبتكم أيها السادة بطول الكلام، ولكن ما قلته إلى الآن كان عن الماضي، فإذا تكرمتم علي بالإصغاء فإني أقول شيئا عن المستقبل.
ما هي حقائق الحال المصرية الآن؟ أولها أن الاحتلال البريطاني سيدوم إلى ما شاء الله. وقد قالت لنا حكومة صاحب الجلالة الملك ذلك رسميا . والثاني أنه ما دام الاحتلال البريطاني باقيا فالحكومة البريطانية تكون بالضرورة مسئولة عن الخطة التي تجري عليها الحكومة المصرية. ولا يكونن عند أحد أقل ريب في هذه الحقيقة الثابتة. والنتيجة التي أستخلصها من هذه المقدمة أن نظام الحكم الحاضر دائم.
وإذا كانت هذه الكلمات تدل على حنقه فإنها أيضا توضح سياسته التي اتبعها في مصر.
وجاء بعد كرومر من يدعى جورست، وكان قد أدرك أن الخديوي عباس يرأس الحركة الوطنية ويؤيد مصطفى كامل في جهاده الوطني، وأراد أن يجتذب الخديوي إلى الإنجليز، فاخترع ما كان يسمى «سياسة الوفاق»؛ أي إن الإنجليز يجدون المحالفة مع الخديوي أسوس له وأنفع لمصالحهم من الخلاف المستمر والتصادم بينهم وبينه. وكان ما أراد جورست؛ فإن الخديوي تنكر لمصطفى كامل بعدما أطلقت يد الخديوي في «نظارة» الأوقاف، بل أصبح يناوئ حزب الأمة الذي كان يطالبه بالدستور. وكان أحمد لطفي السيد قد أصدر - بمعاونة بعض الأعيان - «الجريدة»، وجعل رسالتها الأولى الدعوة إلى الدستور. وكان من وقت لآخر يحمل على الخديوي لأنه تتاح له الفرصة لمنح الدستور ولكنه لا يمنحه. ووقعت البلاد من هذا «الوفاق» بين عميد الاستعمار البريطاني وأمير البلاد في هاوية من اليأس. وتوطدت الصداقة بين عباس باشا وجورست حتى إنه عندما مرض هذا سافر إليه الخديوي وزاره في لندن وهو في فراش الموت كما سبق أن ذكرت.
ثم كان هذا الانبعاث الوطني الجديد في الأمة، فعمد جورست إلى مناورة استعمارية أخرى هي إيجاد الخلاف والشقاق بين المسلمين والأقباط. فكان الموظفون الإنجليز يحرضون الأقباط من ناحية على المسلمين ثم يعودون فيحرضون المسلمين من ناحية أخرى على الأقباط. وشرعت المصالح الحكومية تخرج إحصاءات غير مطلوبة كي تبين عدد الموظفين من القبط والمسلمين. وشرع كل فريق يعقد المؤتمرات ويطالب بطلبات كأن مصر لم يعد لها طلبات قبل الإنجليز المعتدين علينا جميعا، وإنما صار كل ما نطمع فيه أن يطلب المسلمون من الأقباط ترك هذه الوظائف أو تلك، ويطلب الأقباط من المسلمين هذا الحق أو غيره. وهكذا انتهى جورست إلى «تهنيد» مصر. وسعد الإنجليز وشقينا نحن ونسينا الدستور ونسينا الاستقلال. وخيم الشر على الأمة؛ حتى إن كاتبا يدعى عبد العزيز جاويش كتب في اللواء جريدة الحزب الوطني يقول في رعونة إن المسلمين كانوا يستطيعون أن يصنعوا نعالا من خدود الأقباط ...
وعاشت مصر أياما سودا اغتبط فيها العدو وابتأس الصديق. وقتل بطرس غالي باشا رئيس الوزراء فحمل قتله على أنه ثمرة التعصب الديني. وهكذا تحققت الأسطورة التي اخترعها إدوارد جراي وزير الخارجية البريطاني كي يبرر بها فظيعة دنشواي وهي أن التعصب الإسلامي قد فشا في مصر وعم أفريقيا الشمالية. واستغل المستعمرون هذه الأسطورة.
ومات جورست قبل أن ينال جميع الثمرات التي كانت ينتظرها من الوقيعة التي غرسها بين الأقباط والمسلمين. وجاء بعده كتشنر - وكان عسكريا فظا غليظ العقل يحمل حقدا قديما على الخديوي - وبقي إلى 1914، وكانت غايته محو الحركة الوطنية وضم مصر إلى الممتلكات البريطانية. وسار سيرة الضغط والعداء للأمة والخديوي، وأفشى التجسس في الحكومة، وأرسل بعثة مصرية إلى موسكو كي يتعلم رجالها طرق التجسس التي كانت تستعملها حكومة القيصر نيقولا في مكافحة الأحرار الروس حتى تصل إلى شنقهم أو نفيهم إلى سيبريا. وأقام قلعة تحت ستار ثكنة في ميدان باب الحديد لا تزال قائمة إلى الآن وعلى كل زاوية منها مزاغل من الحديد. وكنت أقرأ هذه الأخبار في الجرائد التي واظبت على الاشتراك فيها وأنا بفرنسا وكلي يأس واغتمام. وكانت تصل إلي أيضا خطابات خاصة من أقاربي وأصدقائي الأقباط وهم حانقون على إخوانهم المسلمين، وخاصة لهذا المقال البذيء الذي كتبه ذلك الكاتب الشاطح عبد العزيز جاويش عن خدود الأقباط تصنع نعالا، في نقاش صحفي بين جريدتي اللواء والوطن.
ولكن مع هذا الظلام الذي عم مصر فيما بين 1907 و1912 كانت هناك أشعة من نور؛ منها الدستور الذي دأب حزب الأمة ولسانه «الجريدة» في المطالبة به، ومنها هذا التطور الملحوظ في الوطنية المصرية، والفضل فيه أيضا للجريدة وأعني به الانتقال من الوطنية العثمانية إلى الوطنية المصرية البحتة. وقد كانت هناك تطورات أخرى غير ملحوظة لأنها سارت في هدوء؛ فقد رأيت مصر سيدة مصرية تكتب في الجرائد باسم «باحثة البادية» هي ابنة المرحوم حفني ناصف، بل رأيت أيضا الآنسة نبوية موسى تنجح في نيل الشهادة الثانوية على الرغم من معارضة دنلوب لها ومنعها من التقدم للامتحان في السنة الأولى. ومن التطورات غير الملحوظة أن الثروة انتقلت من العائلات التركية إلى العائلات المصرية؛ وذلك لأن أبناء الأتراك قنعوا بثرواتهم الموروثة ولم يتعلموا، في حين أقدم الشبان المصريون على التعلم، فصار منهم الأطباء والمحامون والمهندسون وعامة الموظفين. وكان هذا انتصارا عظيما للعنصرية المصرية. والقراء الذين ألفوا رؤية وزراء من المصريين فيما بين 1920 و1947 قد يتعجبون حين يعرفون أن المصري القح لم يكن يعين وزيرا إلا نادرا، بل نادرا جدا، قبل 1900. وكان بطرس غالي باشا أول رئيس وزراء مصري للوزارة منذ الاحتلال البريطاني. كما أن فرح الأمة باختيار سعد زغلول باشا وزيرا للمعارف في وزارة بطرس باشا كان يرجع بعضه إلى أنه مصري العنصر. والتفاتي هنا إلى هذا الموضوع يدل القارئ على أننا منذ بداية هذا القرن كنا على وجدان بالعنصرية المصرية. وقد ضعف هذا الوجدان بتقهقر السلالة التركية في الوظائف الحكومية.
وعدت إلى مصر بعد قضاء سنة في فرنسا في 1909، وأذكر أني حين نزلت في الإسكندرية سارعت إلى قطع التذاكر عند شركة كوك لرؤية مدن الصعيد إلى الأقصر. وقضيت شهرين أتنقل من بلدة إلى أخرى أدرس الآثار المصرية. وكان الباعث المؤلم بل المخزي على هذه الرحلة أني لم أكن ألقى واحدا في أوروبا إلا وكان يفاجئني بالسؤال عن تاريخ الفراعنة الذين كنا نجهلهم تمام الجهل؛ لأن الإنجليز كانوا يشعرون أن هذا التاريخ الذي يشتعل مجدا وعظمة يجب ألا يعرفه أبناء الفراعنة في القرن العشرين لئلا يشتعل فيهم مثل هذا المجد أيضا فيطلبون الاستقلال. ومنذ ذلك الوقت وأنا أهتم بالفراعنة وثقافتهم، وكان كتابي «مصر أصل الحضارة» ثمرة هذا الاهتمام.
وعدت إلى القاهرة بعد هذه الرحلة. وكانت الحركة الوطنية على أشدها، فكانت هناك المظاهرات من الطلبة ، كما كانت هناك الصحف التي تطالب الإنجليز بالجلاء والخديوي بالدستور والشعب بالنهوض. فكتبت أنا بعض المقالات في اللواء جريدة الحزب الوطني. وكان يرأس التحرير فيها المرحوم عثمان صبري. وكان رجلا حكيما عرف الهوة التي أردى فيها عبد العزيز جاويش الأمة حين وصف خدود الأقباط بأنها تصنع نعالا فشرع يستصلح ويسترضي ويضع الوفاق مكان الشقاق. ودعاني إلى التحرير. وكان من أعظم ما طربت له أني وجدت هناك فرح أنطون صاحب الجامعة التي وجدت فيها الثقاب الذي أشعل في نفسي الرغبة في درس الآداب الأوروبية. وقد انتفعت كثيرا بصحبة فرح أنطون في ذلك الوقت؛ فإني - زيادة على ما كنت أستمتع به من حديثه في الصباح - كنت أجتمع به في المساء في إحدى القهوات بميدان الأوبرا. وكان فرح جميل الطلعة عصري الذهن أوروبي التفكير، يكره الأتراك والإنجليز على السواء. وكان مسامرا يتنقل من الأدب إلى السياسة ولا تفوته النكتة العالية والاقتباس الفريد.
وكان المندوبون الإنجليز - كرومر وجورست وكتشنر - سواء في الغاية وهي استغلالنا ونهب أموالنا. ولكنهم كانوا يختلفون في الوسيلة. فقد كان كرومر لوردا لا يعد هتلر شيئا في جانبه من حيث الاعتقاد بأن الآريين يفضلون الآسيويين والأفريقيين. وكان يصر على مظاهر السيادة البريطانية في كل شيء، بحيث كان يصرح بأنه يجب على الرئيس المصري أن يخضع للمرءوس الإنجليزي. وكان لكل وزارة «مستشار» هو في حقيقته وزير يتصرف كما يشاء، وليس على رؤسائه سوى الخضوع. وأستطيع أن ألخص سياسته كما أذكرها الآن فيما يلي: (1)
قتل الصناعة المصرية قتلا تاما بحيث لا يجوز لمصري أن ينشئ مصنعا؛ إذ على مصر أن تستورد جميع المصنوعات من إنجلترا، بل من غير إنجلترا إذا اقتضى الأمر ذلك؛ حتى لا يتعلم المصريون شيئا من الثقافة الصناعية. (2)
إحالة القطر المصري كله إلى عزبة للقطن، كأنه ضاحية زراعية لمصانع لنكشير. وتوجيه نشاط الحكومة كله إلى هذه الغاية. حتى فقدت كلمة «مشروعات» معناها اللغوي عند الحكومة وأصبح معناها الوحيد زيادة المياه للري حتى تزيد مساحة الأرض التي تزرع قطنا. وكانت هذه الزيادة في المياه السبب في تفشي البلهارسيا والأنكلستوما واستشباع التربة بالماء حتى وهنت. (3)
قصر التعليم وتحديد عدد المدارس لتخريج الموظفين للحكومة فقط، وذلك بعد قصر نشاط الحكومة على مهمة واحدة هي زراعة القطن. (4)
المحافظة على تقاليدنا التي ورثناها من القرون المظلمة وكانت تؤخرنا، وأهمها بقاء البرقع والحجاب للمرأة وتثبيط تعليمها. وقد اتبع من جاءوا بعده هذه الخطط كلها، حتى إننا لم نؤسس مدرسة ثانوية للبنات إلا في 1925.
أما جورست فكان بعيدا عن صراحة كرومر، ولكنه كان يسير في الخطة نفسها من حيث تثبيط التعليم ومنع الصناعة وزيادة الزراعة القطنية. وزاد على ذلك الوقيعة بين المسلمين والأقباط. وزاد أيضا حبا متبادلا بينه وبين الخديوي عباس على حساب الشعب.
أما كتشنر فقد عاد إلى صراحة كرومر. وكان يكره الخديوي عباس كراهة شخصية، ولم يكن فيه من الميزات السياسية ما يمكنه من إخفاء هذه الكراهة. وكان صغيرا في أساليبه شرسا في مبادئه الإمبيريالية؛ فقد أراد الخديوي عباس حوالي 1913 أن يزور بعض المدن، وكان الأعيان يستقبلونه على المحطات، فكان من صغار كتشنر أنه عندما كانت القهوة توشك أن تقدم على المحطة يصفر القطار ويطير في سرعة مفاجئة فيرتبك الخديوي ويضطرب المستقبلون ويعم الهرج. وكان هذا الصغار يلذ لكتشنر. وقد ذكر هذه القصة جورج لويد مع الإعجاب؛ لأن هذا الأخير كان - نفسا وذهنا - لا يختلف عن كتشنر صغارا وانحطاطا.
وقد كانت شهرة كتشنر حربية؛ ولذلك كانت له الكلمة العليا في الحرب الكوكبية الأولى. وقد عانى الإنجليز أعظم خسائرهم باستماعهم لمشورة كتشنر الذي أوصى بإنفاذ حملة إلى الدردنيل كانت من بدايتها لنهايتها خسارا فادحا للإنجليز وهزائم متوالية منكرة.
ولم أبق سوى بضعة أشهر في اللواء جنيت فيها مرانة حسنة على الكتابة وبعض الدراية عن الشئون الداخلية في مصر. ثم سافرت إلى فرنسا عن طريق سويسرا التي تركت لي أجمل الذكريات النفسية عن جبالها وبحيراتها ومدنها وناسها وحريتها وثقافتها.
وكنت وأنا بفرنسا أتتبع الجهاد الوطني في مصر وأشترك في معظم الجرائد والمجلات. ووجدت في «الجريدة» نزعة وطنية جديدة خلاصتها أن الجهاد يجب أن يتركز في بؤرة وطنية هي أن مصر للمصريين وليست للإنجليز أو الأتراك. وأن الشعب يجب أن يحكم نفسه بدستور حتى لا يترك الخديوي حاكما مطلقا للبلاد. وقد أدت هذه الدعوة إلى تقهقر الحزب الوطني، وإلى اعتناق الأقباط للوطنية المصرية التي كانوا قبل ذلك يتوجسون منها ويخشون أن تكون وطنية تركية لمصلحة السلطنة العثمانية.
وأخذت الحركة للمطالبة بالدستور تنتشر وتعم الأمة، وأصبح الخديوي بعيدا عن الحركة الوطنية إن لم يكن مناهضا لها.
الآفاق الأوروبية تتفتح لي
لما فوجئ العالم في أوائل أغسطس من هذا العام 1945 بالقنبلة الذرية وجد كثير من شباننا «المتعلمين» أنهم محتاجون إلى أن يراجعوا حياتهم وأن يفتشوا أذهانهم كي يعرفوا موقفهم على هذا الكوكب. وقد اضطر كثير منهم إلى أن يغيروا الأوزان والقيم الثقافية التي كانوا يرتضونها من قبل وأن يستبدلوا بها قيما وأوزانا أخرى. وقد أحدثت هذه القنبلة صدمة في أذهان هؤلاء المتعلمين أؤكد أنها لا تقل - في قيمتها الروحية - عن الصدمة المادية التي أحدثتها في هيروشيما وناجازاكي في اليابان.
أعرف من هؤلاء الشبان اثنين كلاهما يستمتع بمركز مالي حسن كما أنه على اطلاع حسن بالتيارات الثقافية العصرية. وقد كان إلى أغسطس الماضي قانعا بمعارفه وتطوراته الذهنية. ولكن هذه القنبلة كشفت له عن نفسه فجاءة. فقال لي واحد منهما: «أشتهي أن أعيش طويلا كي أتعلم وأعرف كثيرا من تطورات العالم بعد ظهور هذه القنبلة.»
وقال الثاني: «إني أحس كأني أحتاج إلى تربية جديدة كاملة أولد بها من جديد أتعلم معارف جديدة وأقف على كنه هذه القنبلة وعواقبها الحربية والمدنية.»
وقد ذكرت مثلي هذين الشابين كي أقول إني في عام 1908 أحسست مثل هذا «الوجدان» وضاقت نفسي إلى حد الانفجار؛ فقد وجدت من الأدب الذي نقله إلى العربية فرح أنطون ومن نظرية التطور التي دأب في شرحها يعقوب صروف سنوات في «المقتطف» أني إزاء رؤية أنا أعمى إلا عن بصيص منها، وأن هناك آفاقا مغلقة يجب أن يكون همي واهتمامي في حياتي أن أفتحها، وذلك بعد أن استقر عندي أن جهلي عميق، وأني في مصر أعيش في حياة ذهنية صحراوية تقفر من التفكير الخصب. لذلك قررت وأنا في التاسعة عشرة أن أترك مصر وأرحل إلى أوروبا كي أبحث عن الحياة وأربي نفسي وأولد من جديد. وكنت في ذلك الموقف الذي وجدته في أغسطس من 1945 من ذينك الشابين اللذين ذكرتهما، وأحسست كأني أريد أن أنسى - عن ظهر قلب - كل ما سبق أن تعلمت، وأن أمسح لوحة ذهني كي أنقش فيها المعارف التي أختارها بنفسي.
وكان من حظي الحسن - كما سبق أن ذكرت - أن الناحية المالية بفضل ما ورثت من عقار صغير مغل، لم تحوجني قط إلى الاهتمام بالكسب ولم يكن الإسراف أو الاستهتار في مزاجي؛ ولذلك لم أبال في دراستي أن أعين هدفا بنية الارتزاق والكسب، بل كان كل قصدي ونشاطي أن أستنير وأن أقشع الظلام المخيم على عقلي. وشرعت آخذ تربيتي في يدي وأعين برنامجي أو برامجي، لا للدرس فقط بل للحياة أيضا. بل الحق أن الدرس كان عندي هو الحياة؛ لأني شعرت أني أعيش لأدرس وأني أدرس لأعيش. ويبدو لي أني أحسنت الاختيار في هذا البرنامج؛ لأني أجد في 1945 أن همومي الثقافية لا تزال هي نفسها تلك الهموم التي كانت تشغل قلبي وذهني في 1908 و1909. وإذا كان هناك تغيير فهو في التوسع والتفرع فقط.
في 1908 سافرت إلى فرنسا وهبطت باريس:
شباب وفراغ وباريس، وأنا في التاسعة عشرة، ولكن لا! فإن باريس عندي لم تكن مدينة الأنوار التي كان يحج إليها المصطافون ويجدون فيها ما يشتهون؛ لأن هذا الذي يشتهونه قد وضع لهم وحدهم؛ إذ إن سواد الباريسيين يجهله. وباريس من حيث الانغماس الجنسي تعد من أنسك العواصم الأوروبية. ثم كانت شهواتي الملتهبة في تلك السنين ذهنية أكثر مما كانت جنسية. وكانت الدهشة عندي على أعظم ما تكون حين وجدتني في مجتمع يخالف المجتمع الذي نشأت فيه في مصر، ولم تكن دهشة منبهة فقط بل كانت صدمة موقظة.
كنت في مصر قبل 1908 أعرف الحجاب وأرتضي شعائره ولا أجد غرابة أو عيبا في التلميذات الصغيرات يدخلن المدرسة السنية الابتدائية وعلى وجوههن براقع بيض. وكنت أجد الفصل بين الجنسين شيئا مألوفا. والبيت في مصر خدر كامل ونساؤنا مخدرات كاملات. ولا أكاد أذكر أني طوال عمري في مصر قبل سفري إلى فرنسا قد تحدثت إلى آنسة أو قعدت إلى سيدة أو فتحت عيني في وجه امرأة مصرية. فلما وجدت المجتمع الباريسي واختلطت به ورأيت فيه المرأة الفرنسي على حريتها وصراحتها وطلاقتها؛ شعرت أن أفقا جديدا يتفتح أمامي لم يستطع يعقوب صروف أو فرح أنطون أن يفتحه لي من قبل. فإنهما لم يمسا هذا الموضوع - أي حرية المرأة - لسبب واضح وهو أنهما مسيحيان. وكانا بالطبع يخشيان أن يعاب عليهما النقد للعقائد أو التقاليد الإسلامية. ولم أكن قد عرفت قاسم أمين أو بالأحرى لم أتحمس له. ولا أدري العلة لغيابه عن وجداني في ذلك الوقت؛ لذلك كنت حين أضطر إلى محادثة إحدى الباريسيات أحس ارتباكا يغمر كياني فلا أجد اللعثمة في لساني فقط بل التخاذل أيضا في سائر أعضائي. وقد احتجت إلى سنوات كثيرة حتى أتغلب على هذا الشعور المتعس الذي غرسته في نفسي تسع عشرة سنة من الفصل بين الجنسين في مصر.
وواضح أن هذا الشلل النفسي منع عاطفة الحب أو كظمها في الوقت الذي كان يجب أن تنفرج فيه أو تتسامى؛ ذلك أن الحب فنا كنا نجهله نحن في مصر في تلك السنين. وكانت أية محاولة مني نحو التعارف الحميم بآنسة تنتهي بخيبة تكوي القلب والعقل معا. وفي مصر في وقتنا هذا من ينظر إلى الاختلاط بين الجنسين بعين المقت أو النفور، ولكني حين أقارن حالي سنة 1909 وما كنت عليه من تعس جنسي ووكس عاطفي بحال شبابنا الآن في سرورهم ولهوهم أراني مضطرا إلى الاعتراف بأنهم سعداء يغتبطون في ظروف كنت أنا فيها شقيا يرثى لي.
وحبست نفسي في مدرسة ابتدائية في قرية قريبة من باريس تدعى موليري من قرى القرون الوسطى. واندغمت في عائلة ناظر المدرسة، وشرعت أتعلم اللغة الفرنسية في نشاط ومثابرة حتى نبزت بين المعلمين بعبارة «كيه فوديرسا» أي «ما المعنى؟» وذلك لإلحاحي على السؤال. ولم تمض أشهر حتى وجدتني أقرأ الجريدة اليومية بل الكتاب في فهم وتعقل بمساعدة المعلم. وكان انتفاعي بجرائد فرنسا اليومية عظيما؛ لأنها وجهتني في السياسة وجهة عالمية كانت جرائدنا في مصر في ذلك الوقت تعجز عنها. وانقطعت صلتي بمصر باستثناء «الجريدة» التي كان يصدرها لطفي السيد، وكان يلقن بها تعاليمه الجديدة: مصر للمصريين لا للأتراك ولا للإنجليز. حرية المرأة. الحكومة الدستورية بإيجاد برلمان. وكان يكتب في هذه الشئون وغيرها بأسلوب اقتصادي بعيد عن الزخارف التي كنا نتعلمها في المدارس الثانوية ونحسب أنها قمة البلاغة وتاج الفصاحة. وقد عرفت أن مجلة «المقتطف» قد جمعت هذا العام 1945 عددا كبيرا من مقالاته التي كتبها بالجريدة فيما بين 1907 و1914. والقارئ يستطيع أن يجد في هذه المقالات ذلك التوجيه الوطني الذي وجدته أنا في تلك السنين منها.
وكانت المرأة الفرنسية - كما قد عرف القارئ مما ذكرت - أعظم ما حرك وجداني الاجتماعي، بل كذلك حرية المرأة في أوروبا الغربية؛ فإن هذه الحرية كانت لهبا يلسع ويجرحني في كرامتي الوطنية كلما ذكرت حال المرأة المصرية. وإلى هذه السنوات وإلى هذا الوجدان تعود ثورتي بعد ذلك على التقاليد المصرية التي لم أعد أطيق صبرا عليها. وكثيرا ما فقدت صداقات كنت أحرص عليها لموقفي من هذه التقاليد، بل هناك من أصدقائي من يقول إني فقدت مكاسب.
وبعد ذلك قرأت هنريك إبسن ودعوته إلى شخصية مستقلة للمرأة، ثم عرفت المنظمات والجمعيات النسوية التي كانت في لندن تطالب بحقوق الانتخاب والنيابة. وامتلأ قلبي وذهني نورا وتفاؤلا بمستقبل البشر.
وقد نشأت في مصر في وسط ريفي؛ ولذلك التفت إلى الريف في فرنسا وتعلمت منه. فإننا في مصر لا نرحل إلى الريف إلا مضطرين كارهين؛ لأننا نتوقع الغبار على السكك والإهمال الصحي في المساكن. وريفنا فضلا عن هذا صحراء الروح لما يخيم عليه من جهل وفاقة وقذر للجسم كأنه الدنس للنفس . ولكن ريف فرنسا جنة العين. وكنت أجد السعادة العظمى في فسحة أقضيها ماشيا على الطرق الزراعية التي يكسوها البلاط - وقتئذ - بين حقول تموج بحركة الحياة النامية في البقول أو تزدان بالكروم وأشجار الفاكهة الزاكية. وما زلت أذكر ذات مرة أني رأيت على مسافة في جولاتي هرما صغيرا أحمر أثار استطلاعي فقصدت إليه، فلما بلغته وجدته شجرة قد كساها التفاح الأحمر كاد يخفي أوراقها ...
والقرية الفرنسية - مهما صغرت - تحتوي كثيرا من المرافق الاجتماعية حتى لكأنها مدينة صغيرة؛ فإن فيها المطعم والحانة والفندق والسوق الأسبوعية. ولذلك كثيرا ما يقضي الباريسي أسبوعا أو شهرا في الريف كما يقضي أحدنا مثل هذه المدة في الإسكندرية أو رأس البر.
وفي الحرب الكبرى الثانية أشار الماريشال بيتان شبهات وشكوكا بشأن المجتمع الفرنسي أوهمت كثيرا من القراء المصريين أن هذا المجتمع مريض قد تفككت فيه العائلة وتزعزع الإيمان. والواقع أن كل هذا وهم؛ فإنه ليس في أوروبا عائلة متماسكة كالعائلة الفرنسية. ولا يزال نظام هذه العائلة بطريركيا لا تخرج فيه السلطة عن الأب. وليس في كل أوروبا الغربية أمة تحترم الكنيسة كما يحترمها الفرنسيون. وحسب القارئ أن يعرف أن جميع الكنائس في فرنسا - وبعضها ينفرد في ريف ناء - تترك مفتوحة ليلا ونهارا، ومع ذلك لا يسرق ما فيها من الأثاث الغالي الذي يقدر أحيانا بمئات أو ألوف الجنيهات. وهذا على الرغم من حرية الفكر المستفيضة. لا بل على الرغم من الدعايات النشيطة ضد الدين والكنيسة. وما زلت أذكر منظرا كان له أثر الصدمة الموجعة لأول شهر كنت فيه في باريس في 1908؛ فقد رأيت جنازة تسير في أحد الشوارع تتقدمها راية قد كتب عليها «لا رب ولا سيد!»
ومثل هذا المنظر يوهم أن الأمة الفرنسية قد استفاض فيها الكفر والإلحاد. ولكن وقفة واحدة خارج الكنيسة أو داخلها يوم الأحد كانت تكذب هذا الوهم؛ فإن كاهن القرية هو الرئيس الروحي الذي يخاطب السكان بلهجة الأمر تحيط به هيبة التقاليد. والواقع أنه ليس في أوروبا كلها كنيسة حية كالكنيسة الفرنسية .
والحانة - على الرغم من اسمها وشهرتها - هي في باريس والمدن والقرى مؤسسة اجتماعية للسمر بين الرجال أو بين الرجال والنساء. وكثيرا ما يجد فيها الزائر الطعام إلى جنب الشراب. ومع أن في فرنسا آلاف الحانات، ومع أن الأطفال يشربون الخمر، فإني لا أذكر أني رأيت طوال إقامتي في فرنسا في 1908 و1909 رجلا سكران. ولعل مرجع ذلك أن الفرنسي يأكل ويشرب ويسكن ويلبس ويعمل وله في كل ذلك مأرب فتى يحمله على أن يتأنق في معيشته. فهو يتجنب السكر عن تأنق وفن كما يجد في التمالك كرامة ولياقة. والمائدة الفرنسية - بأوانيها وزهورها - هي متعة فنية للعين كما هي لذة للذوق بمهارة طهاتها.
وبدهي أن لتماسك العائلة الفرنسية نتيجة هي أن فرنسا أقل أقطار العالم كله طلاقا. وأن البيت الفرنسي يشبه في كثير من الأحيان متحفا يحوي كثيرا من التحف القديمة والطرف الغالية. والجيل الجديد يرث عن الجيل السابق تقاليد في البيت هي الشعائر الاجتماعية التي يتعارف بها الأفراد كما يرث الأبناء تراث الآباء من أثاث مادي أو ذكريات روحية.
وتعلمت اللغة الفرنسية في سرعة عجيبة. وقد هبطت وحدي بلا معونة على طريقة، وجدت بعد ذلك أن المربين التفتوا إليها، هي أن الجملة - دون الكلمة - هي التي تحفظ وتستذكر. وحين كنت أزور باريس كنت على الدوام أعنى بحضور إحدى الدرامات. وقد أتيح لي أن أستمتع برؤية سارة برنار وهي تمثل «العقاب الصغير» ولكنها كانت في كهولتها قد ذهبت عنها لمعة الشباب مع بقاء البراعة الفنية.
ودأبت في قراءة الجرائد الفرنسية اليومية، وكانت تباع بأثمان التراب. وتعرفت إلى الأحزاب الفرنسية وشغفت بقراءة الأومانيتية التي كانت تعبر عن آراء الاشتراكيين. وكانت الاشتراكية رؤية جديدة حملتني على أن أذكر الطبقة الفقيرة في مصر وأجعلها موضع اهتمامي. وأكسبتني الجرائد الفرنسية العقلية السياسية الأوروبية، واستطعت أن أفهم كثيرا في ضوء المذهب الاشتراكي. وكانت جرائدنا في مصر «محلية» قد أنهكها الكفاح للاستقلال وحال بينها وبين دراسة الشئون العالمية؛ ولذلك انتفعت كثيرا بهذه النظرية الواسعة، وخاصة لأن إقامتي في فرنسا صادفت تلك السنوات التي سبقت الحرب الكوكبية الأولى. فكانت الخمائر تختمر لمن يتشمم الأخبار ويتنسم الطوالع.
ومع أن اللغة الفرنسية هي لغة الإفصاح والإيماض، لغة الأدب الحر الذي يمتاز بعبقرية خاصة في الدقة والوضوح، ومع أن باريس بؤرة الآداب الأوروبية بل شعلة الثقافة التي تعشو إلى ضوئها عيون الأوروبيين، ومع أن فرنسا لا تزال في وجداني فكرة أكثر مما هي قطر، فإني - لاتجاهي العلمي - وجدتني في مستقبل أيامي أميل إلى قراءة الكتب الإنجليزية وأوثرها على الفرنسية؛ لأن الإنجليزية تعبر عن نزعة عملية تحقيقية كثيرا ما نجدها بعيدة أو غائبة عن المزاج الذهني الفرنسي، ولذلك أعزو تربيتي أو بالأحرى معارفي الثقافية إلى الإنجليزية أكثر مما أعزوها إلى الفرنسية.
وإذا سألني القارئ: هل وجدت في الإنجليزية أديبا له مرانة الفن ودقة الحس وأناقة التفكير وجمال التعبير مثل أناطول فرانس؟ أو هل وجدت أديبا في الإنجليزية له حكمة فولتير وثورة روسو وجنونهما المقدس في خدمة الحق والفن؟ فإني أجيب بلا، بل إني أعترف أن هناك آخرين غير أناطول فرانس وفولتير وروسو ممن أثمرتهم الثقافة الفرنسية ولا يوجد من يضارعهم من أدباء الإنجليز أو الأمريكيين. ولكن ميزة الكاتب الإنجليزي، وأسمى كتاب الإنجليز عندي هو برناردشو، ميزته أنه يلصق بالحقائق، وله قدم ثابتة في الأرض حتى حين يرتفع رأسه فوق السحاب. ومع أني ما زلت إلى الآن أؤثر الجريدة الفرنسية في القاهرة على الجريدة الإنجليزية، ولا أترك نزعة أدبية فرنسية تفوتني؛ فإني حين أحتاج إلى دراسة، تطالبني بالهرس والطحن، أعمد إلى الكتب الإنجليزية.
وفضل فرنسا علي أنها جعلتني أوروبي التفكير والنزعة. وقد تركت باريس في نفسي إحساسا بأنها عاصمة العالم المتمدن. ولم يتركني هذا الإحساس إلى الآن، بل إني أرى من الحق أن نصف المصري أو الألماني أو الروسي أو الصيني الذي استشبع بالثقافة الفرنسية بأنه «فرنسي»، كما كان يوصف سكان البحر المتوسط من الرومان والمصريين والمشارقة بأنهم «هلينيون» إذا استشبعوا بالثقافة الإغريقية ونزعوا النزعة الأتينية. لأن إغريقيا لم تكن وطنا جغرافيا للإغريق فقط بل كانت أيضا وطنا ثقافيا لغيرهم من أبناء الأمم المجاورة. وكذلك فرنسا ليست الآن وطنا جغرافيا للفرنسيين وحدهم ، وإنما هي وطن كل مثقف درس الثورة الفرنسية وأحب باسكال وروسو وعرف كلود برنار وأناطول فرانس. ولا يستطيع أحد أن يقول مثل هذا القول عن أي قطر آخر. لقد فتحت لي فرنسا الآفاق الأوروبية التي لا تزال تنبسط أمامي فتكسب حياتي مغزى حتى حين أعيش في وسط ليس له معنى فضلا عن مغزى. وأي عزاء أكبر من هذا؟
أنا أربي نفسي
في 1909 قصدت إلى لندن بعد قضاء شهرين في مصر عقب عودتي من فرنسا. وهنا يجب أن أذكر أن السفر كان في ذلك الوقت حرا، فلا جوازات وتقييدات أو عراقيل حكومية. وكان السفر إلى باريس أو برلين أو لندن لا يختلف عندي من السفر إلى طنطا أو أسيوط. وأذكر أني أخذت إلى لندن باخرة قادمة من الهند عليها موظفون من الإنجليز في الحكومة الهندية، فقاطعوني حتى على المائدة حين يحتاج كل واحد إلى مناولة الملاحة أو إناء الماء أو غيره. ولم أنجح في حمل أحد من هؤلاء الإنجليز على الحديث معي ونحن على سطح الباخرة. وعوملت كما لو كنت هنديا، أنا العبد وهم السادة. ولكني وجدت بعض الهنود الذين عزلوا أيضا - اجتماعيا - مثلي، فكنا نتحدث معا ونحن على وجدان بهذا الاستغراض الإمبراطوري. أجل لقد عرف الإنجليز نظرية «الشعب السائد» ومارسوها حين كان لا يزال الألمان مبتدئين في تفهم مغزاها يكتبون عنها فقط. وكان هذا أول اختباري للاستغراض اللوني؛ لأن أوروبا كلها لم تكن تعرف هذا الاستغراض. وكنا نحن المصريين نجد الاحترام بل الإكرام في عواصم أوروبا إلا في عاصمتين: إستامبول حيث كان الأتراك ينظرون بالاحتقار إلى كل عربي، ولندن حيث كان الإنجليز على وجدان وقح بسيادتهم للهنود والمصريين وسائر الأمم التي استولوا عليها.
وقد يسأل القارئ: لماذا لم أعد إلى باريس بعد أن قضيت فيها نحو سنتين كانت بالطبع لا تكفي للتعلم؟
وللإجابة أقول إن باريس بعد أن بسطت لي آفاق الثقافة الأوروبية حملتني على أن أسرف في الطموح. فقد كنت في مصر أعيش في عزوبة ثقافية لا أقرأ غير اللغة العربية ولا أستنير عن شئون هذا العالم حتى بقراءة الجريدة العربية. وكان تعلمي للفرنسية بمثابة التزوج من الثقافة الأوروبية. وخشيت إن أنا بقيت في باريس أن أنسى اللغة الإنجليزية التي تعلمتها بمصر. فأضمرت برنامجا لتربيتي الذاتية، برنامج الحياة، هو أن أعيش في لندن سنة أو أكثر ثم أقصد إلى برلين فأتعلم الألمانية. وامتلاك هذه اللغات الثلاث يكفل الاتصال بالعالم المتمدن كله جملة وتفصيلا من حيث الوقوف على معارفه واتجاهاته. وقد اختل هذا البرنامج فيما بعد؛ فإني وأنا في لندن شرعت في تعلم الألمانية، ولكن صعوبة هذه اللغة، وأيضا سوء الطريقة التي اتبعها المعلم معي، كلاهما جعلني أكف عن الاستمرار في تعلمها. وبدلا من أن أبقى في لندن سنة بقيت نحو أربع سنوات.
ورأيت وأنا بلندن أن أتخذ دراسة نظامية إلى جنب دراساتي الأخرى الاختيارية. ولم يكن لي من قصد في هذه الدراسة النظامية سوى الحصول على الشهادة للوجاهة لا للكسب؛ ولذلك لم أبال أية دراسة. والتحقت بلنكولنز إن، وهي أشبه بهيئة نقابية للمحامين في لندن تجهز الطلبة الملتحقين بها بدراسات قانونية ينتهي من يجتاز الامتحان فيها بالحصول على شهادة هي في الحقيقة رخصة بأن يكون محاميا أو وكيل دعاوى. وقد كان اختياري لهذه الدراسة كارثة؛ فإني بعد أن درست الدستور البريطاني بشيء من الحماسة والتوسع وجدت سائر القوانين الإنجليزية لا تطاق ولا تستحق العناء، وخاصة تلك القوانين التي تعالج مشكلات التجارة البحرية؛ ولذلك شملني فتور حال دون الاستمرار في الدراسة.
ولكن هذا الفتور في دراسة القوانين الإنجليزية كان يصحبه نشاط محموم في دراسات أخرى كنت أتهجد لها في الليل. كما كانت هناك فترات تطول أياما بلا دراسة ولكن في تأمل وفي امتحان ذاتي حين كنت أبحث عن مراسي في هذه الدنيا المبلبلة. وأذكر أني - في إحدى هذه الفترات - وجدتني قاعدا على الكرسي كأني قد سمرت به، وكأني نويت أني لن أبرح هذا الكرسي حتى أصل إلى قرار حاسم. ماذا أنا عامل في هذه الدنيا؟ من هم خصومي الذين يجب أن أكافحهم؟ من هم أصدقائي الذين يجب أن أؤيدهم؟
ووجدتني أفكر وأجيب. وأحيانا يحتد تفكيري فأسمعه كلاما أنطق به. أجل، ليس لي مأرب في هذه الدنيا، فلست أبالي أن أكون ثريا، لا بل لست أبالي أيضا أن تكون لي زوجة وأطفال. وإنما قصدي أن أفهم، أن أعرف كل شيء وآكل المعرفة أكلا.
ثم عدت فقلت: ولكن لماذا؟ وأجبت: لأكافح.
أكافح الإنجليز حتى يجلوا عن وطننا، وأيضا أكافح تاريخنا.
أكافح هذا الشرق المتعفن الذي تنغل فيه ديدان التقاليد. وأكافح هذا الهوان الذي يعيش فيه أبناء وطني: هوان الجهل وهوان الفقر. أجل إني عدو للإنجليز وعدو لآلاف من أبناء وطني، لهؤلاء الرجعيين الذين يعارضون العلم والحضارة العصرية وحرية المرأة، ويؤمنون بالغيبيات، وصارت هذه الأفكار هما يؤرق.
وعقب مقامي في لندن بأربعة أشهر فقط أصبت بنزلة شعبية فنهضت منها منهوكا حتى نصح لي الطبيب المعالج بأن أعود إلى مصر كي أنتفع بشمسها، فوجدت أن العودة إلى مصر بعد شهور فقط قد تحدث ارتباكا كبيرا في برنامجي. ولما كان الغرض هو ترك جو لندن أي الضباب والبرودة فإني فكرت في مراكش لقربها من إنجلترا. وقلت: أقضي بضعة أسابيع هناك وأعود في مارس حين يكون قد خف البرد. وتجهزت للسفر. وكانت الرحلة من لندن إلى جبل طارق حافلة بعناء الأمواج المضطربة في خليج بسكاي ونغاصة الإقامة مع الموظفين الإنجليز العائدين إلى مصر والهند وسائر الإمبراطورية. وكان هؤلاء ينظرون إلينا كأننا كلاب بل أشنع. ونزلت في جبل طارق حيث طاب لي أن أتردد على المراكشيين التجار وأتحدث معهم بالإنجليزية والعربية.
وقصدت إلى طنجة مدينة ابن بطوطة، وهناك قضيت نحو عشرين يوما كان أعظم وقعها في نفسي أني اقتنعت بأن الشرق مفلس وأن طراز الثقافة الذي يعيش به ويسترشد بقواعده يجب أن يتغير. فقد كانت الحكومة المراكشية تبيع الحشيش للأهالي وتحتكر الاتجار به تؤثر بذلك ربحها على صحة السكان . وقد حدث أني خرجت مع الدليل لرؤية بعض الآثار الرومانية التي تبعد أميالا عن طنجة. وكان كل منا على بغلة، ولما وصلنا إلى سفح تل نزلنا للاستراحة، فانطلقت بغلة الدليل وفرت فوق التل، فلما طلبت إليه أن ينهض ويدركها أجابني في برود وطمأنينة بأن الحشيش «قطع» قلبه، وأني يجب أن أنهض أنا وأعدو وراء البغلة حتى أمسكها وأعود بها إليه. ونظرت إلى وجهه وتأملت شحوبه وتحقق لي أنه ليس هناك مفر من أن أستمع لكلامه. وقمت أجري خلف البغلة على التل. وقد احتجت إلى نحو نصف ساعة وأنا ألهث جهدا حتى قبضت عليها وعدت بها لهذا الدليل الحشاش.
وقيل لي وأنا في طنجة إن الرقص ممنوع، ولكن الدليل أسر في أذني بأنه على الرغم من هذا المنع فإني أستطيع أن أرى الرقص وأسمع غناء المغربيين، ولكن في مكان غير علني. وبعثني الاستطلاع على أن أستجيب لاقتراحه. وقصدت معه بعد الثامنة مساء إلى هذا المكان حيث وجدت فتيات عاريات لا تستر أجسامهن خرقة وهن يرقصن ويغنجن ويغنين أغاني مراكشية ويطربن الأجانب وبعض الوطنيين بهذا الابتذال الذي بعث في نفسي اشمئزازا عظيما.
وكانت لغة المغاربة عربية بالطبع. ولكنها تنطق بلهجة تغاير لهجتنا في مصر حتى كنت أوثر التحدث بالفرنسية. فإذا لم يفهمها محدثي ألقيت عليه السؤال باللغة العربية الفصحى. وكان - بعد أن يتأملني في دهشة - يجيب بفهم على سؤالي. وقد كتبت عن رحلتي هذه مقالات بالمقتطف في 1909 بعنوان: «أسبوعان في المغرب.»
وعدت إلى لندن منتعشا معافى وقد فطمتني الزيارة للمغرب من أي أثر باق من الولاء للشرق. وشرعت أتعرف إلى ينابيع الثقافة الإنجليزية العصرية وأتتبع مناقشات الصحف. والتحقت بالجمعية الفابية التي كانت تنشر الاشتراكية بين المتوسطين والأغنياء دون العمال. وكانت هذه الجمعية في ذلك الوقت تجمع عددا كبيرا من المتيقظين للتطورات الاجتماعية والاقتصادية بزعامة برناردشو وولز. وكان الثاني قد تركها ولكن أثره كان باقيا. ولم أنقطع منذ عرفت هذين المؤلفين عن دراسة مؤلفاتهما التي تعد تربية عصرية في الاقتصاد والاجتماع والدين والأدب والعلم. وقد تربى عليهما جيل في أوروبا وأمريكا أصبح أفراده يقودون عصرهم ويرتادون المستقبل. وعرفت أيضا جمعية العقليين . وكانوا يطبعون مؤلفات مبسطة رخيصة عن العلوم والمكتشفات التي تناهض العقائد الدينية المألوفة. وقد طبعوا الملايين من هذه الكتب التي كان يباع الواحد منها بنحو 25 مليما. وقرأت جميع مؤلفاتهم ومطبوعاتهم.
وكان المذهب العقلي يتفشى في أوروبا في تلك السنين ويجد أخصب تربة لنموه في فرنسا. فقد كان في باريس جرائد يومية - مثل لو لانترن - تكافح الغيبيات. ولا أنسى مظاهرة هائجة ارتجت لها لندن وسائر العواصم الأوروبية حوالي 1910، فقد حدث أن رجلا من هؤلاء العقليين يدعى فرانسيسكو فيرير أعدم في إسبانيا. وكانت التهمة التي حوكم من أجلها أنه دبر مؤامرة لقلب نظام الحكم من الملوكية إلى الجمهورية غير تهم أخرى خاصة بالجيش. ولكن التهمة الحقيقية كانت أنه كان ينشر في إسبانيا المظلمة مؤلفات الأحرار في أوروبا مثل فولتير ونيتشه وكوربتكين وروسو وتولستوي، ويترجم مؤلفات العقليين - وخاصة ما اتصل منها بنظرية التطور - إلى اللغة الإسبانية ويبيع هذه المؤلفات بأثمان مخفضة حتى تصل إلى العامة. ورأى الكهنة والرجعيون أن هذه المؤلفات خمائر سوف تقوض سلطانهم وتلغي امتيازاتهم واحتكاراتهم. فدبروا له تهمة «قلب نظام الحكم عنوة» وأعدموه.
وهاجت أوروبا كلها لإعدام هذا الرجل، فكانت مظاهرات في كل مدينة بل في كل قرية. وكانت الخطب النارية في كل ناد ومحفل استنكارا لهذه الجريمة. وحضرت المظاهرة الكبرى التي سارت مواكبها في لندن وتجمعت أخيرا في ساحة «الطرف الأغر» حيث ألقيت الخطب من الأحرار والديمقراطيين في التشنيع بالحكومة الإسبانية واستبداد الكنيسة الكاثوليكية. وعقدت اجتماعات كثيرة بعد ذلك في هذا الشأن. ووصلت الأخبار من باريس في مساء ذلك اليوم بأن المظاهرات جمحت وقتل عدد من المتظاهرين الذين حاولوا الهجوم على الكنائس والأحزاب الرجعية. وصدرت الكتب العديدة في شرح الحركة العقلية التي كان يقوم بها فيرير ومحاكمته الجائرة التي انتهت بإعدامه. واتضح من هذه المحاكمة أن وكيل النيابة الذي شرح التهمة للمحكمة صرح بأنه لا يعرف من هو تولستوي الذي كان فيرير يتعب وينفق ماله في نشر مؤلفاته باللغة الإسبانية. ولما وثب الطاغية فرانكو إلى الحكم في 1937، وحارب الديمقراطيين والاشتراكيين - بمعاونة الكهنة - وقتلهم ودمر المدن الإسبانية بمساعدة الطيارين الفاشيين من ألمانيا وإيطاليا؛ تذكرت فيرير، وتذكرت ما كان يقول الأحرار وقتئذ عن إسبانيا، وهو أن الفاصل بين أوروبا المتعلمة المتمدنة وبين أفريقيا السوداء هو جبال البرانس التي تفصل أيضا بين فرنسا وإسبانيا ...
وقد أنعشتني هذه المظاهرات وبت ليلتي وأنا أفكر في هذا الروح البشري في مدن أوروبا المتمدنة وقراها، هذا الروح الذي انطلق بالسخط واللعنة على الحكومة الإسبانية لأنها أعدمت رجلا أوروبيا من أبناء القرن العشرين في حين هي أصرت على أن تعيش في القرون المظلمة وأن تكون أفريقيا متوحشة. وأخذت أسائل: هل مثل هذه المظاهرات يمكن أن يوجد في مدن الشرق؟
وكانت من الأغلاط التي وقعت فيها أني آمنت بمذهب النباتيين فامتنعت عن تناول اللحم نحو عام كدت أموت من الهزال في نهايته. وكانت المطاعم النباتية في لندن كثيرة تقدم لزبائنها مختلف الألوان الشهية التي تغني في الطعم عن اللحم؛ فلم أجد صعوبة في الكف عن ألوان اللحوم، ولكني هزلت حتى كدت أمرض.
والتحقت ببعض الكليات لدراسة العلوم المختلفة التي جذبتني، مثل المصرلوجية للأستاذ بتري، ومثل البيولوجية والجيولوجية والاقتصاد. وانغمست في هذه الدراسات كثيرا.
وعلى الرغم من الشهرة التي تتمتع بها باريس بشأن حرية المرأة فقد وجدت أن المرأة الإنجليزية أكثر حرية. والشبان والفتيات يتحابون ويتغازلون جهرة في الحدائق العامة بل أحيانا في الشوارع. ولكن الشلل النفسي الذي أحدثته التربية الشرقية فينا حال دون استمتاعنا نحن المصريين بهذه المسرات في لندن. واحتجت إلى مرانة طويلة قبل أن أجرؤ على المبادأة والسلوك الاستقلالي في الحب، ثم حانت فرصة.
ذلك أني كنت أصطاف في إحدى المدن الصغيرة على الشاطئ الشرقي لإنجلترا، فعرفت هناك فتاة إرلندية في سني أو أكبر قليلا كانت تعمل في التدريس. وكانت تحنق على الإنجليز لسلوكهم الإمبراطوري في إرلندا كما كنت أحنق أنا على احتلالهم لمصر. وتوطدت بيننا صداقة على أساس هذا الحنق، ثم صارت الصداقة حبا فغراما. واستسلمت لي واستسلمت لها. وكنا نقضي ليالينا في غرفة واحدة ، وكانت من الجمال بحيث تحدث فيمن يحبها أو في بعض ذلك العيب الأكبر الذي كان يعلله فرويد بمركب أوديب. وقد استطعت أنا بعد ذاك بعشرين سنة أن أشفي صديقا عزيزا إلي من هذا المأزق. ولكني لتعسي في 1910 كنت أجهل فرويد وأجهل السيكولوجية. وكانت إليزابيث جميلة تمتاز ببشرة غاية في النعومة والصفاء. وكانت مديدة القامة كنت أحس وهي قادمة إلي عن بعد أنها علم يخفق. وكان نشاطها يبدو في حركاتها كأن جسمها وذهنها يتفززان. وتناسقنا كلانا في التفكير والعواطف. فكنا نقرأ الجرائد معا ونتفق على مغزى الأخبار.
وعدت إلى لندن وعادت هي إلى مدينتها في وسط إنجلترا. ولم تنقطع المراسلة بيننا. وعقد في لندن مؤتمر الشعوب المخضعة، وكان محمد فريد يمثل مصر، وكان دي فاليرا يمثل إرلندا. فجاءت إليزابيث وقضينا أياما في لندن حضرنا فيها اجتماع هذا المؤتمر الذي خطب فيه دي فاليرا باللغة الإرلندية التي لم يفهمها أحد. ولكنه أصر على ذلك كي يثبت حق أمته في ثقافة ولغة مستقلين، وترجمت خطبته إلى الإنجليزية. وكذلك خطب محمد فريد باللغة الفرنسية. وبعد هذه الزيارة القصيرة للندن عادت إلى بلدتها وتأكد لي عندئذ أن الزواج غير مستطاع لأني لن أبرأ. وبعثت إليها بذلك مع هدية غالية. وتزوجت هي بعد ذلك ولكني لم أرها وهي متزوجة.
وقد ملأ هذا الاختبار نفسي غما ومرارة، ولكنه بعثني على الاستطلاع والدراسة للشئون الجنسية، فعرفت هافلوك أليس وأوجست فوريل قبل أن أعرف فرويد. بل إن هذا الاستطلاع الجنسي كان سببا في استطلاعات ثقافية أخرى عديدة.
وكانت الحركة النسوية على أشدها في لندن حوالي 1910. فكانت مظاهرات النساء للمطالبة بحقوق الانتخاب. وكان بعض هذه المظاهرات عنيفا تشتبك فيه السيدات والفتيات مع رجال البوليس وكانت زعيمة هذه الحركة سيدة تدعى المسز بانكهرست، وكانت جرئية مقدامة تتخير الكلمات الجارحة عندما تصف رجال الحكومة الذين كانوا يعارضون هذه الحركة. وحضرت أحد هذه الاجتماعات وعجبت للحماسة بين الحاضرات المستمعات وهي حماسة تجلت عن جمع نحو خمسة آلاف جنيه في بضع دقائق للإنفاق على هذه الحركة.
وكان البيت الإنجليزي يمتاز برفاهية لا تعرفها البيوت في أي قطر آخر في أوروبا؛ وذلك لارتفاع مستوى المعيشة بين الإنجليز بما كانوا ينهبونه من محصولات الأمم المخضعة في إمبراطوريتهم أو يشترونه رخيصا من هذه الأمم ويبيعونه غاليا لهم ولغيرهم. وكذلك بما كان يرد إليهم من دخل آخر هو أرباحهم من الشركات التي يؤسسونها في الهند أو مصر أو غيرها. ولذلك كثيرا ما كنت أجد منزل النجار في أحد المصيفات مؤثثا بالرياش التي تعد في مصر فاخرة لا يحصل على مثلها إلا موظف في الدرجة الرابعة.
وانتفعت كثيرا باختلاطي بأعضاء الجمعية الفابية، وكانوا - كما قلت - من الاشتراكيين، ولكنهم كانوا مع ذلك أماميين في شئون أخرى. وأيما حركة كانت تنتشر في الأدب، أو نظرية يقول بها العلميون، أو دعوة إلى بدعة جديدة في الدين أو الفلسفة، كنا نجد لها من يمثلها أو تمثلها في الجمعية الفابية؛ فقد كانت بها اجتماعات لبحث اليوجنية أي هذا العلم الجديد لترقية النسل. كما كان بها اجتماعات أخرى لدرس التطورات الاجتماعية أو الاقتصادية في ألمانيا أو فرنسا. وقد عرفت الأدب الروسي عن طريق هذه الجمعية كما عرفت إبسن. ولا أذكر شو أو ولز وكلاهما كان من أعلام هذه الجمعية.
وكان برناردشو في تلك السنين في شبابه أحمر اللحية يتعلق به الفابيون ويتكأكئون حوله، وكان أول لقائي له في الحديث أنه رآني أتأمل رسما له على الحائط. فجاءني وقال: ما رأيك في هذا القذف؟ فقلت: إن الرسم جميل ولا يعد قذفا. فلما عرف أني قبطي قال: أنت مونوفيزيت؟
فأربكني السؤال لأني لم أكن أعرف هذه الكلمة الضخمة. وتبادر إلي أن الكلمة تتعلق بالطعام النباتي؛ لأن برناردشو كان مقرونا في ذهني إلى الطعام النباتي. وكنت قد داعبت الفكرة بأن اقتصرت أنا أيضا على النبات وانقطعت عن اللحم جملة أشهر. وظننت أن الخطاب موجه إلينا كأمة لأن كلمة أنتم تقال في الإنجليزية للمفرد كما للجمع. وأنه قد حسب أننا مثل الهندوكيين نقتصر على الطعام النباتي. فقلت: لا، نحن نأكل اللحم أيضا في مصر.
فانفجر بالضحك، وطلب إلي أن أبحث في المعجم عن «مونوفيزيت» وبحثت عنها ذلك المساء فوجدت أنها تتعلق بالغيبيات المسيحية. وأن الأقباط يؤمنون أن طبيعة المسيح البشرية قد اندغمت في طبيعته الإلهية، وأن له لذلك طبيعة واحدة أي مونوفيزيت. وأن هذا المعنى هو النقطة الجوهرية في الخلاف بيننا وبين الكاثوليك الذين يعتقدون أن طبيعة المسيح حين كان على الأرض كانت بشرية، وأن طبيعته الإلهية تبدأ من رفعه إلى السماء بعد صلبه.
وكان برناردشو في تلك السنين «الطفل المدلل» في الصحافة والأدب. وكانت دراماته قد بدأت تغزو المسارح وأفكاره تستحيل إلى مذاهب تتشيع لها أو عليها الجماعات المفكرة. وقد غزا برناردشو عصره وأشعل نورا كثيرا ما كان يستحيل إلى نار، حين كان يجد جورا إمبراطوريا أو ظلمات استغراضية أو تعصبية.
وقد كانت لندن حوالي 1910 في ثورة فكرية على التقاليد التي كانت تسود الأمة في العصر الفكتوري أي القرن التاسع عشر. فقد اختمرت في هذا القرن جملة خمائر في الاقتصاد والدين والاجتماع.
واتفق وجودي في لندن في الوقت الذي كانت قد شرعت فيه هذه الخمائر تغير الآراء والعقائد والاتجاهات. وكان أعظم ما تركته في نفسي الثقافة العامة الإنجليزية في ذلك الوقت، هو الشك في القيم والأوزان الأخلاقية والروحية. وقد رأيتني أسير في لندن بلا قبعة احتجاجا على العرف مع أن الرأس العاري لم يكن وقتئذ مألوفا كما هو في أيامنا. وكان إكبابي على دراسة كتب العقليين دليلا آخر على هذا القلق الذي كان يشيع في الأوساط المتعلمة اليقظة. وزادني قلقا اختلاطي بأعضاء الجمعية الفابية وكانوا على وجدان بالتغيرات الكامنة والقادمة يضعون أناملهم على نبض الثقافة الأوروبية ويتعرفون اتجاهاتها. وفي هذا العام 1909 ألفت رسالة صغيرة دعوتها «مقدمة السبرمان» وأرسلتها إلى المرحوم جرجي زيدان محرر الهلال فطبعها لي بعد أن حذف بعض الفقرات الجريئة. وهي تدل القارئ على القلق العام لشاب مصري لم تزد سنه على 20 أو 21 سنة، شاب مسته بل كوته الثقافة الجديدة وقطعت ما بينه وبين الماضي وسددت نظره إلى بصيص من نور المستقبل.
وقد نفدت هذه الرسالة ولم أعد طبعها، ولكني - بعد تنقيحات أو تلطيفات - جعلتها فصلا من فصول كتابي «اليوم والغد».
ولا أنسى هنا أن أذكر المتحف البريطاني؛ فإن هذا المتحف - زيادة على ما فيه من الآثار القديمة التي تحوي مقدارا كبيرا من مخلفات الفراعنة - يحتوي أيضا مكتبة بها نحو أربعة ملايين مجلد. وكنت أتردد كثيرا على هذه المكتبة. بل لقد قرأت فيها بعض الكتب العربية.
وقد ذكرت شيئا عن الاستغراض اللوني في لندن. ولكن هذا الاستغراض كان مع ذلك ضعيفا. وكان لا يبدو إلا في بعض البنسيونات أو الفنادق التي كانت ترفض نزول الهنود فيها. وكنا نحن المصريين نعامل أحيانا مثل الهنود. وأحيانا كنا نجد التسامح لأن لوننا كان قريبا من لون الأوروبيين. أما في الريف الإنجليزي فلم نكن نجد شيئا بتاتا من هذا الاستغراض.
والريف في إنجلترا هو أجمل ريف في العالم كله؛ لأن الإنجليز لا يعنون بالزراعة، فالجبل والسهل، والبحيرة والغابة، لا تزال جميعها على عذريتها لم تمسسها سكة المحراث إلا في نبذ صغيرة متباعدة؛ ولذلك يجد الزائر الجائل في الريف الإنجليزي الطبيعة الساذجة في صميم جمالها.
والريف في كل أوروبا يعد مزارا في الربيع والصيف حين ترغي الحقول وتزبد بفيض الحياة الهائجة. والقرية الأوروبية مبلطة الشوارع جميلة البناء تغسلها الأمطار حتى لتبدو عقب شؤبوب من المطر كأنها صورة مزخرفة بالألوان الزاهية. وكل قرية - مهما صغرت - تحتوي الحانة والمطعم والفندق؛ ولذلك يستطيع الزائر أن يجد الراحة أسبوعا أو أكثر. وقد انتفعت كثيرا واستغللت هذه الحضارة القروية في تأملات ومقارنات مع ريفنا الكالح الأسيف الذي لا يزال يعيش الفلاحون في قراه في جحور تحطم صحهتم وتجرئ المستبدين على انتهاك كرامتهم.
وأذكر أني في بعض زياراتي للريف البريطاني قعدت على العشب أتحدث إلى فلاح مسن، وكان قريبا منا حقل قد نمت فيه الذرة وزكت ارتفاعا وغصونا. فسألت الفلاح: هل تشوون الذرة كما نفعل؟ فلم يفهم سؤالي، وعرفت أن الذرة تنمو في إنجلترا ولكنها لا تثمر ، أي إن الكوز أو القنديل لا يتكون؛ لأن القمة التي تتألف من اللقاح الذكري لا تتم. وإنما تزرع الذرة كي تصير مرعى فقط للبهائم، وبرودة المناخ هي التي تمنع نمو الذرة إلى النضج.
وإيجار الفدان لم يكن يزيد على نصف جنيه أو جنيه. فمن يملك مائة فدان في إنجلترا لا يحصل إلا على خمسين أو مائة جنيه في السنة إيجارا. أما الفلاح المزارع المستأجر فيحصل على نحو عشرة جنيهات ربحا من الفدان. وهذا عكس ما نجد في مصر حيث أكثر الربح للمالك وأقله بل أقله جدا للمستأجر.
وزرت فلاحا آخر في بيته، فوجدته يربي نحو خمسين عجلا يشتريها وهي في الأسبوع الثالث من عمرها، ثم يرضعها في بيته بالبزازات؛ أي إنه كان يبيع قشدة اللبن ثم يأخذ المخيض ويخلطه بزيت القطن ويرضع بمخلوطهما هذه العجول. فيكسب ثمن القشدة أو الزبدة في حين أن العجل يجد في الزيت عوضا عنهما. فإذا فطم العجل حبس حتى لا يكاد يتحرك ثم يسمن بالغذاء المركز من كسب القطن وبعض البروتينات. والعجل المسمن في إنجلترا يبلغ وزنه أحيانا طنا كاملا - 22 قنطارا - ويباع لحمه بأغلى مما يباع الضأن.
وقد كان تأملي للمزارع الأوروبية يبعثني على الاكتئاب كلما فكرت في فلاحينا في مصر؛ لأن المقارنة بين القرية الأوروبية والقرية المصرية إنما هي مقارنة بين النعيم والجحيم أو بين الجمال والقبح أو بين الكرامة والمهانة.
تربيتي الأدبية
عندما أرجع بذاكرتي إلى البذور والجذور التي نشأت ونبتت منها ثقافتي الحاضرة أجد أنها تكاد جميعها تعود إلى الفترة الواقعة بين 1907 و1911 حين كنت في لندن. ففي تلك الفترة كانت هناك طائفة من المذاهب والنظريات في الأدب والعلم «تتجرثم»، وقد كان من حظي الحسن أن أدركت الجراثيم الأولى لهذه الحركات. ومع أني الآن مشرف على الستين، فإني أجد - بالاستبطان الذهني - أن ما أعرفه أو أعتقده أو أدعو إليه من نظريات أو مذاهب في 1946 إنما أخذت جراثيمه الأولى من تلك الفترة. ولم تكن الزيادة في السنين بعد ذلك سوى زيادة في نمو هذه النظريات والمذاهب أو التوسع فيها أو التفرع منها. وظني أن هذا هو المألوف أيضا في سير التكشف الثقافي عند غيري؛ أي إننا لا نكاد بعد العشرين نجدد شيئا، وإنما قصارانا أن ندافع عما أحببنا أو تلقينا راغبين، ثم يبعثنا الحب إلى النمو بالتوسع والتعمق. وعندي البرهان على ذلك؛ فإني في 1909 ألفت رسالة صغيرة تبلغ نحو 40 صفحة بعنوان «مقدمة السبرمان»، حين أعود إليها الآن، أجد فيها جميع الجراثيم الفكرية التي لا تزال تشغل ذهني، وهي تمتاز بفجاجة في الأسلوب مع فجور في التفكير. إذا كانت تدل على عقل خام ناشئ، فهي أيضا تدل على عقل مستطلع واثب.
واندمجت في المجتمع الإنجليزي الجديد، وأعني بنعت «الجديد» تلك الطوائف والجماعات المستطلعة المتسائلة في «الجمعية الفابية» و«جمعية العقليين» وأمثالهما، وكان كل شيء في تلك السنين في البوتقة في سبيل التغير والتطور؛ فقد كان حزب الأحرار في مجده يقوده كامبل بانرمان واسكويث ولويد جورج. ولكن هذا المجد كان يحمل غبار القرن التاسع عشر. وتراكم هذا الغبار حتى لم يستطع الأحرار أن ينفضوه عنهم. فلم تمض عليهم بعد ذلك نحو عشر سنوات حتى خنقهم فلم نعد نسمع شيئا عن الأحرار بعد الحرب الكوكبية الأولى. وكانت جراثيم الاشتراكية تختمر في كل أوروبا، وكان هؤلاء الأحرار أنفسهم عجينتها التي نمت فيها هذه الجراثيم.
ولم يمض علي عام في لندن حتى وجدتني أتجه نحو اليسار أي نحو الاشتراكية. ولم يكن هذا الوجدان سياسيا فقط، فقد وجدتني اشتراكيا قبل أن أقرأ ماركس لقوة الجذب التي كانت عند الاشتراكيين في ناحيتي العلم والأدب. ذلك أن هؤلاء المجددين في السياسة كانوا أيضا مجددين في العلم والأدب، يؤمنون بمذهب داروين، ويؤلفون جمعيات لليوجنية أي إصلاح النسل، كما كانوا يقرءون الأدب الروسي ونيتشه وإبسن؛ ولذلك أدركتني الاشتراكية في تلك الأيام عن طريق الأدب أكثر مما أدركتني عن طريق السياسة. وكان «التطور» لا يزال مذهبا أكثر مما كان نظرية علمية؛ ولذلك أنفق «العقليون» مجهودا كبيرا في المقاومة السلبية للكتب المقدسة بدلا من أن ينيروا أو يشرحوا حقائق التطور.
وأذكر أنه في تلك السنوات طغى الأدب الروسي على لندن؛ فلم يكن هناك حديث أو سمر إلا عن جوركي أو دستويفسكي وأمثالهما. وأذكر أني حضرت محاضرت عن تولستوي فوجدت الحاضرين المستمعين كأنهم في معبد خاشعين. وكانت المحاضرة أيضا أشبه بعظة دينية. وكان هذا طبعا من الانحرافات في تفسير تولستوي؛ لأن مقام تولستوي في الفن كان أكبر جدا من تلك التطوحات الوعظية التي شطح فيها. وأذكر أن أحد الناشرين عرض قصة صغيرة لأحد الروس فسارت في المكتبات كأنها حريق، فلم يكن أحد يتكلم إلا عنها. وهذا يدل القارئ على المكانة العظمى التي احتلها أدباء الروس في لندن في تلك الفترة، حتى أشار إليهم برناردشو مرة بكلمة «العمالقة». ولما عدت إلى القاهرة شرعت - بهذا التأثير - أترجم «الجريمة والعقاب» لدستويفسكي وطبعت منها على نفقتي جزءا يبلغ نحو 120 صفحة. ولكني أخفقت في نشره حتى بعت هذا الجزء بسعر مليم واحد للنسخة. وثبطني هذا عن المضي في الترجمة لسائر القصة. ولكني دأبت في الحديث والكتابة عن الأدباء الروس، حتى صار كثير من القراء الذين كانوا يجهلونهم على وجدان بهم.
وفي تلك السنوات عرفت إبسن ونيتشه وبرناردشو وولز، وأذكر أني قضيت ليلة كاملة إلى الصباح وأنا أقرأ نيتشه وقد أخذني سحر أسلوبه وجراءة تفكيره. ونيتشه لا يخطو ولا يعدو، وإنما يقتحم ويثب. ولكني عندما أرجع أيضا إلى الاستبطان الذهني أجد أني لم أتأثر كثيرا به أو أن أثره كان مقصورا على سنوات، على الرغم من الحماسة التي كنت أتلقى بها مؤلفاته وأحفظ بها عباراته. فأنا الآن خلو أو كالخلو من المركبات الذهنية التي أستطيع أن أعزوها إلى نيتشه. ولكنه غرس في الإقدام النفسي وحطم عندي ما كان باقيا من قيود غيبية. أما مؤلفات داروين مثلا فكنت أقرؤها في عناء التفكير حتى كنت أترك الكتاب أياما أو أسابيع ثم أعود إليه يحفزني إحساس الواجب لا الرغبة، فلم يكن له في صدري حماسة. ومع ذلك هو الباقي الآن في كياني الثقافي. وكتابي «نظرية التطور وأصل الإنسان» هو إحدى ثمرات داروين. ولا تزال هذه النظرية تفتق في خلاياي الذهنية، وتحملني على توسع وتعمق في التفكير البيولوجي والسيكلوجي والاجتماعي.
وهنريك إبسن يعد الآن من الكتاب القدامى، ولكنه كان جديدا في تلك الفترة بين 1907 و1911. وكان وقعه في نفسي كبيرا، أكبر مما كان في نفوس قرائه الأوروبيين؛ وذلك لأنه كان يجدد في مجتمع كنت أعده أنا جديدا بالمقارنة إلى مجتمعنا المصري الجامد؛ إذ كنت أدمن التفكير في حال المرأة المصرية والمرأة الأوروبية، وكنت كثير الإعجاب بحرية الثانية في باريس ولندن وأنها تملك جزءا كبيرا من مصيرها وتقرره. ولكن درامة إبسن «بيت اللعبة» أو «بيت عروس» كشفت لي عن حقائق مرة، وبسطت لي آفاقا جديدة؛ لأن ما كنت أتوهمه عن حرية المرأة أو استقلالها في أوروبا إنما هو في نظر إبسن لم يكن سوى طلاء سطحي يخفي حقيقة الاستعباد القائمة؛ لأن المرأة لا تجد من المجتمع سوى التدليل لأنها لعبة الرجل أو هي كالعروس من الخشب يلعب بها الأطفال، أطفال الرجال الذين لا يطيقون المساواة الحقيقية بينهم وبين النساء. ومغزى الدرامة أن المرأة يجب أن ترتفع من الأنثوية إلى الإنسانية، ويجب أن ترفض التدليل وأن تربي نفسها وتكسب الاختبارات في هذه الدنيا؛ لأنها إنسان قبل أن تكون زوجة أو أما.
وعندئذ انجابت عن ذهني غشاوة، واتضح لي أن المرأة الأوروبية كالمرأة الشرقية سواء، وأن ما بينهما من فرق إنما هو طلاء الحضارة فقط، أو هو فقط فرق الدرجة في الاستعباد. وهو استعباد بعيد أحيانا عن أية رحمة أو رأفة؛ لأن المرأة التي تعمل كالرجل لا تحصل على أجره. وفي أقطار أوروبية كثيرة كانت لا تحصل على ميراثه. وكانت الجامعات ترفض قبولها طالبة، كما كانت ترفض الدولة قبولها ناخبة أو مرشحة لعضوية المجالس البرلمانية.
وليس لهذه الدرامة قيمة في أوروبا الآن؛ لأن الحال تغيرت في 1946 عما كانت عليه في 1910، بل تغيرت كثيرا جدا، وكثير من هذا التغيير يعزى إلى هذه الدرامة التي أهابت بالمرأة أن تكون إنسانا له شخصيته ومكانته في هذه الدنيا قبل أن تكون أنثى أو زوجة لها مكانتها في البيت.
وكنت في تلك السنوات لا أعرف عن المسرح إلا ما كان يخرجه لنا سلامة حجازي من التمثيل الميلودرامي والأغاني الغرامية. فكانت الدرامة عندي لهوا فنيا لا أكثر. ولكن إبسن جعل الدرامة اجتماعية بل أحيانا فلسفية. وقرأته في انتباه وقلق وتفكير وتعب. وأصبحت أصد - في اشمئزاز ذهني - عن المرأة المؤنثة المغناج، وأحترم المرأة العاملة الكاسبة التي تصر على أن تحيا وأن تعرف وتختبر. وعندي أن إبسن كان محوريا في ثقافتي؛ لأن دراماته بعثتني على دراسات أخرى متصلة بالموضوعات التي عالجها هو في أسلوبه الدرامي.
وإذا كانت أوروبا قد أهملت إبسن الآن فذلك لأنها تعلمت منه وعملت بجميع مبادئه. ويعد برناردشو إحدى ثمرات إبسن. فإن جميع دراماته اجتماعية أو فلسفية. ولكنه يختلف عن معلمه من حيث عجزه عن الكمال الفني الذي استطاع إبسن أن يرتفع إليه.
وقد تأثرت كثيرا ببرناردشو. وعندما أسائل: لماذا لم أؤلف كتابا عنه إلى الآن؟ أعود بذاكرتي إلى محاولات في هذا التأليف كان يصدني عن المضي فيها أني أعرف الكثير عن برنارد شو. فصعوبتي هي صعوبة خراش، بل هي أكثر. وهي أن زيادة على أني سأضطر إلى الاختيار مع الإسهاب والتفصيل فإني أيضا سوف أواجه من المبادئ والأفكار والفلسفات ما أحتاج إلى تفصيله مما لا يطيقه قارئ رجعي أو جامد لم تتفتح مسام ذهنه للتفكير العصري بل المستقبلي. فإن برناردشو يفكر للمستقبل. وهو علمي الذهن يفكر في آفاق فلسفية بلغة أدبية. وقد أمضيت من حياتي نحو أربعين سنة وأنا أتعلم على يدي هذا الحكيم الذي أعد حياته في عصرنا نورا ونارا لجميع الذين يعرفونه، ولا أظن أنه فاتني شيء مما كتب. وكتاباته هي الآن هورمونات ذهنية توقظني وتحركني.
والكاتب ينفعنا إما بما يبسط لنا من معارف، وإما بما يرسم لنا من خطط واتجاهات. وبرناردشو من النوع الثاني؛ لأنه يسدد العقول الزائغة نحو أهداف بشرية جديدة، ويبعثنا على الاستطلاع العلمي للدنيا والإنسان والمستقبل. والنزعة العلمية في برناردشو قوية جدا، ولكنها ممزوجة بنزعة فنية أيضا؛ ولذلك نشعر كأنه يحس بعقله ويفكر بقلبه. وهو أحيانا يسب ويهاتر ويهدد بالمعاني العلمية. ومشاجرته مع داروين بشأن «تنازع البقاء» هي مشاجرة فلسفية سيتوقف على الإجابة عليها - وخاصة بعد اختراع القنبلة الذرية - مصير الإنسان. إذ ماذا يكون مصير 99 في المائة من البشر إذا ثبت أن الحق للقوة، مهما يكن نوع هذه القوة؟ أو إذا كان معنى تنازع البقاء هو بقاء الأصلح كما نرى هذا «الأصلح» في عصرنا؟
لقد رد برناردشو على داروين بأن ذكره بأن المسيح لم يكن صالحا للبقاء ... في النظام البيولوجي الذي وضعه داروين للتطور.
وبرناردشو مجاهد، وأدبه هو الأدب الجهادي، أو كما يسميه هو الأدب الصحفي؛ لأنه يبحث الهموم والاهتمامات العصرية بالذهن العلمي في ضوء المستقبل. وقد أحدث لي مركبات أو عقدا أدبية وفنية ذهنية كثيرة في حياتي الثقافية لا تزال إلى الآن مثار التفكير والتأمل.
وأحيانا حين أتأمل الكاتب العظيم أجد أنه عظيم من حيث إنه قادر على أن يترك لنا عقدة ذهنية، في المعنى الحسن، تترتب عليها أفكار واهتمامات متصلة متشابكة نامية؛ فقد ترك إبسن في ذهني عقدة ذهنية هي «الشخصية الاستقلالية» التي هي الواجب الأول على كل إنسان. وترك برناردشو عندي طائفة من العقد ربما كان أهمها هو النظر البيولوجي للإنسان، وأن التطور المستقبلي للبشر يجب أن يكون له المقام الأول عند أية حكومة متمدنة. بل هو يقترح أن تكون لكل دولة وزارة خاصة بالتطور غايتها بحث الوسائل كي تتطور الأمة.
ولا عبرة بأن تكون له أخطاء وأوهام؛ إذ ماذا نبالي - كما يقول نيتشه - أن يكون في رأس المفكر بعض الديدان؟
ولم أر رؤيا واحدة في برناردشو، بل رأيت ثلاثا أو أربعا. والرؤيا الأولى هي الاشتراكية الإنسانية. وهي بالطبع لا تختلف عن اشتراكية ماركس العلمية. ولكن برناردشو - لأنه أديب وفيلسوف وفنان - جعل المذهب الاشتراكي مذهبا إنسانيا ، ودمغ بالخزي كل من يجهل الاشتراكية أو لا يسعى لها. وهو الذي استطاع أن ينشر هذا المذهب بين الأثرياء؛ لأنه أثبت لهم أن أموالهم لا تساوي همومهم وما يتعرضون له من قلق، وأن الاشتراكية إنما جاءت لتغني وتزيد لا لتفقر وتنقص.
والرؤيا الثانية هي ديانة برناردشو؛ فإن مشاجرته مع داروين ينتهي مغزاها إلى أنها مشاجرة دينية. إذ كيف يمكن أن نسكن إلى كون يكون محوره ومغزاه تنازع البقاء وبقاء الأصلح؟ وقد قلت إن من الموانع التي حالت دون تأليفي عن برناردشو أني كنت أخشى الأذهان الجامدة التي لم تتسع مسامها الذهنية للآراء الجديدة. وهنا أيضا أقول إني عاجز عن بعض الإسهاب أو التفصيل لديانة برناردشو. وقصاري أن أقول إنها ديانتي وإن عمودها الفقري هو التطور الذي يعد فيها أسلوبا وهدفا.
أما الرؤيا الثالثة فهي الإيمان بالعلم بل السلوك العلمي ولكن مع الدين، وعلم بلا دين هو القنبلة الذرية وبقاء الأصلح كما يفهم هذا الأصلح أو يتخيله تجار منشستر ونيويورك، ولكن العلم مع الدين هو السعادة البشرية والتطور إلى السبرمان.
وبرناردشو مثل جوتيه قد جعل من حياته كتابا آخر، بل ربما كان هذا الكتاب أحسن مؤلفاته؛ فإن الناس يقرءون حياته ويستوحون منها القدوة والصلاح. فهو الآن في التسعين، وقد عاش منها ستين سنة وهو نباتي. وهو يسير كل يوم ساعيا على قدميه نحو سبعة كيلومترات ويقرأ ويكتب كما لو كان في الثلاثين أو العشرين. وهو يخفف من ألم الحقائق بالفكاهة، تلك الفكاهة الجديدة النارية التي تخرج منه كأنها تشنجات الحكمة أو وخزات الفلسفة.
ومن عجب أن هذا الرجل - الذي نسترشد بآرائه وتستنير برؤاه أحسن الطبقات المثقفة في العالم - هذا الرجل لم يتعلم قط في مدرسة أو جامعة. وقصارى ما حصل عليه تعليم أبتر في السنتين الأولى والثانية من المدرسة الابتدائية. ولكن إذا عد هذا تقصيرا أو قصورا في النظام التعليمي وبرامجه، فإنه يجب علينا أن نعد ارتقاء برناردشو إلى القمة في الثقافة العصرية برهانا على أن الثقافة السامية قد أصبحت مشاعة بين الجمهور، بحيث إذا توافر الذكاء والعناية استطاع أي فرد منه أن يصل - من الكتب المطبوعة - إلى أرقى ما يستطيع المتعلم في الجامعة بل أكثر. وهذا ما لا يمكن أن يقال في قطر مثل مصر. وإنما يقال مع التأكيد عن فرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة؛ لأن الثقافة شائعة تفشو في كل مكان بكل طرزها الابتدائي والمتوسط والعالي، ولذلك سرعان ما يتعلم الأمي أو من هو في مقامه ويتسلق إلى القمم.
وهناك شخصية فذة أخرى كانت محورية توجيهية في حياتي هي شخصية ه. ج. ولز وظني أنه الآن 1946 في مرض من الموت. وكل من شو وولز يبحثان العالم وكأنهما يشرفان عليه كما يشرف العمدة في ألفة ومعرفة على قريته. ولكن بينهما مع ذلك فرقا؛ فإن شو يتجاوز الأعماق والآفاق إلى ما وراءهما. وولز يتعمق ولكنه لا ينظر إلى ما وراء الآفاق. يعيش على الأرض في حين يعيش شو في السماء، حتى لنحس ونحن نقرأ ولز أننا نختنق بهواء المدينة ولو أننا نتحدث إلى رجل يعرف كل ما فيها، ولكنا نحس حين نقرأ شو أننا نتنسم أوزون البحر المعقم. وكلاهما طائر، ولكن ولز يدرج وقلما يحلق، أما شو فدأبه الطيران والتحليق.
والمغزى في شو أن الإنسان سيتغير، جسما ونفسا؛ لأن التطور يقضي بذلك. ورسالته هي أن يبعث وجدان التطور في قرائه.
ولكن المغزى في ولز أن المجتمع سيتغير، في نظمه وأخلاقه؛ لأن الآلات قد أحدثت قوات اقتصادية جديدة سوف تضطر شعوب العالم إلى أن تكون أمة واحدة. ورسالته هي أن يبعث في قرائه وجدانا هو أن هذا العالم قريتنا الكبرى.
وولز هو بلا شك الأب الروحي للعالم الجديد؛ فإنه يدعو إلى لغة واحدة وثقافة واحدة. بل لقد ألف في شرح الطرق التي يجب أن تتخذ لإيجاد موسوعة عالمية يتحد فيها أبناء هذا الكوكب في آراء واتجاهات نحو الخير والحضارة. وله ثلاثة مؤلفات تدل على اتجاهه العالمي. أولها «خلاصة التاريخ» وقد ألفه عقب الحرب الكبرى الأولى حين كانت عبارة «الحرب لإنهاء الحرب » تجري على الألسنة وتوحي الخيالات الزاهية بشأن اتحاد العالم. وهذا الكتاب هو محاولة نيرة خيرة غايتها أن تفهم أن الحضارة القائمة هي مجهود البشر جميعهم. وأن هذه الشعوب الكثيرة المختلفة إنما هي أمة واحدة، أو يجب أن تكون كذلك. وكتابه الثاني: «علم الحياة» هو دعوة إلى النظر العلمي لهذه الدنيا وسكانها من الأحياء. وهي دعوة دينية علمية. وكتابه الثالث: «أعمال البشر وثروتهم وسعادتهم» هو بحث في حاضر البشر وطاقتهم لحضارة قادمة.
وقد كان أثر ولز عندي نفسيا أكثر مما كان ذهنيا؛ أي إنه أكسبني مزاجا عالميا يكاد يكون مساويا للحماسة الوطنية، فإن اهتمامي بالحركة الوطنية مثلا في الهند كان يحرك عاطفتي ويثير انفعالي كالحركة الوطنية في مصر. وكنوز أفريقيا من الحيوان تشغل ذهني وتثير غضبي عندما أقرأ عن عبث الصيادين في الغابات، كما تشغل ذهني وتثير غضبي سياسة الإنجليز في تحديد زراعة السودان أو ضبط مياه النيل. بل كسبت من ولز مزاج التساؤل والاستطلاع والتوسع الثقافي في العلم والأدب والفن.
وقد كان اهتدائي إلى شو وولز عن طريق الجمعية الفابية حوالي سنة 1909. ولكني واليت اتصالي بهذين الكاتبين إلى وقتنا هذا وهما يدرسان السياسة العالمية على آفاقها العالمية. ومفتاح دراستهما هو الاشتراكية والتطور.
وفي الفترة بين 1907 و1911 كان إبسن وشو وولز عالقين بقلبي يرسمون لي معالم دراساتي في المستقبل. ولكن كان هناك مؤلف آخر تسلط فترة قصيرة على ذهني، وكان تسلطه ناريا ثم عاد تحريريا، أعني به نيتشه. فقد التهمت مؤلفاته في حماسة ولذة فعصفت بي. وكان ظني وقتئذ أنه فتح لي أبوابا كانت مغلقة من قبل. ولكن الحقيقة أني كنت مأخوذا بسحره في الأسلوب وجرأته في التفكير، وهما سحر وجرأة يستهويان الشباب. وهو يؤلف النثر وكأنه يقرض الشعر، ويفكر وكأنه يقتحم. وانتفعت كثيرا بتحليله للأخلاق. ولكن هذا التحليل بالطبع فقد قيمته بعد أن عرفت التحليل الماركسي، وإن كان كلاهما ينتهي إلى أن الأخلاق السائدة هي أخلاق السائدين. ولكن ماركس وصل إلى هذه النتيجة بالتحليل الاقتصادي للمجتمع على حين وصل إليها نيتشه بالتحليل التاريخي للغة، أما أخلاق الأقوياء التي دعا إليها نيتشه وجعل منها ديانة جديدة يجب أن يبشر بها الفيلسوف الجديد فقد استهوتني سنوات، بل انحزت إليها وآمنت بها، فيما يشبه الحزبية الفلسفية، بتأييد من نظرية التطور حين استسلمت لتنازع البقاء وبقاء الأصلح. ولكن رويدا رويدا تقهقر نيتشه من وجداني وتغير عندي مغزى التطور بل تطورت عندي نظرية التطور، فلم يعد نابليون هو السبرمان، ولم يعد للإمبراطوريات مغزى التفوق البيولوجي الذي كاد نيتشه يوهمني أنه كذلك.
وعرفت بعد ذلك ماركس وجوتيه وفرويد. عرفتهم عن سبيل تلك المركبات أو العقد الذهنية التي أحدثها لي شو وولز وإبسن وداروين.
وفي تلك السنوات أيضا كان في لندن مجلات أسبوعية أدبية كثيرة تختص بدراسة الأدب الإنجليزي والأوروبي. وكانت «ذي أثنيوم» ثم «ذي أكاديمي» أقوى هذه المجلات. وكانت الأولى راقية حاوية موضوعية. أما الثانية فكانت شخصية جدلية، وكان يحررها اللورد ألفريد دوجلاس صديق أوسكار وايلد. وكان شاعرا أنيقا، ولكن تاريخه الماضي وعلاقته الحميمة الشاذة بأوسكار وايلد كانا يجعلان الجمهور الإنجليزي المحافظ يصد عنه، وكانت مجلته تنزوي في استحياء في المكتبات يسأل عنها طالبها.
وربما نستغرب في مصر أنه ليس عند الإنجليز الآن مجلة أسبوعية واحدة للأدب إذا استثنينا الملحق الأدبي للتيمس ومجلة جون أو لندن وهي تكتب بالعامية. وقد يعد القارئ هذه الحال تأخرا للحركة الأدبية، ولكني أعده تقدما؛ ذلك أن الأدب انتقل من برجه العاجي - أدب للأدباء - إلى الميدان الاجتماعي بل السياسي والاقتصادي. ولذلك فإن المجلات السياسية الإنجليزية تعالج الأدب في عناية وخبرة تدلان على أنها تعرف قدره في التفكير والتوجيه. أو قل إن التطور السياسي في أوروبا قد أصبح حافلا بالانقلابات والانفجارات، وإنه جذب إليه جميع الأدباء؛ ولذلك صار الأدب مذهبيا يتحزب ويتشيع لآراء معينة في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد.
وغاية الثقافة بعد ذلك أن نزيد الحياة وجدانا بأن نجعل مشكلات العالم مشكلاتنا الشخصية؛ لأن الحياة تنادينا إلى اليقظة والفهم والجد كلما استولى علينا النعاس والركود، والأدب هو إحدى الوسائل لزيادة هذا الوجدان. وعندي أن الرجل المثقف هو الذي يرتفع وجدانه الشخصي إلى الوجدان العالمي. ولا يكون هذا إلا بالانغماس في المشكلات البشرية العالمية.
وهذا هو ما يجب أن يكون؛ لأن الأدب للأدب هو الأدب في الخواء، وقد يقال حسب الأدب أن يكون إنسانيا، ولكن كيف يكون كذلك إذا لم يشتبك في المشكلات الإنسانية الحاضرة: السياسة والاقتصاد والاجتماع؟
ووجدت من هذه الحركات الأدبية في تلك السنوات توجيها لي وتربية. وكثير من مؤلفاتي - إن لم يكن جميعها - اتجهت فيها هذه الوجهة الاجتماعية، حتى صرت أوصف بأني «كاتب اجتماعي»، وكأن هؤلاء الواصفين أرادوا أن يميزوا بيني وبين الأدباء الذين ما زالوا يفصلون بين الأدب وبين الاجتماع. ولكني - مع ذلك - أجد فرقا أساسيا آخر بيني وبين بعض الأدباء في مصر، هو أني أمارس طرازا من البلاغة يمارسون هم غيره. ذلك أن طرازي أوروبي وطرازهم عربي. وقد حملني هذا الفرق على أن أؤلف كتابي «اللغة العربية والبلاغة العصرية»؛ لأن بلاغتنا التقليدية لا تلابس حضارتنا العصرية، وقد وجدت فيها عجزا عن التعبير لشئون عصرنا، فاخترت أسلوبا آخر للتعبير الذي يجمع بين الفن والاقتصاد، كما يكون على وجدان بقيمة التفكير ثم التعبير العلمي. فإن معاجمنا العربية التي ورثناها عن الأدب العربي تقول مثلا إن الطب هو السحر. ولكننا في القرن العشرين نقول إن السحر هو الخرافة، وإن الطب قد صار علما تجريبيا اجتماعيا بيولوجيا. ويجب - لهذا السبب - أن تلابس البلاغة العصرية عند الكاتب العصري هذا الطب الجديد فتكون هي أيضا علما تجريبيا اجتماعيا بيولوجيا. وبكلمة أخرى أقول: إن البلاغة - كاللغة - اجتماعية؛ أي إنها تخدم المجتمع وتلابسه. فإذا تغير المجتمع وجب أن تتغير البلاغة. ومجتمع القرن العشرين يحتاج إلى بلاغة القرن العشرين، بلاغة العلم والاجتماع الجديدين لا بلاغة العباسيين ولا بلاغة الأمويين.
تربيتي العلمية
لما تركت مصر إلى فرنسا في سنة 1907 كان «التطور» من مركباتي الذهنية البارزة، بل المركب الأول؛ حتى إني حين هبطت باريس جمعت طائفة من الكتب التي تعالج هذا الموضوع، ولكني لم أستطع فهمها وقتئذ؛ لأني أسأت الاختيار فلم أقتن الكتب الابتدائية أو بالأحرى لم أجدها. فلما قصدت إلى لندن وجدت العشرات من هذه الكتب الابتدائية. وكانت جمعية «العقليين» تنشرها وتبيعها بأثمان التراب بسعر 25 مليما لكل كتاب. فأكببت عليها في دراسة مثابرة، مع استخراج الخلاصات وكتابة التعليقات. وقرأت كتاب داروين «أصل الأنواع». وليس في هذا الكتاب شيء يشق على الفهم. ولكنه يحتاج إلى التأمل الكثير. وداروين بعيد كل البعد عن التعبير المسرحي؛ إذ هو متواضع معتدل يكتب في حذر كأنه يخشى أن يؤمن القارئ بكل ما يقول. وهو الضد لنيتشه في الأسلوب. فإن نيتشه ناري سماوي، أما داروين فأرضي طيني. وأسلوب نيتشه عاطفي ذاتي حتى حين يهتدي إلى الحقائق الموضوعية. أما داروين فيكتب عن وجدان وتعقل؛ حتى لتحس أنه ينفض عن نفسه عاطفته وذاتيته كما ينفض أحدنا الغبار عن شخصه.
وليس شك أن حبي لداروين وتحيزي لنظرية التطور - منذ نشأتي الثقافية - قد تركا أثرهما في أسلوبي الكتابي. فقد قيل إن الأسلوب يدل على الجانب الأخلاقي للمؤلف بل يكشف عنه. أي يدل على الاتجاه التفكيري وإيثار بعض القيم على بعض. وأنا أوثر أسلوب داروين: أسلوب المنطق الصارم والحذر والاعتدال على أي أسلوب آخر يوصف بأنه «أدبي». وكثيرا ما وصفني الكتاب في مصر بأني لست «أديبا»؛ لأنهم لا يجدون عندي تلك الزخارف والتزاويق المألوفة في غيري من الكتاب. ومع ذلك فإني لا أنكر سحر الأسلوب العاطفي. ولكني إذا كنت ألتذ السحر أحيانا وأستمتع بما فيه من مهارة فإني أوثر عليه أسلوب التعقل والوجدان. وأذكر أني حين قرأت «من الأعماق» تأليف أوسكار وايلد أعجبت بسحره. حتى إني عندما بلغت الصفحة الأخيرة عدت فورا إلى الصفحة الأولى أقرؤه ثانية كأني أستعيد لحنا جميلا وأنغاما رائعة. ولكنه لم يترك في رأسي مركبات ذهنية كتلك التي تركها «أصل الأنواع» لداروين. فقد غيرني داروين. أما أوسكار وايلد وجون روسكين وكارليل من الكتاب الذاتيين فقد نسيتهم؛ لأنهم جميعا بعيدون عن الحقاق الموضوعية. وحين أقرؤهم الآن أشعر أنهم يخطبون أو يصرخون أو يتفصحون. فأجد اللذة العابرة في أسلوبهم ولكني أحس أنهم ليسوا مفكرين أساسيين. والمفكر الأساسي عندي هو داروين الذي يتحدث في اعتدال وحذر. وأسلوبه هو الأسلوب الرصين. وأقرب الناس إليه في هذا الأسلوب هو برناردشو. وقد سبق أن قلت إن أحسن ما نقيس به الكاتب أن نعرف مقدار ما تركه لنا من المركبات الذهنية؛ لأنه على قدر هذه المركبات يكون تفكيره محوريا أو بذريا؛ أي إننا لا نأخذ منه المعرفة الجامدة فقط، بل نأخذ المعرفة النامية التي تنمو وتتشعع في الخلايا الرمادية من الدماغ فتتركنا ونحن نفكر ونشتبك في اشتباكات جديدة لا تفتأ تنبهنا إلى توسع وتعمق فإيناع. ومنذ 1908 حين قرأت «أصل الأنواع» وأنا في هذا التوسع والتعمق. فقد درست البيولوجية والجيولوجية بل سيكلوجية فرويد بحافز من إيحاء داروين. كما أن داروين كان السبيل إلى التعرف إلى هربرت سبنسر. وكان داروين يصفه بأنه «فيلسوف التطور» والحق أن سبنسر هو المسئول عن تعميم هذه النظرية ونقلها إلى المجتمع، ولا عبرة بأنه ارتكب أخطاء كثيرة في التفاصيل؛ فإن الأخطاء أحيانا قد تكون منيرة مثل الإصابات؛ لأنها تفتح كوة على ناحية لم تكن مفتوحة من قبل. فإذا كان الناظر إليها قد أخطأ الرؤية، فإن فضله لا يزال عظيما لأنه فتح الكوة. وهذا هو ما أراه في كثير من المفكرين مثل فرويد وسبنسر بل داروين نفسه. فقد نبهنا فرويد في خطئه عن «مركب أوديب» كما نبهنا سبنسر في خطئه عن سوء النظام الاشتراكي، وكذلك نبهنا داروين في خطئه عن تنازع البقاء. وكل هذه الأخطاء كانت كوات جعلتنا نفكر ونبحث؛ لأنها فتحت لنا آفاقا جديدة. وقد انتقلنا بها من الميدان البيولوجي إلى ميادين الاجتماع والدين والاقتصاد.
ومن الكتاب البذريين الأساسيين الذين تأثرت بهم، وما زالت المركبات الذهنية التي خلفوها في خلاياي الرمادية قائمة بل نامية: كارل ماركس. فقد وصلت إليه عن استغراض ضده من كتاب «الانفرادية» الذين يقولون بالمباراة الاقتصادية مثل هربرت سبنسر، وخرجت منه على احترام له واحتقار لهربرت سبنسر وأمثاله. ولكن هذا الاحتقار في هذه النقطة المعينة لم ينقص إكباري للقوة التفكيرية عند سبنسر. والحق أنها قوة عظيمة جدا. فإن نظرته شاملة وهو فيلسوف أكثر مما هو عالم . ولكنه فليسوف بعيد عن الغيبيات. وقد احترف هذا الرجل التفكير احترافا. حتى ليسأم الإنسان حين يقرؤه ويكاد يسائل: لماذا هذا الجد؟ لماذا يلهث ويعرق؟ ألا يفكر في إجازة يستريح فيها؟
والحق أنه لم يفكر في إجازة. وقد أصيب لهذا السبب بانهيار عقلي تألم منه نحو سنتين، وحتى بعد ذلك كان أحيانا يطلب من ضيوفه ألا يتكلموا بل أن يبقوا في ضيافته أو رفقته صامتين ...
وفي هذه السنين كدنا ننسى هربرت سبنسر. ولكن كارل ماركس يزداد بمرور السنين قوة بل حياة؛ فإن نظرياته تحيا في كل مكان في العالم، والأزمة العالمية الحاضرة هي أزمة الصراع المنتظر، أو الوفاق المحتمل بين الماركسيين دعاة الإنتاج التعاوني وبين الديمقراطيين دعاة المباراة الاقتصادية. ولذلك لا يمكن أحدا أن يصف نفسه بأنه مثقف إذا كان يجهل الماركسية ولو كان يكرهها؛ لأن الأزمة العالمية هي في صميمها أزمة ماركسية.
وقيمة الماركسية في فهم السياسة العالمية والتطورات الاجتماعية والأخلاقية الحاضرة كبيرة جدا. ولكن لها قيمة أخرى في فهم التطورات التاريخية. والتعمق في دراسة ماركس لا يتمالك من الشعور بأنه هو - لا فرويد - الأساس الصحيح للفهم السيكلوجي. فإن ماركس أثبت أن العواطف الاجتماعية - أي التي نكتسبها من المجتمع - أكبر قيمة وأبعث على التغيير والتطور وأثبت في كياننا مما نسميه العواطف الطبيعية؛ ولذلك لا يقتصر فضل ماركس على أنه جعل الاقتصاد علما؛ لأن الحقيقة أنه جعل كذلك الأخلاق والاجتماع والسيكلوجية علوما. ولا يستطيع أحد أن يفهم هذه الثلاثة على حقيقتها الفهم الموضوعي إلا إذا كان ماركسيا.
داروين وماركس، كلاهما قد غرس في رأسي مركبات ذهنية، وجعلني أنظر إلى الدنيا وإلى الأحياء في استغراض علمي وتحليل اقتصادي وسيكولوجي. وعندما أستبطن إحساسي الديني أجد أن بؤرة هذا الإحساس هو «التطور». وهذا الإحساس الديني هو فهم وممارسة؛ فإني أفهم أننا وجميع الأحياء أسرة واحدة بما في ذلك النبات، وأن الخلية الأولى التي نبض بها طين السواحل قبل نحو 700 مليون سنة هي عنصرنا الأول، وأننا ما زلنا ننبض ونتغير في تجارب لا تنقطع، وأن سنتنا هي لذلك سنة التغير، وجريمتنا هي لذلك جريمة الجمود. ونحن حين نجمد إنما نكفر بسنة الكون مادة وحياة. ولكن إلى جنب هذا الفهم الديني يجب أن «نمارس» ممارسة دينية باحترام الحياة أيا كانت والتعرف إلى أشكالها وحمايتها من الأميين المستهترين بالطبيعة. هذه الطبيعة التي تكتسب في ذهني قداسة كلما فكرت في غابات أفريقيا أو الهند وما تحوي من تحف الحياة، أو كلما فكرت في غياهب المحيط الهادي أو الأطلنطي أو المحيطين القطبيين وما بهما من أحياء يحاول التجاريون - في غير شرف - أن يبيدوها بالإلحاح عليها في الصيد.
وكذلك لا أقرأ الجريدة اليومية ولا أسمع عن خبر سياسي أو مشروع لقانون جديد إلا وأنظر إليه بالاستغراض الماركسي من حيث دلالته على النوازع المختفية التي دفعت إليه، في حين أن الذي يجهل الماركسية يتطوح ويتخبط في تقديرات «شخصية» للممثلين السياسيين أو الحربيين. مع أن هؤلاء ليسوا سوى أدوات تأخذ مكانها في دورة الآلة الكبرى، في حركة المجتمع الاقتصادي؛ ولذلك أيضا أصبحت فكرة «البطل» في التاريخ من الفكرات التي كانت تتقهقر في وجداني كلما تقدمت في التحليل الاقتصادي. ولكن يجب أن أعترف أنها مع تقهقرها لم تنمح، وأنه لا يزال للشخصية قيمتها في تفكيري.
وفرق عظيم - بل عظيم جدا - بين شخص قد قرأ ماركس ودرس التفسير الاقتصادي للتاريخ، وبين آخر يجهله؛ لأن الأول الذي امتاز بالحاسة بالتاريخية التي اكتسبها من ماركس يجد في أخبار الجريدة اليومية من المعنى والمغزى ما لا يجده الثاني الذي يحسب أن الحوادث التافهة والخطيرة، والاتجاهات السياسية، والتطور والثورة والحرب والسلام، كلها أشياء تجري جزافا.
ويأتي فرويد - بعد داروين وماركس - في إيجاد المركبات الذهنية التي عملت في توسعي وتعمقي. وعندي أن «مركب أوديب» الذي يعد محور السيكلوجية الفرويدية هو خطأ، ولكنه خطأ منير؛ لأنه نبهنا - كأنه دسيسة عملية تحركنا إلى البحث والتنقيب في كهوف النفس المظلمة - إلى قيمة السنين الأولى أيام الطفولة في تكوين الشخصية. وقد وصفت أقوال فرويد بحق بأنها «سيكلوجية الأعناق». وهي كذلك وإن كنا نختلف كثيرا عما نجد في هذه الأعماق. ولولا فرويد لما كان هذا الجيش الذي يتألف من آلاف العلميين الذين يبحثون النفس البشرية في جميع الأقطار المتمدنة. وقد جمعت بين فرويد وماركس وخرجت منهما بأزكى الثمرات، بل فطنت إلى أن ماركس هو السيكلوجي الأساسي؛ لأنه يجعل وجدان الفرد ثمرة المجتمع.
وعبارة «التحليل النفسي» من العبارات التي تعزى إلى فرويد وهي «اللافتة» لجميع أنواع العلاج السيكلوجي، وليس ثمة شك في قيمة التحليل. ولكني أحس أن «التأليف النفسي» أهم وأنفع من التحليل، وإنه إلى الآن مهمل لأن السيكلوجيين مقيدون بفرويد.
وفي حياتنا العصرية لا يستطيع أحد أن يهمل التفكير العلمي؛ لأن الحضارة الصناعية السائدة هي حضارة العلم. وقد دأبت في دراسة العلوم التي تدور حول التطور أو الاقتصاد أو السيكلوجية أكثر من ثلاثين أو أربعين سنة؛ ولذلك أستطيع أن أتناول كتابا عن الهورمونات - أي مفرزات الغدد الصماء - أو كتابا عن الأيكولوجية - أي علاقة الحي بالبيئة - أو كتابا عن مشكلات الوراثة، أو كتابا عن جنون الشيزوفرينا، فأقرؤها جميعا في رغبة وفهم ولا أجد ذلك الصدود الذي يجده غيري ممن لم يعنوا بالعلوم.
وكل هذه العلوم هي دراستي المستقلة؛ لأن ما حضرته من محاضرات في لندن لا يؤبه به. ومما آسف عليه أحيانا أني لم أجد المرشد حوالي 1907 الذي كان يستطيع أن يعين لي منهجا دراسيا في العلوم. ولكني - بعد التفكير - أسائل: هل يكون أفضل لي لو أني كنت قد انغمست في دراسة علمية تجريبية معينة؟ ألم تكن مثل هذه الدراسة مانعة بطبيعتها الاختصاصية من ألوان أخرى من الثقافة الموسوعية التي أتمتع بها الآن؟ إني لا أكاد أعرف اختصاصيا في علم ما، نجح في أن يكون موسوعيا ينطلق في سهولة ويسر إلى رياض الفلسفة والأدب والاجتماع، مع أن كل هذه الميادين - فضلا عن العلوم - قد ألفتها وجلت - بل نقبت - فيها وفكرت في تناسقها، وسرت فيها بروح المتعلم الذي يربي نفسه في بعد عن الاغترار والزهو. فإذا اعتبرت القيم - قيم الحياة لا قيم التخصص الثقافي - فإني أجد أني نجحت في تربية نفسي أكثر مما لو كنت قد تخصصت؛ لأن المتخصص في الجيولوجية أو البيولوجية أو الأيكولوجية قلما يفكر في دراسة أفلاطون أو قراءة الجاحظ أو دراسة الحضارة الفرعونية. ولكني أنا بالاتجاه الموسوعي الذي اتجهته قد درست هذه العلوم، في غير تخصص، ولكن مع الاستطلاع الدائم لغيرها من الثقافة؛ حتى إني أقدر - مثلا - عدد المؤلفات التي قرأتها عن حضارة الفراعنة بما لا يقل عن أربعين أو خمسين كتابا. ولم أترك كلمة مطبوعة للجاحظ لم أقرأها. وكذلك أستطيع أن أؤلف كتابا عن جوتيه أو الإصلاح الزراعي في مصر أو المسألة الهندية بأيسر عناء.
ولذلك يرى القارئ أني درست لا للثقافة، بل للحياة، وقد حملتني دراستي العلمية على أن ألتفت كثيرا إلى المراحل البعيدة التي قطعتها العلوم المادية، كالطب والهندسة والكيمياء والميكانيات والطبيعيات، مع تأخر العلوم الاجتماعية التي حال دون التفكير الحر فيها وتغيير قواعدها تقاليد وشعائر وسنن وقوانين تعمل كلها لتجميد تطورنا الاجتماعي. فالاجتماع - باعتباره علما - يعيش على مستوى التفكير في 1600 أو 1700 ميلادية، بل هو في أقطار آسيا وأفريقيا يعيش على مستوى سنة 1000 للميلاد، في حين أن الكيمياء أو الطب يسبقانه بنحو 300 أو 400 سنة؛ ولذلك نحن لا نعيش المعيشة العلمية في بيوتنا ولا يسود حكومتنا النظام العلمي. ولو أنه كانت هناك تقاليد وشعائر وسنن وقوانين للكيمياء مثلا - كما للمجتمع - لبقي هذا العلم على مستواه حين كان كل هم الكيماوي أن يحيل الرصاص إلى ذهب. كما أننا لو استطعنا التخلص من تقاليدنا ومن الاستغراضات التي تخدم بعض الهيئات والطبقات لكان في مقدورنا أن نرتفع بالاجتماع إلى مستوى العلوم التجريبية المادية.
ولهذا أيضا نجد أن الطالب الذي يدرس الطب نقول له في صراحة إن الذباب ينقل عدوى الرمد أو الدوسنطاريا، أو إن لحم البقر الذي أصيب بالدرن تنتقل عدواه إلى آكله من البشر، ولكنا لا نقول لهؤلاء التلاميذ أو الطلبة إن الأجور المنخفضة التي يحصل عليها العمال في مصر تفشي بينهم الدرن والعمى والموت؛ لأننا نخشى هنا الاستغراضات الامتيازية والاحتكارية والاقتصادية . ونخشى أن نصرح للفلاحين بأن كثيرا من الغيبيات التي يؤمنون بها خرافية.
ذات يوم في 1918 كنت قاعدا في الريف إلى قناة صغيرة في ظل شجرة وإلى جنبي فلاح قد بلغ الثمانين. وكنت أتأمل يرقات الضفادع وهي تسبح. فسألت الشيخ عنها فاتضح لي أنه لا يعرف أنها ضفادع صغيرة. ثم تشعب الحديث إلى النبات فقال: «إن لكل نبتة من هذه الأعشاب التي تنمو على شطوط القنوات ملكا يحرسها.» ولما نهضت أخذت أفكر في هذه الرواسب الثقافية التي انحدرت إلينا عن الفراعنة والكلدانيين والبابليين، وجعلتنا نعيش في غيبيات تحملنا على النظر المخطئ لحقائق هذا العالم وتباعد بيننا وبين النظر العلمي الموضوعي. وقلت في نفسي: هذا الرجل غيبي يؤمن بأن العالم حافل بالأرواح التي تحرس الناس والحيوان والنبات؛ إذن هو من خصوم داروين.
ولكن هذا الفلاح المسن يمثل في سذاجته المركزة جهل الرجل العادي والمرأة العادية. وكلاهما يعيش بذهنه على رواسب قديمة من العقائد؛ حتى إن فكرة «القرينة» عند الفراعنة لا تزال حية في أيامنا. أجل! لقد ذكرت الآن؛ فقد كنت طفلا لم أتجاوز السابعة أو السادسة، وكنت قد غضبت وصرخت ورفست وأنا على العشاء. فقالت لي أمي تخيفني: «دلوقت أختك تزعل منك وتضربك.»
وكانت تعني بأختي هذه «قرينة» الفراعنة. وقصدت إلى الفراش ونمت بلا عشاء. وإذا بي أحلم أن فتاة قد حضرت وهي تحمل سوطا ترفعه في الهواء كي تتحفز لضربي، فصرخت في النوم. وأقبلت إلي أمي في فزع فأيقظتني وحضنتني وجاءتني بكوب من الماء شربت منه جرعة. ثم أخبرتها عن الحلم، فأخذت تقبلني وهي تبكي: «حقك علي يا ابني، أنا كنت بضحك، مفيش أخت، مفيش أخت.»
ولكن مجتمعنا لا يزال في أسر هذه القرينة أو ما يشابهها من العقائد التي تتخذ أحيانا أسلوب البحث العلمي. كما نرى مثلا في أولئك الذين يزعمون أنهم يستجلبون الأرواح فتنقر على المائدة وتتحدث عن العالم الثاني ... وهذه العقائد تعيش كأنها كابوس للمجتمع تعمل على تجميده وتخويفه حتى لا يتطور. ودعاة الروح هؤلاء لا يختلفون عن تلك الأم الساذجة التي تقول عندما يعثر طفلها: «وقعت على أختك أحسن منك.» تمدح الأخت وتسترضيها حتى لا تصيب طفلها بأذى ...
وهذه القرينة أو هذه الأخت التي أفزعتني في نومي، وهذه الملائكة التي تحرس النباتات عند ذلك الفلاح المسن، هي ضباب العقل الذي كان يجب أن يقشعه العلم. وقد انقشع أو كاد في أمريكا وأوروبا. ولكنه لا يزال يخيم علينا؛ لأن الثقافة العلمية لا تزال بعيدة عنا لم نتنفس هواءها الصافي.
وهذه الثقافة العلمية هي ما أفتأ أرجو أن أجعلها أسلوبي في الحياة الشخصية والاجتماعية. ولكني لم أخطئ قط ذلك الخطأ المألوف بأن أجعل العلم غاية إذ هو وسيلة فقط. أما الغاية فيعينها الأدب والفن والفلسفة. أي إن غاية العلم هي الدين الذي نكسبه من الأدب والتاريخ والفن والفلسفة. أي كيف نعيش في مجتمعنا أصلح العيش وأروحه وأقصده وأشرفه.
وقد وضعت كتابي «نظرية التطور وأصل الإنسان» ولي مأرب هو مكافحة الغيبيات الشائعة، ونشرته كله مقالات في «البلاغ» قبل طبعه كتابا؛ كي أصل إلى أكبر عدد من القراء. ومن الذكريات السعيدة أني وقفت ذات يوم إلى دكان صغير لا تزيد مساحته على ثلاثة أمتار مربعة أشتري لابني بعض الحلوى، فعرفني البائع وأخبرني أنه قرأ كتابي هذا وفهمه.
ولو أني وجدت التشجيع لأرصدت حياتي لإخراج كتب شعبية مثل «نظرية التطور» و«العقل الباطن» ونحوهما. وكثيرا ما كنت أتحسر حين كنت أرى مؤلفات العقليين في لندن. فإن كتاب «أصل الأنواع» الذي زلزل به داروين الثقافة الأوروبية كان يباع بأقل من خمسة وعشرين مليما.
وحوالي 1930 وجدت أنا والأستاذ فؤاد صروف الفرصة سانحة لإيجاد حركة علمية شعبية في مصر. فعقدنا العزم على تأليف «المجمع المصري للثقافة العلمية». وكانت الغاية منه أن يضم جميع المهتمين بالثقافة العلمية ونشرها بين الجمهور. ونجحنا في المشروع نجاحا لم نكن ننتظره، وعقدنا الاجتماع السنوي الأول له وألقيت فيه محاضرة سيكلوجية عن طبيعة التفكير في ضوء الأحلام في قاعة الجمعية الجغرافية. ولكني في ذلك الوقت كنت أمارس نشاطا سياسيا مركزا في مكافحة إسماعيل صدقي (باشا) حين ألغى الدستور واستبدل به غيره، واتفق مع المستعمرين والمستبدين على إعادة الحكم التركي الشركسي الذي حاول عرابي أن يحطمه. وأدى نشاطي هذا في السياسة إلى طردي من المجمع.
وكان من حظنا السيئ أننا اخترنا معظم الأعضاء من الموظفين؛ ولذلك حين اختير حسين سري (باشا) رئيسا لاجتماعه الثاني أرسل إلي خطابا يفصلني من المجمع «مع الشكر». وكان وقتئذ وكيلا لإحدى الوزارات، فوافق جميع الأعضاء «الموظفين» ولم يشذ غير واحد - غير موظف - هو الأستاذ إسماعيل مظهر. وجاء في عقب طردي الصديق زكي أبو شادي يعتذر إلي بأنه لم يجرؤ على مخالفة «وكيل وزارة»؛ ولذلك أعطى صوته ضدي ووافق على طردي، على أنه يعرف أنه ليس من حق المجمع أن يفصلني لنشاطي السياسي. واتجه المجمع بعد ذلك وجهة اختصاصية غير شعبية؛ ولذلك لم ينتفع به الجمهور كثيرا.
وعندما أقارن بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية أجد أن القيمة العظمى للأولى أنها تحريرية؛ لأن التفكير العلمي يسير على نهج ارتقائي: هذا سيئ فيجب أن نبحث عن الحسن، وهذا أحسن ولكن يجب أن ننشد أحسن منه بالاكتشاف والاختراع. والتفكير الارتقائي هو بطبيعته تفكير علمي. وهو لم ينشأ في أوروبا إلا بعد أن اتجه الأوروبيون وجهة علمية في القرن السابع عشر. أما قبل ذلك فلم يكن هناك من يقول بأن الشعوب يجب أن ترتقي وتتغير. وقد يرد هنا علي بأنه كان هناك طوبويون يتخيلون حالا سعيدة للبشر غير حالهم الحاضرة. ولكن الفكرة الارتقائية لم تنبت قط في هذه التربة الطوبوية، وإنما نبتت من البذور العلمية.
والثقافة الأدبية إذا لم تجد الحافز من العلوم تركد، وقد كان هذا شأنها في العصور الوسطى: وسط زراعي راكد يعيش في ثقافة أدبية راكدة محافظة. أما الآن فالعالم المتمدن يعيش في وسط صناعي متحرك، يعيش في ثقافة علمية متحركة متغيرة.
ومن هنا قيمة التوجيه العلمي في الثقافة العربية الحاضرة. بل يجب أن يرتفع هذا التوجيه إلى مقام الدعاية.
ذكريات الحرب الكبرى الأولى
كانت الحرب الكبرى في 1914 متوقعة ، وكان أساسها المباراة العظيمة بين الإنجليز والألمان؛ فإنهما كانا على تقدم صناعي عظيم يحتاج إلى المستعمرات والمواد الخامة والأسواق. وكان الإنجليز حاصلين على كل هذا، ولم يكن الألمان حاصلين على شيء يؤبه به. فكانت الصناعات الإنجليزية تمتاز بالمواد الخامة الرخيصة التي تحصل عليها من الهند وجاوة ومصر وغيرها، فتستطيع بيع مصنوعاتها بأثمان منخفضة. ثم في الوقت نفسه كانت تجد التفضيل في الأسواق في هذه الأقطار وغيرها. وإذا لم يكن هذا التفضيل بالامتياز الجمركي الصريح الذي يجعل مصنوعاتها تدخل هذه الأقطار بسهولة، فإنه يكون بألاعيب أخرى تؤدي إلى التفضيل، ويقوم بها موظفو المستعمرات لخدمة طبقة الصناعيين والتجاريين في بريطانيا.
ولم يطق الألمان هذه الحال؛ أي أن يثرى الإنجليز بأوضاع غير عادلة، ويبقوا هم في تخلف اقتصادي، وشيء من هذه الحال كان أيضا بارزا في مقدمات الحرب الكبرى الثانية التي دعت اليابان فيها إلى «الرخاء المشترك».
وكانت الشرارة الأولى للحرب قتل أحد الأمراء من أسرة الإمبراطور فرانز جوزيف، وكان إمبراطورا هرما على إمبراطورية هرمة ركيكة. ولم تمض إلا أيام حتى كان العالم كله مشتعلا، وأخذ الجمهور في مصر على دهشة.
وكنت أصدرت مجلة «المستقبل» في القاهرة، فدعيت إلى تعطيلها في إدارة المطبوعات. ثم شرع الإنجليز في اعتقال من يتوجسون في اتجاهاته. ولبثت بعض الشهور وأنا أعمل مع مي في جريدتها؛ أي جريدة والدها «المحروسة». ولكني سئمت الرقابة التي لم تكن تسمح بنشر خبر صحيح إلا بعد أن تزيفه حتى تخرج الهزيمة التي كانت تقع بالحلفاء كأنها انتصار رائع لهم.
ورحلت إلى الريف، ورأيت كيف كان يسلط الإنجليز علينا الموظفين المصريين من مأمورين ومديرين وحكمدارين وشرطة لخطف محصولاتنا. وكانت الجمال والحمير بل الرجال يخطفون أيضا كما لو كانوا في قرية زنجية على خط الاستواء قد كبسها النخاسون لخطف سكانها وبيعهم في سوق الرقيق. وكان المنظر يهين النفس كما يفتت القلب. فكان الرجل يربط بالحبل الغليط من وسطه، وخلفه أمثاله، ويسيرون على هذه الحال صفا إلى أن يبلغوا «المركز» فيحبسون في غرفة المتهمين ثم يرحلون إلى فلسطين. وكنت أنجح أحيانا بالرشوة في استخلاص بعض هؤلاء المساكين. وذات مرة وأنا بالمنزل سمعت صراخا ودخلت على نسوة في فزع ونحيب، وعرفت أن ثلاثة ممن يزرعون أرضنا ألقي القبض عليهم وهم يحرثون في الحقل. فخرجت ووجدتهم مربوطين بالحبال الغليظة بحراسة أحد الشرطة. أما سائر الشرطة فقد تركوهم كي يغزوا قرية أخرى، واستطعت بمساومات مع الشرطة أن أحصل على الإفراج عنهم. ولكني لم أكن أنجح كل مرة، ففي ذات يوم قصدت إلى المأمور في الزقازيق أطلب منه إطلاق اثنين من الفلاحين، فتأملني ثم قال: أنا عايز أرحلك أنت لفلسطين. فتركته إذ لم تكن الظروف وقتئذ تأذن بالتحدي.
وفي تلك السنوات السود أثري كثير من العمد ثراء فاحشا؛ فقد فرضوا ضرائب على جميع الشباب من سن العشرين إلى الخمسين كل على مقدار ما يملك. فهذا يؤدي خمسة جنيهات، وذاك عشرة جنيهات، حتى يعفيهم من الاعتقال وبعثهم إلى فلسطين. وعرفت عمدة كان يملك ستة أفدنة فقط جمع نحو خمسة آلاف جنيه بهذه الطرق. وكان الفلاحون يجوعون كي يجمعوا هذه الغرامات ويؤدوها.
وقد استمتعت بعد ذلك بالشماتة عندما رأيت هذا العمدة وقد قبض عليه الإنجليز بعيدا عن قريته وأجبروه على النزول في ترعة يبحث عن أحد قضبان الخط الحديدي لشركة الدلتا. فقد فوجئ وهو على حمار قاصدا إلى قرية مجاورة فأنزلوه وضربوه وأجبروه على العمل في ترميم الخط الحديدي الذي كان الفلاحون قد نزعوه في 1919. وعرفت بعد ذلك أنه تورط في معاكسات ومشاجرات بينه وبين الأهلين فضاع كل ما جمعه. فقد تعقبوه بالشكايات جملة سنوات وتمسكوا عليه بمخالفات خطيرة جعلته ينفق في الرشوة وأجور المحامين كل ما كان قد جمعه من هؤلاء الفلاحين المساكين.
وكان معظم النقل في الحرب الكبرى الأولى على الخيول الأسترالية. وكانت ضخمة يعلف الحصان منها بضعف ما يعلف به حصان من خيولنا؛ ولذلك كان التبن والشعير يخطفان من الريف. وقد قام عمالنا المصريون - وهم من الفلاحين - بخدمة الحملة الإنجليزية في فلسطين. وكانوا يعدون بعشرات الألوف مات أكثرهم وعمي بعضهم. ومع ذلك عندما انتهت الحرب واشتعلت الثورة في مصر في سنة 1919 وقف السفير البريطاني في واشنطون ينتقص من قيمة خدمتنا في الحرب كي يحول دون العطف الأمريكي على قضية استقلالنا، فقال: إن جميع من قتلوا في الحرب من المصريين لا يزيدون على ثلاثة أشخاص. ثلاثة فقط.
وكثير من الفلاحين يتركون الأرض إلى المدن لما يلاقون من قسوة المالكين الذين يعصرونهم بالإيجارات والمحاسبات. ولكن الريف لا يزال معمورا بل مزدحما بالفلاحين على الرغم من جميع ما يلقى هؤلاء فيه من مصاعب. وظني أن بعض السبب لذلك أن في الأرض فتنة تسحر الفلاح وتربطه بها مهما قل كسبه منها؛ فإنه يستيقظ قبل الشروق، ويخرج إلى حقله ترافقه بقرته وحماره وعنزته أو نعجته. وهو يحس برفقة هذه الحيوانات ويجد في هذه الرفقة لذة تسمو على الاعتبارات المالية. وهو يتشمم الأرض عقب حرثها حين تنفح التربة الهواء بروائحها التي توحي الرخاء والبركة. بل هو يبكر أحيانا كي يتحقق من النمو الجديد في الذرة أو القمح. وفي الشتاء حين يكسو الندى البرسيم تبدو الدنيا في بهاء لا يعدل الإنسان به أي جمال آخر.
وقد وجدت هذه الفتنة في السنوات التي قضيتها في الريف مدة الحرب. وكنت كثيرا ما أتأمل الفلاحين وهم يكدون من الفجر إلى الغروب، ثم يعودون مرحين يتغنون بالمواويل خلف البهائم إلى بيوتهم. وهذا الحب للأرض وللنبات وللحيوان يلصق الفلاح بالريف ويجعله يرضى بالمعيشة الضنينة من حيث الطعام واللباس والمسكن. بل هو يرضى بقسوة الإيجارات والمحاسبات، بل إن الفلاحة أيضا تجد من الاهتمامات بتربية الدجاج والبط والحمام ما يجعلها مفتونة بهذه الطيور فتغني لها كما لو كانت تؤدي هواية لذيذة. وكثيرا ما رأيت إحدى الفلاحات تخاطب البقرة التي عزفت لسبب ما عن الطعام بقولها: «يا حبيبتي، يا أختي.» ثم تمسحها بيديها كما لو كانت طفلا تدلله.
ثم يجب أن لا ننسى القمر في الريف؛ فإنه يسكب سحره على كل شيء، وأبناء المدن الذين يرون القمر من خلال المباني لا يعرفون فتنة هذا الكوكب في الريف.
وغيري يعد الريف منفى، ولكني أعتقد أن أحسن سني حياتي هي التي قضيتها في الريف. فقد أتاح لي الدراسة الجدية كما أتاح لي الاستمتاع بالطبيعة. ولم يكن يمر علي يوم دون أن أستيقظ في الساعة الرابعة أو الخامسة من الصباح وأسير في الحقول وهي مبللة بالندى في هدوء الطبيعة الرخيم أنتظر بزوغ الشمس فأحييها وأتأملها كأني في صلاة. وهناك آلاف من الناس لم يعرفوا قط هذه الصلاة ولم يحسوا هذا الإحساس الديني في الاتصال بالطبيعة في خلوة الحقول التي تنمو كل نهار بحياة جديدة. والسائر في الحقول في هذه الساعات الأولى من النهار تغمره نشوة حقيقية حتى ليجد خفة في نفسه لا تختلف من تلك التي يحدثها الكئول، ولكن دون تخدير للوجدان.
والريف يوهم التجزؤ والانفصال: هذا نبات، وهذا حيوان، وهذا مسكن، وهذا حقل، بل هذا إنسان وهذا بهيم. ولكن المتأمل يجد الترابط والتكافل، كأن كل هؤلاء وحدة حية.
وقد كان داروين يقول على سبيل الفكاهة إنه يستطيع أن يقدر عدد العوانس في قرية (في إنجلترا) بملاحظة حقول البرسيم المحيطة. فإذا كان البرسيم مزدهرا ناجحا فإنه يدل على أن العرائس كثيرات في القرية؛ ذلك لأنهن يربين القطط، والقطط تأكل الفئران، والفئران تأكل النحل، والنحل هو الذي ينقل إلى البرسيم لقاحه من زهرة إلى زهرة ... فإذا قلت العوانس قلت القطط وزادت الفئران، وقل النحل ثم قل ازدهار البرسيم.
ونحن نرى هنا بالطبع فكاهة، ولكن لها مغزاها، وهو أن النبات والحيوان يعيشان في تضامن سمبيوزي أي إن كلا منهما يخدم الآخر. فحياة هذا تتوقف على حياة ذاك. وقد كنت أبتهج بالتأمل في الريف لهذه الروابط بين النبات والحيوان. وكثيرا ما كنت آسف وأنصح بشأن البومة؛ فإن الفلاحين قد ورثوا عقائد غيبية عنها؛ إذ يقتلونها لأنهم يتشاءمون منها، مع أنها تأكل الفئران التي تقتات بذراهم وخبزهم. ثم إن تكاثر الفئران يؤدي إلى تكاثر الثعابين التي تقتات بها. بل إن للذئاب والثعالب في ريفنا قيمتها السمبيوزية في حياتنا الريفية أيضا لأنها تنظف القنوات من الرمم.
وقد كنت - وما زلت إلى الآن - أجد لذة واهتماما في أن أتابع فراشة بل أجري وراءها كالصبي حتى أمسكها وأتأملها وأبحث عن أعضائها، ثم أطلقها. وسلوكي هذا كثيرا ما كان يبعث الابتسامات بين الفلاحين الذين يعتقدون أن مثل هذا العبث لا يتفق والوقار ... وما زلت إلى الآن متعلقا بالريف أخطف إليه الزيارات بل ما زلت أحلم بأن أقضي السنة الأخيرة من عمري في الريف.
وريفنا الذي صنعته الطبيعة، ريف الحقول والزهر والشجر والطير والفراش، هذا الريف يتلألأ بالجمال ويبعث الحياة تنبض في عروقنا حين نشرب من هوائه ونشم منه خضرة البرسيم أو الذرة التي تغمر نفوسنا. ولكن الريف الذي صنعه المجتمع المصري، ريف المساكن الكالحة المبنية من الطين المجفف، ريف الإيجارات والمحاسبات والحرمان للفلاحين، هذا الريف لا يوحي إلينا الصلاة بل يوحي الغضب واللعنة وكراهة الحياة في مصر؛ فإن المالك يعامل أحيانا الفلاحين بروح تجاري لا يبالي هل هو يجوع أو يمرض بسبب الإيجارات العالية التي يفرضها عليه.
وأذكر أن أحد الفلاحين في عزبة غير بعيدة قدم إلي ذات صباح في 1915 وعرض علي أن ينتقل إلى عزبتنا، فقبلت. وقبيل الغروب حضر هو وزوجته التي كانت تحمل ابنتها على صدرها، وكان هو يحمل جرة بها «مخلل». وكانت هذه الجرة كل ما يملك من متاع في الدنيا؛ فقد حاسبه صاحب الأرض وأخرجه خالصا لا عليه ولا له. وفاحت رائحة كريهة من الجرة، فكشف عنها أحد الحاضرين وصب منها على الأرض، وما زال يصب حتى فرغت، وكان هذا «المخلل» الذي ذكره هذا المسكين لا يتجاوز هذا السائل الكريه يبلل به هو وزوجته خبز الذرة ثم يبلعانه. وكان الهزال واضحا في الثلاثة، وكان أوضح في الطفلة التي كانت تتعلق بصدر أمها كأنها خرقة بالية معلقة في ترهل، وقد ماتت هذه الطفلة بعد نحو أسبوعين.
وقص علي علي - وهذا اسمه - مأساته؛ فقد دخل تلك العزبة قبل ست سنوات ومعه بقرة وحمار، وكان لزوجته صندوق ولحاف وحصيرة ومخدة، ولكن المالك كان «يحاسبه» كل عام، فيخرج مدينا. وباع بقرته وحماره في تسديد الدين، ثم باعت زوجته كل أمتعة البيت كي تشتري الذرة.
وذات مساء أقبلت على العزبة فوجدت عليا مبطوحا على بطنه وهو يصرخ صرخات عالية، وفزعت عندما رأيته على هذه الحال، وظننت أنه قد تسمم أو أن وباء الكوليرا قد نقل إلى مصر مع بعض الجنود الهنود، ولكن المسكين سكت خجلا عندما رآني. وذهبت به اليوم التالي إلى الزقازيق لأحد الأطباء، فقال إنه مريض بالبلاجرا وهو مرض ينشأ من النقص الغذائي، فذكرت الجرة التي جاء بها وصببنا منها المخلل على الأرض ...
وتفاقمت حاله، وظهرت عليه أمارات البلاهة. وتركته زوجته وتزوجت غيره. ثم حدث حريق في بهنباي بعد ذلك بسنين، وكان هو في أحد أزقتها، فخانه ذكاؤه الذي تقهقر من البلاجرا فعجز عن التخلص من النار ومات بالحريق.
وفي الريف المصري الجميل آلاف من هذه المآسي التي تعود إلى الروح التجاري في محاسبة الفلاحين وزيادة الإيجارات حتى يموتوا في بطء لقلة الطعام. وأغلب المسئولين عن هذه القسوة هم من المالكين الذين يعيشون في المدن ويستغلونها - غيابيا - أرضهم، فلا يستطيع وكلاؤهم التسامح - ولا نقول الرحمة - مع المأزومين والفقراء، بل أحيانا يبرهن هؤلاء الوكلاء على إخلاصهم واجتهادهم للمالكين بزيادة الإيجارات على هؤلاء المساكين.
وكنا نقرأ الأخبار كما يحب الإنجليز أن نفهمها؛ ولذلك كانت الرقابة صارمة شاملة؛ فقد اشتركت في بعض المجلات الأمريكية كي أصل عن طريقها إلى الأخبار الصحيحة. فكانت إما تمنع من الوصول إلي وإما تقص أوراقها التي تحمل أخبارا غير ملائمة للإنجليز. ولكن حتى بين المحررين المصريين من كان يستطيع أن يروي الخبر بحيث يجوز ظاهره على الرقيب ويدرك قارئه ما بين سطوره، مثل:
جاء في التلغراف أن هزيمة الألمان عند فردان كانت فادحة؛ إذ تقدموا بعد جهد كبير عشرة كيلومترات، ولكن ارتد عليهم الجنود الإنجليز والفرنسيون فانتزعوا منهم طاحونا، وقد أحدث هذا المنظر فرحا عاما في قيادة الحلفاء.
وكان الرقيب ينخدع بهذه البهجة وينسى المعاني الواضحة.
وكان إعجاب الجمهور بألمانيا يفوق الوصف. وبعض هذا كان يعود بالطبع إلى الشماتة بالإنجليز المحتلين لوطننا. وكنا نهجس أحيانا بأمل الاستقلال إذا انهزمت بريطانيا أو على الأقل لم تنتصر. وكان هذا الأمل قويا في بداية الحرب وبقي إلى أن دخلت أمريكا في صف الحلفاء.
ولم تكن الطائرات عنصرا خطيرا في الحرب الكبرى الأولى، ولم تزرنا فيها غير طائرتين: الأولى ألقت قنبلة بالقرب من البنك الأهلي، والثانية ألقت قنبلة في حي الفجالة. وكان التلف صغيرا. وأيضا أرسلت ألمانيا بلونا عبر جونا ذهابا وإيابا؛ من أوروبا إلى المستعمرة الألمانية في أفريقيا الشرقية. ولم يلق أية معارضة من الإنجليز. وكان على ارتفاع بعيد حتى لم يسمع أحد بأزيز موطراته.
وقد كانت براعة الالمان في القتال عظيمة، ولكن إخفاقهم في السياسة كان عظيما أيضا؛ إذ لم يستطيعوا أن يتوقوا انضمام الأمريكيين إلى أعدائهم؛ ولذلك صحت كلمة لويد جورج رئيس الوزارة الإنجليزية عندما قال: «الألمان يكسبون المعارك الآن. ولكنا نحن سنكسب الحرب.»
وكان تشرشل بطل الحرب الكبرى الثانية بطلا أيضا في الحرب الكبرى الأولى؛ فقد كان يتهم الألمان بأنهم يصنعون الصابون من جثث القتلى أي يستخرجون الشحم من هذه الجثث ويصنعون منه الصابون. وقال أيضا إن الألمان يبعثون جنودهم إلى المدن لتلقيح النسوة بلا زواج ... وكانت هذه التهم بالطبع غير صحيحة. ومما قام به تشرشل في تلك الحرب أنه زيف ملايين النقود الورقية وبعث بها عن طريق سويسرا إلى ألمانيا حيث أفسد قيمة النقد الألماني. وتشرشل أيضا هو المسئول عن الحصار الذي ضربه الإنجليز على ألمانيا أكثر من ستة أشهر بعد إعلان الهدنة. فلم يكن يدخل ألمانيا شيء من الأغذية التي يحتاج إليها السكان، وكانوا قد بلغوا حالا بشعة من القحط. وقد عم الكساح أطفالهم لهذا الحصار.
وارتفعت الأسعار والأثمان إلى أربعة أضعاف بل خمسة أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب. ولكن الرخاء كان عاما؛ لأن الإنجليز بعد أن كانوا قد حددوا أثمان القطن في السنتين الأوليين من الحرب تركوها حتى وصلت إلى 40 و45 جنيها للقنطار. وكان أردب القمح يصل إلى 7 أو 8 جنيهات. وبقيت إيطاليا مدة طويلة وهي محايدة، فكانت تموننا بكثير من المصنوعات. ولذلك لم يزد قط ثمن البذلة على 8 أو 9 جنيهات. وأحدثت أثمان القطن المرتفعة هوسا عاما في الريف حتى بلغ ثمن الفدان خمسمائة جنيه وإيجاره 40 أو 50 جنيها. وبدهي أنه في مثل بلادنا حيث منع الإنجليز تأسيس المصانع يجب أن ترتفع أثمان الأرض كلما زاد النقد المتداول؛ إذ ليس هناك شيء آخر لاستغلال النقد الفائض. وأعرف اثنين شقيقين في الريف كانا يتجران بالقطن في 1919. وقد عمهما الهوس بشأن الزيادة المستمرة في أثمانه، فصارا يجمعان منه ويكنزان حتى أصبحت ثروتهما كلها قطنا لا يملكان شيئا غيره. وكان يعرض عليهما الثمن العالي فيرفضان انتظارا لارتفاع الثمن إلى خمسين أو مائة جنيه. وهما في هذه الآمال والأحلام وإذا بالثمن يهوي إلى أقل من أربعة جنيهات. فجن أحدهما ومات الآخر. وكثر الانتحار بين المضاربين على أثمان القطن في بورصة الإسكندرية. وفي أثناء هذه الحمى كانت الثروات الضخمة تتكون في أيام أو أسابيع؛ فقد كان هناك تجار يشترون البيض أو الزبد أو يتجرون في البهائم. فلما رأوا أن القطن يصعد إلى السماء أقبلوا عليه. فلم يكن يدور العام على أحدهم - فيما بين 1918 و1919 - حتى كان يملك عشرين أو ثلاثين ألف جنيه مع أن كل ما كان يملك في بداية تجارته لم يكن يزيد على مائتي جنيه. وكان بعض هؤلاء يتناسى قديمه ويزعم أنه أصيل عريق في الثراء. وبعض آخر كان يتبجح بعصاميته وأنه جمع ثروته بذكائه، أو كما كان يقول بذراعه. وكلاهما كان كاذبا؛ لأن كل ما في الأمر أن الحظ رفعهم كما خفض غيرهم.
وكانت الحرب تسير في سلحفة بطيئة خالية من الاقتحامات، حتى كاد الناس يعدونها شيئا مألوفا ليس هناك ما يدعو إلى أن يتغير؛ فقد حفرت الخنادق - من الجانبين - في الإقليم الشمالي من فرنسا وجهزت بالأثاث والمصابيح الكهربائية، ونظمت بينها المواصلات وحصنت بالأسمنت. وعم الجهة الغربية ركود حتى صارت عبارة «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» من العبارات الرمزية نقولها عندما لا نجد خبرا جديدا. وهنا الاختلاف بين الحرب الأولى والحرب الثانية في 1939؛ فإن الغارات الجوية التي وصلت إلى مدننا جعلت هذه الثانية متحركة نشيطة بالمقارنة إلى سكون الأولى في الخنادق. وحاول الألمان أن يحركوا الجبهة الغربية بالهجوم الكبير على فردان، ولكنهم لم ينجحوا إلا في قتل عشرات الألوف من شباب الألمان والفرنسيين. والواقع أنه لم يكن في أخبار الحرب الأولى - بعد الهجوم البرقي الألماني الأول مما بقي أثره - سوى ثلاثة أشياء هي: دخول أمريكا في الحرب، ثم انفصال روسيا بنظامها الجديد، وأخيرا شروط ولسن التي أحسسنا بها كأننا نفتتح عصرا جديدا للسلام والعدل. وكان أهم ما في هذه الشروط حق تقرير المصير للشعوب التي يستعبدها الاستعمار. وكانت عصبة الأمم إحدى الثمرات لجهاد ولسن للسلام العام.
وقد ظهر ولسن بمذهبه الجديد كما لو كان نبيا؛ فإن العالم الذي كان يئن من الإمبراطورية البريطانية استروح نسيما منعشا من هذه المبادئ الجديدة التي تقول بالمساواة والحرية وتقرير المصير. وعلقت هذه المبادئ بأذهاننا، وصرنا نلهج بها ونفكر فيما نستطيع أن ننتفع به منها. وكان الساسة الإنجليز يتململون من هذه المبادئ ولكنهم لم يستطيعوا منعها وإنكارها. وقد عادوا إلى مثل هذه الحال في الحرب الكبرى الثانية عندما دعا الرئيس روزفلت إلى ميثاق الأطلنطي والحريات الأربع؛ فقد قبلوا مبادئ ولسن ثم مبادئ روزفلت بالقول مع نية نقضها بالفعل.
وكان ولسن يسير في أوروبا ويتنقل من عاصمة إلى أخرى والجماهير تحتشد له وتتلقاه في خشوع ديني؛ حتى كان بعضهم يجثو على الركب على أرصفة المحطات، وكان الكاتب الفرنسي رومان رولان في سويسرا وقد غادر فرنسا احتجاجا على الحرب.
وقد كتب له خطابا مفتوحا قال فيه:
أنت وحدك، أيها الرئيس، بين جميع أولئك الذين يحملون الواجب الرهيب لقيادة الأمم، أنت وحدك تستمتع بسلطة روحية عالمية؛ لأنك توحي الثقة العامة.
أجب نداء هذه الآمال الحارة، وتناول هذه الأيدي التي بسطت إليك فاجعلها تصافح بعضها بعضا ... لأن الأمم إذا وجدت أنها خذلت في هذه الوساطة فإنها ستتفرق وتهيم في فوضى ثم لا بد أن تتحطم في الشطط. وعندئذ تنغمس الشعوب في الدماء وتنكفئ الأحزاب القديمة إلى رجعية دموية ... أيها الوارث لجورج واشنطون وإبراهام لنكولن هلم إلى الراية وهي ليست راية حزب أو راية أمة وإنما هي راية العالم كله. وادع نواب الشعوب إلى برلمان البشرية. وارأس أنت هذا البرلمان بالسلطة الكاملة التي هي حقك لما لك من وجدان روحي سام، ولما لأمريكا من مستقبل عظيم. تكلم! تكلم إلى الجميع؛ لأن العالم متعطش إلى صوت يعلو ويغمر تخوم الأمم وطبقاتها. كن الحكم للأمم الحرة، حتى يعرفك المستقبل بأنك كنت المصالح بينها.
وليس من شك في أن مبادئ ولسن الأربعة عشر كانت من أكبر العوامل لثورتنا في 1919. وكان ولسن يحاول تغيير العالم؛ وكان يؤمن برسالته في جد وشرف. ولكن الرجل في شرفه وسذاجته لم يقدر عتو اللؤم والخسة في الإمبراطوريين: كليمنصو رئيس وزارة فرنسا، ولويد جورج رئيس وزارة بريطانيا. فقد سايره هذان الاثنان وأوهماه بالموافقة التامة على مبادئه كي يلقي بكل القوة الأمريكية في كفة الحلفاء ضد ألمانيا، حتى إذا تم الانتصار بفضل هذه القوة للإنجليز والفرنسيين تنكر هذان الاثنان له. وكان من الفكاهات التي يتنادر بها الفرنسيون في حمق ورعونة قول كليمنصو وقت المفاوضات: «إنني في مأزق، فعن يميني نابليون وعن يساري المسيح.» وهو يعني بنابليون لويد جورج في زعمه أنه بطل، وبالمسيح ولسن في زعمه أنه مصلح للعالم. ونحن الآن في 1947 عندما نذكر هذه المفاوضات في 1919 ندرك أن ولسن لم يكن فقط الرجل البار بالبشر بل كان أيضا الرجل البصير. أما هذان الاثنان فكانا أحمقين قد طربا للانتصار ورضيا بالنظر القصير. ولو أن مبادئ ولسن عمت العالم لما وقعت الحرب الكبرى الثانية.
وعلى كل حال ربح العالم من ولسن «عصبة الأمم». وصحيح أن الإمبراطوريين من الإنجليز والفرنسيين أفسدوها وأحالوها إلى هيئة ميتة عندما أيقنوا أنها تعارض المذهب الإمبراطوري . ولكن هذه العصبة نبهت الأذهان، وبقيت ماثلة أمام العالم نحو عشرين سنة وهي تشهد - حتى بضعفها وفشلها - على ضرورة إقامة منظمة عالمية تشرف على مصالح البشر. وقد كانت هي الباعث بعد ذلك لإيجاد «منظمة الأمم المتحدة» و«مجلس الأمن».
والحق أن هاتين الحربين قد أنجبتا في الميدان الديمقراطي الغربي بطلين عالميين فقط، كلاهما أمريكي هما ولسن وروزفلت. وكلاهما دعا دعوة عالمية فعبر عن أسمى الأماني وأنضر الآمال في السلام والعدل والشرف بين البشر.
وفي العالم الآن ثقافة عالمية بشرية جديدة تختمر، وعن قريب ستتبلور، ثم سوف تتجوهر مبادئ أو ديانة عامة نؤمن بها جميعا ونقول بها إن هذا الكوكب هو وطننا، هو قريتنا التي يجب أن نجوب شوارعها ونعرف أزقتها، في القطب الشمالي أو جبال الهملايا في الصيف، وفي صحارى أفريقيا أو آسيا في الشتاء. وطن عالمي جديد كبير يلغي هذا العالم المجزأ أو هذه الأوطان القديمة.
وكثير من الفضل في هذا الاتجاه يعزى إلى ولسن وروزفلت.
ثورة 1919
في 1882 حكم علينا الإنجليز - بمعاونة المستبدين المصريين - بالموت السياسي، وبقينا في هذا الموت إلى 1919 حين بعثنا وشرعنا نعود إلى التاريخ. وعدنا إليه بالثورة والدم والتدمير.
وكانت جميع طبقات الأمة في ثورة؛ فإن الفلاحين بعد أربع سنوات من خطف محصولاتهم ورجالهم كانوا حاقدين على الإنجليز. وكانت الطبقة المتوسطة من الموظفين حاقدة أيضا على الإنجليز الذين منعوا الرياسة في الوظائف عن المصري وقصروها على الإنجليزي. وعادوا بنا إلى أيام توفيق حين كانت الرياسة للأتراك والشركس دون المصريين.
فطبقات الأمة الفقيرة والطبقة المتوسطة أيضا كانت في تململ؛ ولذلك حين تولت الطبقة المتوسطة قيادة الثورة انقاد الفلاحون والعمال إليهم. ولكن يجب ألا ننسى أن الوجدان الوطني لم يمت قط منذ 1882، ولكنه كان خامدا، وقد بعث فيه مصطفى كامل الحياة. ولكن هذا الزعيم جاء قبل أوانه ثم مات في شبابه في 1907. ثم كانت هناك فترة اختلاط فكري هو تراث التاريخ: مصر أحد أقطار الدولة العثمانية؟ أو مصر يجب أن تدعو إلى الجامعة الإسلامية؟
وكان هذا الاختلاط الفكري يفتت الوطنية المصرية. فلما كانت الحرب الكبرى الأولى رأينا الإنجليز يتصرفون بحظوظنا كما لو كانوا آلهة فوق السحاب يعلنون على العالم «حماية» مصر . ثم يخلعون الخديوي، ثم يرتقي عرش مصر بدلا منه السلطان حسين. ثم يمنعوننا من الاجتماع أو الكتابة ويراقبون جرائدنا حتى لا يكتب حرف إلا بإذنهم، ولكن بعد ذلك يصيح بنا ولسن: هبوا إن لكم حق تقرير المصير.
وكان أكثر الأمة وجدانا بأن سنة 1919 يجب أن تكون سنة فاصلة في تاريخنا أولئك الذين عاشوا في الثورة العرابية واشتركوا فيها. وكان سعد زغلول في مقدمة هؤلاء؛ فإن لوحة التاريخ المصري من 1880 إلى 1919 كانت واضحة الخطوط والصور في ذهنه.
فما هو أن أعلنت الهدنة حتى قصد هو وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي باشا، وكلاهما رأى الثورة العرابية أيضا وعاش في سني الخزي الوطني التي أعقبتها أو في العصر الجليدي للوطنية المصرية، قصدوا إلى دار المندوب السامي البريطاني وطلبوا في إلحاح الإذن لهم بالسفر إلى لندن كي يطلبوا استقلال مصر.
ولكن المندوب السامي كان يفكر في تيار آخر هو استعمار مصر؛ ولذلك لم يسغ هذا الطلب، ورفضه. وشرع سعد يبعث في الأمة وجدانا بالظروف الجديدة التي تجعل الاستقلال طلبا أساسيا لا نقبل دونه شيئا آخر. وسرت في البلاد موجة من السخط على الإنجليز. واعتقل الإنجليز سعدا ورفاقه ونفوهم إلى مالطة في مارس من 1919. وزاد السخط وكثرت الإضرابات من الطلبة والموظفين، وقطعت السكك الحديدية وأسلاك التليفون والتلغراف. وعندئذ أذن الإنجليز بسفر الوفد؛ أي سعد ورفاقه، إلى باريس كما أرسلوا لجنة إنجليزية برياسة الاستعماري القارح ملنر لتحطيم الحركة الوطنية بإغراء عناصر أخرى، غير أعضاء الوفد، حتى يقبلوا الحكم ويضربوا الأمة بالحديد والنار كي تقبل الاستعمار البريطاني وتخضع له.
ووصلت لجنة ملنر إلى مصر في ديسمبر من 1919. وكان سعد ورفاقه - أي الوفد المصري - في باريس، فكان إرسال هذه اللجنة بمثابة التلصص على الحركة الوطنية أو الدخول إليها من الباب الخلفي للاتفاق مع العناصر التي ليست مع سعد. ولكن الشعب قاطع هذه اللجنة، بل إن محمد سعيد باشا رئيس الوزراء استقال احتجاجا على إرسال هذه اللجنة مع وجود الوفد المصري في باريس.
واستطاعت لجنة ملنر وهي في مصر أن تقنع عدلي باشا بالمفاوضة مع الإنجليز. وكان سعد والوفد - وهما في باريس - يطالبون باستقلال مصر باعتبار هذا الاستقلال جزءا من مفاوضات الصلح العام في 1919. وسافر عدلي إلى سعد وأقنعه بضرورة السفر إلى لندن في مايو من 1920 للمفاوضة. وهنا تغير موقفنا؛ فقد كان سعد والوفد يطلبان الاستقلال باعتباره من القضايا التي تتجاوز حق الإنجليز أو حق استئثارهم في بحثه، وأن الدول المجتمعة في باريس - أي الولايات المتحدة وفرنسا وسائر الدول الصغرى - لها حق البحث لهذا الموضوع إلى جنب بريطانيا. ولكن عدلي نقل هذه القضية من هذا الموقف الرحب إلى موقف حرج هو المفاوضة مع الإنجليز فقط.
وتقهقرت القضية المصرية خطوات إلى الوراء بهذا الموقف الجديد، وسافر الوفد المصري إلى لندن؛ فطلبنا نحن الاستقلال وطلب الإنجليز الاستعمار، وهذا هو ما كان ينتظر. وكان الإنجليز يرمون إلى تضعضع الروح الوطني بمرور الأشهر حين يجد المصريون ركودا وهمودا فتموت الحركة الوطنية.
وعاد سعد والوفد المصري إلى مصر. وشرع سعد يبعث الحرارة والنشاط في الأمة بالخطب والمنشورات. وكان عدلي قد فشل في مفاوضاته مع الإنجليز، وقد وصف سعد هذه المفاوضات بأن جورج الخامس يفاوض جورج الخامس. وكثرت الاضطرابات، فعمد الإنجليز إلى العنف والعسف فألقوا القبض على سعد ورفاقه ونفوهم في 1921 إلى سيشيل. واتبع الإنجليز سياستهم وهي الإغراء، فأعلنوا «استقلال» مصر في 28 فبراير من 1922 بشروط أربعة هي حق الإنجليز في: (1)
حماية المواصلات الإمبراطورية في مصر. (2)
الدفاع عن مصر ضد أي اعتداء أجنبي. (3)
حماية الأجانب والأقليات. (4)
بقاء السودان على ما كان عليه.
وفي 19 أبريل من 1923 اختارت الحكومة ثلاثة من الأشخاص البارزين فوضعوا الدستور المصري. وكان سعد ورفاقه قد أعيدوا من المنفى وتولى هو أولى الوزارات الدستورية في 1924.
وفي سني الثورة هذه - في الوقت الذي كان يعمل فيه سعد ورفاقه - ويهدم فيه خصومه ما يحاول أن يبنيه، في هذا الوقت كان الشعب يختمر ويبني روحا جديدا؛ فقد حفظت مبادئ ولسن، وكان الطلبة والموظفون والتجار يتناقشون فيها ويجدون فيها إيحاء لمكافحة الإنجليز وتحقيق الاستقلال. وكانت المظاهرات من الطلبة والنسوة، بل كانت الغزوات من الريفيين على السكك الحديدة وأسلاك التلغراف. كل هذا - على ما وقع فيه من شطط - كان يبعث النشاط في الأمة.
وكان خروج النسوة في المظاهرات ليس ثورة على الإنجليز وحدهم بل كان ثورة أيضا على ألف سنة من ظلام الحجاب؛ فقد كن يخرجن مقنعات بالبراقع البيض في المظاهرات الأولى. ولكن لم تمض أشهر حتى كن قد خلعن البراقع، وتألفت منهن لجان في الوفد.
ومن القصائد التي نظمها حافظ إبراهيم قصيدة في وصف المظاهرات الأولى للسيدات المصريات في 1919، وكان الإنجليز لا يأنفون حتى من ضربهن كما كانوا يفعلون بمظاهرات الطلبة. قال حافظ:
خرج الغواني يحتجج
ن ورحت أرقب جمعهنه
فإذا بهن تخذن من
سود الثياب شعارهنه
فطلعن مثل كواكب
يسطعن في وسط الدجنه
وأخذن يجتزن الطري
ق ودار «سعد» قصدهنه
يمشين في كنف الوقا
ر وقد أبن شعورهنه
وإذا بجيش مقبل
والخيل مطلقة الأعنه
وإذا الجنود سيوفها
قد صوبت لنحورهنه
وإذا المدافع والبنا
دق والصوارم والأسنه
والخيل والفرسان قد
ضربت نطاقا حولهنه
والورد والريحان في
ذاك النهار سلاحهنه
فتطاحن الجيشان سا
عات تشيب لها الأجنه
فتضعضع النسوان وال
نسوان ليس لهن منه
ثم انهزمن مشتتا
ت الشمل نحو قصورهنه
فليهنأ الجيش الفخو
ر بنصره وبكسرهنه
فكأنما الألمان قد
لبسوا البراقع بينهنه
وأتوا بهندنبرج مخ
تفيا بمصر يقودهنه
فلذاك خافوا بأسه
ن وأشفقوا من كيدهنه
وكنا في تلك الأيام لا نستطيع السفر إلا بإذن من موظف إنجليزي ولو كان الانتقال لا يتجاوز ما بين القاهرة وبنها. وأذكر أني حين أردت الحصول على هذا الإذن دخلت على الموظف الإنجليزي فجابهني بقوله: استكلال؟ بلهجة التهكم.
وكان الأقباط يدا واحدة مع المسلمين ولم تنجح دسائس التفرقة. حتى كان الشبان المسلمون يخطبون من منابر الكنائس والشبان الأقباط يخطبون من منابر المساجد. وقد عرفت بعد ذلك أنه كان في الثورة العرابية في 1882 مثل هذا الاتفاق أيضا إذ كان يرافق عبد الله نديم خطيب الثورة قسيس ينهض بعده ويخطب في الدعوة إلى الاتفاق بين العنصرين وحق الأمة في الحكم النيابي التام.
وكان بديها أن يقتل بعض الإنجليز من الأبرياء في مثل هذا الاختلاط؛ لأن الإنجليزي - أيا كانت شخصيته - كان رمزا للاستعمار. ولكن الإنجليز كانوا وحوشا يهاجمون القرى ويصبون البنزين عليها ويحرقونها. وكانوا - عقب تحطيم الترام ونزع قضبانه في القاهرة - يقبضون على الأفندية ويطرحونهم على الأرض ثم يجلدونهم. وبعد الجلد يجبرونهم على العمل في ترميم القضبان المنزوعة. وحدث أن قطع الخط الحديدي للدلتا فيما بين الزقازيق وميت غمر، فقصد الجنود الإنجليز إلى مكان القطع واحتشد الفلاحون المساكين نساء ورجالا وأطفالا - في سذاجة - في ذلك المكان. والأغلب أنهم لم يشتركوا في قطع هذا الخط، ولكن الإنجليز عندما اقتربوا منهم صوبوا عليهم البنادق وقتلوا منهم عددا كبيرا.
وكل هذا التقتيل في المصريين نسيه الإنجليز وذكروا فقط العدد القليل من قتلاهم. فأنشئوا المحاكم العسكرية لمحاكمة المصريين الذين اتهموا بقتلهم، وكانت هذه المحاكم تحكم بالإعدام.
وما زلت أذكر نادرة مضحكة وقعت لي في تلك الأيام. فقد ركبت حمارا من الزقازق أقصد إلى العزبة. وبينا أنا في الطريق خرج إلي أحد الفلاحين من حقل قريب وأخبرني أن الإنجليز يرممون الخط الحديدي على مسافة فهمت أنها تبلغ نحو كيلومتر. واقترح علي أن أختار طريقا أخرى لأنهم - إذا اجتزت بهم - سيلقون القبض علي ويجبرونني على العمل معهم في الخط الحديدي. وبينا هو يحدثني خرج علي صبي وعرض علي أن أشتري منه جرو ذئب، فنفحته بقرش وأخذت الجرو، وسرت في بطء أفكر في طريق أخرى أتجنب بها الإنجليز. ولكن الفلاح الذي أوهمني أن بيني وبينهم نحو كيلومتر كان مخطئا أو هو لم يحسن التعبير عن المسافة؛ لأني وأنا لا أزال في التفكير عن طريق أخرى خرج علي إنجليزي من خلف جميزة غليظة وهجم علي وجرني في عنف إلى الأرض وطلب مني العمل مع سائر من قبض عليهم. وكان الجرو لا يزال بيدي، فقلت له: هل لك أن تأخذ هذا الذئب وتخلي عني؟ فلم يصدق أنه ذئب. ولكنه بعد أن لوح بيده أمامه وكشر له الجرو عن أنيابه سلم بأنه ذئب وقبل الصفقة. بل زاد عليها أن حمل الجرو وأنا على الحمار وحرسني من زملائه حتى اجتزت مكان الترميمات وسرت في طريقي وأنا أتعجب من هذه المصادفة الحسنة وفضل هذا الجرو علي.
وتبرز في ذهني ثلاثة أشياء من ثورة 1919:
أولها الإكبار العظيم للموقف الوطني الذي اتخه الأقباط ورفضهم أية مساومة مع الإنجليز بشأن حماية الأقليات؛ فإن شباب المسلمين وكهولهم كانوا لا يزالون يذكرون موقف الحزب الوطني وما كان يدعو إليه من الجامعة الإسلامية ونفور الأقباط من هذه الدعوة. ولذلك كانوا يتشككون في موقفهم في 1919. ولكن الأقباط كانوا على الدوام في المقدمة، بل كان منهم كاهن هو القسيس سرجيوس الذي كان لا يبالي أن يقول ويكرر القول بأنه إذا كان استقلال المصريين يحتاج إلى التضحية بمليون قبطي فلا بأس من هذه التضحية. وعندما كانت لجنة الدستور تبحث قانون الانتخاب طلب توفيق دوس باشا أن تكفل حقوق الأقباط في الانتخابات بالتعيين، أي إذا لم ينتخب منهم العدد الذي يمثلهم فإن الحكومة تعين حينئذ عددا من الأقباط حتى لا يكون هناك نقص في التمثيل. فهببنا - نحن الشبان في ذلك الوقت - نزيف هذا الرأي ونقول بالاكتفاء بالانتخاب.
والشيء الثاني الذي يبرز في ذاكرتي من هذه الثورة هو وثبة المرأة المصرية من الأنثوية والبيت إلى الإنسانية والمجتمع؛ فقد مزق الحجاب وشرعنا جميعا نعد المرأة المصرية إنسانا له حقوق الإنسان بعد أن كنا نتكلم عنها باعتبارها ربة البيت أو الزوجة أو غير ذلك من الصفات التي كنا نصف بها «المخدرات». وقد زالت هذه الكلمة الآن من لغتنا.
أما الشيء الثالث فهو النهضة الاقتصادية التي أثمرت بجهود طلعت حرب وغيره، بنك مصر وسائر توابعه من الشركات الأخرى، وبهذا البنك مسخت عن جباهنا الوصمة التي كان يعيرنا بها المستشار المالي برونيات بقوله إنه ليس بين المصريين من يعرف أعمال البورصة.
هذا في شئوننا الداخلية، أما في شئوننا الخارجية فإن ثورة 1919 علمتنا كيف ننظر إلى الدولة باعتبارنا أمة مستقلة لا نجري في ذيل بريطانيا.
ولكن استطاع الإنجليز بعد ذلك أن يحطموا استقلالنا ويزيفوا دستورنا على يد زيور وإسماعيل صدقي وأمثالهما.
ولكننا نحن رجال الذهن المتصلين بالعقل العام في أوروبا وأمريكا كنا نتطلع إلى آفاق أخرى. ومن الحسن أن يعرف القارئ الشاب بعض اختباراتنا ومشاهداتنا في أعقاب الحرب الكبرى الأولى ويقارنها بما رأى هو وشاهد في أعقاب الحرب الكبرى الثانية.
ففي 1919 كانت مبادئ ولسن مذهبا جديدا يشبه الدين المدني الجديد للبشر على كافة الأرض. وكانت حماستنا لهذه المبادئ أحر من الحماسة التي تلقى بها العالم مبادئ روزفلت في ميثاق الأطلنطي والحريات الأربع. وظني أن من أكبر الأسباب لخمود الحماسة هنا هو ما لقيه العالم من التزييف والتعويق لمبادئ ولسن في 1919.
وقد حدثت ثورتان في الحرب الكبرى الأولى: الأولى في 1917 في روسيا حين تسلم الشيوعيون الحكم وألغوا الامتلاك الشخصي للعقارات. وهاج الإمبراطوريون في فرنسا وبريطانيا وبولونيا وإيطاليا وأنفذوا الجيوش إلى روسيا لقتل هؤلاء الشيوعيين، بل إنهم استخدموا الجيش الإلماني المقهور لهذه الغاية أيضا.
ومما لا نزال نذكره أن أتلي وبيفن - وهما من أعضاء الوزارة البريطانية الحاضرة 1947 - كانا يحرضان العمال على عصيان الحكومة في شحن الذخائر والأسلحة إلى روسيا. ونجحا في إيجاد إضراب في الموانئ الإنجليزية. وفشل تشرشل في تهيئة حملته على روسيا لهذا الإضراب. وأحدثت الثورة الروسية دهشة عامة. وكان الإمبراطوريون ينشرون الدعاية ضدها بألوان مختلفة. مثال ذلك أن الروس قد ألغوا الديانة والزواج. وإن هذا هو عاقبة الإلغاء للامتلاك الشخصي.
ولكن أهم من الثورة الروسية في نظر الجمهور المصري تلك الثورة التركية التي قام بها مصطفى كمال حين ألغى عرش السلاطين كما قطع علاقة تركيا بالشرق؛ ذلك أننا منذ 1882 كنا نتطلع إلى تركيا باعتبارها «دولة الخلافة» وكنا نأنس إلى خيال لم يتحقق قط هو أنها يجب أن تحمينا وأن ندخل في حظيرتها ونكون معها سلطنة عثمانية كبرى. فلما جاء مصطفى كمال يهدم الأسس ويوجه الأتراك نحو الغرب بدلا من الشرق ويلغي الخط العربي ويستبدل به الخط اللاتيني، ويفصل الدين من الدولة وينفض العرب والعربية عن تركيا الجديدة، لما أحدث مصطفى كمال هذه الأحداث تنبه التقليديون في مصر إلى احتمالات سياسية أخرى وانحازوا إلى الاستقلال المصري باعتبار أنه كل شيء في أهدافنا السياسية. وفرق عظيم بين هذه العقلية الجديدة وبين العقلية القديمة التي كان يتسم بها الشيخ علي يوسف في «المؤيد» حين دعا حوالي 1907 إلى أن ترسل مصر مبعوثيها أي نوابها إلى مجلس المبعوثان في الأستانة. بل كانت هذه عقلية مصطفى كامل أيضا؛ أي إنهما كانا يفسران الاستقلال المصري بأنه الانضواء إلى الراية العثمانية.
وبالطبع كان الاختلاف كبيرا بين الجمهور المصري بشأن ثورة لنين وثورة مصطفى كامل. ولكن الشعور العام إزاء هاتين الثورتين أن العالم القديم يحطم الأغلال وينطلق في حرية جديدة. ولا عبرة بأنه في انطلاقه هذا يتعثر ويكبو؛ لأنه سوف ينهض ويستقر.
وقد بعثت فينا هاتان الثورتان تفاؤلا عظيما كما بعثتا تشاؤما عظيما أيضا عند المستعمرين الإنجليز. ومن هذا التفاؤل أني أنا وبعض الإخوان ألفنا حزبا اشتراكيا في 1920 حاربتنا الحكومة بشأنه حتى قتلته.
أما حال ألمانيا فكانت شنيعة، فإنه عقب الهدنة منع الإنجليز وصول الأقوات إليها أحد عشر شهرا حتى قيل إن جميع الأطفال هناك أصيبوا بالكساح. ثم هبت ثورة سبارتكوس لتحقيق الشيوعية في يناير من 1919. ولكن فشلها كان عاجلا وخاصة بعد قتل الزعيمين كارل ليبنخت وروزا لكسمبرج. ثم جاء بعد ذلك انهيار المارك الألماني. وقد خسر فيه آلاف من المغامرين المضاربين في مصر وغيرها حين أنزله الألمان إلى الصفر وأخرجوا نقدا جديدا. فكنا نرى في مصر كيسا من الأوراق يحمله أحد هؤلاء المغامرين ويقول: إنه كلفه ألفا أو خمسمائة جنيه وهو الآن لا يساوي مليما.
وقد جاءت هذه الأحداث عقب الحرب الكبرى الأولى في تواتر فكانت مجالا للتأمل والتفكير والحديث: مبادئ ولسن، الثورة الروسية، الثورة المصرية، الثورة الألمانية، ثورة مصطفى كمال.
ولكن كل هذه الأحداث لم تكن شيئا في جنب القنبلة الذرية في أغسطس من سنة 1945؛ لأن هذه القنبة تلقي من الآن ضوءا أو ظلا على مستقبل البشر بعد ألف بل آلاف السنين.
زوجة وأطفال
لم أكن طوال عزوبتي أفكر في الزواج. ولكن كانت أمي تلح علي كما هو الشأن في جميع الأمهات. وكنت من وقت لآخر أستمع لندائها وأزور هذا البيت أو ذاك، حتى إذا أوشكت أن أجد الفرصة وأن كل شيء مهيأ لإتمام الزواج، كنت أفزع وأفر بالسفر أو أتمحل الأعذار الكاذبة. وماتت أمي في 1916 وكنت في الثامنة أو التاسعة والعشرين فلم أعد أجد الحافز إلى التفكير في الزواج، وبقيت على ذلك إلى 1923.
وليس شك أنه كان للصدمة التي لقيتها أيام حبي لتلك الفتاة الإرلندية - وأنا في إنجلترا - أثر في كامنتي لكراهتي أو تجنبي للزواج. فلم يكن يقترح علي أحد الزواج بعد هذه الصدمة إلا وأتنهد في حسرة وأسف، ثم أصد في جمود وعزوف. ولكن في 1923 زرت مع صديق لي بيتا لبعض أصدقائه، فوجدت هناك فتاة قد أينع شبابها، وكانت لا تزال بالمدرسة وقد قعدت إلى مكتبها وهي مشغولة بالكراسة والكتاب والقلم. وتحدثت إليها قليلا عن مشاغلها المدرسية، ونهضت وودعت وفي نفسي هواجس، وفي اليوم التالي وفي نفس الميعاد حملت صديقي على معاودة الزيارة، وأدرك هو مأربي واستجاب لرغبتي في سرور.
وبقيت معها في هذه الزيارة الثانية أكثر من ساعتين، ثم تجرأت بعد ذلك على أن أزورها وحدي وتجرأ والداها على أن يتركانا معا، وبقيت خطبتنا نحو خمسة أشهر لم أنقطع عن زيارتها يوما واحدا. وأيام الخطبة تعد من أسعد الأيام لأن الخطيبين يحسان أنهما في مؤامرة سرية يرتكبان فيها المخالفات للعرف والقواعد الاجتماعية. وفي الخطبة نحوم ولا نرد، ونحسو ولا نعب؛ فيزيدنا هذا شوقا من يوم إلى يوم، وقد تعلمنا طرقا في التخلص من أحد الوالدين أو أحد الإخوة، وكنا نجد لذة عظمى في ممارسة هذه الطرق وخاصة حين كان أحدنا يلفق خبرا يؤدي إلى جلاء هذا القاعد الذي لا يريد أن يفهم أننا نرجو خلوة.
وعقب الزواج وجدت صعوبتين: أولاهما أني أحترف الأدب والصحافة وأتعلق بالقراءة وهوايتي هي الثقافة. والزوجة تعد الإنفاق على الكتب إسرافا، ثم هي أيضا لا تطيق رؤية زوجها وهو غارق في كتابه طوال الوقت أو معظمه في البيت، وخاصة إذا كانت هي لم تتعود إدمان القراءة. والصعوبة الثانية هي التفاوت العظيم بين مستويينا الثقافيين؛ فإن الإنجليز كانوا قد حرموا التعليم الثانوي، ولم يكن في القطر المصري كله مدرسة ثانوية للبنات تديرها وزارة المعارف إلى سنة 1925، وكانت زوجتي قد تعلمت في مدرسة فرنسية من تلك المدارس التي تديرها الراهبات ويتجه فيها معظم العناية إلى التعليم الديني؛ ولذلك وجدت أنه للتغلب على هاتين الصعوبتين أن أشرع في تعليمها من جديد. فصرت أشركها فيما أكتب وأناقشها في جميع الموضوعات الثقافية التي أهتم بها. وبدهي أن كل زوجة تهتم بحرفة زوجها. ولما كانت حرفتي هي الصحافة والأدب والعلم فإنها اضطرت إلى تتبع نشاطي حتى ارتفعت على مستواها السابق كثيرا.
وبهذا صح الوفاق بيننا، بل أكثر من ذلك إذ هي قد أصبحت صديقتي كما هي زوجتي. وظني أن خير طريق إلى الصداقة الضرورية بين الزوجين في مصر أن يرفع الزوج زوجته إلى مستواه الثقافي.
إذ هو حين يقصر في ذلك يجد أن التفاهم معدوم أو ملتبس، فلا يكون الحديث بينهما إلا في الشئون التافهة ويعودان وكل منهما يعيش في عالم منفصل من العالم الذي يعيش فيه الآخر. والصداقة التامة تحتاج إلى التكافؤ الثقافي بينهما أو ما يقاربها.
ومن عجب أني - مع الدكتور كامل لبيب - ألفت كتابا عن ضبط التناسل أنصح فيه بمنع الحمل إلا عن وجدان ودراية بما يتفق ومصلحة الوالدين والأطفال. ولكني مع ذلك أجد عندي ثمانية من الأولاد حتى يصح أن أواجه بالبيت القائل في أحد شطريه:
هلا لنفسك كان ذا التعليم؟
ولكن هناك ظروفا جعلت المخالفة للكتاب الذي ألفته قهرية؛ فإن الأطفال الأربعة الأولين كانوا إناثا، فكان الشوق إلى ولد ذكر حتى أنجبناه. أما من زادوا فكان سبب وجودهم نقصا صيدليا في منع الحمل. وللرأي العام في إيثار الذكور على الإناث قوة تجعل أم البنات تحس كأنها موصومة وتشتاق صونا لكرامتها إلى أن تلد ذكرا . وهذه «غريزة» اجتماعية عامة. وقد عاش أولادنا جميعا ولم يمرض أحد. وأنا أعزو هذا إلى أننا تعودنا من سنين أن نشرب اللبن نيئا لا يوضع على النار بتاتا، ولم يحدث قط أن احتجنا إلى أن نغير هذه العادة. وقد وجدت من نحو عام مقالا لأحد الإنجليز يدعو فيه إلى تناول اللبن نيئا ويقول بأن غليه على النار يفقده كل ميزاته تقريبا.
والأولاد في البيت، حين يرفرفون ويغردون يملئون الجو حياة بل يزيدون الحياة حيوية. وليس شيء أجمل وألذ من رؤية الذكاء ينبجس في الطفل وهو في سنيه الأولى حين يسأل ويستطلع. والأطفال أحيانا عذاب جهنمي عقب الغداء أو وقت القراءة أو الكتابة. ولكنه عذاب حلو سرعان ما ننسى آلامه؛ فإن الابتسامة التي تشرق على وجه الطفل تضيء الجو وتقشع كل ما تكاثف فيه من غيوم. والآنسة الصغيرة التي اشترت فستانا جديدا تسير به في خيلاء وطرب كأنها في عيد تملأنا سرورا وبهجة. ومنذ أن شببت عن الطفولة، كانت تمر بي الأعياد فلا أعرفها إلا من الجرائد أو الأصدقاء إلى أن امتلأ البيت بالأولاد فعادت الأعياد مهرجانات. فيكون منها صداع قبل ميعادها بشهر، ونحن في مساومات بشأن البذلة الجديدة والحذاء الجديد والفستان الجديد، حتى إذا كان يوم العيد زهى البيت بالأحمر والأخضر وامتلأ أرضه بقشور النقل وضج هواؤه بالصواريخ وتجاوبت جدرانه بصيحات الحماسة والسرور.
ولكن الأولاد مع كل هذه المسرات يحملون الآباء على النكوص بدلا من الإقدام وعلى البخل بدلا من السخاء. وقد يقال إنهم يزيدون مسئوليات الآباء ويجعلونهم اجتماعيين بعيدين عن الشذوذ أو الانحراف الأخلاقي أو الاجتماعي. وهذا القول صحيح ولكنه يحمل في طياته أيضا معنى الجبن والخوف من الاقتحام؛ لأن الأب يفكر كثيرا ويقلق كثيرا بشأن المستقبل، مستقبل أولاده، وليس مستقبله. وهذا التفكير أو القلق يحيله من حيوان حر جريء ينطلق في مفاوز الحياة ويقتحم غاباتها إلى حيوان مدجن كأنه دجاجة لا ينشد غير السلامة. ولذلك من الشاق وكل المشقة أن ينشد المجد - الذي يحتاج إلى أن نرقى إليه السماوات - رجل متزوج له أولاد.
وحين نحترف الأدب نحتاج إلى شجاعة قد تحملنا على ألا نبالي الرأي العام وعلى أن نجحد التقاليد ونخرج على السنن؛ لأن الأديب الحق يجد أنه محتاج في بعض الأوقات إلى أن يغير القيم والأوزان الاجتماعية والأخلاقية وأن يجهر بما يجبن غيره عن الجهر به. ولكنه حين تحدثه نفسه بذلك يجد نداء العائلة أي الزوجة والأولاد صارخا في وجدانه: قف! ألا تتذكر ابنتك هذه التي ستتزوج بعد عام أو عامين؟ فينكص في جبن وذلة. وصوت الزوجة هنا هو صوت الضمير الاجتماعي الكامن. والزوجة في البيت تمثل المجتمع بعاداته وعرفه وشعائره، فإذا ثار الزوج وحاول أن ينفصل ويطير ويحلق غير آبه للمجتمع جرته هي إلى الأرض.
ولهذا السبب آثر كثيرون من المفكرين والأدباء العزوبة على الزواج. بل أحيانا وقفوا فيما يشبه منتصف الطريق بين العزوبة والزواج، كما فعل هافلوك أليس؛ فإنه تزوج، ولكن - بالاتفاق مع زوجته - عاش كل منهما مستقلا في منزله الخاص، كما أنهما امتنعا عن التناسل. وقد قرأت سيرتيهما كما كتبها كل منهما وكما كتبها ثالث اتصل بهما فوجدت أنهما نجحا في تحقيق الحرية التي ابتغياها. وعاش كل منهما في استقلال فكري وفني وفلسفي. وهذا الانفصال بينهما في العيش زاد رباط الحب والصداقة قوة بينهما، حتى لقد روي عنهما أن شخصا لا يعرفهما رآهما في القطار معا فظن أنهما خطيبان؛ وذلك لما رأى من سلوكهما الغرامي ووفرة الكلمات والإيماءات التي كانت تدل على شوق مفرط وحب عميق مع أنهما كانا قد مضت على زواجهما السنين. ولكن يجب أن أقول إني أحسست عقب قراءة سيرتهما أن الزوج استمتع بالاستقلال والعزلة. ولكن الزوجة تألمت منها كثيرا حتى إنها وقعت أو أوشكت أن تقع في هاوية الشذوذ الجنسي مرة وفي هاوية الانتحار مرة أخرى. ولكن قد يعترض هنا بأن المركز الاجتماعي للمرأة في الحضارة القائمة لا يتيح لها الاستمتاع باستقلالها لأنه - أي هذا الاستقلال - كثيرا ما يكون غرما لها بدلا من أن يكون غنما؛ إذ هي محرومة من كثير من الفرص التي تكسب الرجل كرامته الاقتصادية والاجتماعية. وأنا أسلم بكثير من هذه الحجة، ولكني أكتب في حدود الحضارة القائمة.
وشخصية الأديب الصميم هي - سيكلوجيا - شخصية سيكوباثية؛ أي إنه والمجرم سواء. ولكن الفرق بينهما أن المجرم ينحرف إلى أسفل المجتمع. والأديب ينحرف إلى أعلى. كلاهما متقلقل متأفف نازع إلى الشذوذ لا يرضى بأوزان المجتمع وقيمه. وكلاهما مكروه من الرجل العادي. وكما أن العائلة من العوامل الكبرى التي تحول دون الإجرام كذلك هي أيضا من العوامل الكبرى التي تحول دون الأدب أو تعوق رسالته. أو بكلمة أخرى، تعمل العائلة للاعتدال وتحول دون الشطط: الإجرامي والعبقري معا.
وكل ارتباط هو - في معنى ما - تقيد؛ فإن الارتباط - بالمذهب أو بالحزب السياسي - يقيد الأديب ويحد من حريته ومن هنا دعوة ألدوس هوكسلي الأديب الإنجليزي وأندريه جيد الأديب الفرنسي إلى «الانفصال»؛ أي يجب أن ينفصل الأديب من الأحزاب والمذاهب ويستقل في فنه وتفكيره. والحق أن لهذا القول وجها بل وجوها من الصواب. وخاصة في عصرنا هذا حيث نرى الأحزاب تستخدم الأديب لتأدية أغراضها بل أحيانا أغراضها السافلة. ولكن عصرنا هذا أيضا يتسم بصراع روحي بين الحق والباطل. والأديب الذي تنفذ بصيرته إلى صميم هذا الصراع ويقف على البينات والمعارف إنما يكفر بحرفته وفنه إذا هو نكص عن الدفاع عن الحق وإذن ليس هناك مجال في عصرنا لهذا الاستقلال المزعوم. فللأديب المخلص حزب كما أن له عائلة وهو يرضى بشيء من القيود يتقيد بها فنه كي يبقى متصلا بالمجتمع يدرس - عن اختبار - مشكلاته ويجعلها أساس الفن ومحور الحرفة.
وقيود العائلة مع ذلك لها ما يقابلها من الميزات بما تهيئ للأديب من نظام في المعيشة لا يحصل على مثله الأعزب الذي يتعود عادات التسكع. ثم إذا كانت مسئولية الأطفال تؤخر أو تنقص من الشجاعة والحرية فإنها أيضا تزيد الإحساس الاجتماعي وتصل بين الأديب وبين المجتمع بروابط قوية تجعله على قدرة لخدمته. والإنسان يتربى بعائلته ويزداد بها فهما للطبيعة البشرية. فالأولاد يربون الآباء كما يربي الآباء الأولاد ؛ لأننا ونحن نربي أولادنا نبصر بالطبيعة البشرية في سذاجتها واستطلاعها وتمردها. وكل بيت هو لذلك معهد للتجارب البشرية. وهذا المعهد يخرج العبيد، كما يخرج الأحرار، والمجرمين والعبقريين.
ولكني إذا كنت قد وجدت من العائلة قيودا من الحرير؛ فإني وجدت من الحكومة المصرية - بإيعاز الإنجليز وتسلطهم - أغلالا من الحديد. فهي التي منعتني خمسة عشر عاما من أن أكتب حرفا إلا بعد أن يقرأه رقيب حتى ولو كان في اللغة أو التاريخ أو السيكلوجية. وهي التي حرمتني - إلا في فترات من حياتي - من احتراف الصحافة التي أهواها.
شخصية عرفتها
حوالي 1915 كنت بالإسكندرية مع «الصحفي العجوز» توفيق حبيب. وبينا نحن نتنزه على الكورنيش إذ قابلنا أحد الشبان وسلم في ألفة على المرحوم توفيق. وتعارفنا، فإذا به طبيب قد عاد من باريس وشرع يعمل ولكن في غير نشاط ولذلك فهو في قلة من الكسب.
وقص على توفيق قصته، فقال إنه من أسرة عريقة في الصعيد، وإنه ورث ثروة كانت تغل له نحو خمسين جنيها في الشهر. ولكنه بددها في باريس لأنه آثر أن يعيش باذخا في مدينة النور والجمال. وعاد من باريس وهو لا يملك غير مهنته التي مضى عليه وهو يمارسها بالإسكندرية نحو ثلاث سنوات.
وفي اليوم التالي تقابلنا ووجدنا فسحة من الوقت تحدثنا فيها، فوجدت فيه اطلاعا واسعا وخاصة في البيولوجية، والتطور، والنظريات الاجتماعية. كما وجدت فيه حرية فكرية لم أكن في تلك السنين أجد لها مكانا في مصر؛ ولذلك ائتنس كل منا بالآخر. فصرنا نعين المواعيد صباحا ومساء نلتقي ونتنزه ونتحدث.
واتصلت معرفتي به بعد ذلك. فكنت أكتب إليه من القاهرة. وكان إذا زار العاصمة قضى كل وقته معي. وكان يعجبني منه - خاصة - صراحة تكاد تكون طفلية إلى ولاء للبشرية يتجاوز الوطنية، وإلى حب وتقدير للحرية والثقافة الحرة. وكان يكتب - كما أكتب أنا أيضا - في الجرائد والمجلات باسمه أو باسم مستعار عن شئون علمية أو إنسانية.
فلما كانت السنين الأخيرة للحرب الكبرى الأولى انقطعت عني أخباره، فظننت أن مرجع ذلك إلى وفرة عمله، ولم أبال كثيرا، وقلت في نفسي إذا ذهبت إلى الإسكندرية فإني - لا بد - واجده.
وذات يوم مشئوم من سنة 1920 كنت في الترام بالقاهرة، فرأيت شخصا زريا رث الملابس مشعث الشعر يواجهني في آخرالعربة ويسلم علي. فلم أرد السلام لأني ظننت أنه لا بد قد قصد غيري. فتلفت حولي كي أجد أحدا آخر يرد عليه السلام فلم أجد. فعدت أحدق فيه، وعاد هو يسلم علي، وفي لحظة شعرت كأن قلبي قد استحال إلى كرة ثقيلة وأنه يسقط في جوفي. فقد فزعت وارتعت! أجل هو صديقي الطبيب، صديقي الحميم الذي أحببته وأحبني، صديقي الذي كنت أقعد معه وأنظر إلى عينيه فأكاد أعرف كل ما في ثنايا عقله من أفكار وأوهام وآمال. ونهضت إليه، وتكلمت وسألت وأنا في لهفة عما حدث له، وعرفت شر ما يعرف.
ونزلنا من الترام وقعدنا في قهوة قريبة، وقص علي قصته بل مأساته وهي أنه وقع ضحية للكوكئين ... وأنه قد مضى عليه أعوام وهو يتناول هذا السم وأنه لم يعد يطيق تركه. وما أعجب ما تغيرنا الملابس! فإن هذا الطبيب الحبيب لم يتغير شيء في وجهه إذا استثنيت شحوبا وهزالا. فملامحه الحلوة ونغمة صوته وبريق عينيه بل إيماءة يده، كل هذا كان كما عرفته منذ خمس سنوات.
ولكن ما قيمة كل هذا إلى جانب اللحية التي لم تحلق منذ عشرة أيام؟ وما قيمته إلى جانب القميص الأبيض الذي فقد بياضه وحمل من العرق والتراب ما يدل على أنه بقي على جسمه أكثر من شهرين؟ وما قيمته إلى جانب الصدر الذي بان عنه القميص فبرزت عظامه، وإلى جنب البنطلون الذي تمزق من خلفه الأعلى ...
كنت إزاء شخصية هذا الصديق وأنا أحس أن الكوكئين قد فصل بيننا، كأننا من كوكبين مختلفين؛ فقد مضت عليه مدة طويلة انقطع فيها عن عمله وعن قراءة الصحف وعن الاختلاط بعائلته التي قاطعته. ومع أني كنت أعرف أن المدمن لهذا السم يحتاج إلى معالجة طويلة فإن أسفي عليه حملني على أن أطلب منه أن يكف ويقلع. ولكن إجابته لهذا الطلب ردت إلي وجداني وجعلتني أدرك أنني إزاء مريض له منطق آخر. ولم نعد نتحدث عن العلم أو السياسة أو الأدب؛ لأن كل همه معي كان الحصول على ريال يشتري به جرعا أخرى. وأخرجت له كل ما في جيبي وأنا واثق أنه سينفقه في هذا الشر.
وبهذه المقابلة «تجددت» صداقتي له. ولكنها كانت صداقة من نوع آخر؛ إذ كان همه الوحيد أن يحصل مني على الريال وكنت حين ألقاه أسلمه المبلغ وأنا أتوقى ألا يراني أحد؛ لأن رثاثته كانت في ازدياد حتى لقيته ذات مرة بلا حذاء ...
وفي إحدى المرات لقيته وكان لا يكاد يستر جسمه إلا بخرق مهلهلة، فقدته إلى بيتي، وهناك سلمته بذلة كاملة ومعها الملابس الداخلية، ومع أني أقصر منه فإن البذلة كانت على كل حال حسنة لائقة.
وقابلته بعد ذلك، ولشد ما كانت دهشتي إذ وجدته لا يزال في الخرق المهلهلة القديمة، وعرفت أنه باع بذلتي ...
وساءت الحال حتى صرت أتجنبه ولكني لم أفقد العطف والأسف عليه. وذات مرة كنت جالسا في قهوة مع بعض المعارف، ورأيته وهو يدخل من الباب فأدرت وجهي كي لا يراني، ولكنه لمحني، ومر علينا وسلم علي فتعاميت خجلا ممن كانوا معي. وخرج هو وظننت أن كل شيء قد انتهى وأنه فهم أني لم ألحظه وهو يمر بمائدتنا.
ولكن لما انتهت قعدتنا وخرجت سرت قليلا ولم أبعد. فوجدت صوتا خلفي يلعن ويسب ... فالتفت ورائي فوجدت صديقي الطبيب الذي أخذ يعتب علي بكلمات الهاوية التي تردى فيها لأني تعاميت عنه في القهوة وهو يسلم علي. فأوضحت له موقفي، وسلمته الريال الذي أعاد إليه الصفاء.
واشتغلت بعد ذلك في تحرير مجلة «الهلال»، وكان يزورني من وقت لآخر. وفي ذات مرة جاءني وهو في اتزان لم أعهده فيه، وكان ذلك بعد غيبة استغرقت سنوات كدت أنساه فيها. فلما سألت عرفت أنه قد شفي من الكوكئين.
وكان شفاؤه بمصادفة عجيبة بل بمأساة؛ ذلك أنه أحس ذات يوم ألما موجعا في بطنه يرافقه قيء، فلما قصد إلى الطبيب أخبره أنه في حاجة عاجلة إلى عملية لإخراج الزائدة الدودية التي التهبت. ولم تمض عليه ساعة حتى كان قد أجريت له العملية في نجاح وهو غارق في غيبوبة الكلوروفورم، والمعروف أننا لا نحس ألمين معا. بل نحس الألم الشديد الذي ينسينا الألم الخفيف، ولذلك أنساه تعب العملية وتخدير الكلوروفورم آلام الحرمان من الكوكئين. ونهض من فراش المرض بعد 15 يوما وهو بريء من الاثنين؛ التهاب الأمعاء من الزائدة الدودية والتهاب المخ من الحرمان من الكوكئين.
وفرحت بهذا الانقلاب، وإن كان الاتزان الجديد لم يثبت، فقد كان يتقزز من وقت لآخر ولا يكاد يطيق الجلوس على الكرسي أكثر من دقائق. ولكن صحته عادت إليه فعاد الدم يجري في وجنتيه.
وهنا انقدح في ذهني خاطر، قلت له: يا دكتور، ألا ترغب في خمسة جنيهات كاملة؟ فأشرق وجهه وسأل في لهفة: «كيف ذلك؟»
قلت: «اكتب لنا مقالا في «الهلال» عن الهاوية كيف ترديت فيها وكيف نجوت منها وابدأ الآن إذا شئت، وهاك جنيها.»
فوقف في احترام أو حماسة يتسلم الجنيه الذي مضى عليه بضع سنوات لم يلامس مثله كفه. وسلمته الورق والقلم، وشرع يكتب، ولكن أنا وهو كنا واهمين؛ فإن اتزانه الذي لمحته فيه لم يكن يكفي للكتابة؛ لأنه ما كاد يكتب خمسة سطور حتى مزق الورقة، ثم مزق أخرى وأخرى. وأخيرا تركني على وعد أن يعود ويكتب ما طلبته منه. وقضى نحو ثلاثة أشهر وهو يكتب هذا المقال الذي لم يزد على خمس أو ست صفحات.
ونشرنا المقال في «الهلال»، وكان مأساة، وقرأته السيدة الكريمة مدام فهمي ويصا، فاشترت نحو خمسمائة نسخة وزعتها على أعضاء البرلمان، وكان من أثر هذا المقال أن سن قانون جديد لمعاقبة المتجرين والمتعاطين للكوكئين.
وانتعشت رويدا صداقتنا القديمة بانتعاش صحته النفسية والجسمية فصرنا نتواعد ونقعد معا على القهوة أو في ناد. وعاد يحترف صناعته ويجد فيها شيئا من الكسب الذي يكفي للوقار في الملبس والمطعم. وهو لا يزال حيا إلى الآن أقعد إليه فأجد النور القديم في عينيه كما أجد أثر العاصفة التي مرت به ولكن مع الإنسانية والتفكير المنظم. وقد بلغ الخامسة والستين. وظني أنه سيعيش كثيرا وسيذكر هذا الكابوس الذي جثم على عقله وأظلمه نحو خمس أو ست سنوات ولكن ما أضيع هذه السنوات!
والآن بعد نحو ربع قرن من هذا الحادث المؤلم أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام وأتعجب وأسائل: كيف كان الكوكئين يباع في كل مكان ويشتريه الجمهور بالقرش والجنيه ولا يجد أي إنسان صعوبة في الحصول عليه، ثم مع ذلك كان بوليس القاهرة يعجز عن ضبط المتجرين به؟
أذكر أني كنت قاعدا مع بعض الإخوان ذات مساء في قهوة بباب الحديد. وشرع أحدهم يتشمم هذا المسحوق الأبيض، فدفعني الاستطلاع إلى أن آخذ قليلا منه وأستنشقه، فأحسست انتعاشا أو «يوفوريا»، ولم أحس أي تخدر ولما آويت إلى الفراش لم أحس أي ميل إلى النوم، فشرعت أقرأ ولا أدري متى نمت. ولكن استيقظت في الصباح في الساعة العاشرة فعرفت أن الكوكئين قد أرقني - أي نبهني - إلى الساعة الثالثة أو الرابعة من الصباح، وتأخري في الاستيقاظ هو وحده الذي أذكرني أني تناولت قليلا من ذلك السم في المساء السابق.
كفاحي الثقافي
واختباراتي الصحفية
الثقافة إما أن تكون راكدة وإما مكافحة. وهي تركد حين تعالج الموضوعات لا تثير المناقشة. وقد يرجع هذا إلى أن المجتمع نفسه مستقر يعيش في بيئة زراعية مثلا، أو أن حق الحكم منفصل منه حين يتولى شئونه مستعمرون مثلا. وقد بقينا نحن على هذه الحال نحو أربعين سنة فيما بين 1882 و1922 كان مجتمعنا فيها منفصلا من الإدارة الحكومية إلى أن تقررت لنا حقوق بالدستور. وكان المتولون من الإنجليز - الذين لا تجدي المناقشة الصحفية معهم - عن موضوع تعليمي أو صحي أو اقتصادي. وأذكر أن المرحوم عوض واصف حين أنشأ مجلة «المحيط» في 1903 قال في العدد الأول: إن مجلته ستعالج الشئون السياسية والحكومية. فردت عليه «المقتطف» بأنه ليست هناك جدوى؛ لأن المتولين لهذه الشئون إنجليز لا يقرءون العربية.
ولكن مجتمعنا أثار المناقشة وجعل الثقافة الدينية - عن طريق محمد عبده - ثم الثقافة الاجتماعية - عن طريق قاسم أمين - موضوعا للمناقشة الحية. وكانت حالنا في تلك السنين أشبه بحال روسيا أيام القيصر؛ فقد كان المفكرون الروس ممنوعين من نقد السياسة، فاتجهوا إلى الأدب. وكان علينا في مصر حظر عام بشأن السياسة وانتقاد الحكومة، فاتجه النقد نحو المجتمع.
وفي أيامي الأولى، في بداية وجداني الأدبي، وجدت مجلات «المقتطف» و«الهلال» و«الجامعة»، من المحركات الذهنية، بل أكسبتني هذه المجلات توجيها تجديديا في العلم والأدب. وكنت قانعا بهذه الثقافة. ولولا حادثة دنشواي لما التفت إلى السياسة أدرس أصولها وأعنى بتفاصيلها في السنين العشر الأولى من هذا القرن.
وكانت نظرية التطور التي فهمت مغزاها من «المقتطف» البذرة الخصبة في ثقافتي. فقد أكسبتني معرفة وأسلوبا، وعينت لي أصدقائي وخصومي من المؤلفين والمفكرين. وغرست في نفسي مزاج الكفاح لأنها تصدت للعقائد والتقاليد. وقد تشعع الكفاح من هذه البؤرة إلى موضوعات أخرى. ولذلك لم أسعد قط بالبرج العاجي. كما أن مغزاها الخطير في التفكير العلمي والاجتماعي جعلني دائم الشك كبير الاستطلاع والمساءلة. وتغيرت الأوزان والقيم عندي، وأخذت بقيم وأوزان جديدة ترى على فجاجتها في «مقدمة السبرمان» التي ألفتها وسني نحو 19 سنة.
ففي هذه الرسالة أجدني أقول بالاشتراكية واليوجنية والتطور وتنظيم الدولة والمجتمع الاشتراكي لإيجاد السبرمان أي الإنسان الأعلى الذي نكون نحن منه بمكان الغوريلا أو الشمبنزي منا. وقد كان التفكير عندي في هذه الشئون أقرب الأشياء إلى ما يمكن وصفه بأنه «غيبيات» عملية، أخذت مكان الغيبيات الدينية وقتئذ. وفي السنة التي ألفت فيها هذه الرسالة 1909 نشرت مقالا في «المقتطف» بعنوان «نيتشه وابن الإنسان» وفي «الهلال» مقالا عن الاشتراكية التي أسميتها وقتئذ «الاجتماعية»، وهذا الاسم الثاني أقرب إلى الكلمة الأوروبية من كلمتنا الشائعة الآن «االاشتراكية». وألفت رسالة في هذه الموضوعات بعثت بها إلى مطبعة المقتطف كي تطبع، فردتها إلي المطبعة مع نحو ثماني صفحات مجموعة - وكنت في لندن - واعتذرت عن التوقف عن الطبع لأن القانون في مصر يعاقب على نشر هذه الآراء ونزلت عن أجر الطبع للصفحات الثمان.
وقد كان هربرت سبنسر يقول إنه يستطيع أن يعرف المستوى الذهني لأي إنسان بعد مدة قصيرة من التحدث معه. وهو يعني بهذا أن لكل منا كلمات أو عبارات محورية تتكرر أو يلتفت إليها الذهن كثيرا، وهي تدل على اهتمامات المتكلم أي تدل على ثقافته مادة واتجاها. وحين أرجع إلى نفسي أبحث عن الكلمات التي تتكرر في مؤلفاتي ومقالاتي أجد أن أكثرها تكرارا: التطور، العالمية، حرية المرأة، العلوم، الحضارة الصناعية، الرجعية، المستقبل. أي إنها كلمات تدعو إلى تغييرنا.
وأجد أن تفكيري في السياسة والثقافة كان على الدوام يساريا، وفي الأغلب ارتياديا. ومما يلاحظ أن جميع الكتاب في مصر بدءوا حياتهم الأدبية مذهبيين ارتياديين، ثم انتهى كثير منهم إلى ملاذ التقاليد يدعون إلى الفعل الماضي بدلا من اقتحام المستقبل. كما أني أجد أن لي استغراضا ديمقراطيا في جميع ما أكتب يحملني على مكافحة الظلمات الذي لا تزال حية في الشرق العربي: في الاجتماع والاقتصاد والعقيدة. ولكن لم يتغير موقفي من حيث إني كاتب مذهبي يساري أكافح الرجعيين الذين يجدون الحكمة خلفنا لا أمامنا، كما أكافح أيضا الإقطاعيين الذين يعارضون الاتجاهات الديمقراطية في الأمم العربية. وليس شك أن لوضعي الاقتصادي الاجتماعي من حيث إني من الأقلية المسيحية أثرا في اتجاهي الثقافي اليساري. فإن اليهود - وهم أقلية في أوروبا - كانوا ولا يزالون يحملون علم الثقافة اليسارية في السياسة والاجتماع والاقتصاد.
وقد كانت حياتي الصحفية في مصر ثقافية إلى أبعد حد؛ فقد أخرجت «المستقبل» في 1914 وجعلته للكفاح الفكري، ولم ألتفت فيه إلى السياسة، وأخرجت منه 16 عددا. وكان شبلي شميل من محرريه ومؤيديه. ثم اشتغلت بالهلال ثم بالبلاغ. وفي هذه الجريدة الأخيرة اشتبكت بالسياسة. ولكن همي الأول واهتمامي الأكبر كانا بالصفحة الأدبية. وهناك ثلاثة كتب هي «نظرية التطور وأصل الإنسان» و«مصر أصل الحضارة» و«التجديد في الأدب الإنجليزي الحديث» نشرتها كلها فصولا متتابعة في «البلاغ» قبل أن تجمع في كتب ووجدت من عبد القادر حمزة ليس الصدر الرحب فقط بل التشجيع أيضا على أن أمضي في هذه البحوث.
أما «الهلال» فقد حررته من 1923 إلى 1929، وكان من شروط عملي فيه أن أؤلف كل عام لقرائه كتابا جديدا يقوم مقام العطلة حين كان ينقطع شهرين. وكان بعض هذه الكتب للتسلية مثل «أشهر قصص الحب التاريخية» وكنت أؤديها على سبيل الواجب الحرفي. ولم تكن تكلفني مجهودا، ولكن كان بعضها الآخر يحملني على البحث والدراسة. فكنت أؤلف وأنا أتعلم، مثل «حرية الفكر وتاريخ أبطالها» و«العقل الباطن». والحق أن هذه المؤلفات التي ألفتها وأنا بالهلال ثم بالبلاغ كان كل منها بمثابة المدرسة التي علمتني وأمدتني بالغذاء الذهني سنوات. بل حتى المقالات التي كنت أنشرها في «الهلال» و«البلاغ» وجدت من الناشرين اهتماما، فطبع بعض منها مع تنوع موضوعاتها باسم «مختارات سلامة موسى» و«اليوم والغد» و«في الحياة والأدب».
وقد سعدت بهذه المؤلفات على قلة بل تفاهة ما كسبت منها ماليا. وذلك أني كسبت تربيتي، كما كسبت هذا التغير الذي وجدته فيمن قرءوها، وهو تغير كان أحيانا يصل إلى التطور بل الانقلاب. وفيما بين 1923 و1930 أثير غبار في القاهرة بشأن التجديد في الأدب، وكان كل أديب يفهم من معنى هذا التجديد غير ما يفهمه الآخرون، كل تبعا لمزاجه واتجاهه وثقافته. وأستطيع أن أعين الاتجاهات التجديدية لتلك المناقشات الحامية كما أذكرها الآن فيما يلي: (1)
أن يكون لنا أدب مصري عصري لا يرتكن إلى الأدب العربي القديم. (2)
أن يكون لنا أسلوب عصري في التعبير لا يمت إلى الجاحظ أو غيره، مع مداعبة مستحيية للغة العامية ... وهي مداعبة لم تثمر. (3)
أن نأخذ بالأوزان والقيم الأوروبية في النقد الأدبي دون أوزان الناقدين القدماء وقيمهم كالجرجاني أو ابن الأثير أو ابن رشيق. (4)
أن نجعل الأدب يتصل بالمجتمع ويعالج شئونه ويندغم في مشكلاته. (5)
أن نوجد القصة والدرامة المصريتين. (6)
أن نجعل الأدب إنساني الغاية عالمي المشكلات.
والمؤلف بالمقارنة إلى الصحفي يعد ناسكا. فإن المؤلف ينزوي في غرفته باحثا منقبا، ولكن الصحفي يخرج ويختلط بالمجتمع. ومع أن أكثر مجهودي في الصحافة كان ثقافيا في بحث العلوم والآداب فإني قد مسست السياسة أيضا، وأحيانا اقتحمت غبارها حتى عصفت بي في كثير من الأوقات. ولكن أعظم ما يعزيني أن ما عصف بي كان أيضا يعصف بالأمة، وأني في كفاحي الصحفي كنت أكافح للديمقراطية التي حاول المستبدون أن يحرمونا منها.
وأول اختباري للصحافة كان في «اللواء» في 1909. فقد قضيت فيه نحو أربعة أشهر مع فرح أنطون. وكان يرأسنا رجل مهذب مستنير يدعى عثمان صبري وكان صهر مصطفى كامل، وكان قد تولى الرياسة بعد المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش الذي كان قد أغضب الأقباط بكلمات نابية. وكنا نكتب في المطالبة بالجلاء، ولا مفاوضة إلا بعد الجلاء. وهذه العبارة كان يستنكرها بعض الساسة في مصر، أما الآن فلا تستنكر. وقد عمل بها الهنود حين أصروا مدة الحرب الكبرى الثانية على شعار «اتركوا الهند». وقد بقي فرح طوال عملي معه باللواء وهو يظن أني مسلم؛ لاشتباه اسمي، ولأنه لم يكن في كل ما أكتب ما يدل على وجهة طائفية خاصة. أما عثمان صبري فكان يعرف أني قبطي، وكان كثيرا ما يذكر مقالات الشيخ عبد العزيز جاويش بالاستنكار أمامي ويتفادى من نشر أي مقال يوهم الشقاق بين المسلمين والأقباط. وقد كسبت من «اللواء» مرانة صحفية حسنة، وكنت أكتب الخبر والمقال في السياسة الداخلية والسياسة الخارجية. ولم يكن للمخبر في تلك الأيام قيمة كبيرة. وكانت الجرائد «مقالية» أكثر مما كانت خبرية؛ وذلك لأن الكفاح من أجل الاستقلال كان يستغرق كل اهتمامها تقريبا، فكان جميع كتاب الجريدة تقريبا محررين.
وفي العقد الأول من هذا القرن كان طراز «اللواء» جريدة الحزب الوطني يغلب على الصحافة؛ لأنه كان الجريدة الناجحة. وكان أسلوبه خطابيا إذ كان مصطفى كامل يعتقد بحق أن الصحافة يجب أن تكون في خدمة الوطنية وأن تثير حماسة الجمهور وتنبه وجدانه الوطني. ولذلك لم تكن العناية بالأخبار الخارجية كبيرة بل لم تكن هناك أقل عناية بها. إذ كانت تختصر أو تقتضب في نصف أو ربع عمود من التلغرافات . أما سائر الجريدة فكان معظمه يرصد للمقالات التي تندد بالإنجليز المحتلين أو تثير الجمهور. وكان لذلك أول شرط للكاتب الصحفي أن يكتب في أسلوب فصيح بعبارات صارخة. وبقيت هذه الحال تقليدا في الصحافة إلى حوالي 1930 حين شرعت جرائد «الخبر» بدلا من جرائد «المقالة» في الظهور. وما زلنا إلى الآن 1947 نجد من بقوا من الصحافة القديمة كبيري العناية باللغة قليلي العناية بالمعارف العامة عن المشكلات العالمية أو العلمية أو الاجتماعية، بل نجد بين بعض القراء إساغة لهذه الكتابة الأسلوبية.
وكانت الجرائد في ذلك الوقت «شخصية» فكنا نقرأ الجريدة لا لأنها حافلة بالأخبار أو الصور بل لأن فلانا يكتب فيها مقالا. بل كانت المخاصمات أيضا شخصية. فكان «المؤيد» يشنع على مصطفى كامل لأن الخديوي عباس صفعه. وكان «اللواء» يشنع على الشيخ علي يوسف صاحب «المؤيد» لأنه لم يكن كفئا لزواج كريمة السادات السيدة صفية بل كان «المقطم» يدخل في هذه المخاصمات ويتكلم أيضا عن زوجة الشيخ علي يوسف.
وظهرت أولى المجلات الفكاهية حوالي 1900، وكانت مادتها الأساسية تهزئة الإمام العظيم محمد عبده. وكان يشاع أن الخديوي عباس باشا كان يحرضها على اتخاذ هذا الموقف لأنه كان يكره الروح العصري الذي كان يدعو إليه الإمام في الأزهر. وظني أني أنا أول من أخرج مجلة أسبوعية جديدة هي «المستقبل» في 1914.
ولما تركت «اللواء» وعدت إلى أوروبا بقيت الصحافة خيالا ساحرا في ذهني. ورجعت إلى مصر واستطعت في 1914 أن أحقق هذا الخيال بأن أصدرت مجلة «المستقبل» الأسبوعية، ولكن لم أصل إلى العدد السادس عشر حتى كانت الحرب الكبرى الأولى قد شبت، وارتفع سعر الورق نحو عشرة أضعاف سعره السابق. وكان لا بد أن أعطلها. ولكن التعطيل جاءني بطريق آخر. ففي ذات يوم وأنا أفكر في مشكلة الورق طلبتني إدارة المطبوعات. فقصدت إليها غير عابئ بما يحدث. وكانت الإشاعات كثيرة بشأن تعطيل المجلات والجرائد. وهناك قعدت أمام أحد الموظفين السوريين الذي حياني وطلب لي القهوة، وجعل يلاطفني بكلمات عذبة. ويسألني عن المجلة وهل هي رائجة أم أني أخسر فيها. ثم بعث في طلب رجل إنجليزي. وجاء هذا وقعد قبالتي يستمع دون أن يتكلم. ثم شرح لي هذا الموظف حرج الموقف وضرورة وقف - أي تعطيل - بعض المجلات. ومع أني لم أكن أبالي التعطيل - كما قلت - فإني وجدت فتنة سيكلوجية في متابعة البحث والمناقشة وخاصة أمام هذا الإنجليزي. فأبديت أني قادر على إصدار «المستقبل» مهما كانت الصعوبات. فتلاحظ الاثنان وأنا مفتون بالموقف. وأصررت على أني سأصدرها إلى آخر الحرب، وأني سأدعو فيها إلى الاشتراكية. وعاد الموظف السوري يخاطبني في ملاطفة مسرفة ويقول إني أستاذ وعاقل ... إلخ، وأصررت أنا على العناد.
وأخيرا صرح في غير ملاطفة بأن إدارة المطبوعات تستطيع التعطيل. وأن المناوئين للحكم في الظروف الحاضرة الشاذة يمكن نفيهم أو اعتقالهم. وكان هذا ما أردت أن أسمعه، فنهضت وقلت إني سأعطل المجلة، وخرجت.
وليس عندي مجموعة من مجلة «المستقبل»، ولكن بعض القراء ما زالوا يقتنونها مجلدة تحتوي الأعداد الستة عشر التي صدرت. ومقالاتها تدل على تفكيري وقتئذ. ويعبر هذا التفكير عن اتجاهي الذهني العصري. فإن فيها مقالات عن نيتشه. وبها مقال كله فجور إلحادي عنوانه «الله» وهذا غير قصائد ومقالات لشبلي شميل وكان يدعو فيها إلى نظرية التطور وإلى المذهب المادي. وأجد بها بحثا عن «الضمد» عند العرب أي زواج المرأة لجملة رجال. والخلاصة: كان المستقبل يدعو دعوة عصرية بل مستقبلية فجة خاصة. وكنت أبيع منه نحو ستمائة نسخة في الأسبوع. وهذا غير المشتركين المتحمسين. وظني أنه كان يمكن أن ينجح ويؤدي رسالة الهدم والبناء التي كنا نحتاج إليها لولا ظروف الحرب في 1914. ولم تظهر بعد «المستقبل» مجلات من طرازه التحريري. ولما عمدت إلى إخراج «المجلة الجديدة» في أواخر 1929 كنت قد تأثرت بالفن الصحفي، كما أن الظروف المصرية كانت قد دجنتني تدجينا سيئا. فخبت النار وباخت الحماسة وأخذ الاعتدال مكان الغلو.
وأرسلت إلي مي عقب التعطيل خطابا تطلب مني أن أحرر «المحروسة» وكانت جريدة يومية قليلة الانتشار يصدرها والدها، فقبلت، وبقيت أحررها جملة أشهر سئمت بعدها الكتابة مع المراقبة الصارمة التي كانت تفرضها إدارة المطبوعات على الصحف. ولم يكن يخفف من هذا السأم سوى زيارات مي ومؤانستها لنا من وقت لآخر؛ فقد كانت حلاوتها تمتزج بظرف ورقة.
وبقيت طوال الحرب الكبرى الأولى وأنا معطل. وقد قضيت معظم سني هذه الحرب في الريف في عزبتنا بالقرب من الزقازيق ... وكانت تلك الأيام بمثابة الحضانة. فقد أكببت على القراءة الجدية في الآداب والعلوم واستوعبت منها كثيرا. وكنت من وقت لآخر أقصد إلى مأمور المركز في الزقازيق كي أرجوه في الإفراج عن أحد الذين قبض عليهم من الفلاحين. وكانت الحكومة تنفذ شرطتها إلى الأسواق الريفية العامة فتقبض على من تستطيع من هؤلاء المساكين وتربطهم بالحبال الغليظة كما لو كانوا أسرى حرب. ثم يبعثهم الإنجليز إلى فلسطين وكانوا يموتون بالمئات والألوف. ولم أكن أنجح في تخليصهم إلا بالرشوة.
وسئمت الركود الريفي، فاشتغلت بالتعليم فترة. ثم هبت الثورة في 1919 ورأيت أن أقصد إلى القاهرة حتى أكون على صلة بالحوادث وحتى أجد منفذا جديدا إلى الصحافة. وتحقق لي ذلك؛ فإني بعد أن اشتغلت بالتعليم في مدرسة التوفيق قليلا اشتركت في تحرير «الهلال» واشتركت أيضا في تحرير «البلاغ».
وانغمست في السياسة مع المرحوم عبد القادر حمزة. وكنت أزور معه سعدا. وكان عبد القادر حمزة من الكتاب الأفذاذ إذا نشب في موضوع لم يترك الجدل فيه حتى يستقصيه ويخرج منه منتصرا. وكان نزيها في حكمه حتى حين كان يختلف. فإنه بعد أن ترك الوفد في 1931 بقي على صداقته السابقة مع كثير من الوفديين.
وأصدرت «المجلة الجديدة» في أواخر 1929. وأصدرت «المصري» في السنة التالية. وكانت الأولى شهرية والثاني أسبوعيا. وكانت الدعوة في كليهما تحريرية في الثقافة والسياسة. وعصفت بنا في 1930 عاصفة سياسية في وزارة إسماعيل صدقي باشا، فألغى الدستور واستبدل به آخر بعيدا عن الديمقراطية. وألغيت مجلتاي. وكان قد شرط في قانون النشر الجديد أن من يطلب امتيازا لجريدة أو مجلة جديدة يجب أن يؤدي تأمينا قدره 150 جنيها. فأديت التأمين نقدا، ولكنه رفض. وبعد ثلاث سنوات أي في 1934 جاءت وزارة عبد الفتاح يحيى باشا، فاستطعت أن أعيد إصدار «المجلة الجديدة» بضمان عامل في المطبعة عندي ... وهذه هي حالنا في مصر: في وزارة يرفض التأمين النقدي وفي وزارة أخرى يقبل ضمان العامل الذي لا يملك شيئا.
وفي بداية الحرب الكبرى الثانية أنشئت وزارة الشئون الاجتماعية، فاستدعتني كي أحرر مجلتها. وقبلت لأني وجدت أن الفرصة تتيح لي الإرشاد العصري والتوجيه الاجتماعي. وبقيت أكتب في هذه المجلة نحو سنتين. وكانت مقالاتي يوقع عليها بإمضائي أو تنشر بلا إمضاء. فإذا راقت المشرفين على المجلة وضع لها إمضاء غيري حتى ولو لم تكن له علاقة بالوزارة. وقد كان هذا العمل مثارا للسخرية أحيانا وللأسف أحيانا.
وكنت أتناول عشرين جنيها راتبا شهريا على التحرير دون أي اشتراط على القدر الذي أكتب أو على مواظبة الحضور. فكان يمضي الشهر دون أن أحضر للوزارة، وكنت أكتب أي قدر شئت من الصفحات. ولكن الوزارة ضنت علي بهذه الحرية مع صغر الراتب. فألغته وعينت أربعين قرشا للصفحة الواحدة. ورأيت آخر الشهر بعد هذا النظام أن كل ما حصلت عليه هو جنيهان فقط، فتركت التحرير.
وكنت طوال عملي بالوزارة أصدر «المجلة الجديدة» أيضا. وبقيت على ذلك إلى 1942 حين سلمتها لبعض الإخوان الأصدقاء كي يقوموا بنشرها وكي أختص أنا في التحرير السياسي. ولكنهم نزعوا نزعة ديمقراطية يسارية مسرفة لم ترض الاستعمار، فألغيت في تلك السنة بأمر عسكري.
وفي السنة التالية اشتريت امتياز جريدة يومية. وقبلت إدارة المطبوعات نقل الامتياز الذي أثبت فيه أنها «يومية» وذكر فيه الضمان بأنه 300 جنيه أي ضمان جريدة يومية. وبعد أن قبل كل هذا وبعد أن استعددت لإصدار هذه الجريدة اليومية أقيلت وزارة الوفد. وفي اليوم التالي للإقالة في أكتوبر من 1944 أبلغتني إدارة المطبوعات أن الجريدة شهرية وأنه لا يجوز لي أن أصدرها يومية.
وعندما أقارن بين صحافة الجيل الماضي - من 1900 إلى 1920 - وصحافة الجيل الحاضر! أجد أننا قد تقدمنا وتأخرنا. أجل! تقدمنا في فن الطبع والإخراج تقدما عظيما جدا؛ فإن جرائدنا ومجلاتنا تدل على رقي فني يضارع أعلى المستويات الصحفية في أوروبا. ولكننا من حيث التحرير تأخرنا؛ إذ ليس عندنا الآن من المحررين من يضارعون مصطفى كامل أو علي يوسف أو لطفي السيد. وقد مات عبد القادر حمزة وهو آخر هذا الجيل المنقرض.
ولكن هناك مع ذلك علامة حسنة في الصحافة الحديثة، هي عنايتها الكبيرة بالأخبار الخارجية. فإن هذه العناية - التي كان مبعثها الحربين الأخيرتين - تنير القراء وتربيهم على النظر العالمي وبحث سياستنا من الزاوية السياسية العالمية الكبرى. وهذا حسن. ولكن انسياق الجرائد وراء الإعلانات قد حد من حريتها واهتماماتها. فإن جرائدنا مثلا تعنى بالميدان السينمائي الذي يغل لها الإعلانات، أكثر مما تعنى بالزراعة المصرية التي يعمل فيها الملايين ولكن لا تنتفع منهم الصحف بالإعلانات.
وقد دلتني اختباراتي في السياسة والثقافة على أن بضع مقالات في السياسة أحيانا تعود بمثل الربح المالي الذي يعود من تأليف كتاب كامل قد احتاج إلى دراسة السنين. ولذلك فإن التأليف في مصر تضحية كبيرة لا يرضاها إلا المهوسون بالثقافة. ولذلك أيضا أصبح كثير من الأدباء الذين افتتحوا حياتهم بالتأليف صحفيين.
وذات مساء وكان ذلك في 12 يوليو من هذا العام 1946 كنت نائما على الأسفلت في غرفة مظلمة في سجن الأزبكية مع نحو أربعين من المتهمين بالسرقة والضرب والفسق والقتل وحيازة المخدرات وغير ذلك. وكانت تتهمني أني أفكر وأدعو إلى الجمهورية أو الشيوعية. وكانت خشونة الأسفلت تمنعني من النوم وتؤلمني فأرقت. وأخذت ذاكرتي تعرض لي فلم حياتي الماضية. فذكرت الحرية التي كنت أتمتع بها في 1914 حين كنت أكتب مقالات في «المستقبل» لو أن بعضها نشر هذه الأيام لقاد إلى السجن. وذكرت العناء الذي لقيته في الدراسة والتأليف، وعددت نحو عشرين كتابا ألفتها لأبناء وطني أخلصت فيها النية وبذلت المجهود كي أنير وأعلم، وكي أسمو بالشباب إلى مثليات القرن العشرين وأخرجهم من ظلمات القرون الماضية. ثم تأملت حالي على الأسفلت الخشن، وكيف أني لم أجمع مالا ولم أحصل حتى على الكرامة التي يستحقها من يخدم ويخلص في الخدمة. وكان إلى جنبي نصف رغيف هو عشائي الذي قررته لي الحكومة المصرية جزاء هذا العمر الذي قضيته في خدمة مصر. وأخذت أفكر وأجتر التفكير وعقلي يتضور من الألم، إلى أن أصبح الصباح ودخل علينا رجل بقفة فيها خبز، فناولني رغيفا للفطور وضعته فوق نصف الرغيف الذي تناولته في المساء السابق. وهكذا يفعل بنا الاستعمار والاستبداد المتحالفان.
كفاحي السياسي
كنت طوال إقامتي في أوروبا أدرس السياسة من الجرائد اليومية الإنجليزية والفرنسية وأستمع إلى المحاضرات الحزبية التي يلقيها الدعاة البارزون من الأحزاب. ولكن التفاتي إلى السياسة كان بمثابة النشاط الموجي على السطح. أما في الأعماق فكانت التيارات التي تحفزني وتوجهني اجتماعية ثقافية. فقد كنت مثابرا على الملاحظة المباشرة للمجتمع الأوروبي أقابل بينه وبين المجتمع المصري في مركز المرأة ونظام العائلة بل نظام البيت وأحوال العمال في المدينة والريف والحرية أو بالأحرى الحريات العامة في البيت والمجتمع والصحافة والخطابة. ومن ذلك الوقت إلى الآن - أي من 1907 إلى 1947 - وأنا أكافح في جبهات متعددة سياسية واجتماعية واقتصادية. وأحيانا تتداخل هذه الجهات أو تمتزج حتى تصير جبهة واحدة. كما حدث مثلا في 1930 حين كنت أقف في صف الوفد في مكافحة الطغيان الذي حاول إسماعيل صدقي باشا أن يعممه بعد أن ألغى دستور 1923 كما سبق أن ألغى الإنجليز دستور عرابي في 1882. ولكن حتى في هذه المعمعة السياسية التي هبت في الأمة تقاتل المستبدين والمستعمرين معا كنت أيضا أكافح كفاحا آخر من أجل الاستقلال الاقتصادي. فألفت جمعية «المصري للمصري» لإيجاد وجدان - أي وعي - وطني اقتصادي.
وكانت الأحزاب السياسية في أوروبا قد شرعت حوالي 1910 تتجه اتجاها اشتراكيا. وكان هذا الاتجاه على أقواه في ألمانيا وفرنسا وعلى أضعفه في بريطانيا. بل الحق إنه لم يكن في 1909 في مجلس العموم الإنجليزي غير اشتراكي واحد - من نحو 600 عضو - يدعى فكتور جرايسون، وكان يجمع بين حماسة الشباب وحماسة المذهب. وقد حاول ذات مرة أن يقسر المجلس على المناقشة في شأن العاطلين. فقرر المجلس إخراجه. وكان يلقي الخطب في الاجتماعات الشعبية ويفخر بأن المجلس طرده. والغريب أن هذا الشاب اختفى فجأة ولم يعرف إلى الآن كيف كانت نهايته.
ولكن كان بمجلس العموم في ذلك الوقت حزب للعمال وحزب آخر يسمى «العمال المستقلين» يتزعمه كير هاردي. ولكن هؤلاء العمال جميعا لم يكونوا اشتراكيين مذهبيين ولم تكن الدعوة بينهم إلى الاشتراكية بل كانت دعوة متواضعة قانعة بزيادة الأجور للعمال وترقية أحوالهم المعيشية. وقد زرت كير هاردي في غرفته المتواضعة في لندن في 1909. وكان اسكوتلنديا في وجهه سماحة وطيبة قد أرخى لحيته. وكان يصر على اتخاذ قبعة العمال المخصوفة من القش. وكانت سكرتيرته آنسة مثقفة جاءت بعد ذلك إلى مصر وتولت رياسة التحرير لجريدة «ذي إجبشيان جازيت». وكان السبب لزيارتي لكير هاردي أني قرأت له كتيبا عن الهند شرح فيه ما رآه فيها من المظالم البريطانية للهنود. ورأيت في هذا الكتاب ما يثير وما يبعث على التفكير فيما يفعله الإنجليز في مصر. ولما قابلته قال لي إنه اشتراكي وإن الاشتراكية سوف تعم أوروبا ثم تنتقل إلى سائر القارات. وإن الاستعمار البريطاني يجب أن يزول من مصر والهند، وإن واجبنا الوطني الأول في مصر هو إخراج الإنجليز ثم إيجاد الإصلاحات الاجتماعية في المجتمع المصري.
وكانت الخطوط السياسية التي نراها الآن في السياسة العالمية في 1947 واضحة في أوروبا في 1909. ولكن الخطوط اليمينية كانت وقتئذ أبرز من الخطوط اليسارية. أي إن أصوات الاستبداد والاحتكار والحرب والاستعمار كانت عالية تنطق بها دولة القياصرة في روسيا ودولة السلاطين في تركيا، ثم دولتا الوسط في أوروبا. وأخيرا الإمبراطورية البريطانية وفرنسا. أما في 1947 فإن هذه الدول جميعها - باستثناء بريطانيا وفرنسا - قد زالت وأخذت الجمهوريات مكانها. كما أن الأكثرية السياسية للأحزاب قد أصبحت يسارية للاشتراكيين والشيوعيين في جميع أوروبا المتمدنة. وقولنا «المتمدنة» يستثني بالطبع إسبانيا وبرتغال حيث الفاشية لا تزال حية. وهذا اتجاه واضح لا يخطئه إلا المغفلون أو المتغافلون.
وقد أصبحت من تلك السنين أتوسم الأحزاب وأرود المستقبل في ضوء هذه الاتجاهات الاشتراكية العالمية. ولذلك لم تفاجئني الأحداث الكبرى مثل حرب 1914 التي بعثتها المباراة الاقتصادية بين ألمانيا وبريطانيا، أو مثل حرب 1939 التي بعثها الصراع بين أحزاب اليمين من المحافظين وبين أحزاب اليسار من الاشتراكيين والشيوعيين. وإن كانت هذه الحرب قد فقدت منذ بدايتها تقريبا روحها المذهبي واستحالت إلى النزاع الاقتصادي القديم بين بريطانيا وألمانيا، كما دخلت فيها مركبات اقتصادية أخرى.
ولما عدت من أوروبا وضعت رسالة صغيرة عن الاشتراكية. كما وضعت قبل ذلك رسالة أخرى عن «السبرمان» أي إنسان المستقبل. وكذلك لخصت كتاب جرانت الين عن «نشوء فكرة الله» وترجمت نحو 120 صفحة من قصة «الجريمة والعقاب» لدستويفسكي. وكل هذا النشاط قمت به فيما بين 1909 و1914. وهو يدل على أن أفكاري العامة الحاضرة كانت تتبلور في ذهني: السياسة الاشتراكية، والأدب الروسي والفلسفة الداروينية، مع النفور من الغيبيات.
وفي 1920 عقب الثروة هبت ريح الحرية في الجو المصري المكظوم. فألفت أنا والمرحوم الدكتور العناني والأستاذ محمد عبد الله عنان والأستاذ حسني العرابي، الحزب الاشتراكي. وأرخى لنا المستعمرون الحبل كي يعرفوا مدى نشاطنا والاستجابة التي نلقاها من الشعب. والحق أنها كانت استجابة حسنة. ويبدو أننا كنا نسير في اعتدال ونتقي المصادمات. وترجمت في ذلك الوقت «نداء إلى الشباب» لكوربتكين وهو الأمير الروسي الذي ترك إمارته أيام القيصر نقولا وانقلب كاتبا ومؤلفا وداعية للفوضوية. ولكن حدث فجأة أن أحدنا الأستاذ حسني العرابي وجد فينا بطئا لم يطق له صبرا. فقصد إلى الإسكندرية وأعلن «الحزب الإباحي». وكلمة «إباحي» كان يقصد منها ما يفهمه الجمهور الآن من كلمة شيوعي. وانشق عنا وانضم إليه كثير من الشبان الذين سرقوا دفاتر الحزب وقضوا عليه. وماتت حركتنا وقضت الحكومة على حسني العرابي بحبسه ثم تشريده في أوروبا. فقد سافر إلى ألمانيا وما هو أن بلغها حتى صدر قرار من مجلس الوزراء بحرمانه من الرعوية المصرية كي يمنع من العودة إلى مصر. وكثيرا ما اشتقت أنا إلى السفر إلى أوروبا ولكن خوفي من أن يلحق بي مثل هذا القرار كان يحملني على الدوام على النكوص. وليس على هذا الكوكب أمة تحرم أبناءها من رعويتهم إذا كرهت منهم مذاهبهم السياسية غير مصر. وهذا الحرمان من الرعوية يشبه - في صيغة عصرية - الحرمان من الكنيسة أيام القرون المظلمة. ولكنه الاستعمار البريطاني يحالف الاستبداد المصري على مطاردة كل من كان يتوهمان فيه خطرا على مركزهما الممتاز في مصر.
والاشتراكي المصري يجد نفسه في صف واحد مع الوفد؛ لأن الوفدية هي في صميمها الدعوة إلى الاستقلال. ولا يمكن اشتراكيا أن يفكر في أي برنامج اشتراكي ما لم يكن الاستقلال محققا ناجزا. ومن هنا الكراهة البريطانية لجميع الحركات الاشتراكية في العالم وليس في مصر وحدها.
والاشتراكية والاستعمار ضدان لا مصالحة بينهما؛ فالأولى تعاون ومساواة وعدل، والثاني استغلال وامتياز واحتكار وخطف. ولذلك أيضا نجد أن جميع الاشتراكيين في مصر هم قبل كل شيء وطنيون غالون في وطنيتهم لا يطلبون الاستقلال لمصر وحدها بل للهند والجزائر والعراق ومراكش وغيرها.
وتحدث أحيانا مصادفات مشئومة. فقد كنت في 1925 أو حوالي ذلك أكتب للبلاغ. وكان زيور باشا قد قام بأولى المحاولات لرد الأمة إلى عصر توفيق أي إلى حكم أتوقراطي بلا دستور أو بدستور صوري. فكتبت مقالا قلت فيه إن زيور يشبه أبا الهدى في حكومة عبد الحميد. وكان اسم أبي الهدى يزكم الجو بالدسائس والاستبداد. وكتب الأستاذ عبد القادر حمزة (باشا) - دون أن يعرف مقالي - مقالا آخر قال فيه إن مصر تحكم كما لو كانت تركيا أيام عبد الحميد. وقضت المصادفة بأن يخرج المقالان معا كأن هناك مغزى مقصودا. وقصدنا إلى بيت الأمة حيث قابلنا سعد باشا الذي أنذرنا بخطورة المقالين وبأن النيابة العامة سوف تقوم بالتحقق معنا في شأنهما. وكان سعد باشا في سنيه الأخيرة حتى لقد لاحظت أن ساقه كانت ترتعش ولكنه كان يقظ الذهن دكتاتوري اللهجة.
وقد سبق أن قلت إن كفاحي السياسي كان يمتزج في أحيان كثيرة بكفاحي الاجتماعي أو الاقتصادي. ولذلك ألفت في 1930 جمعية المصري للمصري كي أبعث الوجدان الاقتصادي للأمة . وكنا نجد في تلك السنة - حين ثار إسماعيل صدقي باشا على الدستور وألغاه - أن دعوتنا «المصري للمصري» تتفق ومقاطعة البضائع الإنجليزية. ووجدت هذه الحركة حماسة كبيرة بين الشبان. وكنا نحتم على أنفسنا اتخاذ جميع ملابسنا الخارجية والداخلية من الأقمشة المصرية باستثناء الطربوش. ولكن حتى هذا وجد من يصنعه من الصوف المصري الأبيض. وقد أرسل إلي أحد المتحمسين مثالا منه هدية يطلب مني اتخاذه بدلا من الطربوش الأحمر الذي كان يرد إلينا من أوروبا. وقد كان الأستاذ أحمد حسين رئيس جمعية مصر الفتاة وكيلا لجمعية المصري للمصري في كلية الحقوق حين كان طالبا بها. فلما كافحنا إسماعيل صدقي باشا، وقتل من مجلاتنا التي كانت تنشر دعوتنا أكثر من عشر مجلات ووقفنا مضطرين عن الحركة، عمد أحمد حسين إلى إحيائها أو بعثها ولكن بصورة قد يستنكرها البعض. والحق أنه كان فيها كثير مما يستنكر مثل الهجوم على الحانات، أو مداعبة الآراء الفاشية، ومدح موسوليني أو هتلر، ونحو ذلك.
ولا بد أن أذكر أنه كان هناك لاستقلال الهند مكانة كبيرة في تفكيري السياسي. وعندي أن مشكلة الهند - بل مشكلة أي مستعمرة في العالم - هي أيضا مشكلة لمصر؛ لأن استقلالنا يقتضي مكافحة الاستعمار أينما وجد. ولذلك ألفت كتابي عن «غاندي والحركة الهندية». وأعجبني من غاندي أنه كان ولا يزال يكافح في جبهتين هما الإنجليز المستعمرون والتقاليد الهندية التي فسدت وتقيحت في جسم الأمة الهندية المريضة. كما أنه بعث نشاطا اقتصاديا بتعميمه المغزل بين الريفيين. ولقد أرسلت إليه في 1931 خطابا أطلب منه المؤلفات الخاصة بحركة الغزل والنسيج التي يقوم بها الفلاحين الهنود وأيضا بعض أدوات الغزل التي تستعمل في الهند. فأرسلها كلها إلي. ولكننا بعد الدرس لموضوع الغزل لم نجد أننا قادرون على إيجاد مثل هذه الحركة في مصر. ذلك أن المغزل اليدوي قليل الإنتاج لا يغل للغازل عيشا كافيا في مصر. وإن كان يغل هذا العيش الكافي للفلاحين الهنود لأن مستواهم الاقتصادي دون مستوى فلاحينا. ولكن وزارة التجارة والصناعة تحاول الآن في 1947 أن تجد مغزلا ريفيا يستحق عناية فلاحينا ويشغل فراغهم في بعض أشهر الشتاء.
وهذا النشاط الاقتصادي أو الوطنية الاقتصادية التي قمنا بها في 1931 قد بعثت روحا جديدا من اليقظة والإحساس الوطني. حتى لأذكر أن ضابطا من البوليس حضر لتفتيش مكتبي في إحدى الهجمات التي كانت تتوالى علينا لضبط مجلاتنا ومصادرتها. فلما شرع يقرأ الخطابات الواردة إلينا من أنحاء القطر بشأن الصناعة والتجارة المصرية تغير موقفه فصار يدعو لنا بالنجاح ويمزق بنفسه الأوراق الخطرة.
وهنا يجب أن أذكر شخصية نبيلة قد فارقتنا للأسف منذ أربع سنوات هي المرحوم محمد عبد الصمد مدير مدارس رقي المعارف في شبرا. فإنه كان وكيل جمعية المصري للمصري حين كنت أنا رئيسا لها. وكنت قد كتبت مقالا أدعو فيه إلى إنشاء متجر في شارع فؤاد لا يبيع غير المصنوعات المصرية. وكانت البضائع المصرية لا تباع إلا في الأزقة النائية في السكة الجديدة في أطراف شارع الموسكي. ولما قرأ المرحوم طلعت حرب هذا المقال بعث إلي وأخذ يناقشني في هذا الموضوع، وخرجت من عنده قاصدا إلى المرحوم محمد عبد الصمد حيث اتفقنا على أن يعرض ألف جنيه يساهم بها في هذا المشروع. ونشرت هذا العرض مع صورة الشيك في الصفحة الأولى من إحدى المجلات التي كنت أنشرها. وكان هذا العرض بذرة المتجر القائم الآن باسم «شركة مصر لبيع المصنوعات المصرية» في شارع فؤاد.
ويجب ألا أنسى هنا أني في كفاحي السياسي ألتفت إلى موضوعين: أحدهما هو بعث النخوة الوطنية عن سبيل الإكبار من شأن الفراعنة. وقد وجدت ما يزيدني تأييدا لهذه الدعوة بما استفاض في أوروبا عامة وبريطانيا خاصة من أن مصر هي التي بعثت الموجات الأولى من الحضارة القديمة إلى أنحاء العالم وأخرجت الإنسان من العصر الحجري إلى عصر الزراعة. وكتابي «مصر أصل الحضارة» يقوم على هذه المعاني ويشرحها. أما الموضوع الثاني فهو الإكبار من شأن عرابي. فقد نشأنا على أن هذا الوطني العظيم كان خائنا لمصر وأنه هو السبب لاحتلال الإنجليز لوطننا. والحقيقة أن من يقرأ تاريخ هذه الشخصية المصرية المقدسة يتعجب للخسة التي بعثت خصومه على سبه والحط من شأنه. وليس في تاريخ مصر منذ أكثر من ألفي سنة من خدمها بروح الشرف والوطنية والنزاهة مثل عرابي. وقد كانت ترجمة كتاب بلنت «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر» من الجهود السارة التي قمت بها لجريدة «البلاغ»؛ لأن المؤلف كان صديقا لعرابي وكان واقفا على أهدافه الوطنية السامية.
وكذلك لا أنسى أني في سبيل الكفاح السياسي ألفت كتابين أحدهما «حرية الفكر وتاريخ أبطالها» في 1927 سردت فيه أطوار الكفاح التاريخي من أجل الحرية سواء عند الأمم العربية أم في أوروبا. ثم عدت في 1946 فأخرجت كتيبا بعنوان «حرية العقل في مصر» طلبت فيه إلغاء قوانين المطبوعات التي تحد من حرية الكتابة والصحافة وإلغاء إدارة المطبوعات التي تطلب استخراج «رخصة» عندما يرغب أحدنا في إصدار مجلة أو جريدة. والغريب أنه في نفس هذه السنة 1946 عاد حكم إسماعيل صدقي باشا المشئوم. فأصدر مشروع قانون لزيادة الحد من حرية الصحافة التي لم يكن يطيقها هذا الرجل. وتقدم وزير سابق هو الأستاذ فؤاد سراج الدين باشا لطلب امتياز أي رخصة لجريدة يومية فرفض طلبه. ومثل هذه الجرأة ليس لها نظير في أية أمة متمدنة على هذا الكوكب. أعني جرأة رجل مثل إسماعيل صدقي باشا على أن يفكر في زيادة القيود للصحافة المصرية وعلى أن يمنع وزيرا سابقا من أن يصدر صحيفة.
وكلما فكرت في كفاحنا السياسي أحس ألما للعقم الذي لازمه إلا القليل من الثمر الذي حاول المستبدون والمستعمرون إفساده. فقد أثمر هذا الكفاح دستورا غيره المستبدون مرة ثم عطلوه مرة ثم ألغوه واستبدلوا به آخر مرة. ونجحوا في أن جعلوا ديمقراطيتنا كاريكاتورية. ولكن مما يبعث السرور إلى نفسي أني لم أتضعضع ولم أترك المعسكر الوطني لمكافحة المستبدين والمستعمرين كما فعل كثير من الأدباء ممن طمسوا النور الذي كان في قلوبهم وأطفئوا وهج نفوسهم كي يصلوا إلى حياة أو مال فانخاروا إلى الاستعمار الأجنبي أو الاستبداد الوطني.
في خدمة الشباب
منذ تأسست جمعية الشبان المسيحية في القاهرة حوالي 1922 وأنا عضو فيها. ولكن عضويتي كانت شكلية إذ كنت قليل الزيارة لها. وبقيت على ذلك نحو ست أو سبع سنوات حين طلب مني سكرتيرها الأستاذ نجيب قلادة أن أقبل المناظرة مع الأستاذ توفيق دياب بشأن الأدب المكشوف والادب المستور. وكنت أنا في موقف الدفاع عن الأدب المكشوف باعتبار أن الأدب يجب أن يكون حرا طليقا لا يتقيد بأي قيد سوى ضمير الكاتب. وكان الأستاذ توفيق دياب يرى أنه يجب أن تكون هناك قيود وحدود اجتماعية لا يجوز للكاتب أن يتجاوزها.
وأحدثت هذه المناظرة اهتماما بين الشبان ولغطا غير منير في المجلات. وحوالي 1929 زاد اتصالي بالجمعية وعرفت سكرتيريها الأمريكيين والمصريين. ثم حوالي 1933 رغب إلي الأستاذ نجيب قلادة كي أكون مستشارا للمكتبة. ومنذ تلك السنة إلى الآن وأنا أزور الجمعية نحو ثلاثة أو أربعة أيام كل أسبوع تقريبا.
ورأيت في اتصالي بالشبان فائدة كبيرة لي ولهم؛ فقد كانت مهمتي الأولى أن أوجههم إلى القراءة وأعين لهم الكتب التي يستطيعون الانتفاع بها سواء أكانت عربية أم إنجليزية أم فرنسية. وكنا نعقد اجتماعا كل يوم اثنين نتحدث فيه حديثا «عائليا» وكلنا قعود، بعضنا يشرب الشاي أو يدخن على مقاعد مريحة. وكانت أحاديثنا تتناول بالطبع مشكلات الشباب سواء أكانت ثقافية أم جنسية أم عائلية. ولذلك كان الاتجاه الجنسي يزداد بروزا في هذه الأحاديث. ومن هنا الفائدة التي وجدتها لنفسي من هذه الأحاديث؛ فإن هؤلاء الشبان كانوا «المواد الخامة» التي استطعت أن أدرس بها الطبيعة البشرية.
ذلك أن هؤلاء الشبان كانت تترجح أعمارهم بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين؛ ولذلك كانت المشكلة الجنسية بارزة عندهم جميعا. وهذه المشكلة الأصلية تحرك مشكلات عائلية واقتصادية واجتماعية أخرى. وكثيرا ما وجدت أن أحد الشبان كان مثقلا أو مرهفا بالعاطفة الجنسية التي كان يتخلص منها بالعادة السرية. وكثيرا ما كنت أجد أن الخيبة في الامتحانات المدرسية تعود إلى الانغماس في هذه العادة التي يزيد خطرها فداحة أن الجنسين لا يختلطان. فإن اعتزال كل جنس للآخر يحمله على الاستسلام للخيال ثم يلتزم هذا الخيال حتى يعود وكأنه في «شيزوفرنيا» أي هذا الجنون الذي يتسم بالاستسلام التام للخيال والانفصال التام من الواقع ومن المجتمع.
وكثيرا ما فكرت في هذا الموضوع المعقد أي كيف يرفه الشاب الأعزب المرهق بالعاطفة الجنسية عن نفسه في مجتمعنا المصري الانفصالي. وما زلت أذكر شابا كان حوالي العشرين جاء إلي في ذل وصغار يلمح أحيانا ويصرح أحيانا بأنه لا يطيق حالته وأن يوشك على عمل خطير إن لم يتخلص من العادة السرية. وكان قد أمعن فيها حتى صار يحلم أحلاما جنونية، وكان يبقى طوال النهار التالي وهو مكتئب بسببها لأن هذه الأحلام كانت تبدو له حقيقية، وبكلمة أخرى شرع عقله يختلط.
ورأيت أن أنصح له بالرقص مع إحدى الفتيات. ونفر هو من هذا الاقتراح، كما كان ينتظر؛ لأن المستسلم لهذه العادة يؤثر الانفراد والخيال ويكره الاختلاط والواقع. ولكني بعد جهد استطعت أن أقنعه بأن يحاول هذه التجربة؛ إذ لعلها تنجح. وكان له أصدقاء يرقصون فرافقهم، وبعد المحاولات الأولى الفاشلة تم التعارف بينه وبين بضع فتيات وحذق بعض الرقصات وصار يزور المراقص.
ورأيته بعد نحو شهرين فخلوت به وسألته عن حاله فأخبرني - وأنا في دهشة عظيمة - أنه منذ تعلم الرقص كف عن العادة السرية. وكان تعليله عجيبا، فقد قال إن في الرقص من الشهامة والذوق والجمال - وهي صفات تلازم الرقص - ما يناقض الذلة والصغار والحقارة التي في العادة السرية. وتأملت الشاب وهو يصرح بهذه الكلمات فوجدت في وجهه وإيماءته مصداق ما يقول، فقد ذهب عن وجهه التردد والخوف وازدان بجرأة وشهامة.
وكان في هذا الكلام نور لي. وبالطبع كانت الحالات تختلف. فهناك من كان ينجع فيه النصح بالاهتمام بالكتب والثقافة. وهناك من كان يجد في النجاح المدرسي ما يشغله عن هذه العادة. ولكن الرقص كان من أعظم الوسائل الشفائية وخاصة للحالات الخطيرة.
وهذه المشكلات اضطرتني إلى أن ألقي أحاديث عديدة للشبان عن السيكلوجية. وكتابي الأخير في هذا الموضوع «عقلي وعقلك» قد ناقشت فصوله قبل كتابتها معهم في قاعة المكتبة. وكثير من مؤلفاتي قد ألقيت فصولها أحاديث عائلية وطرحت للمناقشة مع الشبان، مثل «البلاغة العصرية واللغة العربية» و«الشخصية الناجعة» و«التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا» و«فن الحياة» وهذه الكتب على ما يبدو من أسمائها تختلف في الموضوعات ولكنها تتفق في أن وجهتها جميعا سيكلوجية.
وكثير من أفراد الجمهور يعتقد أن جمعية الشبان «المسيحية» خاصة بالمسيحيين، مع أن الحقيقة أن بها نحو 300 أو 400 عضو مسلم وبها عدد كبير من اليهود. وقد حدث أن أحد الطلبة من الأزهر جاءني في ذات يوم وطلب إلي أن أدله على المكان الذي يستطيع أن يشتري منه الكتاب الذي ألفته أو طبعته الجمعية عن الإسلام. وكان يعتقد أن هذه الجمعية تبشيرية وأنها لا هدف لها سوى التبشير بالمسيحية. فلما أخبرته أني لا أعرف هذا الكتاب وأن بالجمعية نحو 400 عضو مسلم لا يعرفون أيضا دهش وتركني وهو لا يكاد يصدق. والتبشير هو أبعد الأهداف عن هذه الجمعية. وفي 1937 ثم في 1938 كان للجمعية مصيف قرب العريش وكان المصطافون من الأعضاء المسلمين والمسيحيين واليهود. وكانت العادة أن نبدأ الفطور بصلاة قصيرة يتناوب فيها مسلم بقرآنه أو يهودي بتوراته أو مسيحي بإنجيله.
ومما تمتاز به هذه الجمعية أنها دائبة في التطور وهي تتكيف بالبيئة. ففي العالم نحو مليوني شاب وفتاة في فروع هذه الجمعية. ولكن نظامها في الهند غير نظامها في مصر أو في برازيل أو في الصين. وإليك بعض مراحل التطور في جمعية القاهرة: (1)
حوالي 1926 أنشأت الجمعية قسما للصبيان الذي تترجح أعمارهم بين 10 و16 سنة. ويرأس هذا القسم الأستاذ يعقوب فام الذي تعلم في جامعة ييل بالولايات المتحدة قيادة الصبيان وإرشادهم وتكوين شخصياتهم وتقويم أخلاقهم. ولا يزال هذا القسم يربي وينشئ الصبيان وهو مفخرة للجمعية. (2)
حوالي 1933 أنشأت الجمعية نادي كوبري الليمون للصبيان المحرومين الذين يجمعون من الأحياء الفقيرة ويعلمون كيف يقضون وقتهم في أعمال وألعاب تعاونية اجتماعية تبعدهم عن التسكع في الشوارع. وهذا النادي هو أولى الحركات الارتيادية لتعليم الصبيان الفقراء في مصر . (3)
حوالي 1939 شرعت الجمعية تجيز التحاق الفتيات كي يختلطن بالشبان. وقد سارت على حذر في هذا المشروع فكان الاختلاط يحدث أولا مع عائلة الفتاة حتى إذا ألفت الفتاة هذا الاختلاط صار لها أن تحضر وحدها. وقد أدى هذا الاختلاط بين الشبان والفتيات - تحت أعين المشرفين اليقظة - إلى مظهر جديد من الشخصية للفتيات وإلى لباقة ورشاقة في الحديث والإيماءة بين الشبان. فإن من المناظر السارة أن نجد في الحديقة جماعة من الشبان والآنسات، أكثرهم - بل ربما جميعهم - من الطلبة والطالبات، يقعدون إلى المائدة يشربون الشاي ويتحدثون في أنسة وصراحة لم نكن نحلم بمثلهما في شبابنا. ويرأس هذا القسم الأستاذ حنا فام الذي تعلم أيضا في الولايات المتحدة ودرس هناك شئون «الواي» أي جمعية الشبان المسيحية.
وقد عاون قسم المكتبة في الجمعية على هذا الاختلاط بما أسماه «يوم العائلة» حيث يعقد اجتماع مسائي يوما في الشهر من عائلات الأعضاء الذين يتناولون الشاي ويستمعون إلى حديث قصير من إحدى السيدات أو الآنسات المشتغلات بالشئون الاجتماعية أو الثقافية. وفي خلال الاجتماع تعزف الموسيقا أو تجرى ألعاب للتسلية. والفضل في ذلك للأستاذ غالي أمين الذي تعزى إليه أفضال كثيرة أخرى في تنظيم المحاضرات والاجتماعات بالمكتبة. وهو الآن في أمريكا.
وفي الحرب الكبرى الثانية نشط البوليس السياسي في القاهرة ومنعني من إلقاء محاضرات في الجمعية إلا بعد أن تعرض على وزارة الداخلية التي توافق على إلقائها أو ترفضها. فكنت أكتب المحاضرة - أو كما نسميها في الجمعية «الحديث» - ثم أرسل هذا إلى المحافظة فيبقى أحيانا عشرين يوما قبل أن يرد إلي مع عبارات قد ضرب عليها حتى لا أقولها. ثم يحضر عضو من البويس معه نسخة من الحديث. فأقرأ أنا الحديث أمام الأعضاء ويراجع هو علي حتى لا أخالف ما هو مكتوب. وبعد نحو شهرين من هذه الحال رأيت أن الكف عن إلقاء الأحاديث أسلم، وكففت. وكتابي «التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا» قد روجع معظمه في وزارة الداخلية على هذا الأساس. فقد كنت ألقيه أحاديث تقرأ وتراقب قبل الإلقاء ...
وقد تأسست «جمعية الشبان المسلمين» على غرار جمعية الشبان المسيحية. ولكن العضوية قصرت فيها على المسلمين دون المسيحيين واليهود. وهذا عيب كبير لأن جمعيات الشبان المسيحية هي منظمات عالمية يراد بها الإخاء البشري الذي يتجاوز الاختلافات المذهبية والدينية والعنصرية.
وأحب أن أذكر شيئا عن سكرتيري هذه الجمعية في القاهرة. فقد مر ذكر الصديقين يعقوب فام مدير قسم الصبيان وحنا فام مدير قسم الطلبة. وكلاهما - كما قلت - قد تعلم في الولايات المتحدة على نفقة الجمعية تعليما اختصاصيا للعمل الذي يقوم به. وقسم الصبيان هو دار الشفاء للصبيان الذين يبتئسون بالبيت أو يفسدون بالشارع، أو هو دار وقاية أكثر مما هو دار شفاء. وقسم الطلبة من التجديدات الرائعة في الجمعية. والاتجاه نحو الاختلاط بين الجنسين في هذا القسم قد أثمر خير الثمرات ولم يحدث قط ما يدعو إلى الأسف.
وهناك الأستاذ مراد عصفور مدير القسم الرياضي. وهو أيضا قد أرسلته الجمعية إلى الولايات المتحدة كي يتعلم ويعود للقاهرة لإدارة الرياضة في الجمعية، وأخيرا هناك السكرتير العام وهو الأستاذ نجيب قلادة. وهو شخصية محبية قد اندغمت حياته في الجمعية حتى لأظن أنه يحلم بها في نومه. وهو رجل متبصر يحسب للمستقبل كثيرا ولا يتهور.
أما الشخصيات الأمريكية التي عرفتها بالجمعية فكثيرة، أقتصر منها على ذكر اثنتين فقط. الأولى شخصية السكرتير العام للجمعيات في الشرق الأوسط وكان يدعى ولبر سمث. وكان أعرج قد قطعت ساقه إلى الفخذ منذ الشباب لأن الدرن كان قد ضرب في عظامها. وكان مع عرجه يسوق الأتومبيل ويلعب التنس ويخطف درجات السلم. وكان نشاطه عجيبا حتى بعد الثانية والستين. يقرأ ويلعب ويختلط بالأعضاء. وكثيرا ما كنت أتعجب لوفرة ثقافته مع وفرة اهتماماته بشئون الجمعية. وإني أذكر أني ناقشته أكثر من ساعة عن فولتير وقيمته في حركة التحرير والتنوير في أوروبا. وكان يقتني الكتب وينفق عليها في سخاء. ولم تكن المناقشة معه محدودة أو مقيدة في أي موضوع. وهذا هو روح النشاط في قاعة المكتبة على الدوام. وهذا هو بالطبع ما أدى إلى هواجس وزارة الداخلية وتدخلها للرقابة أيام الحرب.
وهناك شخصية أخرى هي جيمس كواي. وهو أمريكي بقامته ووجهه وأخلاقه وميوله. فقد كان معنا حين كنا نصطاف بالعريش، فكان ينزل البحر عريان كما ولدته أمه في حين كنا نحن نعجز عن التخلص من رواسب الحجاب فكنا لا ننزل البحر إلا بعد أن نتخذ الكلسونات. ومما يدل القارئ على أسلوب المعاملة الذي يتبعه هذا الأمريكي مع خادمه أنه - حين كان يمنح إجازته - وهي سنة كاملة يقضيها في الولايات المتحدة إزاء كل أربع سنوات يقضيها في القاهرة، كان خادمه يقضي هذه السنة بلا عمل ينتظر رجوعه. ومن الشعائر التي كان كواي يتبعها أيضا مع خادمه هذا أنه كان يدعوه هو وعائلته - عائلة الخادم - إلى مائدته وتقوم المسز كواي بتهيئة الطعام وتقديمه لهم باعتبارهم ضيوفا. وفي هذه المجاملة مغزى إخائي لا يستهان به.
وفي أثناء الحرب الكبرى الأخيرة تبرعت حكومة الولايات المتحدة بنحو ألف جنيه للمكتبة لشراء كتب أمريكية. وقد انتفعنا كثيرا بهذه الهبة.
وأخيرا أقول إنه إذا كانت الجمعية قد انتفعت بي باعتباري مرشدا ثقافيا فإني أنا أيضا قد انتفعت بها بالوقوف على اتجاهات الشبان ومشاكلهم. وعندما أذكر بعض هذه المشاكل وأنه كان لي بعض الفضل في إزالتها يغمرني سرور عظيم.
وقبل نحو أربعين سنة كنا لا نعرف غير القهوة مكانا نقعد فيه ونفر من البيت إليه. وكانت بيوتنا خالية من وسائل الراحة ولا نقول الرفاهية، سيئة الطراز في البناء سيئة الجوار سيئة الأثاث. وقد تحسنت هذه الحال شيئا بين الطبقة المتوسطة ولكنها ازدادت سوءا بين الطبقات الفقيرة. ومثل جمعيات الشبان المسيحية وأيضا نادي كوبري الليمون يعد ملاذا يلجأ إليه الشاب أو الصبي ويتعود فيه المطالعة والمناقشة والحديث وألعاب التسلية النظيفة. بل يتعلم فيه الاختلاط المهذب مع الجنس الآخر. وهذا ما لم نكن نحلم به في شبابنا. ولذلك نجد أن للشاب الذي قضى سنتين أو ثلاثا في عضوية الجمعية سمات لا تخطأ. فهو لبق متحدث أنيس لا يعرف القعود على القهوة، يدرس السياسة ويقتني الكتب، ولا يخجل ذلك الخجل المربك من الحديث إلى الجنس الآخر. وكل هذه العادات قد تعودها من الجمعية.
من الأفلام الماضية
نستطيع أن نجمع الضوء بالعدسة فتتلاقى أشعته المتفرقة في بؤرة هي أضوأ نورا وأكثف أشعة، وليست هناك عدسة للزمن حتى تجمع فيها ساعاته ودقائقه في ثانية أو ثوان ... ولكن وجداننا يقوم أحيانا في المآزق والضائقات مقام العدسة، بحيث نعيش في لحظة خاطفة سنين طويلة، كما يحدث مثلا عندما توشك على الغرق ويغشانا الماء ونتعلق بين الحياة والموت. ففي هذه الحال ينبسط أمامنا «فلم» من الذكريات التي مضت عليها السنين ...
كنت مرة على جزيرة وايت حوالي سنة 1908، في جنوب إنجلترا، وكنت أسير على شاطئ صخري هاو يرتفع أكثر من مائة متر ... وبينا أنا في سيري أتأمل البحر إذا بقطيع من الغنم تتقدمها كباش قد برزت قرونها في وحشية مروعة تتجه نحوي في هرولة طار لها عقلي فوثبت كي أتجنبها. ولكني في وثبتي رأيتني على حافة الهاوية أكاد أسقط. وفي تلك اللحظة الحرجة رأيت فلما من أفلام طفولتي يمر بذاكرتي في سرعة برقية.
فهنا مأزق من مآزق الحياة قل إن خلا أحد من تجربته أو ما يشبهه: خطر داهم يجمع ذكرياتنا في بؤرة تسطع منيرة في وجداننا ... ولذلك نذكرها طيلة حياتنا. ولكن هناك تجارب أخرى يتكاثف فيها الزمن وتتجمع في وجداننا. وهي أيضا نتيجة المأزق الحرج الذي لا يبلغ الموت ولكنه يدانيه في عمق الإحساس وتنبه الوجدان.
وليس من الضروري أن يكون هناك خطر متوقع، ولكن لا بد أن يكون هناك ألم يحز كأنه الموت. كنت ذات مرة في باريس أجلس على قهوة ومعي إخوان نتحدث عن السياسة. فتطور الحديث إلى نقاش حام. فاحتد أحد الشبان الفرنسيين علي لأني خالفته وقال لي: «لا تناقش ... ليس لك هذا الحق. الإنجليز أسيادكم!»
وتبالهت. وتضاحكت ... ولكني شعرت كأنما شربت سما، وأن أمعائي تتمزق. ونهضت وقصدت إلى غرفتي، وانبطحت على السرير وأنا أبكي. وبعد ذلك لم أكن أصدم في أي مدينة في أوروبا بأي شخص أقل مصادمة إلا ويهتف بي صوت داخلي: «الإنجليز أسيادكم!» فأذل وأتمزق.
وفي الحرب الكبرى الأولى كان شبابنا يؤخذون قسرا من القرى فيربطون بالحبال وينقلون إلى فلسطين. وكان الكثيرون منهم يموتون أو يعودون وهم حطامات بشرية، قد فقدوا أنفع أعضائهم. وذات يوم كنت على محطة الزقازيق فإذا بي أرى شابا لم يبلغ العشرين، وإلى جانبه شيخ هرم كأنه أب أو عم لهذا الشاب. وكان الشيخ دائب الكلام في حرارة وعطف، حتى كاد رأسه يمس وجه الشاب، فاقتربت منهما. ولكني فزعت من هول ما رأيت، وما زلت أفزع من هذه الذكرى ... فقد كان الشاب فاقد البصر من غبار فلسطين وسينا، وعاد أعمى لا يرى نور النهار ... وكان الشيخ يواسيه بكلمات كاذبة، والشاب ينصت في جمود وصمت كأنه لا يسمع.
وأحسست - وبيني وبينهما أقل من مترين - كأني مجرم، وكأني مسئول عن هذه الكارثة التي نزلت بهذا الشاب. وجف حلقي وودت أن أقول للشيخ شيئا. ولكن جمود الشاب جمدني. وبقينا ثلاثتنا على هذه الحال، إلى أن جاء القطار الذي حملهما إلى قريتهما ...
وقد مضى على هذه الحادثة نحو 28 سنة. ولكني عندما أخلو لنفسي، يعود «الفلم» فينبسط أمامي وأستعيد كل كلمة وأرى كل حركة من حركات الشيخ المواسي والشاب الأعمى. ثم تتمزق أمعائي عندما أفكر في دخوله قريته واستقبال أمه أو أخته له واستقباله لهم.
وكنت حوالي سنة 1917 في المنصورة. وسئمت من جلسة طالت على إحدى القهوات التي تشرف على النيل، فنهضت عند الغروب وصرت أجول على غير هدى في الشوارع والأزقة. فلما عتم المساء أخذت طريقي إلى القهوة ...
فبينا أنا أسير الهوينا إذا بي أسمع صوتا خافتا ظننت أنه يصدر من أحد المنازل، ولكن الصوت كان مع خفوته قريبا. فتلفت حولي فرأيت شيئا ضئيل الجسم حسبته كلبا أو قطا. فاقتربت منه فسمعت صوتا يقول في خلط واضطراب: «ملوخية ... ملوخية باللحمة ... عيش وملوخية ... بدي آكل ... أنا جعانة: عيش وملوخية ...»
ودنوت من هذه الأشلاء المكومة الملفوفة في الخرق. فوجدتها امرأة قد اسحتالت من الفاقة والبؤس إلى حطام لا يعقل. ووقفت إلى جانبها أسمع أنين الجوع وبكاء المعدة ... ثم قصدت من فوري إلى مطعم فاشتريت لها طلبتها وعدت مع صبي المطعم إليها، وأخذنا نحن الاثنين نعرض عليها ما أحضرناه من الملوخية واللحم، وأكلت المسكينة في ضعف وارتباك ... ولكنها لم تأت على ربع الرغيف، وظني أنها كانت في أيامها الأخيرة ...
وكلما جاءت العتمة عقب الغروب وضاقت نفسي لسبب ما عادت هذه الذكرى تضيء في مخيلتي فأتنهد أسفا على ذلك الحطام البشري الذي ظننته أول الأمر كلبا أو قطا.
وفي صرخة الموت عذوبة تفتن النفس، وفي الموت نفسه فتنة كأنها صحوة الوجدان، حتى لنحس أن يقظتنا إنما هي حلم نصحو منه عندما نقف إزاء من نحب وهو في النزع الأخير.
وقفت إلى جانبها - وهي أختي - وكانت في عذاب الذبحة الصدرية تصرخ صرخات الموت. ولم أكن مخدوعا أو واهما في المصير المحتوم الوشيك! وعاد «الفلم» ينبسط أمامي مبتدئا بما حدث منذ أكثر من 50 سنة، وأخذت صوره تتعاقب الواحدة بعد الأخرى في لحظات خاطفة، وفي نصوع ووضوح، حتى كأني أسمع كلماتها وهي تشتري لي الحلوى، وتغسل لي وجهي أيام الطفولة ... ثم أنتبه من هذه الذكريات إلى صرختها العذبة الأليمة. وكانت في عذوبتها تجعلني أنتفض كأني في لذلة أليمة، أو كأني في طرب حزين ثم جاءت النهاية وساد السكون ...
وخرجت وإذا بي أنظر إلى السماء فلم أترك سحابة إلا وأنا أتأملها كأنها شأن خطير يجب ألا أنسى شيئا من تفاصيله. أو كأني أقرأ حروفها الفضية وأطلع من ورائها على سر خطير. فلما انطبعت هذه السحب في نفسي، نظرت إلى الأرض. ولكني عدت في لهفة أنظر إلى هذه السحب كأن شيئا يوشك أن يفلت مني. ثم ترن فجأة تلك الصرخات العذبة الأليمة فأرتاح إليها وأسكن وأستكين ...
وهذه الذكريات، أو هذه «الأفلام» على إيلامها، هي الحياة. هي كنز يجمع المر والحلو واللذة والألم. وحياة تخلو منها هي الحياة تخلو من كنوزها ... وحين أعود إلى اللحظات الخاطفة التي تجمع فيها الإحساس والوجدان، أحس حنانا لذيذا جارفا، يبدأ حرقة والتهابا ثم يتميع خيالا ينساب هنا وهناك في أفكار وخواطر شتى عن الموت، وعن الدنيا، وعن المصير، وعن الحاضر والمستقبل ، بل وعن العلم والأدب والفلسفة والسياسة ... فتتغير القيم والأوزان، فأرفع من بعضها وأبخس من بعضها الآخر، وعندئذ أحس أن هذه المآزق، وهذه الكوارث، هي المجال الذي أتغير فيه وأتطور. وأن هذه الكوارث، إنما هي حوافز تنبه الوجدان وتبدل الذهول بالإحساس الملتهب، والتفكير المركز ... حتى إني لا أحسد أولئك الذين حرموا من هذه الكوارث فتبلدوا وتجمدوا وعاشوا كما لو كانوا سمكا لا يحزنون ولا يلتهبون ... أجل! لم يعرفوا طرب الحزن الذي يسمو في لذته وتأثيره على طرب الفرح، ولم يصدموا بتلك الصدمات المنبهة التي توقفهم في الطريق حتى يتأملوا ما قطعوا منه في الماضي وما سوف يقطعون في المستقبل، أجل! لم يجمعوا الزمن في بؤرة إنسانية تتكاثف فيها الأشعة فيزداد ضوء الوجدان.
بعض الأدباء الذين عرفتهم
عرفت جرجي زيدان مؤسس «الهلال» قبل أن يموت بسنتين أو ثلاث، بل عرفته منذ 1909 حين كنت بإنجلترا، وكنت قد ألفت رسالة «مقدمة السبرمان» وبعثت بها إلى مطبعة الهلال كي تطبع، فأحالتها المطبعه إليه ليقرأها. وبعث هو إلي بخطاب مسهب يشرح لي فيه وجوه النقد التي يأخذها على الرسالة، ويقترح حذف بعض الفصول والسطور مما عده مخالفا للعقيدة العامة. وأذكر من خطابه هذا قوله: «إنه لا بأس بأن ننتقد المسيحية؛ لأن المسيحيين قد ألفوا نقد ديانتهم، أما المسلمون فيجب أن نتوقاهم؛ لأنهم لم يألفوا النقد.» وقد خرجت هذه الرسالة مشوهة مبتورة لكثرة ما حذف منها.
ولما عدت إلى مصر زرته واتصلت معرفتي به إلى وفاته، وكنت بين مشيعيه إلى قبره. وكان جرجي زيدان عصاميا في ثقافته وثروته، وهو أول من أرصد حياته في عصرنا لدراسة التاريخ الإسلامي، وألف في ذلك قصصه الكثيرة كما ألف تاريخ التمدن الإسلامي. وهذه الكتب تعد من الطلائع لهذه الدراسات التي استفاضت في العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة. ولم يكن لجرجي زيدان أي اتجاه علمي ، حتى لقد كتبت ذات مرة أعزو الحجاب عند العرب إلى أسباب بيولوجية هي أن البنات في الأقطار الحارة يبلغن سن النضج الجنسي في الحادية عشرة أو حوالي ذلك أي قبل اكتمال سن النضج الذهني. ولذلك لم تكن لهن من عقولهن رقابة على غريزتهن الجنسية أو ضبط لها، وأن هذا هو السبب للحجاب بين العرب. فتعجب لهذا التعليل وقال لي إن «الأسلوب يعجبني»، ولكن الحقاق تكذبه. وكانت هذه «الحقائق» عنده تاريخية. وأنا الآن أعرف أني كنت مخطئا في هذا التعليل البيولوجي؛ إذ ليس هناك أي فرق في سن النضج الجنسي بين أبناء المناطق الحارة والمناطق الباردة، والتعليل الصحيح للحجاب اجتماعي.
وكان جرجي زيدان انبساطيا بدينا بشوشا كثير الأصدقاء. ومات عقب انتهائه من أحد مؤلفاته. فما هو أن أتم الصفحة الأخيرة حتى وضع القلم وانسطح، فانفجر شريان أحدث له «النقطة». وفي اليوم التالي شيعناه إلى الجبانة، وكان هناك عدد غير صغير من الأدباء الذين استعدوا لتأبينه. ووضع النعش وكشف عن الوجه ونهض أحد المؤبنين. ولكن ما إن شرع في إلقاء كلماته حتى صاح شقيق للمتوفى يقول: إنه رأى شقيقه يرمش وإنه لا يزال حيا. وكانت المسألة لا تزيد على أن عاطفته قد تغلبت على عقله. ولكن كانت النتيجة أن المشيعين عادوا ولم يسمعوا تأبينا، وترك حارس للجثة إلى الصباح ...
ومؤلفات جرجي زيدان لا تزال حية وهي أقرب إلى التلخيص منها إلى الإسهاب؛ لأنه عالج موضوعات لم يعالجها أحد من قبل. فكان يستوعب أكثر ما يستطيع فيضطر إلى الاقتضاب. ولما أنشئت الجامعة المصرية كلف إلقاء محاضرات عن التاريخ الإسلامي. ثم عادت إدارة الجامعة فألغت هذا التكليف بدعوى أنه مسيحي. وقد تركت هذه الحادثة في نفسه مرارة؛ فكان لا يفتأ يذكرها في حزن وألم.
وكان فرح أنطون يصدر «الجامعة»، وكان من وقت لآخر ينتقد «الهلال». وكانت مجلة «الهلال» شرقية ومجلة «الجامعة» غربية، فلم يكن هناك نقطة للتعارف أو التصادق بين صاحبهما. واتصلت صداقتي بفرح حين شاركته في تحرير «اللواء» لفترة قصيرة حوالي 1909. وكنا نقضي السهرة في إحدى القهوات المطلة على ميدان الأوبرا أو ما يقاربها. وكان فرح «مفكرا حرا» بالمعنى الفرنسي لهذه العبارة. وكان يعرف نيتشه وروسو. وقد اندمج بعد ذلك في الحركة الوطنية المصرية. وكان حلبي الأصل؛ ولذلك شق عليه اتخاذ اللهجة المصرية العامية. وكان انبساطيا مفراحا يشرب الخمر، بل كان يشرب الأبسنت، وهو مشروب منع بيعه بعد ذلك لفتكه بالصحة.
وقد ترك كل من جرجي زيدان وفرح أنطون أثره في النهضة المصرية. فإن الأول فتح أبواب الدراسة لتاريخ الإسلام والعرب وآدابهم وعقائدهم وحضارتهم، كما فتح الثاني أبواب الدراسة للنهضة الأوروبية. ومات الأول حوالي الخمسين، ومات الثاني حوالي الأربعين.
وفي تلك السنوات عرفت يعقوب صروف محرر «المقتطف»، وكان قد جاوز الستين. وأذكر أنه لأول مقابلة لي شرع يسألني عن أصلي هل أنا مصري قح أم بي عرق أجنبي؟ وكان قد قرأ رسالتي «مقدمة السبرمان». وبعد حديث طال في العلوم عاد فجزم بأني أجنبي، وأن تفكيري يدل على هذا! وكانت نزعته العلمية قد طغت عليه، فلم يكن يحسن التقدير للأدب أو الفلسفة. ودار بيني وبينه نقاش ذات مرة عن هربرت سبنسر وشوبنهور، فأبرزت أنا القيمة العظمى للفيلسوف الألماني الذي نظر النظرة الكونية الشاملة، أما هو فكان يرى أن سبنسر أعظم المفكرين في العالم، وأن شوبنهور لا قيمة له بتاتا إلا في «ملاطفات» أدبية أو مجازفات فلسفية. وكان «المقتطف» في أيامه من المجلات القوية التي وجهت القراء العرب الوجهة العلمية وأنارت بصيرتهم. ولم يكن جافا في إيراده للبحوث العلمية، كما أنه كان من وقت لآخر يترجم إلى العربية مقالات جدية من المجلات الأوروبية.
وفي إدارة المقطف وجدت أمين المعلوف، وكان لغويا علمي الذهن. وقد وضع معجما بعد ذلك للحيوان لا يزال أحسن ما يعتمد عليه في هذا الموضوع. واتصلت بيني وبين أمين المعلوف صداقة إلى وفاته. وكان يكثر من الشراب. وقبيل وفاته بعامين أو ثلاثة أصيب ببحة كانت تجعل الحديث معه شاقا، ولكنه احتفظ ببشاشته وذكائه. وقد عاش أمين المعلوف ملء حياته. فاشتغل في السودان ووصل إلى أقاصيه العليا حيث أفريقيا السوداء، كما اشتغل في مصر والعراق. وهو - مثل فرح أنطون - لم يتزوج.
ويجب أن أذكر هنا أن جميع هؤلاء الأربعة كانوا سوريين، أو - كما نقول الآن بعد التجزئة التي أعقبت انهيار الدولة العثمانية - لبنانيين. وكانوا جميعهم كارهين للحكم العثماني لا يطيقون ذكره. وكان إذا شرع أحدهم في الحديث عنه لم يتمالك من الغيظ. ولم يكن وجدانهم وطنيا؛ لأن رؤيا الاستقلال للعرب لم تكن قد تجسمت. وكان اليأس أغلب عليهم. وحتى بعد انهيار الدولة العثمانية عقب الحرب الكبرى الأولى، بقوا على شك من حقيقة الاستقلال المزعوم لهذه الدول العربية. وأظن أنهم كانوا على حق في هذا.
ومن الشخصيات الفذة التي عرفتها قبل الحرب الكبرى الأولى شخصية الأديبة الكبيرة مي. وقد بقينا صديقين إلى يوم وفاتها عقب عودتها من مستشفى الأمراض العقلية في لبنان. ولم تكن مي جميلة ولكنها كانت «حلوة». وكانت تعرف الآداب الإنجليزية والفرنسية، وتقرأ كثيرا وتقف على الاتجاهات العصرية في أوروبا وأمريكا والشرق. وكانت أيضا متمدنة من حيث اكتمال وسائل التمدن في المعيشة. وكان تمدنها وثقافتها يكسوان وجهها وتعبيرها ظرفا ورقة. وقد استطاعت مي أن تجعل احتراف الأدب عند الفتاة المصرية والسورية زينة أنثوية لا استرجالا كريها. وكانت - في حياة أبويها - تعقد بمنزلها اجتماعات «صالونية» حيث يكون السياسي والأديب والوجيه بعض ضيوفها. وكانت تشترك في جميع المناقشات بل كانت أحيانا تديرها. وقد تنبه ذكاؤها كثيرا لاختلاطها بهؤلاء الضيوف. ولم يكن هناك موضوع تعجز عن الاشتراك في معالجته. وتفعل كل ذلك في رقة وجمال وتمدن. ومات أبوها فلم يتأثر «الصالون»، ولكن عقب وفاة والدتها تزعزعت مي. ولم يكن ذلك - في ظني - لحزنها على والدتها التي ماتت بعد أن أسنت وبعد أن كان موتها منتظرا. وإن كانت الفرقة بين الأم وابنتها قد تركت أثرها، وخاصة عندما نعرف أن مي لم تتزوج، وأن رفقتها لأمها كانت تعزيها. وليس من السهل على فتاة أن تجد نفسها يوما ما وهي منفردة مقطوعة في منزلها، وخاصة في وسط - مهما قلنا إنه متمدن - لا يزال شرقيا.
على أني أظن أن السبب للتزعزع النفسي الذي أصاب مي كان انتقالها الفسيولوجي من الشباب إلى الكهولة. وهذا الانتقال كثيرا ما يخل بالاتزان الفسيولوجي عند بعض النسوة، وقد ماتت مي منذ أكثر من سنتين بعد سنوات قضتها في مستشفى الأمراض العقلية في لبنان. ولما عادت زرتها مع صديقي الأستاذ أسعد حسني، وفتحت هي لنا الباب. فرأيت شخصا لا أعرفه، رأيت سيدة بيضاء الشعر كأنها في السبعين. فسدرت عيني، فغمزني أسعد وهمس: الآنسة مي! الآنسة مي! فسلمت وتضاحكت. ولكنها هي أدركت كل شيء واستولى علي اكتئاب وخجل وجمود وارتسمت في ذهني صورة لعذاب النفس الذي لقيته هذه المسكينة في مرضها. ولكن سرعان ما زال عني الاكتئاب والخجل والجمود؛ إذ شملني أسف. فإن مي قعدت إلينا وشرعت تقص علينا ما قاسته في المستشفى وكيف ألبسوها «الجاكتة» التي تمنع العربدة عند المجانين، وكيف أضربت هي عن الطعام، ثم - وهنا الأسف والحزن - كانت وهي تروي لنا ما وقع لها وكيف أن أدباء مصر نسوها وتركوها ولم يسألوا عنها، كانت تضحك مرة وتبكي أخرى، وتكرر هذا منها كثيرا. وأدركت أنها لا تزال في حاجة إلى المستشفى.
وزاد اعتقادي هذا عندما أصرت على أنه كان لها أقرباء ينوون خطفها من القاهرة، وكانت تذكر أسماءهم وأنهم كانوا يتربصون بها في مكان تعينه، وكانت هي مضطرة إلى المرور بهذا المكان.
وخرجنا نحن الاثنين ونحن في أسف وغم لهذه الحال التي كانت عليها مي. ولكن أسفي أنا كان مزدوجا؛ فإني بقيت طوال المساء وأنا أفكر في جمودي وكيف أني لم أتنبه عندما رأيتها بالباب فأحييها تحية اشتياق وتقدير وأنها لا بد قد عرفت من جمودي أنها قد تغيرت، وأن جمالها وحلاوتها وظرفها ورقتها قد زالت. وملأتني هذه الخواطر مرارة بل كراهة لنفسي.
فلما كان اليوم التالي قصدت إلى منزلها وأنا طوال الطريق أستعد للقاء أرجو أن أقشع به غمامة الأمس. وهو مع ذلك لقاء لفتاة مريضة مزعزعة. فلما فتحت لي الباب عانقتها في حنان صادق وحب مصطنع.
وتراجعت هي وتأملت وجهي في ابتسام وانشراح واضحين وهي تقول: «مرسي، مرسي يا أستاذ!»
وشعرت أني كفرت عن جمودي بالأمس. وقعدت معها وأنا أتحدث في نشاط ومرح. ولكنها عادت إلى البكاء والضحك. فكانت دموعها تنهمر بالبكاء ثم بعد لحظات تتشنج بالضحك. وبعد أسابيع ماتت؛ إذ لم تطق هذه الدنيا التي رافقتها أكثر من ثلاثين سنة وهي تتلألأ فيها بالشباب والجمال، ثم عادت فتركتها منفردة في شيخوختها بلا جمال وبلا تلألؤ.
ومخلفات مي الأدبية كثيرة، ولكنها كانت في حديثها أبرع وأذكى مما كانت في جميع ما كتبت. وكنت أقول لها إن السبب لتفوق حديثها على مقالاتها ومؤلفاتها أنها شرقية تخاف في الكتابة أن تبوح بكل ما تفكر فيه ولكن هذا الخوف يزول عنها في الحديث. وقد صدمتني ذات مرة بملحوظة جعلتني أفكر، هي قولها: «إن مبالغتك في التفاؤل هي في صميمها وأصلها مبالغة في التشاؤم.» وأحيانا أظن أنها كانت صادقة، كما أنها هي أيضا كانت مثلي متفائلة ذلك التفاؤل الذي يخفي التشاؤم ويضمره.
وقد يسأل القارئ هنا: لم لم تتزوج مي مع جمالها وثقافتها؟ فالجواب أنها كانت تعيش في وسط شرقي. ولو كانت مي قد نشأت في برلين أو باريس أو لندن لوجدت الكثيرين ممن ينشدون الشرف والسعادة بالزواج منها، والفخر والمجد بالتصاق تاريخهم بتاريخها. ولكن إخواننا اللبنانيين - على الرغم من عصريتهم - لا يزالون شرقيين، ولم يستطيعوا أن يسيغوا زوجة تستقبل ضيوفها في صالون أدبي له حرية الصالونات الأوروبية في المناقشة والاختلاط. وبكلمة أخرى أقول: إن مي عاشت عمرها قبل ميعادها بخمسين سنة.
وقبل الحرب الكبرى الأولى عرفت عبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة «البيان». وكانت هذه المجلة الشهرية تحاول أن تحيي الأسلوب العربي القديم على نحو ما فعلت جريدة «مصباح الشرق» للمويلحي أو كما تفعل الآن «مجلة الرسالة». وكان البرقوقي نقيضي في أهدافه الأدبية؛ فقد كان يجد لذة عجيبة في التعبير عن معنى ما بكلمة مماتة. ويقول إننا يجب أن نحيي هذه الكلمة. ولم يكن يجدي احتجاجي عليه بأن الكلمة إنما أميتت لأسباب قوية استدعت موتها، وأن إحياءها الأن خطأ؛ لأن مركزها الاجتماعي قد انعدم. وكان صهره مصطفى صادق الرافعي أكثر إمعانا منه في خطة الإحياء للكلمات المماتة. وعرفت محمد السباعي وكان الكاتب الأول في مجلة «البيان». أما الكاتب الثاني فكان عباس حافظ. وكلاهما كان يعنى أكبر العناية بالأسلوب العربي القديم. ولم يكن بمجلة «البيان» لا كثير ولا قليل من الفن الصحفي، ولذلك لم تعش طويلا.
وكان عبد الرحمن البرقوقي من أطيب الناس. وكان غربي الذهن قضت المصادفات بأن يكون شرقي التربية والثقافة. وكنا أحيانا نمشي في الإسكندرية فيأخذ في المقارنة بين الشوارع التي أقيمت إليها مساكن الأجانب وبين تلك الأخرى التي أقيمت إليها مساكن المصريين. ويستنتج من هذه المقارنة ما يحمله على القول بأن الشرق كله مفلس. وقد عرف الشيخ محمد عبده وأدرك المغزى في اتجاهاته وإصلاحاته.
وإذا كان حقا أن الخمر تكشف عن خبايا الصدور، وتفكك الضوابط التي تحول دون الصراحة، فإني أروي الحادث التالي الذي يدل على النفس الزكية التي كان يتسم بها البرقوقي، فقد كنا على قهوة في الإسكندرية حوالي 1914، وقد قعدنا إلى الموائد الخارجية والنسيم يهب علينا كأنه البلسم في رقته ورخامته، وأمامنا أكواب من البيرة - أو غيرها - نشربها في اشتهاء ولذة. ثم طلبنا رطلين من الكباب، فجاء بهما الخادم وبخار الكباب يتصاعد ورائحة الشواء تسكر. وما إن شرعنا نتنقل على هذا الطبق حتى طرأ علينا متسول. وكان غاية في الرثاثة والجوع والعفن. فطلب إحسانا، فتأمله البرقوقي ثم نظر إلي كأنه يستفهم. ثم دفع الطبق إلى طرف المائدة وقال للرجل: كل. فأكل الطبق كله برطليه من الكباب وهو واقف.
وكان البرقوقي يسكن - هو ومجلته - بالقرب من باب الخلق، وكانت «الجريدة» قريبة منه. وقد دعوته قبيل الحرب الكبرى الأولى إلى أن نزور معا لطفي السيد (باشا) رئيس تحريرها. ولم أكن أعرفه قبل ذلك إلا من مقالاته مع إعجابي العظيم بها. فلما دخلنا عليه وجدت غرفته كأنها غرفة وزير في سعتها وأثاثها. وتحدثنا عن نيتشه والتصوف. ولا أدري إلى الآن كيف جمع بينهما لطفي السيد. ولكني خرجت من هذه المقابلة الأولى وفي اعتقادي أن لطفي السيد أديب كما هو فيلسوف.
وحوالي تلك السنين، أو قبل ذلك بقليل، بزغ طه حسين، وكان أزهريا معمما، يكره الأزهر، ويعربد على صفحات «الجريدة». والتحق بالجامعة المصرية ونال دكتورية الأدب. وكان الفرح عاما بين الشباب الجديد لهذا الأزهري الناجح. وكنت أصدر مجلة «المستقبل» الأسبوعية في الدعوة إلى القرن العشرين وما بعده. فنشرت صورته وهو بالجبة والقفطان. وراج العدد بين القراء الذين رغبوا في اقتناء الصورة، وكان لنجاح طه حسين قيمة رمزية هي أن مصر العتيقة تستطيع أن تتجدد. وقد وجد طه حسين من لطفي السيد المراعاة بل أحيانا المحاباة، حتى كانت مقالاته تتحيز المكان الأول في «الجريدة» على الدوام. والواقع أن انتقال طه حسين من الأزهر إلى الجامعة المصرية ثم إلى السوربون - مع أنه ضرير - هو معجزة. ولكن ثم معجزة أخرى هي أنه اتخذ مكانا أماميا ثوريا مستقبليا في الأدب. مع أن الإنسان كان يتوقع - بعد اعتبار ماضيه - أن يتخذ مكانا تقليديا حيث يراعى «قواعد النحو والصرف» في الأدب والاجتماع والسياسة. وقد يقال إن المعري قد أثر فيه وبعث في نفسه كراهة لقواعد «النحو والصرف» في أسلوب الحياة. ولكن يبقى عندئذ سؤال هو: لماذا اختار طه حسين المعري كي يكتب عنه ويسهب في الكشف عن عقله وقلبه؟ ولا عبرة بأن يقال إن الاشتراك في العاهة باعث مقنع للقوة الجذبية التي وجدها طه حسين في المعري. لأن هناك أدباء وشعراء كثيرين بهم هذه العاهة ولكنهم لم يجذبوه. وظني أن عاهة العمى لم يكن لها إلا أقل الأثر في التفات الأديب المصري إلى أديب المعرة. وإنما الأثر الأكبر أنهما يشتركان في الثورة، وخاصة الثورة على المشايخ. فقد رأى طه حسين في الأزهر ما بعث سخطه وحركه إلى الكفاح، ثم رأى عند المعري مثل هذا السخط ومثل هذا الكفاح. فارتبطت بين الأديبين أواصر الحب والفهم وتعارفا وتفاهما. وقد انتقلت عند طه حسين بعد ذلك بؤرة المعركة من ميدان الأزهر إلى ميدان السياسة المصرية. ولكن اتجاهه الأول لم ينحرف.
وهناك من يزعم أن السياسة قد أفسدت أدباءنا وشغلتهم عن مهمتهم الأصلية. وهذه المهمة إنما هي عند هؤلاء الزاعمين أدب البرج العاجي الذي لا يتصل بالمشكلات العصرية. ولكنهم مخطئون؛ لأن الأديب في عصرنا يخون عصره إذا لم يكن سياسيا. وأعني بالطبع السياسة العليا العالمية والقطرية ولا أعني أن يستأجر أحد الأحزاب كاتبا فيرصد هذا قلمه للدفاع عنه ظالما أو مظلوما في مهاترات مزرية. ونحن نعيش في عصر انفجاري يحفل بالانقلابات الاجتماعية والأدبية والعلمية. وذلك الأديب الذاهل الذي يعيش في البرج العاجي إنما يبتعد عن أهم الشئون البشرية حين يبتعد عن السياسة. وكل أديب له وجدان بتطور العالم في عصرنا يحس أن واجبه الأول أن يكون هو نفسه عنصرا من عناصر هذا التطور؛ ولذلك يستحيل أدبه إلى أدب كفاحي سياسي.
ولذلك لا يستحق أدباؤنا اللوم على أنهم أخضعوا أدبهم للسياسة، بل الحق أنهم يستحقون الثناء والحمد. وحين أتأمل الصدود الذي نلاقيه أحيانا في بعض الأفراد أو عند الجميع عن شوقي - على الرغم من شاعريته الرائعة - أعتقد أن مرجعه أن شوقي لم يمارس الأدب الكفاحي. ولم يطابق بين فنه وبين أماني الشعب إلا في فترات نادرة. وأن إعجاب الشعب بحافظ إبراهيم - على الرغم من شاعريته التي لا تسمو إلى مستوى شوقي - إنما يرجع إلى أنه طابق بين فنه وبين أمانينا السياسية. وحتى في المستقبل، بعد مائة سنة مثلا، سوف يدرس حافظ ويستدل بشعره على عواطف الأمة المصرية واتجاهاتها ومستواها الفني أكثر مما يدرس شوقي الذي عاش زمنا غير قصير من حياته في البرج العاجي.
ولم أعرف شوقي إلا في السنوات الأخيرة من حياته. وكان له مكتب بالقرب من دار الكاتب المصري كنت أزوره فيه. وقد فهمت مقدارا كبيرا من سيكلوجيته حين شرع ذات مرة يوضح لي في إسهاب لماذا ألف درامة «كيلوبطرة». فقد زعم أنه أراد أن يزكي هذه المرأة باعتبارها ملكة مصرية قد أسيء إليها في سمعتها. ودهش أكبر الدهشة مني عندما ناقضته وقلت إنها لم تكن مصرية. وكان في ثقافته يصبو إلى كل قديم، حتى إنه لم يدرك شيئا من التيارات الكاسحة التي اتسم بها الثلث الأول للقرن العشرين. وقد ولد شوقي في أواخر القرن التاسع عشر في مصر، في بيئة الباشوات والبكوات التي كانت تكره عرابي، ولم يقطع الحبل السري الذي كان يربطه بالقرن التاسع عشر إلى يوم وفاته.
أما حافظ إبراهيم فكان من الجواهر التي لا تزال تلمع وتسطع في ذكريات جميع الذين عرفوه. وكان يمتاز أو يتسم بوجه كالح متجهم يصدم بل يخيف لأول نظرة، حتى إذا قضى معه الإنسان نصف ساعة ود لو ينهض ليقبله ويعانقه. فقد كان أنيسا يحدثك بنكات، بالمعنى العربي القديم لهذه الكلمة. وكان وطنيا يطابق بين أمانيه وأماني الدهماء من الفلاحين والعمال والمتوسطين. وأذكر من نكاته أني سألته ذات مرة عن رأيه في أحد الشعراء، فكانت إجابته العجيبة: «إن أشعاره يجب أن تنسى عن ظهر قلب.» وهو عندي ذكرى تترنم بها نفسي.
وليس هناك مفر من المقارنة بين شوقي وحافظ ومطران؛ فإن دراسة هؤلاء الثلاثة تدل على التيارات المتناسقة والمتناقضة في المجتمع المصري في الخمسين من السنين الأخيرة. فإننا نحس أحيانا في قصائد شوقي ومقطوعاته جو الترف المصري الذي أوشك على الزوال: السجاجيد الإيرانية، وصينية القهوة الفاخرة يحملها عبد أسود، والمقاعد الناعمة والحجاب، حجاب المادة والروح. أما أشعار حافظ فصرخات المتألم، وأحيانا مهاترات العاجز. ونحن نقرؤها فنصرخ معه أو نهاتر في ألم وعجز؛ لأنه منا ونحن منه. شاعر مصري بلدي يقرأ أخبار المظاهرات ويفرح بها، ويؤلف القصائد عنها وكأنه يريد أن ينتظم فيها مع الطلبة. أما مطران فيشبه أحيانا تلك الحدائق الأنيقة التي يجمع فيها أصحابها الأثرياء أصص النباتات الأجنبية التي نسأل عن أسمائها ونعجب بروائها، ولكن ليس لها في قلوبنا ذلك الحنين الذي نحسه حين نذكر حقولنا المألوفة بفلاحيها وجداولها وأشجارها من الجميز والتوت.
ومن الشخصيات الذهبية التي تبرز في وجداني وأفتأ أذكرها كلما عن حديث عن الأدب أو القلم أو الشرق أو الحضارة، شخصية شبلي شميل. وكان رجلا قصيرا متكتل الجسم كأنه مصارع، عرفته في 1912 وبقينا على اتصال بل تحاب إلى وفاته في أواخر الحرب الكبرى الأولى. وكان في تلك السنوات يقارب السبعين ولكنه كان على صحة وشباب نادرين، وكان روحه الكفاحي للغيبيات يسم - وقد يقول غيري: يصم - كل كتاباته. ذلك أنه كان يدعو إلى الحرية الفكرية في كلمات جريئة وأحيانا في وقاحة جريئة، كما كان يدعو إلى نظرية «النشوء والارتقاء» أي التطور. وقد نقل إلى لغتنا كتاب بوخنر في هذا الموضوع. وكان يسخر من الغيبيات في كلمات لا يجرؤ غيره على استعمالها. ولما أصدرت مجلة «المستقبل» في 1914 أيدني وكان يكتب فيها بتوقيعه أو بلا توقيع، وقد كتب فيها قصيدة «فلسفية» لم أفهم غايته منها، وإلى الآن لا أفهمها.
وكان شبلي شميل مفكرا أكثر مما كان عالما. وكان يقنع القارئ بعقله وليس بمعارفه. ولذلك عندما نقرأ مخلفاته الآن نجد التفكير الرصين والأسلوب الرصين. وكان كثير من المعجبين به يستهويهم أسلوبه، وكان هو يرد على ذلك بأن رصانة الأسلوب هي ثمرة الرصانة في التفكير. وهذا حق. ولكني مع ذلك كنت عند زيارتي له في منزله أجد التوراة أمامه وأجد آثار التنقيب فيها. وكنت حين أداعبه بأن مكافحته للغيبيات لا تتفق وهذا الغرام بالتوراة كان يجيب بأنه يحب بلاغة التوراة وأن اهتمامه بها لغوي أثري.
وكان من حيث المزاج والتفكير بل المعيشة أوروبيا متمدنا. وكان يحمل على عادات الشرق وتقاليده في لهجة غاضبة. وكان متدينا شديد التدين بل متعصبا في تدينه بالديانة البشرية. وظهر هذا التدين عند إعلان الحرب الكبرى الأولى؛ فإنه بقي أسابيع وهو هائج كما لو كان قد استولى عليه نيوروز. وظني أنه لو كان في سن الشباب لتطوع لمحاربة ألمانيا لأنه عد هجومها هجوما على المبادئ البشرية.
وهذه الديانة البشرية التي ذكرتها كانت أيضا ديانة جميل صدقي الزهاوي. ولكن الزهاوي كان يعمل في بغداد، في السر والظلام. في حين كان شبلي شميل يجاهر ويعلن ولا يبالي. وحوالي 1925 زار الزهاوي القاهرة مع السيدة زوجته، وسارع إلى السؤال عني. وقضينا أياما ونحن نلتقي ونتحادث في كل شأن. وكان رجلا ضئيلا قد بلغ السبعين أو تجاوزها، وكان يسير على ساقين ركيكتين تكادان تعجزان عن حمله. وكان أيضا غربي الذهن على ذكاء خارق ولكن على معارف ناقصة في العلوم العصرية. وقبل أن يغادر القاهرة سلم إلي مخطوطة هي ديوان يجمع عددا من قصائده التي لو طبع بعضها لأدى إلى السجن؛ لأنها طعن وقح في كثير من العقائد التي اصطلح الناس على تقديسها. وهذا الديوان - بعد أن بقي عندي سنوات - طلبه مني زكي أبو شادي ولا يزال عنده إلى الآن. ولا أظن أن الظروف الحاضرة أو القادمة، في القريب، ستؤذن بطبعه.
وقد تركنا زكي أبو شادي يعيش في الولايات المتحدة؛ لأنه يعتقد أن الرجعية الفكرية قد خيمت على مصر في هذه السنوات الأخيرة، وأن الأحرار - لهذا السبب - لا يستطيعون أن يتنفسوا في الجو الخانق الذي سعى الإنجليز لإيجاده في جميع أقطار الشرق العربي. ونحن نخسر كثيرا بغيابه عنا. فإنه أديب عالم وقد أخرج مجلة وألف كتبا خدمت مصر وبسطت لنا آفاقا للتفكير العصري. وهو يجيد الكتابة بالإنجليزية كما يجيدها بالعربية. وله عندي مؤلف باللغة الإنجليزية في الديانة البشرية جدير بأن يوضع في صف مع المؤلفات التي من نوعه في أية أمة أوروبية متمدنة.
وحين أراجع المعاكسات التي لقيها زكي أبو شادي، والتي أدت أو أدى بعضها إلى تركه لمصر، زيادة على موجة الرجعية التي اكتسحتنا هذه السنوات الأخيرة، أجد أنها تعود إلى أنه متمدن. وأنه في سلوكه - فضلا عن لغته - لا يبالي أن يكون عصريا. وهذه العصرية تنعى على بعض الأشخاص المتمدنين. والناعون هم على الدوام شرقيون تقليديون كارهون للحضارة العصرية. ولكنهم في كراهتهم لا يتشوفون إلى حضارة مستقبلية راقية أو أرقى مما نجد في حاضرنا، بل يرجعون إلى تقاليد وعادات تنافي العصر الديمقراطي وتنكر مبادئه. ومن هنا فرار زكي إلى الولايات المتحدة وكراهته لجونا الحاضر. وهذا هو ما يجب أن نأسف عليه جميعا وأن نتأمل في مغزاه كثيرا.
ومن الأحرار الذين عرفتهم محمود عزمي، وهو الآن في كهولته «معتدل». ولكنه كان في شبابه جريئا واسع الآفاق بعيد الأمداء. وكان يجري في غلواء الشباب. دعوته ذات مرة في أواخر 1930 إلى أن يكتب للمجلة الجديدة مقالا فشرط علي أن يكتبه بالحروف اللاتينية. وكان هذا قبل أن يناضل عبد العزيز فهمي باشا لأجل الخط اللاتيني بنحو خمس عشرة سنة. ولم ينزل عن رأيه إلا بعد مناقشات متكررة. وكان يدعو إلى القبعة ويعتمر بها في شوارع القاهرة. وقل أن نجد كاتبا مثل محمود عزمي في نصاعة تفكيره وصحة منطقه. وهو هنا يشبه كثيرا عبد القادر حمزة. ومن الملذات الذهنية أن يقرأ له الإنسان مقالا يناقش فيه الموضوعات السياسية مناقشة موضوعية في تعقل بعيد عن الزخارف اللفظية أو الأوهام البلاغية.
وعندما أرجع بذاكرتي إلى كثيرين من الأدباء - وبعضهم لا أحب أن أذكرهم - وأتأمل المجهودات العظيمة التي بذلوها والنزعات النبيلة التي نزعوا إليها في أول عهدهم بالكفاح الأدبي، ثم كيف انتكسوا منهزمين راضين بالماضي بدلا من أن يقتحموا المستقبل، عندما أتأملهم، أجد أن العيب لم يكن فيهم وحدهم، وإنما هو أيضا في هذا القدر الذي حاطنا بظروف سياسية استعمارية أجنبية أو استبدادية داخلية، تعاقبنا - نحن الأدباء - على التقدم والرقي وتكافئنا على التأخر والانحطاط. أجل، هذا القدر القاسي الذي يهيئ لقوات الظلام في مصر وفي أقطار الشرق العربي كي تخيم على دعاة النور وتطمس نورهم، وقد انطمس كثير من النور.
التدابير الإنجليزية لفقرنا وجهلنا ومرضنا
لم يكتب تاريخ الجناية التي جنتها بريطانيا على مصر إلى الآن. لم يكتب لا تفصيلا ولا إجمالا. وهو حين يكتب سوف يقف الجمهور في مصر كما تقف شعوب العالم خارج مصر على جنايات تتجاوز حدود الخيال. فقد هبت الأمة في 1882 بقيادة عرابي تطلب من الخديوي توفيق طلبا متواضعا بالمقارنة إلى سائر الأمم، هو الحكم البرلماني. وبعد أن سلم الخديوي بهذا الطلب عاد فماحك فيه وانتهى إلى القول بأن مجلس النواب يستطيع أن يفعل ما يشاء إلا النظر في الميزانية. ومعنى هذا أنه لا يستطيع شيئا بتاتا؛ لأن كل مشروع يحتاج إلى مال يدخل في الميزانية وإذن يستطاع إلغاؤه ويعود البرلمان كما لو كان جمعية يتمرن أعضاؤها على الخطابة العقيمة الثرثارة. وإذا كان جائزا لملك أو أمير أن يطلب مثل هذا الطلب من أمته لكان يجب في ظروفنا في 1882 ألا يجوز مثل هذا الطلب من الخديوي في مصر. لأننا في تلك السنين كنا خارجين من سنوات الإفلاس للحكومة المصرية، وهو الإفلاس الذي كان يرجع سببه إلى تصرف الخديوي السابق إسماعيل. وما زلنا نحن إلى الآن أي في 1947 نؤدي أقساط هذا الدين الأبدي.
كان الخديوي توفيق يصر على منع النواب من النظر في الميزانية بتحريض الماليين - أي الساسة؛ لأن السياسة هي المال - من الإنجليز والفرنسيين. فإن هؤلاء كانوا يوقنون بأن الدين المصري ظلم فاحش واحتيال سافل. وكانوا يتوقعون من النواب المصريين عرقلة في دفع الأقساط. فكان لذلك خوفهم من الحركة الوطنية المصرية وتأييدهم لاستبداد الخديوي توفيق في اصطدامه بعرابي.
وشخصية عرابي هي شخصية مقدسة في تاريخنا، شخصية الفلاح الناهض الذي لم يطق رؤية أبناء الأتراك والشركس والأرمن يمتازون على أبناء المصريين في الجيش والإدارة. فثار على هذا النظام. ثم رأى أن النواب في ثورة أخرى لأجل الحكم البرلماني الصحيح. فاندغمت الثورتان ضد الخديوي توفيق وضد طبقة الأتراك والشركس.
ورأى الإنجليز الخطر على ديونهم التي أوقعوا فيها إسماعيل كما رأوا الفرصة سانحة كي يحتلوا مصر. ثم يحيلوها بعد ذلك إلى مزرعة للقطن تغنيهم عن الواردات الأمريكية من القطن، كما يقفون أيضا على قناة السويس وهي باب البحر المتوسط إلى آسيا. فكانت الحرب بين الإنجليز المستعمرين - أي الساسة التجاريين والصناعيين - وبين الفلاحين المصريين.
وكان يعاون الإنجليز في هذه الحرب الغادرة عرب الصحراء والأتراك والشركس. ولم يكن يعاون الفلاحين أحد.
وانتهت الحرب بهزيمتنا أي هزيمة الفلاحين المصريين. ودخلت مصر - سياسيا - في العصر الجليدي، ومحي اسمها من التاريخ ووقف تطورها نحو خمسين سنة. وأعاد الإنجليز إلى الخديوي سلطته الاستبدادية وألغوا البرلمان. وأيضا أعادوا حكم الأتراك والشركس والأرمن. كما نرى مثلا أن رياسة الوزراء لم تسلم إلى مصري من أبناء الفلاحين منذ 1882 إلى 1908 أي مدة 26 سنة تولى فيها هذه الرياسة أبناء الأرمن والشركس والأتراك وحدهم. وبقي الإنجليز بعد ذلك على هذه القاعدة كلما رأوا نهضة من الفلاحين. فإنهم كانوا يعمدون فورا إلى أحد أبناء الأتراك أو الشركس فيولونه رياسة الوزراء كي يحطموا به نهضة الفلاحين أي الحركة الوطنية.
ثم شرع الإنجليز في مهمتين سلبيتين؛ إحداهما: منع التعليم فأقفلوا المدارس. وثانيتهما: منع الصناعة فلم يأذنوا بإقامة مصنع. بل لقد أقمنا مصنعا لنسيج القطن في بولاق حوالي 1900 اشتغل وأنتج الأقمشة فتعقبوه بالمعاكسات حتى أقفلوه وعينوا مديره الأرلندي في وظيفة حكومية. ولا تزال أسسه قائمة. وقد حصلت من كامل صدقي (باشا) على أحد الأسهم التأسيسية لهذا المصنع الذي عمل الإنجليز على إفلاسه. ثم حددوا التعليم وصرحوا بأن المقصود منه إيجاد الموظفين فقط للحكومة. وكانت مدرسة الطب محدودة العدد حتى إن خريجيها في بعض السنين لم يكونوا يزيدون على 6 أو 7 أطباء في العام كله. وكان أطباء الجيش المصري يجلبون من لبنان من خريجي الكلية الأمريكية في بيروت. وكانت حالنا مع ذلك أفضل من حال الهنود؛ فإن هؤلاء كانوا محرومين من مدرسة للطب إلى 1920 فلم يكونوا يتعالجون - وهم 400 مليون - من أمراضهم إلا على أيدي الدجالين أو على أيدي الأطباء القليلين جدا الذين تعلموا في أمريكا أو أوروبا.
فتعقل هذا أيها القارئ، تعقل وتدبر في هذه القسوة وكيف كنا محرومين من الأطباء قبل 1919 إلا خمسة أو ستة تخرجهم مدرسة الطب كل سنة.
وكيف حرم الهنود حرمانا تاما من مدرسة للطب إلى 1920. وإني أذكر فيما بين 1900 و1915 أني لم أزر طبيبا مصريا. لا أنا ولا واحد من أعضاء عائلتي. ولم أكن أسمع عن طبيب مصري؛ إذ كان كل الأطباء الممارسين بالقطر المصري أجانب من اليونانيين أو الإيطاليين أو الإنجليز أو الفرنسيين. بل أكثر من هذا، ففي 1927 كان علي ماهر (باشا) وزيرا للمعارف، وسنحت له فرصة في إحالة الجامعة الشعبية إلى جامعة حكومية، وكانت هذه الفرصة هي غياب المندوب السامي البريطاني جورج لويد. وجمع المختصين وصرح لهم «بأننا يجب أن نبادر وأن نؤسس الجامعة المصرية على أساس ثابت في غياب اللورد لويد؛ لأنه إذا جاء قبل أن ننتهي من هذا العمل فإنه سيعارض ويمنعنا من إيجادها.» وتلك كانت خطة الإنجليز لتبوير العقول المصرية.
وتم تأسيس الجامعة في غياب اللورد لويد، ولما عاد إلى مصر ووجدها قائمة كان ينتفض غيظا وجزعا.
وكانت همة الإنجليز المشئومة في منع التعليم تتجه إلى البنات كما تتجه إلى الغلمان؛ فإنهم منعوا التعليم الثانوي للبنات ولم نستطع إيجاد مدرسة ثانوية للبنات إلا في 1925. وكانت وزارة المعارف ترسل بعثات إلى أوروبا وتشترط على أعضائها ألا يلتحقوا بأية جامعة، وإذا فعلوا فصلوا من البعثة وحرموا الإعانة المالية.
هذا من ناحية التعليم من حيث المنع أي من حيث تحديد الكم، ولكن حملتهم المشئومة كانت تتجه أيضا نحو الكيف. فكانوا مثلا يصرون على ألا تدخل بنت في المدرسة السنية الابتدائية - أكرر كلمة ابتدائية - إلا وهي مبرقعة. كما كانوا يصرون على أن يكون معلم اللغة العربية معمما؛ غيرة على التقاليد. حتى نبقى من دعاة الفعل الماضي نعيش في الأمس.
أما من ناحية الصناعة فقد عرفوا المصنع في عام 1904 بأنه: «محل مقلق بالراحة أو مضر بالصحة أو خطر.» ولا يزال هذا التعريف قائما إلى الآن. وهو يكفي لإقفال أي مصنع في العالم. ولذلك لم يجرؤ واحد على إنشاء مصنع إلى 1919، بل إني أنظر في جدول الصادرات والواردات في 1913 فأجد أن الواردات إلى مصر كلها من السلع الإنتاجية - أي الآلات - لا يزيد ثمنها على 1800 جنيه؛ أي أقل مما يحتاج إليه مصنع صغير في سنة واحدة.
واتجه الإنجليز إلى إحالة القطر المصري كله إلى عزبة للقطن، وانبعثت هممهم إلى زيادة محصوله بإيجاد المشروعات للري حتى يتوافر فيشترونه رخيصا ولا يخشون المزاحمة الأمريكية في الأسواق العالمية. ولم يكن الإنجليز قط أمة زراعية، فكان من العجب أن يفتونا هم في الزراعة ويتسلطوا على حظوظنا فيها. والمتأمل لتاريخ وزارة الأشغال ووزارة الزراعة يجد أنهما كانتا تعملان وتشتركان لهدف واحد. هدف واحد ليس له ثان هو زراعة القطن. الأولى تقيم القناطر وتخزن المياه وتشق القنوات، والثانية تقوم بالتجارب لإيجاد سلالات جديدة من القطن تمتاز بها صناعات لنكشير في إنجلترا.
أما كيف نصنع قطعة الجبن أو كيف نزرع التفاح أو كيف نربي الدجاج أو كيف نزيد ثروة الفلاح، فكل هذا لم يخطر قط بالأذهان المالية السياسية البريطانية. وقد أدى بنا هذا إلى أننا - ونحن أمة زراعية كما زعموا - كنا نشتري أقة التفاح بجنيه ونصف جنيه مدة الحرب الأخيرة.
والإنجليز في جنونهم بزراعة القطن لم يبالوا قط بما سوف يؤدي إليه خزن المياه في النيل، وتوفيرها في قنوات الريف من الأراضي. لم يبالوا أية مبالاة سواء بصحة التربة أو صحة الفلاحين أو الماشية أو النبات. فإن أي إنسان - مهما يكن جاهلا - كان يستطيع أن يفهم في 1900 مثلا أنه إذا استشبعت التربة بالمياه الوفيرة فإنها ستملح وتقل خصوبتها، كما أن الحشرات والديدان ستعيش فيها وتتكاثر. ولا بد أن تفشو ديدان البلهارسيا والأنكلستوما والأسكاريس.
وقد فشت كل هذه الديدان التي لم نكن نعرفها في 1900 إلا قليلا جدا. إذ لم يكن بين الفلاحين ممن يحملون هذه الديدان في أجسامهم تأكل لحومهم وتشرب دماءهم من 1890 إلى 1900 سوى 2 أو 3 في المائة فأصبحوا الآن - بفضل جنون الساسة التجاريين من الإنجليز - نحو 80 أو 90 في المائة. وأصبحنا أمة مريضة نحاول الآن أن نشفي فلاحينا من هذه الديدان.
ومحاولتنا إلى حد بعيد عقيمة؛ لأن أساس الري الذي وضعه الإنجليز في جنونهم بزراعة القطن وهم أمة غير زراعية، هذا الأساس لا يزال قائما. ومياه الري تعلو مستوى التربة.
وإني أذكر حين كنت صبيا بين 1895 و1900 أني كنت ألعب مع الصبيان الفلاحين في الريف فكنا نجد الأرض أيام الجفاف مشققة يبلغ عرض الشق فيها نحو ربع متر، وقد يطول إلى خمسة أمتار أو أكثر، ولا يقل عمقه عن نصف متر أو متر. وكانت الحشرات والديدان تموت في هذا الجفاف. وكان الفلاحون يستمتعون بصحة عجيبة. وكان الفدان يغل عشرة قناطير أو اثني عشر قنطارا من القطن. وهذا كلام يكاد الفلاحون أنفسهم لا يصدقونه. ولكني رأيته بعيني. وخصوبة الأرض متصلة - كما يعرف جميع الذين مارسوا الزراعة وفطنوا إلى الأمراض الريفية - بصحة الفلاح بل بصحة النبات والحيوان. ولكن طرق الري التي أفشاها الإنجليز في ريفنا أفسدتنا جميعا، ناسا وحيوانا ونباتا وتربة.
تبوير العقول المصرية بمنع التعليم.
وإفقار الأمة بمنع الصناعة.
وتعميم الأمراض الدودية بالري الوفير لزرع القطن.
هذه هي الخطط الأساسية الثلاث التي سار عليها الإنجليز فيما بين 1882 و1919. وكانوا يدبرونها في عناية مع التبصر للمستقبل. فإنهم كانوا يمنعون تعليم البنات مثلا في 1900 كي لا تكون لنا عائلات متعلمة في 1910 أو 1920. وكانوا يمنعوننا من إيجاد مصنع للقطن مهما صغر؛ كي لا نستغني عن أقمشة لنكشير بعد عشر سنوات. وكانوا يعارضون في إنشاء جامعة كي لا تتفشى العلوم بيننا فتوقظ عقولنا ... إلخ.
وبهذا استطاع الإنجليز أن ينزلوا بنا إلى الحضيض جهلا وفقرا وعجزا. ومع أنهم هم السبب الأصلي للجهل والفقر والعجز فإنهم كانوا يحتجون علينا بهذه النكبات الثلاث عندما كنا نطلب الاستقلال. فكانوا في 1919 يذيعون في أنحاء العالم أن القارئين في مصر لا يزيدون على 2 أو 3 في المائة وسائر الشعب غارق في غياهب الجهل. وكان أحد مستشاريهم في 1919 أيضا يلوم علينا جهلنا وأنه ليس بين المصريين من يدري عمليات البورصة.
ومما زاد فداحة الاحتلال الإنجليزي لوطننا فيما بين 1882 و1919 أن تلك الفترة كانت فترة الاستعجال والترويج للانقلاب الصناعي التاريخي ليس في أوروبا وحدها بل في العالم كله. ونعني في العالم الذي لم ينكب بالاستعمار البريطاني. ولذلك كان تخلفنا عظيما جدا في نتائجه. حتى إن ثورة 1919 ثم ما تلاها من تطور اجتماعي أو اقتصادي تكاد تعد من المعجزات، أجل من المعجزات على الرغم من جميع العراقيل التي وضعها الإنجليز لمنع تطورنا.
ولو أن تطورنا سار سيرته الطبيعية من 1882 إلى الآن 1947 بلا تدخل أو احتلال الإنجليز، ولو أن الخديوي توفيق نزل على رأي مجلس النواب، لكانت مصر الآن في مقدمة الأمم المتمدنة. مائة في المائة من أبنائها يقرءون ويكتبون ويتعلمون في نحو عشرين جامعة ونحو خمسين ألف مدرسة ابتدائية وثانوية. ولكان أجر العامل فيها لا يقل عن جنيه في اليوم حيث كان يعمل في نحو خمسين ألف مصنع مصري. وكنا عندئذ نكون أمة قوية في زاوية البحر المتوسط لا تجرؤ بريطانيا على أن تنطق بكلمة في شأن قناة السويس.
وكنا نكون أمة متمدنة لنا ريف متمدن لا تخلو قرية من قرانا من نحو مصنعين أو ثلاثة مصانع تحيل المواد الخامة الريفية إلى مصنوعات عصرية.
كل هذا كان ممكنا لو أن أحدا لم يقف ضد مجلس النواب ويصر على أنه لا يجوز للنواب بحث الميزانية.
ولو أن الإنجليز لم يحتلوا مصر في 1882.
وحتى بعد أن حصلت الأمة على الدستور في 1922 بقي الإنجليز على خطتهم القديمة وهي مكافحة الحكم النيابي. فكانوا يتحينون الفرص لتزييفه ويختارون الرجال لتحطيمه. ولذلك بقي طراز الصراع الذي كان بينهم وبين الأمة في 1922 كما كان في 1882 بينهم وبين عرابي. وكانوا يبحثون عمن بقي من الأتراك والشركس كي يجعلوهم رؤساء للوزارات التي تناهض الحركة الوطنية الممثلة في الوفد. فرأينا زيور يجمع البرلمان في الصباح ويطرد أعضاءه في المساء في 1925 كأن نواب الأمة غوغاء لا أقل ولا أكثر.
وأرجو القارئ أن يفهم أني لست أشك في وطنية أبناء الأتراك والشركس في مصر الآن؛ فقد اندغموا في الأمة ونسوا الصراع القديم أيام عرابي كما نسوا لغتهم الأصلية. ولكن الإنجليز يحسون هذا الصراع القديم أكثر مما نحسه نحن ثم يسيئون فهمه أيضا. وإن كان مثال زيور يدل على أنهم لم يسيئوا الفهم. فقد حاول هذا المخلوق أن يحطم الحياة النيابية في مصر ونجح في تحطيمها سنين طويلة.
أخشى بعد أن سردت الكوارث التي أنزلها الاستعماريون الإنجليز بشعبنا أن يعتقد القارئ أني أكره الإنجليز أو أن يؤدي ما ذكرته إلى أن يكره هو الشعب الإنجليزي؛ فإن هذا الشعب من أنبل الشعوب في العالم. وما أستمتع به أنا من ثقافة أو قيم بشرية سامية يعزى معظمه إليه. وإنما أنا أكره الاستعماريين الإنجليز فقط. وهؤلاء الاستعماريون ينهبون الشعب البريطاني نفسه ويذلونه بالفقر والجهل كما كانوا ينهبوننا ويذلوننا . وليس الشعب البريطاني ثريا إلى الحد الذي يتخيله وينتظره الإنسان حين يتأمل هذه الإمبراطورية الشاسعة. وصحيح أنه انتفع بموارد الإمبراطورية التي حركت الصناعة. ولكن معظم المنفعة يعود إلى الاستعماريين والاستغلاليين. وهم طبقة واحدة. أي إن الذين يستغلون العمال في منشستر وجلاسجو وبرمنجهام هم أنفسهم الذين كانوا يستغلون المصريين والهنود والجاويين. وفي بريطانيا من الفقر ما ليس في أمة لا تملك أية مستعمرات مثل سويسرا أو نروج أو سويد. وقد ذكر هيوليت جونسون أن الصبيان الفقراء في يوركشر - في إنجلترا - عندما عرض عليهم الموز رفضوا تناوله ولم يعرفوا كيف يؤكل؛ لأنهم لم يأكلوه قبل ذلك. وكذلك فعلوا بالبيض. وذكر السر جيمس أور أن الذين يحصلون على الغذاء الكافي في إنجلترا لا يزيدون على النصف، وأن سدس الأمة الإنجليزية مريض للنقص الغذائي.
ومرتب الكناس في المجلس البلدي - من إحصاء في 1938 - في سويسرا هو 223 جنيها في السنة. وفي سويد 210 وفي دنمركا 150. وليس لهذه الأمم مستعمرات. أما مرتب الكناس في المجلس البلدي في لندن فهو 145 جنيها في السنة فقط. وإني أقصد من ذكر هذه التفاصيل أن أبين للقارئ أن الشعب الإنجليزي بريء من الجرائم الاستعمارية التي يرتكبها دعاة الاستعمار والاستغلال، وأن البرهان على ذلك هو فقر هذه الطبقات الدنيا في إنجلترا، هذه الطبقات التي تعيش فيما يقارب الحرمان والمرض اللذين نقاسيهما نحن المصريين والهنود والجاويين من التسلط الإمبراطوري البريطاني مع تفاوت في الدرجة.
الشعب الإنجليزي شعب متمدن نبيل. ولكن الاستعماريين من الإنجليز أشرار بل أبالسة يجب ألا نذكرهم إلا باللعنات.
فلسفة وديانة
نعيش في ضوضاء تلهينا عن الفلسفة، أي تلهينا عن الدين؛ لأن الفلسفة هي الدين. والرجل العصري الذي يدرس الفلسفات والأديان بروح المتعلم يجد بينهما اختلاطا يشبه الاندغام؛ وذلك لأن قضية الدين هي نفسها قضية الفلسفة، وهي: كيف نفكر التفكير السليم ونعيش العيشة الطيبة؟ ومقاييس الدين هي في النهاية مقاييس الفلسفة، كما نرى مثلا في كلمة برناردشو: إن الرجل الطيب هو الذي يعطي الدنيا أكثر مما يأخذ منها. أي إن الدنيا تجد بعد انقضاء عمره أنها كسبت به ولم تخسر، وأنفقت عليه أقل مما ترك لها. وهذا الذي تركه لها قد يكون حكمة أو قدرة أو علما أو اختراعا أو زيادة في الثروة أو الخير أو السلام.
وهذا المقياس فلسفي ديني. ولذلك حين أتحدث عن فلسفة الحياة التي أعيش بها هذه الأيام وأنا في الستين أو حواليها، أجد أنها مزيج من الفلسفات والأديان. وصحيح أن الدين يطالبنا بالتسليم، والفسلفة تطالبنا بالمنطق. ولكن ليست هذه الحال دائمة أو واضحة الحدود؛ فإن في الدين منطقا كما أن في الفلسفة تسليما في بعض الأحوال.
وقد يقال أيضا إن في الدين غيبيات وليس في الفلسفة غيبيات. ولكن هل هذا صحيح؟ ألسنا نقف مع أينشتين أو غيره إزاء غيبيات علمية حين يتحدثون عن الكون المتمدد الذي يدأب في الاتساع في الخواء؟
إني أذكر أني - حين كنت في حمى المراهقة - شرعت أسائل وأشك في الغيبيات المألوفة. ولم تزدني السنون من ذلك الوقت إلا يقينا بالإنكار. ثم تطورت الفكرة الدينية عندي أو انتقلت من التسليم بالغيبيات إلى الإيمان بالقيمة الاجتماعية للدين أو الفلسفة وإلى تربية الضمير، حتى تتغلب - في اللغة السيكلوجية - الذات العليا على الذاتين الاجتماعية والحيوانية؛ أي تتغلب القيم البشرية على القيم الاجتماعية والمادية.
وليس من السهل أن يكشف الإنسان عن ضميره الديني كيف تكون ثم نما ثم تبلور في قليل من الاتجاهات الأخلاقية الرئيسة، ثم تجوهر في اتجاه مفرد يجذب إليه كل ما في الشخصية من نشاط روحي. ولكني أذكر أني - وأنا دون العشرين - أحسست أن نظرية التطور تأخذ مكانا دينيا في نفسي وأنها قد حملتني واجبا روحيا. وقد نما هذا الواجب في نفسي إلى واجبات. ذلك أن آفاق الحياة لم تتسع فقط بنظرية التطور، بل زادت في العدد واللون، كما شسع بها تاريخ البشرية شسوعا عظيما . ذلك أننا قد فهمنا من هذه النظرية أن كل حي على هذه الأرض لا يقل عمره عن 700 مليون سنة؛ لأن كل إنسان قد كان في وقت ما طينة نبضت بالحياة، فإذا به فيروس ثم أميبة مفردة ثم أميبات متصلة متعاونة، ثم حيوان رخو بلا رأس، ثم سمكة، ثم زاحفة، ثم حيوان لبون، ثم قرد، ثم إنسان. ثم هذا الإنسان سوف يكون سبرمانا.
فهنا قرابة تطورية بيننا وبين الحيوان. وفي هذا معنى ديني جليل لأننا والأسود والكلاب والقياطس والسمك أبناء عمومة. وكنا قد قطعنا على هذا الكوكب نحو 700 مليون سنة. وقد انقرض بعضنا وبقي بعضنا الآخر. ولكن مع هذا الانقراض وهذا البقاء يتجه التطور في مجموعة نحو ما نفهم من الرقي البشري: وجدان موضوعي يأخذ مكان العواطف الذاتية، أي عقل يسمو على الغرائز. وإذن نجد أن للرقي البشري أساسا طبيعيا. بل إن هذا الرقي مفروض علينا وواجب حتم بل واجب ديني بحيث يتطور الفرد وتتطور الأمة وتتطور الدنيا. ومن يعارض التطور ويدعو إلى الجمود يكفر لأنه يعارض الدين. وليس التطور كله منطقا نستطيع أن نقيم عليه البرهان الناصع لأن فيه كثيرا من التسليم. ومن هنا كانت المشابهة بينه وبين العقائد الدينية. وليس من الضروري - كي يكون لنا دين أو ضمير ديني - أن نؤمن بالغيبيات؛ لأن المعارف العلمية في أيامنا تكسبنا نزعات دينية. فهناك رجال الثورة الفرنسية مثلا، فقد اشتطوا وألغوا الديانة المسيحية، وأسسوا ما أسموه «ديانة العقل». والإنسان العادي حين يقرأ تاريخهم ويصفهم الوصف المألوف يقول إنهم «كفرة». ولكنا عندما نتأمل سلوكهم نجد أنهم كانوا مسوقين بروح ديني، بل أكثر من هذا بعقائد دينية. وهنا تعجبني كلمة قالها ماتزيني الوطني الإيطالي: «ليس هناك انتصار للروح البشري أو خطوة ارتقائية للمجتمع البشري إلا ومرجعها عقيدة دينية راسخة.»
وفي سني أجد أن مصادر ديانتي - أو بالأحرى ضميري الديني - إلى جنب البوذية والإسلام والمسيحية واليهودية والهندوكية، تعود في كثير من النور الذي أهتدي به، إلى السيكلوجية والبيولوجية والأنثربولوجية والتاريخ. فإن هذه العلوم قد أفدت منها مغزى المأساة البشرية، مأساة ماضينا وحاضرنا وآمالنا في المستقبل. ولذلك كانت ديانتي موضوعية منطقية لا ذاتية عقيدية فقط.
ومع أني نشأت في المسيحية واحتضنتني الكنيسة أيام طفولتي وصباي فإنها كانت في تلك السنين الأولى من عمري في جمود لا يحمل على الحماسة أو يبعث الولاء أو يربي الضمير. وليس شك أن الكنيسة القبطية قد نهضت هذه الأيام، وهي الآن غير ما كانت عليه قبل خمسين سنة.
وقد تغير إحساسي نحوها تغيرات مختلفة؛ فقد عزفت عنها أيام الشباب لأن وطأة العلوم العصرية كانت شديدة على نفسي. ثم عدت إليها في حنان فوجدت فيها تاريخنا المعذب الممزق، ووجدت صوت الفراعنة ينطق عاليا من منابرها. فأصبحت الكنيسة القبطية عندي كنيسة قومية مصرية. ولكن لم يكن هناك دين إذ كان كل هذا إحساسا تاريخيا.
أجل! قد يقال هذا القول، وأنا أسلم بصحته إلى حد ما، ولكن الإحساس التاريخي ينطوي أيضا على إحساس ديني. ولست أشك أني حين انكببت على دراسة الفراعنة، إنما كنت أنبعث بروح ديني قومي. والدراسة الصحيحة للتاريخ يجب أن تكون موضوعية علمية كما يدرس أي علم. ولكن قلما نستطيع ذلك إذا كنا ندرس تاريخنا القومي.
وقد عرفت حوالي 1935 المرحوم كامل غبريال (باشا)، وكان قد درس اللغتين القبطية والفرعونية، وحاول أن يحملني على درسهما. ولكن سني المتقدمة حالت دون ذلك. وقد نهضت هذه اللغة في بعض الأوساط القبطية، ولكنها لم تبلغ المكانة التي بلغتها اللغة العبرية بين اليهود، أي أن تصير لغة التخاطب والتفاهم بل التأليف؛ فإن اليهود الصهيونيين قد انقلبوا إلى عبرانيين وأحيوا لغتهم التي كانت قد انقرضت حتى في أيام المسيح. وظني أنهم يخسرون بذلك؛ لأن هذه اللغة لن تتسع للثقافة العصرية. كما أن الأرلنديين الوطنيين قد خسروا أيضا بإحياء لغتهم القديمة؛ لأن اللغة الإنجليزية خير لهم - ولو أنها لغة الفاتحين الغاصبين - من لغتهم التي لن تتسع للثقافة العصرية.
وما زلت أذكر الأثر السيكلوجي في صديقي كامل غبريال (باشا)؛ فإنه لتعلقه بلغة الفراعنة صد عن المسيحية باعتبارها ديانة أجنبية قد طردت الديانة المصرية القومية. وكان كثيرا ما يعقد المقارنات بين عقائد الكتاب المقدس - التوراة والإنجيل - وبين عقائد الفراعنة، كي يقنعني بأفضلية الثانية على الأولى من حيث الأخلاق السامية والقيم البشرية العالية.
وقد كان أثر العقليين كبيرا جدا في نفسي؛ حتى إني لخصت أحد الكتب التي كانوا ينشرونها وهي «نشوء فكرة الله» لجرانت ألين. وأصدرت هذا التلخيص في نحو ثلاثين أو أربعين صفحة في مصر حوالي 1912. ويرى القراء هذا الكتيب ضمن كتابي «اليوم والغد». وقد كان هدف المؤلف أن يثبت تسلسل الأديان، وأن التوحيد الحاضر يرجع إلى الأديان القديمة. ولم يكن جرانت ألين مصيبا في جميع افتراضاته، ولكنه استهواني في تلك السنين للنظر المادي الذي اتبعه في تفسير الغيبيات. وبعد ذلك عرفت «الغصن الذهبي» لفريزر. وهو موسوعة رائعة للعقائد القديمة وتسلسلها إلى أيامنا تحت أستار مختلفة. ثم زادني نورا تلك البحوث المتشعبة التي قام بها إليوت سمث وزملاؤه في إيضاح الأثر الذي تركته العقائد المصرية القديمة. وهذه المؤلفات لفريزر، وإليوت سمث - مع تناقضها أحيانا - هي تربية خصبة وتثقيف سام لكل من يدرسها. ولا يستطيع إنسان أن يصف نفسه بأنه مثقف إلا إذا عرفها. ولكن اهتماماتي بهذه الدراسات وقتئذ لم تكن دينية بل كانت تاريخية.
على أن اهتمامي بالدين بدأ وأنا حوالي الأربعين. ذلك لأن النضج الديني - مثل النضج الجنسي - لا يأتي إلا في ميعاد. فقد شرعت أقرأ الكتب المقدسة جميعها في عناية، وأشغل نفسي بالمشكلات الدينية الهندوكية. وكنت أجد فتنة في أنبياء التوراة بل في أسلوب التوراة. كما أني وجدت أن القوة الجاذبية في شخصية المسيح كبيرة جدا. وقد مضى علي نحو عشرين سنة وأنا أحلم بتأليف كتاب عن شخصية المسيح بحيث أكتب في حرية الضمير مع إيماني به وحبي له. ولكني كلما كنت أفكر في الالتباسات التي سوف تنشأ بيني وبين بعض القراء، كنت أنكص وأنا في أسف ومرارة. لأني أكره أن أؤلم المطمئنين المستقرين الذين قد لا يجدون الطمأنينة واليقين في السيرة التي أرويها، مخلصا، أنشد الحقائق ولا أبالي غيرها. وموقفي هنا هو موقف تولستوي ورينان.
ومن الأخطاء الصغيرة الخطيرة التي ارتكبها المترجمون للإنجيل أنهم يذكرون الله على لسان المسيح بكلمة «أبي». ولكن الحقيقة أن المسيح كان يسمي الله باسم أبا أي «بابا»، وهي كلمة التحبب والإدلال، كلمة الأطفال. وذلك لإحساسه العميق الحميم بأبوة الله أبوة حقيقية. ومن هذه البؤرة العاطفية تشع سائر عواطفه في التحيز للفقراء والمساكين وفي الإحساس بأن البشر جميعهم عائلته لأن «بابا» لا ينسى واحدا منهم.
وشخصية المسيح هي بعد كل ذلك شخصية مقلقة. فإن كل أمثولة من أماثيله تبعث على التفكير المقلق المثمر؛ إذ هو يثير بها المشكلات البشرية العديدة التي تنزعنا من القيم الاجتماعية الزائفة إلى القيم البشرية الصميمة. وحياته الرائعة، ثم مأساته المؤلمة، كلتاهما دعوة إلى البر والشجاعة والشرف والتضحية. ولا يتمالك المتأمل للإنجيل مع الوجدان بأن الضمير المسيحي يقتضي النظام الاشتراكي؛ لأن هذا النظام هو التطبيق العملي للأخلاق المسيحية. والمسيحية تعد - في هذا المعنى - ديانة الكفاح وليست كما يتوهم البعض ديانة الركود.
ولست أشك أن الرجل المسيحي في دنيانا هذه وفي عصرنا هذا هو المثال الأسمى في الأخلاق. وهناك كثيرون يعيشون الحياة الطيبة، أي الحياة المسيحية كما أرادها المسيح الذي دعانا من ناحية إلى أن نكون كالأطفال في السذاجة والاستطلاع والبعد عن الشر، أي أن تكون القيم التي نعمل بها قيما بشرية، نحب الأشياء التي يحبها الأطفال: نحب اللعب ونحب الزهر ونحب كل شيء حسن يرجع حسنه إلى قيمته الأصلية لا إلى القيمة التي يفرضها المجتمع. ثم دعانا من ناحية أخرى إلى أن نخشى مديح الناس. بل قال: ويل لكم إذا أثنى عليكم الناس! وهنا دعوة إلى الاستقلال الفكري أو الروحي، استقلال الضمير، حتى نعمل ما يوحيه إلينا الشرف دون مبالاة لاعتبارات المجتمع. وقد يكون هؤلاء مع ذلك غير مؤمنين الإيمان الرسمي بالمسيحية؛ إذ ليس من الضروري، كي يكون للإنسان ضمير ديني، أن يؤمن بدين معين. فإن جميع الأديان سواء؛ من حيث إنها تنشد الحياة الطيبة.
وأذكر هنا أن نحو ستين عضوا من جمعية الشبان المسيحية كانوا يصطافون في صحراء العريش في سنة 1937، وكان بيننا المسلم والمسيحي واليهودي والبهائي. فكنا في الصباح نقرأ قطعة من القرآن أو الإنجيل أو التوراة مناوبة . وكان البهائي يجد في كل واحد من هذه الكتب كتابا مقدسا له. وكنا نجد نحن في جميع ما يقرأ لنا من أي كتاب منها دعوة صالحة توحي الخير والشرف والحياة الطيبة والحب. وقد وجدت أن الجمع بين هذه الكتب والاختيار منها على مبدأ المساواة قد بعث على التفكير الديني البار بين الأعضاء وربط بينهم برباط ديني محايد أي غير متحيز. حتى لقد انتحى بي بعض الأعضاء وسألوني: لم لا يفعل جميع البشر مثلما نفعل نحن هنا في العريش؟ أي يضعون جميع الكتب المقدسة في جميع المعابد.
وأذكر أني نصحت لهم بأن يقرءوا حياة السلطان أكبر الهندي الذي تولى الحكم في القرن السادس عشر؛ فإنه عقد مؤتمرا من الأئمة والكهنة من المسلمين والمسيحيين واليهود والهندوكيين، وطلب منهم أن يتفقوا على ديانة جديدة موحدة من هذه الديانات الأربع. وقد أخفق المؤتمر لأن الأعضاء - كما ينتظر - لم يتفقوا. ولو أنه كان قد اختار أعضاء هذا المؤتمر من المدنيين دون الدينيين لكان هناك مجال للظن بالنجاح. بل لقد قيل إن السلطان أكبر هذا قد تزوج أربعا نسوة: إحداهن مسلمة، والثانية هندوكية، والثالثة مسيحية، والرابعة يهودية. وذلك كي ينشأ أبناؤه على أساس من الحب الذي يدعمه التقارب الديني. وقد عاشت أسرته جملة قرون وهي لا تعرف معنى للتعصب في الهند بين المسلمين والهندوكيين. فكان الصليب يعلق في الغرفة التي يأتي إليها القارئ في الصباح كي يقرأ إحدى سور القرآن، وكان المبشرون من اليسوعيين يقعدون في حضرته إلى جنب كهنة اليهود. وقصة أكبر هي إحدى قصص القداسة الهندية التي نرى لها صورة أخرى في عصرنا في غاندي.
وجميع الكتب المقدسة سواء عندي. ولكني أضيف إليها عشرات من المؤلفات الأخرى في الفلسفة والأدب. ولذلك أقول إن بعض ديانتي يرجع أيضا إلى «جمهورية أفلاطون» وإلى «الإنسان والسبرمان » لبرناردشو، وإلى مؤلفات جان جاك روسو، وتولستوي، ودستويفسكي، وإلى أخناتون. فقد زودني هؤلاء جميعا بهورمونات دينية. وقبل نحو خمس عشرة سنة شاعت دعوة في أمريكا وأوروبا إلى ما يسمى «البشرية». وهي ديانة تستبعد الغيبيات، وتؤمن بالرقي البشري القائم على التطور. وهي تعتمد على الكتب المقدسة وكتب الأدب والتاريخ والفلسفة. وقد وجدت فيها إغراء كبيرا.
ولكن ما أحب أن أوضح للقارئ هو أن الدين عندي كان تربية بطيئة لم أصل بعد إلى نهايتها ولكني في سبيلها. والدين كالفلسفة أو الأدب نأخذ منها بمقدار ما ورثنا من كفايات وامتزنا به من أوساط تعلم وتربي وتوجه. وهنا يغير كالفين هذا التعبير فيقول: إننا إنما نفهم من الدين بمقدار ما وهبنا من نعمة الله.
وقد كان نفوري أيام شبابي من الغيبيات علميا منطقيا، ولكني أنفر من الغيبيات الآن لأسباب اجتماعية؛ لأنها - أي الغيبيات - جبرية ليست فيها حرية الماديات. أي إن التفكير المادي حر متطور، أما التفكير الغيبي فمقيد جامد، ونحن نتحرر بالأول ونتقيد بالثاني.
ولكن الفلسفة - أي الديانة - ضرورية لكل إنسان. والرجل؛ إذ يقول إنه ليس له ديانة، هو كما يقول برناردشو، إنما يقول إنه ليس له شرف. ونحن حين نستقطر العلم أو الأدب أو الفلسفة أو الفن كي نجد لها كلها غاية، إنما ننشد بهذه الغاية ديانة نعيش بها أي دستورا روحيا وأخلاقيا يعين علاقتنا بالطبيعة والكون والإنسان والمستقبل. ونحن نحس الحاجة إلى هذا الدستور وهو ليس دستورا جامدا إذ هو يتغير ويتطور كلما تقدمنا في السن وازدادت بصيرتنا نورا.
ولما شرعت أدرس السيكلوجية وجدت ناحية من الدين لم أكن قد التفت إليها، هي سلام النفس. فإنه ليس شك في أن المتدين يحس سلاما ويجد ابتهاجا يحرم منهما غير المتدين. ذلك أن المتدين يثق بالكون، وكأنه يحس أنه - أي الكون - لن يخونه، حتى حين يصطدم بالمصاعب. أو قل إنه يعيش في وسط أوسع كما أن آفاقه تمتد إلى آماد أبعد. ونستطيع أن نزن هذا الموقف حين نتخيل غاندي إزاء الجبال من المصاعب التي يلاقيها. فإنه في كل حياته أكثر اطمئنانا وأعمق ابتهاجا من أي إنسان آخر، مع أنه يواجه من المصاعب أكثر مما يواجه كل إنسان آخر. وليس غريبا بعد هذا أن تكون للدين - أي الفلسفة - قيمة سيكلوجية عظيمة؛ لأنه يؤدي إلى استقرار النفس ويحول دون التزعزع الذي قد ينتهي بالتحطم. وعندما نتأمل مرضى النفس نجد أنهم لم يتردوا في الهوة إلا لأنهم استسلموا إلى قيم وأوزان مخطأة. هي في الأغلب قيم وأوزان اجتماعية انساقوا فيها وأرهقوا بها حتى حطمتهم. وأنهم لو كانوا على فلسفة حسنة، وعاشوا العيشة الطيبة التي يوحيها كل دين في العالم، لكانوا قد أخذوا بقيم وأوزان دينية تتيح لهم سلام النفس الذي فقدوه.
ولا بد أن القارئ سيسائل: أليس هناك فرق بين الدين والفلسفة؟ وهل أنا محق في التحدث عنهما باعتبارهما وحدة؟
وجوابي أني لا أعرف أمصيب أنا أم مخطئ، ولكني هنا أذكر إحساسي، وإذا شئت التمييز بينهما فإني أقول إن الإحساس الديني هو طرب الحب، حب الطبيعة وحب الحيوان وحب الإنسان بل حب الحياة والكون. أما الإحساس الفلسفي فهو تأمل الفكر. ولكن الحقيقة أنهما يندمغان عندي، وإن كان أحدهما قد يتغلب على الآخر في بعض الظروف، وأن هذا هو إحساس غاندي: تأمل فكري وطرب عاطفي معا.
وكثير من كفاحي الثقافي - بل أحيانا السياسي - قد سرت فيه بتأمل الفكر وطرب الدين. والتأمل يطلب السكون في حين يستفزنا الطرب إلى الحركة. فإذا مزجنا الدين بالفلسفة وجدنا الكفاح. ولذلك لم أعرف قط ذلك البرج العاجي حيث استسلم للتفكير بعيدا عن المعركة؛ إذ إني لا أكاد أنتهي إلى فكرة بالتأمل حتى يعمني الطرب فأنشط إلى الكفاح.
وقد قلت إن ديانتنا وفلسفتنا تتكون أولا ثم تتبلور ثم تتجوهر. وعندي أن هذه النهاية، هذا التجوهر هو الحب. وقد انتهت جميع الأديان إلى هذا الموقف، كما انتهت السيكلوجية إليه أيضا. والحب هو اتجاه وسلوك، هو الاستطلاع الدائم للكون والرغبة النهمة في المعرفة، ثم هو التعاون والتسامح. وهذا الحب هو أيضا ما انتهى إليه الصوفيون المسلمون مثل محيي الدين بن عربي حين يقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
وفي هذه الأبيات الأربعة قد استقطر ابن عربي روح الدين.
ومن الحسن أن تذاع مثل هذه الأبيات الذهبية وتعلق في بيوتنا إلى الجدران، وخاصة في هذا الشرق العربي الذي يجب أن تتعانق فيه الأديان الثلاثة عناق الحب. ومثل هذه الأفكار الإنسانية تجدها أيضا في المعري حيث يقول وإن يكن موقفه سلبيا:
إذا الإنسان كف الشر عني
فسقيا في الحياة له ورعيا
ويدرس - إن أراد - كتاب موسى
ويضمر - إن أحب - ولاء شعيا •••
ما الدين صوم يذوب الصائمون له
ولا صلاة ولا صوف على جسد
وإنما هو ترك الشر مطرحا
ونفضك الصدر من غل ومن حسد
ولكن يجب أن أقول إن ديانتي - من الناحية الغيبية - تشبه بل تطابق ديانة سبينوزا. أي إن المادة والقوة شيء واحد ليس بينهما انفصال. وكذلك الشأن في العقل والجسم.
وليست هناك نهضة عالمية - كالثورة على المظالم أو التجديد للمبادئ أو الدعوة إلى الإخاء والمساواة والحرية - إلا وهي تسير على الأسلوب الديني. حتى لتتجاوز المنطق إلى الإيمان، وتسرف وتشط في ناحية الغيرة والتضحية والحب ضد الأنانية والاستئثار والبغض. فهي ملهمة بالروح الديني، ولن تنجح إلا به. ولذلك كثيرا ما نجد الدعوة إلى الاشتراكية الحزبية تستحيل إلى دعوة دينية عالمية تغمرها الحماسة ويتغلب فيها الإيمان. وحركتنا نحن في مصر في سنة 1919 لم تنجح إلا بمقدار ما كان فيها من الحماسة والإيمان أي بمقدار ما كان فيها من طرب الدين. وهي لم تتقهقر إلا بمقدار ما فقدت من هذا الطرب الديني بتفشي الأنانية والاستئثار والبغض.
ولن تعود دعوتنا الوطنية في مصر، دعوة الحرية والإخاء والمساواة إلا إذا أحدثت لنا - كما كانت تحدث في سنة 1919 - طربا دينيا يتألف من الحماسة والإيمان والحب والتضحية.
وأخيرا يجب أن نقول حين نتكلم عن ديانتنا، كما يقول أندريه جيد: «لست كائنا أبدا؛ إنما أنا صائر.» وبكلمة أخرى يجب ألا نجمد ونستقر، بل ننمو ونتطور، وندأب في استخلاص الحقيقة من المعرفة.
هذا العمر
سن الستين أشبه الأشياء بالقمة نقف عليها في سياحتنا على هذا الكوكب ونسائل: ماذا أفدنا من الماضي، وماذا ننتظر من المستقبل؟ وفي أعماق العقل الكامن وسوسة كأنها لغط في النفس: سن الستين هي سن الإقالة، يجب أن تقال أنت من الحياة.
وفي هذا العام 1947 الذي أتم فيه هذه السن أجدني قد أخرجت كتابا «كيف نسوس حياتنا بعد الخمسين» وكأنه احتجاج على الشيخوخة، ولو أن مي كانت حية لقالت لي على عادتها: ها أنت ذا تتشاءم وتحاول أن تتفاءل، تحس الضعف فتتخذ القوة.
ولكني كنت أجيب بأني ما زلت أحس حماسة الروح بل غلواءه، وإني أستطلع الدنيا كما لو كنت طفلا. وحسبي هذا برهانا على أني بعيد عن الشيخوخة.
وأعود إلى أيام الطفولة والصبا بل الشباب أيضا، فأجد أني - من حيث التعلم المدرسي أو الجامعي - عشت في صحراء لم أنتفع بشيء منها. وإنما كان انتفاعي بما كسبت من تربيتي الذاتية: من جامعة الكتب في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ومن سياحاتي في أوروبا، وأخيرا - ولهذا أكبر قسط في تربيتي - من اختباراتي الشخصية. وقد تكون الفترة التي عشتها وأنا على وجدان يقظ بالحوادث فذة من حيث إنها فترة الانتقال من مجتمع الأمس إلى مجتمع الغد. ومن تحول الإنتاج من النظام القروي الزراعي إلى النظام المدني الصناعي، ومن الغيبيات إلى الماديات. والحق أني لا أكاد أعرف عصرا تجمعت فيه عوامل اقتصادية واجتماعية انقلابية مثل عصرنا هذا؛ فإن الفترة التي تقع بين 1900 و1950 هي تاريخ بشري يزيد في مغزاه ونتائجه للمستقبل على القرون التي تقع بين 500 و1500. أجل! لقد عشنا بسرعة في هذه الفترة بل هرولنا نحو المستقبل. وهناك من تخلفوا لأنهم لم يطيقوا هذه السرعة أو الهرولة، فلهثوا وعرقوا ثم قعدوا وبعد أن قعدوا واطمأنوا أخذوا يحفظون عن «ظهر قلب» قواعد الفعل الماضي في حين بقينا نحن في الهرولة نحو المستقبل. وليس شك في أننا نعثر، ولكن العثار مع السعي خير من السلامة مع القعود والركود.
والتربية الحقيقية - وهي ثمرة العمل لكل إنسان - هي في النهاية اختباراته طوال حياته. وليست هذه الاختبارات هي ما يقع لنا بل هي الرجوع والاستجابات لما وقع لنا. ونحن نختلف كثيرا في هذا؛ فإن هناك من يستجيبون بالصدود والاعتزال، وهناك من يستجيبون بالإقدام والمكابدة. وهؤلاء هم الذين ينتفعون بالاختبارات. أما المعتزل الذي يؤثر السلامة بالصدود والاعتزال والإحجام والانكفاف فهو ميت حتى لو طال عمره إلى المائة؛ لأن الحياة لا تقاس بالطول وحده إذ إن لها عرضا وعمقا أيضا، ولا يكون لها العرض والعمق إلا بأن ننغمس فيها ولا نقف على ساحلها متفرجين بل نقتحم عبابها ولو تعرضنا بذلك للموت المبكر.
وفي كل حياة من المصادفات ما يعد حسنا أو سيئا، وبعضها يقود إلى النمو والخصب، وبعضها يؤدي إلى البوار والدمار. ومصر نفسها مصادفة سيئة لكل مصري من حيث إنها مأساة جغرافية. إذ هي تقع في ملتقى القارات الثلاث الكبرى، كما أنها تقع في طريق الملاحة بين آسيا وأوروبا. ثم هي فوق ذلك تخلو من الجبال التي تيسر الدفاع؛ ولذلك وقعت في أسر الغزو المتكرر. وكان آخر غزاتها هؤلاء الإنجليز الذين أحالوها إلى عزبة للقطن ومنعوا عنها الصناعة والتعليم، وأيدوا الرجعية وضربوا أبناءها المخلصين الثائرين على الاستبداد، وعمموا فيها الفاقة والجهل والمرض.
ونحن المصريين جميعا سواء في هذه الكارثة، كارثة هذه المصادفة التاريخية بغزو الإنجليز لوطننا وبقائهم فيه أكثر من ستين سنة، يفرضون علينا القيود ويقيمون السدود ويحالفون الرجعيين لقمع الروح المصري. وكثير مما عانيته في حياتي من المصادفات السيئة التي عطلت نشاطي وبعثرت قواي يرجع إلى هذه المحالفة القائمة بين الرجعيين المصريين والمستعمرين الإنجليز فيما اتفقوا عليه من قيود للحرية كانت تضطرني إلى أن أدرج بدلا من أن أطير. بل كانت تضطرني أحيانا كثيرة إلى أن أقعد بدلا من أن أدرج. وهناك من الكتاب في مصر من استسلموا لهذه القيود وارتضوها، بل صاروا يخيفون الجمهور من الحرية وينعون ما فيها من استباحات تؤدي إلى أخطار. ولكني لم أدخل قط في معسكرهم إذ لا أطيق العمل في هذا الجو الخانق للضمير والذهن.
أما مصادفاتي الحسنة التي أخصبت حياتي فكثيرة، أذكرها بالشكر للأقدار التي هيأتها لي. وأولها وأكبرها قيمة أني لم أعرف قط الحاجة المالية الملحة. وكذلك لم أعرف الترف المخدر،فأنا أتمتع بذلك القلق الذي يبعث على الاهتمام اليقظ المنبه، ولكنه قلق لا يؤدي إلى الهم المرهق المجمد. ثم صادفتني مصادفة حسنة أخرى هي أني عرفت اللغتين الفرنسية والإنجليزية في سن مبكرة. وقد وصلتا بيني وبين الثقافة العالمية العصرية. ولذلك ارتفعت اهتماماتي من المشكلات «القروية» الصغيرة التي تحفل بها صحفنا من جرائد ومجلات إلى مشكلات عالمية بشرية منبسطة الآفاق.
ثم هناك مصادفة أخرى مؤلمة للعالم منبهة لرجال الذهن. فإني عشت عمري فيما بين 1887 و1947 في عصر انقلابي انفجاري رائع من حيث الاكتشافات والاختراعات والثورات؛ لأنه عصر المعارك التاريخية والصراع الخطير بين مجتمع آفل وبين مجتمع بازغ. كأن حوادث ألف سنة قد تجمعت في بؤرة زمنية، كما يتجمع ضوء الشمس من العدسة. فصرنا نرى الانقلاب تلو الانقلاب، والعالم يعاني الآلام من هذه الانقلابات التي تنبه المثقفين إلى الدرس وتحرك ذكاءهم وتبسط لهم رؤيا زاهية للمستقبل لا يراها غيرهم في السعادة القادمة من خلال المخاض الحاضر وآلامه.
وعندما أعرض لحياتي الماضية أجدني ممتازا امتيازا واضحا جدا بصفة طفلية هي الاستطلاع. وهذا الاستطلاع يحطم القيود التي وضعها العرف أو كثيرا منها، فيتسع ميدان الاختبارات ويزيد بذلك الوجدان. وهذا الاتجاه نفسه - أي الانتفاع بالاختبارات - يغير القيم والأوزان بحيث إن ما يعده غيري نكبة قد أعده أنا نعمة؛ لأن له قيمة لا يراها هو في التربية والتنوير والنمو. فقد وقعت بي كوارث وأحزان أحمضت حياتي فترة. ثم اكتسبت من الكوارث نورا وحكمة، كما اكتسبت من الأحزان حنانا ورقة، لا أحب أن أفقدهما. أجل! لقد تضورت من الألم حين مات ابن أختي وهو في السنة الأخيرة بكلية الطب، وبقيت في نفسي لوعة تمزقني كلما ذكرته. ولكن هذه اللوعة قد استحالت بالزمن إلى حنان رخيم لا أحب أن أفقده. وكذا الشأن في جميع الأحزان الماضية تطفئ كيمياء الزمن نارها وتحيلها إلى ذكريات رفيقة تؤنس ماضينا. ولذلك أكنز هذه الذكريات وأستثيرها بعد عشرين أو ثلاثين سنة للذة لا للألم، مع أن وطأتها حين وقوعها كانت بمثابة الصدمة التي تذهل وتجمد.
وأظنني أمتاز أيضا بعقل حر مفتوح يحسن الضيافة للآراء الجديدة. وليس لي فضل في هذا، وإنما هو الفضل للغتين الإنجليزية والفرنسية اللتين أتاحتا لي الاتصال الدائم بالثقافة الأوروبية العصرية. وهي تمتاز بالحرية المستفيضة كما يمتاز المجتمع الأوروبي بحرية واسعة لا يعرفها المجتمع المصري. ومن هنا أصبحت ثقافتي ارتيادية أتحسس الجديد في الآراء وأعرضه على مجتمعنا كي أوقظه إلى الحياة العصرية. ومن هنا كان ما يبدو من أني يساري متطرف، مع أني لو كنت في مدينة أوروبية لكنت أعد عاديا ليس بي أي تطرف. وليس شك أن بعض اتجاهي هذا يعود إلى أني مسيحي لا أحس أني مقيد بتقاليد الأكثرية في مصر.
ولو سئلت ما هو «بيت القصيد» أو «إيماءة حياتي» كما تبدو من مؤلفاتي وسيرتي واتجاهي، لقلت إنها الحرية. فإني أحب عرابي وفولتير لدفاعهما عن الحرية كل في ميدانه. وقد ألفت كتابين عن حرية الفكر. وأحب كتاب «الجمهورية» لأفلاطون و«الإنسان والسبرمان» لبرنارد شو؛ لأنهما يتجردان من التقاليد في بحث «التأصيل» البشري. وأحب إبسن في «بيت عروس» لأنه يبسط آفاقا جديدة للحرية في شخصية المرأة.
وأنا الآن في الستين أعد نفسي صائرا ولست كائنا كما يقول أندريه جيد. ولذلك أعنى بأن أتعلم كلمة جديدة أو أشرع في دراسة علم جديد أتغير أو أتطور به. وفي هذه الأيام مثلا أجد أني مزحوم بدراسات كثيرة، منها هذه السيمية أي علم اللغة من حيث صحة التعبير وملاءمته. كما أن اهتماماتي بالسيكلوجية والتطور والاجتماع تجعلني أشكو قلة الفراغ. وفي العالم الآن ثقافة جديدة قد تجرثمت في بداية هذا القرن وهي الآن تتبلور وتتجوهر، هي ثقافة عالمية غير وطنية أحس أني من أبنائها ودعاتها. وقد أثبتت لنا القنبلة الذرية ضرورة الاتجاه العلمي وخطورته معا؛ لأن الحضارة القائمة - حضارة السادة على هذا الكوكب - هي حضارة العلوم المادية، والأخطار القائمة هي أخطار العلوم المادية. ولذلك فإن الأمة التي تهمل العلوم إنما تهمل حياتها. وقد حاولت في مصر طيلة حياتي الماضية أن أعمم التوجيه العلمي بمؤلفات شعبية مختلفة. وكثيرا ما نبتت الخصومات بيني وبين بعض الكتاب على هذا الأساس؛ أي إني كنت أنتقص قيمة مؤلفاتهم لأنها لم تكن تتجه الاتجاه العلمي أو على الأقل كانت تتجاهل الأسس العلمية وتستسلم لمزاعم غيبية تافهة. ولذلك تعد مؤلفاتي من أدوات التطور الذهني في مصر، وليست كذلك مؤلفات كثير من الكتاب الذين عاصروني. ففي الوقت الذي كنت أؤلف فيه عن «العقل الباطن» أو «نظرية التطور وأصل الإنسان» أو «البلاغة العصرية واللغة العربية» أو «حرية الفكر» ثم «حرية العقل» أو «غاندي والحركة الهندية» أو نحو ذلك مما يوجه ويغير، كان غيري يؤلفون عن الخلفاء الراشدين أو الأمويين أو العباسيين! أجل، كنت أنشد الآفاق وأرتاد المجاهل في الوقت الذي كانوا هم فيه يشرحون لقرائهم قواعد الفعل الماضي. مع أن هذه القواعد معروفة ومشروحة في مئات الكتب القديمة ولا تحتاج إلى زيادة في الشرح والإيضاح. فإن جميع الذين كتبوا مثلا في ترجمة عمر بن الخطاب لم يكتبوا عنه بأوفى مما كتب ابن أبي الحديد منذ نحو ألف سنة. وجميع الذين يخرجون لنا من وقت لآخر تراجم عن أبي نواس أو المهدي أو المأمون لم يزيدوا كلمة عما كتبه مؤلف الأغاني أو غيره من المؤلفين القدماء. ولكن الجمهور الذي يتعطش إلى الثقافة العصرية كي يفهم الحضارة العصرية لا يجد غير هذه الموضوعات القديمة، فيبقى - أي هذا الجمهور - قديما غير عصري.
وهناك أشياء آسف لها كثيرا، منها أني عطلت عن الكتابة إلا تحت أعين المراقبة نحو خمسة عشر عاما في الحربين الكبريين؛ إذ حتم علينا الإنجليز ألا ننشر حرفا في جريدة أو مجلة أو كتاب إلا بعد أن يقرأه رقيب. وقد قرئت لي كتب في الأدب والعلم وحذف الرقيب منها ما شاء ... وهذا التعطيل قد جمد فكري مدة طويلة؛ لأن قطع التفاعل بين المؤلف وبين الجمهور يجعل الثقافة محدودة. لأن الثقافة اجتماعية لا نهتم بها إلا في مجتمع حي يوافقنا أو يعارضنا، ولكنه في كلتا الحالين حي ينبهنا. وقد قطع الاستعمار البريطاني بيننا وبين الجمهور هذه السنين الطويلة، فقطع عنا بذلك التنبيه الذي كان يحركنا إلى التفكير والدراسة الخصبة، كما قطع عن الجمهور التنوير الذي كان يحتاج إليه.
وشيء آخر آسف له هو أن الحكومة المصرية - بإيعاز المستعمرين الإنجليز أيضا - قد سنت قانونا تستطيع أن تحرم به أي مصري خارج القطر من رعويته المصرية، ويكفي لذلك قرار من مجلس الوزراء بلا محاكمة أو دفاع. وقد منعني هذا القانون من أن أترك مصر منذ عشرين سنة، مع أن مثلي يحتاج أن يزور أوروبا مرة كل عام أو كل بضعة أعوام حيث يتجدد بالإيحاء أو التغيير الذهني والترفيه النفسي.
ولكن المتسلطين الذين يعيشون في مصر بالامتيازات القديمة - هذه الامتيازات التي هي فضيحة مصر الآن في جميع المحافل المتمدنة - يخشون رجلا مثلي يسارع إلى شرح الآراء الجديدة والإصلاحات العصرية. فما هو أن أضع قدمي في باريس حتى أجد قرارا بحرماني من الرعوية المصرية؛ وعندئذ يجب أن أتسكع سائر عمري إلى أن أموت خارج وطني بعيدا عن أولادي. ولهذا آثرت البقاء في القاهرة على التسكع - بلا وطن - في مدن أوروبا. وظني أن هذا القانون سيبقى إلى أن أموت. ولن أرى أوروبا التي تشع أنوارها على هذا الكوكب.
وأخيرا أعود إلى السؤال الذي لا يفتأ يتكرر: هل ربيت نفسي؟
وهذا السؤال يعيد إلى ذهني وصف ه. ج. ولز للوزير البريطاني الكبير جلادستون بأنه لا يعد متعلما أو حاصلا على تربية، وذلك لأنه «كان يجهل الأثنولوجية - أي علم وصف السلالات البشرية وخصائصها - وأن رؤيته للتاريخ كانت ناقصة؛ لأنه لم يكن يدري الصورة الحقيقية للجيولوجية - أي علم طبقات القشرة الأرضية وتاريخ الأحياء - كما كان يجهل الأفكار الابتدائية عن البيولوجية - أي علم الحياة - وكذلك كان يجهل العلوم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العصرية والآداب والفكر الحديث.»
وإذا قست نفسي بهذا المقياس الذي عينه ولز كي يبرهن على جهل جلادستون فإني أجد أني حاصل على هذه التربية التي قصدها؛ لأني أدري كل هذه الأشياء التي ذكرها وأكثر منها مما يجري على طرازها. والحقيقة أن الذين يستطيعون أن يسموا أنفسهم ممتازين بتربية صحيحة في أيامنا قد لا يبلغون واحدا في الألف، والبرهان على هذا أن الذين يفهمون مثلا النظرية النسبية لأينشتين أو الطاقة الذرية قليلون جدا. وهذه القلة ترجع إلى أن وسائل التربية معدومة أو نادرة في بقاع كثيرة. وذلك الذي يصل - على الرغم من كل ذلك - إلى تربية تكاملية حاوية بحيث تتسع عنده المعارف وتتكامل وتتناسق، هذا الرجل، يحتاج إلى أن يفني العمر كي يحقق هذه الغاية. وطلب العيش يحول دون ذلك عند 999 في الألف من الناس.
الواقع أن الذين يقودون العالم منذ أيام جلادستون إلى الآن كانوا - ولا يزالون - في عداد الجهلة. فقد روى ولز مثلا عن جلادستون أيضا أن السر جون لبوك رافقه في زيارة لداروين. فكان طوال وقته يتحدث عن المشكلة البلغارية كأنها كل شيء في وجدانه، أي إنه لم يكن يدري القيمة البشرية الكبرى لنظرية التطور التي أخرج داروين إنجيلها للعالم. ولكن أليس هذا حال الساسة إلى الآن، هل وزراء بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة أو مصر في 1947 أفضل من حال جلادستون في 1870؟
إن العالم منكوب بتقاليد في التربية والتعليم. وفي المدارس والجامعات رواسب ثقافية تبلد الذهن بل تحول دون التفكير. كأن هناك محظورات لا يجوز التفكير فيها. اعتبر مثلا هذا الفقر المصنوع في العالم. فإن الإنتاج الزراعي ثم الإنتاج الصناعي يكفيان - مع التنظيم - كي يعيش كل فرد على هذا الكوكب وهو موفر الطعام والكساء والمسكن، آمن على نفسه وجسمه من المرض والجريمة، متعلم أقصى تعليم، مستمتع بالفراغ الذي يمكنه من زيادة معارفه. ولكن الساسة الذين يتولون شئون هذا العالم لا يزالون في مستوى جلادستون يهتمون بمشكلة بلغاريا أكثر مما يهتمون بنظرية التطور. والعجب أنك عندما تبحث في مشكلة بلغاريا تجد أنها نبتت من الجهل أيضا، وأن الذين يحاولون حلها جهلاء يثرثرون وهم يعتقدون أنهم يفكرون.
وقد سبق أن قلت إني لا آسف كثيرا على أني لم أتخصص؛ لأن الاختصاصيين - كما أرى في أخلاقهم - لا يتوسعون أو يتعمقون في الدراسات التي لا تمس العلم أو الفن الذي اختصوا فيه. وأعتقد أحيانا أن الزهو هو الذي يمنعهم من هذا التوسع أو التعمق، وأنهم يحسون استكفاء ذاتيا لا يحتاجون معه إلى زيادة. وأقول في نفسي عندئذ إني لست كذلك وإني لو كنت قد تخصصت في علم تجريبي لما زهيت. ولكن هذا الفرض ليس سيكلوجيا لأنه يتجاهل العواطف الاجتماعية. ولكني لا أشك أني بعيد عن الزهو في غير تعمد أو تكلف، وأن بعدي عن الزهر هو الذي يجعلني أتابع الثقافة بروح الطالب، وهو الذي يجعل أسلوبي خاليا من التفصح. وكثير من الكتاب يتفصح في خيلاء وزهو؛ لأنه يسلك في حياته وأخلاقه سلوك الخيلاء والزهو. ولهذا السلوك أثره في نفسه لأنه يحمله على الاستكفاء فلا يدرس ولا يتزيد من المعارف. ولذلك أستطيع أن أجزم بأن التفصح في الكاتب برهان على كراهة التزيد أو التطور في الدراسة. وليس هذا لأن التفصح يشغل وقته بل لأنه يكسبه زهوا فيقنع بالخيلاء والتبختر. وفي ذهني الآن كاتب من هؤلاء المتبخترين يكتب من وقت لآخر عن الأخلاق. قعدت إليه ذات مرة أحدثه عن الأخلاق وأنها هي والاجتماع ثمرة الوضع الاقتصادي. فلم ألق منه غير الضحك. فانتقلت من البيئة إلى الوراثة وذكرت له كاتبا هو كرافت أبنج عن «السيكوباثية الجنسية» فلم أستنبط منه غير الدهشة. أجل! إن تفصحه المتحذلق قد حال بينه وبين تربية نفسه؛ إذ هو قانع بهذه الخيلاء اللفظية وسيموت بها جاهلا لشئون هذا الكوكب الذي عاش عليه.
ولذلك أعتقد أن أعظم الوسائل للتربية هو الاتجاه. أي كيف نتجه في هذه الدنيا وبماذا نهتم؟ نهتم باقتناء الفصاحة أم باقتناء المعارف؟ بمشكلة بلغاريا أم بنظرية التطور؟ نهتم بأن نكون وجهاء نسير في خيلاء وزهو أم عقلاء نفكر في سداد وفهم؟
وفي عصرنا هذا يجب أن نقيس التربية الحقة بأدق وأكبر من المقياس الذي وضعه ه. ج. ولز؛ ولكن عندئذ لا نجد أحدا - ولا واحدا - يمكن أن يقال إنه حاصل على تربية حقة. فإن العلوم خاصة والثقافة عامة مشتتة غير منظمة، وتحصيلها لهذا السبب شاق، وأعمارنا تفنى في محاولات عقيمة وإن تكن مخلصة للتعلم. حتى إذا انتهينا إلى الطريقة واهتدينا إلى المنهاج وجدنا أن الشباب قد ولى.
وقد يبعثنا هذا إلى القول بأن العمر يجب أن يزيد حتى يبلغ المائة سنة مثلا، فنجني في العقود الأخيرة ما جهدنا لأجله واختبرناه في العقود الأولى. ولكن قبل ذلك يجب تنظيم المعارف ومناهج الدراسة وترقية الصحافة حتى تعود جميعها أدوات ووسائل للتنوير؛ لأن الواقع أن بعضها الآن أدوات ووسائل لتبليد الأذهان ومطاردة الذكاء، ونشر الظلام. والعالم حافل بالتباسات واستغراضات للجهل الفاشي، هذا الجهل الذي يجد دعامة بين المعلمين والأدباء والفلاسفة الذين يدعون إلى مزاعم وعقائد يوحون منها إلى القراء والمتعلمين بأنها آراء وحقائق. وقد سبق أن عانى جوتيه مثل هذه الحال حين قال: «ليس هناك أفظع من الجهل النشيط.»
وإذن أجيب على سؤالي: هل ربيت نفسي؟ بأني ما زلت «صائرا» في سياق التربية. وأني أسر حين أحس أن لي شخصية نيوروزية قلقة مستطلعة أطمع في أكثر مما أستوعب، وأن الثقافة تحتل المكانة الأولى من اهتماماتي. بل أحس أحيانا أنها الاهتمام الوحيد؛ حتى إني لأفجأ نفسي من وقت لآخر بخطاب يرسله إلي صديق فأرجئ فتحه إلى الغد كي أتصفح كتابا جديدا هذا اليوم.
وأسر أيضا حين أجد أن القيم البشرية عندي تأخذ مكان القيم الاجتماعية. وعندي أن هذا الانتقال هو البرهان في عصرنا على الحكمة والفهم. فإن القيم الاجتماعية - بإلحاح العادات والتقاليد - تغمرنا وتقيم في نفوسنا «عواطف» تحملنا على السعي والجهد لما يسمونه «منافسة» وأحرى أن يسمى «محاسدة» لاقتناء أتومبيل أو عزبة أو لقب أو نحو ذلك مما يحملنا المجتمع على احترامه. وكثير من الناس يموتون شهداء هذا الجهد السخيف. وحين ننتقل إلى القيم البشرية نجد أن حياة الصحة والصلاح الاجتماعي والفهم والقناعة بالحاجات الضرورية والاستمتاع بما في الدنيا من أطايبها المجانية خير ألف مرة بل مليون مرة من تلك القيم الاجتماعية. وليس في الدنيا ما يعدل فنجانا من الشاي أو كسرة من الخبز مع الجبن تحت ظل شجرة - كما قال الإمبراطور أوريليوس - أو قراءة كتاب منير أو الحديث إلى المجرة في منتصف الليل في الريف أو تحية الشمس في بزوغها أو - حين أكتب - البحث عن بشائر المستقبل والتشبث بها وشرحها في مقال أو كتاب.
وإذا سأل القارئ: ماذا تستنتج من اختباراتك، وما تكهناتك للمستقبل بعد أن قضيت نحو أربعين سنة وأنت على اتصال وجداني بالعقل العام على هذا الكوكب؟
فإني أجيب بأن الحاضر يومئ إلى المستقبل إيماءة واضحة نراها بالعين وأحيانا نسمعها صاخبة بالأذن، هي الاشتراكية التي سوف تعم الدنيا كلها. وليس هذا لأن الناس سيتحولون من أشرار إلى أبرار، بل لأن الإنتاج الصناعي سيحتم ذلك. كما سيحتم توافر النقل وضرورة التجارة - على أبعاد كوكبية - أن يحال العالم إلى دولة واحدة تتجه نحو ثقافة واحدة ولغة واحدة.
وهذا النظام الاشتراكي العام سوف يرفع المرأة من الأنثوية إلى الإنسانية؛ لأنه من جهة سيفتح لها أبواب العمل والاختبار والتعلم كالرجل سواء، كما أنه من جهة أخرى سيغنيها عن عناء الواجبات المنزلية العديدة. وليس هذا لأنها ستترك المنزل بل لأن كثيرا من الواجبات المنزلية ينتقل بالحضارة إلى خارج المنزل. ويتضح هذا من المقارنة في مصر بين المرأة في الريف والمرأة في المدينة. فإن الأولى تعجن وتخبز وتحلب البقرة وتصنع الجبن وتخيط ملابسها وتحمل جرة الماء من الجدول وتجمع الوقود إلى غير ذلك من الواجبات التي لا تعرفها المرأة في المدينة. ثم المقارنة بين المرأة في القاهرة والمرأة في نيويورك تزيدنا فهما بأن الحضارة تلغي الواجبات المنزلية التي ترهق ربات البيوت الآن وتحول بينهن وبين العمل في الخارج أو بين تربية أنفسهن. ولذلك نحن صائرون نحو تحقيق الرؤيا التي حلم بها إبسن في شخصية «نورا» هذه الأنثى التي أصرت على أن ترتفع من الأنثوية إلى الإنسانية.
وأستطيع أن أستنتج من حياتي الماضية أن أعظم العقبات التي تؤخرنا في مصر كما تؤخر كثيرا من أمم آسيا وأوروبا - بعد الاستعمار - هي هذه الرواسب من الثقافات والتقاليد والغيبيات الفرعونية والبابلية وأمثالها التي انحدرت إلينا. وهي تتخذ ألوانا من الصيغ والأساليب، وتعترض عجلة التاريخ وتعوق التطور. والبيئة الصناعية وحدها هي التي تحطمها؛ لأنها - أي هذه البيئة - لا تنهض إلا على العلم. وهو نار كاوية تحرق جميع الرواسب وتبدد عفنها هباء.
والحضارة الجديدة المنتظرة هي الحضارة الصناعية، هي الحضارة التي لا يبعد أن تلغي الزراعة من العالم. وليس هذا بالعمل العظيم المستحيل كما يتوهم بعضنا؛ فإن الكيمياء الصناعية تصنع الآن مركبات كيماوية عديدة كان صنعها قبل هذا القرن مقصورا على الجسم الحي نباتا كان أو حيوانا. فإذا استطاعت الكيمياء الصناعية أن تصنع مادة البروتين فإن الزراعة تعود عناء لا ضرورة له بتاتا وعندئذ يحال العالم إلى حدائق وغابات تعنى بها الطبيعة وحدها. وإذا كنا نظن أن صنع البروتينات لا يزال بعيدا فيجب أن نذكر الطاقة الذرية؛ لأن أي إنسان منا، لو أنه - قبل خمس سنوات - سئل أيهما أقرب إلى خيالنا: استخدام الطاقة الذرية قنابل للتدمير أو صنع البروتين كيمائيا، لظن هذا الثاني أيسر بكثير من الأول.
وظني أيضا أن الزمن ليس بعيدا حين نشرع - حتى في مصر - في تطبيق نظرية التطور بالانتخاب التناسلي؛ أي اليوجنية. وفي العالم نحو أربعين دولة متمدنة تمنع غير الصالحين للتناسل من أن يعقبوا. والأمة التي تعارض في مثل هذا الإصلاح ستتخلف في ميدان التطور البيولوجي أي الرقي البشري الصميم.
وأخيرا أقول إني أرى إيماءة ثقافية جديدة هي التخلص من المذهب الانفصالي - مذهب ديكارت الذي يفصل بين الروح والجسم، أو بين الحياة والمادة، أو بين العقل والمادة - إلى المذهب الاتصالي الذي يقول بأن القوة هي المادة المتدفقة، والمادة هي القوة المتجمدة. وفي هذا القول وثبة ثقافية واسعة إلى المستقبل سوف تكون كبيرة الأثر في الحضارة القادمة. وقد سبق للفيلسوف العظيم سبينوزا أن نبه إلى ذلك في لغة فلسفية ونحن نقتنع هذه الأيام بصحة تفكيره عن طريق العلم التجريبي، ونصل إلى وحدة وجودية في الطبيعة ثم نتدرج إلى ما يلائمها في المجتمع.
وعندما أرتفع إلى هذا التفكير أحس أن كثيرا من الاهتمامات بل الهموم الوطنية التي حجبت النور وعكرت الصفاء اللذين كنت أنشدهما في حب وولاء بشريين، هذه الهموم تذوب وتتبدد. أجل! إني أحب أن أعترف. فإني ما كتبت كلمة واحدة ضد المستعمرين الإنجليز إلا وأنا في ألم وارتعاش وأسف أكثر مما أحس من غيظ وحنق وكفاح. وكذلك كان الشأن عندما كنت أكافح، الرجعيين المستغرضين والجهلاء النشيطين من المصريين. فإني أخجل حين أقول إني أحب جميع هؤلاء الإنجليز المستعمرين والمصريين المستبدين. وفي نفسي رجاء بأن يتغيروا وأن يروا رؤياي وأن ينسلخوا من الاستعمار والاستبداد، ويفتحوا عقولهم للثقافة الجديدة: للحرية والإخاء والمساواة. وجميعها مستطاع لو أنهم كفوا عن «الجهل النشيط» الذي يمارسونه.
وقد احترفت الثقافة وقضيت عمري أقرأ وأكتب. وزادتني هذه الحرفة وجدانا بالدنيا، كأني أحس أكثر وأرى أبعد، حتى لقد صغرت همومي الشخصية إلى جنب اهتماماتي العامة. ودراستي للأدب وللفلسفة قد أوهجت خيالي وأحدت ذكائي. ثم انعكست هذه الدراسة إلى حياتي فأصبحت قيمي وأوزاني الخاصة قيما وأوزانا أدبية وفلسفية. ولذلك كثيرا ما أنصح للشبان بأن يقرءوا الأدب والفلسفة، وأن يحاولوا كتابة القصة وقرض الشعر؛ لأنهم وهم في هذا النشاط يتخيلون الحال المثلى ويصعدون بأذهانهم إلى السماء ويختارون أسمى المعاني وأنصع الكلمات. وكل هذا ينعكس على حياتهم الخاصة فيرتفعون عن التبذل ويحيلون حياتهم إلى فن جميل.
لو أني مت ثم بعثت وخيرت في الحرفة التي أحترف لما اخترت خيرا من أن أقرأ وأكتب. ولكني مع ذلك سوف أموت وفي نفسي شيء من الطاقة الذرية؛ لأنه يجب على كل إنسان في عصرنا أن يستوفي ثقافة علمية معينة يدرك منها هذا المنهج البشري الجديد للتسلط على المستقبل. ولم أجد الفرصة لهذه الثقافة كما كنت أشتهي وإن كان حظي منها قد يحسدني عليه غيري. أجل! لقد تركت الطاقة الذرية في نفسي مركب نقص أعانيه في ألم كل يوم.
من 1919 إلى 1947
رأيت الحكم البريطاني في مصر فيما بين 1900 و1919 وأنا على وجدان بتصرفاته واتجاهاته. ورأيت الحكم «المصري» فيما بين 1919 و1947 وأنا على وجدان أيضا بتصرفاته واتجاهاته. وقد قلت «المصري» بهذه الصيغة الكتابية لأنه لم يكن في كثير من الأحيان مصريا بحتا؛ إذ كانت اليد الإنجليزية تعلوه وتقوده إلى الفساد والشر. فإن الإنجليز هم الذين جعلوا زيور باشا يحل البرلمان في 1925 في نفس اليوم الذي عقد فيه. وهم الذين سلطوا علينا إسماعيل صدقي فيما بين 1930 و1934 كي يضرب الأمة بالسياط والبنادق. وهم الذين حملوا محمد محمود باشا في 1929 على أن يعطل البرلمان ثلاث سنوات «تقبل التجديد». ولكننا مع ذلك مضطرون إلى أن نسمي هذا الحكم فيما بين 1919 و1947 مصريا؛ لأن الأيدي التي أنفذت السياسة كانت مصرية. وكانت تستطيع أن تكف الأذى عن الوطن لو أنها شاءت.
فيما بين 1900 و1919 كانت السلطة الإنجليزية صريحة. فقد تعلمت أنا الجغرافيا في السنة الثانية الابتدائية حوالي 1900 باللغة الإنجليزية وكان كل التعليم بالمدارس الثانوية - فيما عدا اللغة العربية طبعا - باللغة الإنجليزية في جميع المواد. وكنا لا نستطيع أن نحل مشكلة تتصل بالحكومة إلا على يد إنجليزي. ولكن كل هذا أو معظمه تغير بعد 1919.
وأول ما يسأل الإنسان عندما يقارن بين الاحتلال والاستقلال هو مقدار الحرية التي يتمتع بها الفرد. حرية القول والخطابة والصحافة والاجتماع. ومع الأسف بل الألم العظيم يجب أن أعترف هنا بأن هذه الحرية نقصت ولم تزد بعد 1919. فإننا في 1947 أقل حظا من هذه الحريات مما كنا حوالي 1905 أو 1910. وهذا هو ما مارسته بنفسي. ففي 1914 استخرجت «رخصة» لإصدار مجلة «المستقبل» ولم أجد الصعوبات الشاقة التي أجدها أو يجدها غيري في مثل هذا الاستخراج في 1947. بل لقد حاول وزير سابق هو الأستاذ فؤاد سراج الدين باشا استخراج «رخصة» لجريدة يومية في 1946 فرفض طلبه. وقد كنت قبل 1919 ألقي المحاضرة بلا ترخيص من المحافظة في القاهرة. أما الآن فإني أحتاج إلى ترخيص. وأنا أكتب هذه الكلمات في أكتوبر من 1947 وقد بلغت التحقيقات بشأن مقالات أو أخبار الصحف العشرات . وهذا ما لم نكن نعرفه قبل 1919.
وفي 1922 صدر الدستور المصري. وفهمنا منه أنه سيحترم وأنه وثيقة رهيبة يجب أن تستنبط منا إحساسا دينيا لاحترامها. ولكن هذا الدستور استبدل به آخر أيام زيور باشا في 1925. ثم عطل أيام محمد محمود باشا في 1929. ثم ألغي واستبدل به آخر أيام إسماعيل صدقي باشا في 1930. وصحيح أن المستعمرين الإنجليز كانوا خلف هذه العربدة في حياتنا الدستورية. ولكن الأيدي المنفذة كانت مصرية.
وكلنا يعرف أن الذين جاهدوا وضحوا هم الوفديون. ومع ذلك حسبت السنوات التي تولوا فيها الحكم فيما بين 1923 و1947، أي نحو ربع قرن، فوجدت أنها خمس سنوات وثمانية أشهر فقط. وحسبت السنوات التي تولى فيها إسماعيل صدقي باشا الحكم، في هذه المدة أيضا وليس له حزب، وليس له رأي عام مصري يؤيده، فوجدت أنها تقارب المدة التي حكم فيها الوفد. فكأن الدستور لم يغير شيئا من أوضاع الحكم التي كانت تشكو منها مصر قبل 1919. وفيما بين 1930 و1934 أوقع بنا إسماعيل صدقي باشا من ألوان الاستبداد البشعة ما اضطره هو نفسه إلى أن يطالبنا بنسيانه في 1946. ولم نر قط مثل هذا الاستبداد من الإنجليز قبل 1919 إلا في حادث دنشواي. والمتأمل للكراهة العميقة عند بعض العناصر للوفد يجد أنها ليس لها من سبب سوى أن الوفد هو الهيئة الديمقراطية الشعبية الوحيدة في مصر.
وهذه العربدة في حياتنا الدستورية حينذاك وفي نشاطنا السياسي هي التي انتهت بنا إلى أن ينشأ حزب ديني مثل «الإخوان المسلمين» يتناول السياسة من ناحية الدين، ويجعلنا في شك أو خوف من المستقبل بعد أن كافح لطفي السيد وغيره في فصل الدين من السياسة. فإن «الإخوان المسلمين» يتوسمون في الجامعة الإسلامية من الآمال والآفاق ما كان يتوسمه الحزب الوطني أيام مصطفى كامل من الجامعة العثمانية. وفي هذا تفكيك للوطنية المصرية وتشكيك في قيمتها ومستقبلها. وأنا مضطر أن أصرح بأني كنت متشائما من هذا الاتجاه الذي كان قائما وقتئذ.
ولكن يجب أن نذكر الكسب أيضا. وهو كسب عظيم. وعندي أن أعظم مآثرنا هنا هو انتقال المرأة من ظلام القرون الوسطى إلى نور القرن العشرين. ويجب ألا يلومني القارئ إذا كررت وأطنبت في هذا الانتقال. فقد رأيت بعيني نسوة مصريات حوالي عام 1898 «يذبحن» الخنافس. فلما سألت عن السبب قيل لي: إنهن يطبخنها ويأكلنها كي يصبحن سمينات بعد النحافة ... ورأيت تلميذات المدرسة السنية حوالي 1903 وهن مبرقعات مع أن أعمارهن لم تكن تزيد على إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة. وكانت ناظرة المدرسة - وهي إنجليزية - تلح وتصر على التزام البرقع لأنه من «تقاليدنا». والانتقال من هذه الحال إلى «المرأة الجديدة» المحامية والطبيبة والصحفية وسائر نسوتنا السافرات هو آية في الرقي الاجتماعي لا نكاد نصدقها لولا أننا نحسها ونختبرها. والجيل الجديد لا يقدر هذا الارتقاء لأنه لم ير عمق الهاوية التي كنا فيها قبل 1919. وهذا الارتقاء النسوي في مصر هو مرحلة من الرقي الاجتماعي قد قطعناها ولن تستطيع قوة أن تنزعها منا. فقد انتصرنا بها على القرون الوسطى وعلى الشرق معا.
وكذلك كسبنا في التعليم ولكن كسبنا هنا أقل من الارتقاء النسوي. فإني أذكر أني حين كنت تلميذا بالمدارس الثانوية لم يكن في القطر المصري كله غير ثلاث مدارس ثانوية لا تدخلها فتاة. وهي الآن تعد بالعشرات والفتاة تتعلم فيها أيضا بلا عائق. وكذلك الجامعات التي لم نكن في أيامنا ندري معناها، والتي كان الإنجليز يحظرون علينا تأسيسها.
ولكن نهضتنا التعليمية سارت مع ذلك ببطء. ولا تزال بطيئة. وأذكر أن أحد الأمريكيين قبل عشر سنوات سألني عن عدد المدارس الثانوية للبنات فقلت إنها تسع - ولم تكن تبلغ ذلك - فقال: «كنت أنتظر أن تقول إنها تسعون مدرسة.» على أن هذا البطء لم يمنع تخريج ألوف الشبان المتعلمين والفتيات المتعلمات الذين يعتمد عليهم في تكوين رأي عام مستنير سوف يصون الدستور من العبث، ويحمل الحاكمين على مراعاة العدل وإنصاف الأمة في المستقبل. ولكن حماستنا للتعليم قد أعثرتنا فيما يسمى «التعليم الإلزامي» الذي أنفقنا عليه منذ إيجاد نظامه إلى الآن نحو خمسين مليون جنيه دون أن نستطيع تخريج مصري واحد متعلم منه . وعلة ذلك أنه تعليم يقوم على نظام شرقي غير عصري.
وقد ارتقينا في الصناعة. فصارت لنا صناعات كبيرة. ونسينا الأكذوبة التي كان يشيعها المحتلون البريطانيون بيننا ويطلبون منا تصديقها، وهي أن مصر «بلاد زراعية»؛ وذلك كي يقصروا نشاطنا على زراعة القطن ويمنعونا من الصناعة. أي إنهم كانوا يرمون إلى أن نكون أمة لا تنتج للعالم سوى «المواد الخامة» كما يفعل الزنوج الأفريقيون. وقد اغتصبنا منهم الصناعة والتعليم اغتصابا؛ لأنهم كافحونا فيهما بكل ما قدروا عليه ثم انهزموا.
على أن هناك ما يحزن في حياتنا الاستقلالية أو الدستورية، مع جميع التحفظات الذهنية بشأن التدخل الاستعماري البريطاني فيهما. فإننا منذ 1922 إلى 1947 لم نقم بأي إصلاح يرفع من شأن الفلاح الاقتصادي أو يخفف من كوارث الفقر؛ فإن الفلاح يعيش الآن كما كان يعيش قبل 1919. وقد قرأت هذا الصباح في المصري - 11 أكتوبر 1947 - هذه الكلمات التالية بشأن وباء الكوليرا:
ولم تقع حتى الآن أية إصابة في القاهرة بين أفراد الطبقتين العالية والمتوسطة، وكل ما وقع من الإصابات حتى الآن كان بين أفراد الطبقات الفقيرة.
وهذا بعد أن مضى على تفشي هذا الوباء نحو عشرين يوما. وليس أدل على وهدة الفقر التي يتردى فيها تسعة أعشار الشعب المصري - بما فيها من حرمان وقذارة - من هذه الكلمات. وليس أدل على تقصيرنا في الإصلاح الاجتماعي من هذا الإهمال الفاضح لأبناء أمتنا. بل لقد أصبحنا نتهم بالشيوعية كل من يدعو إلى إصلاح اجتماعي ويبرز فضائح هذا الفقر الكالح الأسود الذي يعيش فيه فلاحونا وعمالنا. وبعض الكراهة للوفد تعزى إلى أنه قد حاول إصلاح هذه الحال فاتهم بالغلو في الديمقراطية التي لا يطيقها المستعمرون الإنجليز والمستبدون المصريون.
ولكن حال العامل في المصانع أرقى بكثير من حال الفلاح في الريف . وهو بقليل من السخاء من الإصلاحات الاجتماعية التي يتمتع بها العمال في أوروبا، يمكن أن يسير إلى مستوى أعلى.
والمشكلة التي تتحدانا في مصر الآن هي الفقر كيف نعالجه بل كيف نمحوه. ولا قيمة لأية أمة ولا معنى لأي رقي ما لم يكن الهدف هو مكافحة الفقر وما يجر من حرمان وجهل ومرض. أجل مرض الكوليرا الذي يفتك الآن بطبقاتنا الفقيرة لأنها عاجزة عن الحصول على الغذاء الوافي أو النظافة الوافية.
برنامج السنوات العشر القادمة
في شهر مايو من هذا العام - 1947 - ألقي علي القبض بتهمة إلقاء قنبلة في إحدى الدور السينمائية في القاهرة. وأيقظني البوليس في الساعة الثالثة من الصباح وساقني إلى القسم حيث اعتقلت إلى أن نقلت في الساعة الحادية عشرة إلى دار النيابة للتحقيق. وقد وافق هذا القبض علي بلوغي سن الستين. وهي سن التقاعد في نظر الحكومة المصرية أي السن التي تخور فيها القوى وينحط النشاط ويبدأ الركود. ولكن الحكومة أبت إلا أن تميزني بنشاط الشباب وأن تعزو إلى رعونته. وقد أتاح لي هذا القبض أن أفكر كثيرا وأن أتأمل حال مصر هذه الأيام بحال الأتراك أيام السلطنة العثمانية. وذكرت قصة كان قد قصها علي مصري قبل أربعين سنة. فإنه كان حوالي 1907 قادما من أوروبا إلى الأستانة. وكان يلبس القبعة لأنه لم يكن يرغب في لفت الأنظار إليه إذا لبس الطربوش وسار في شوارع باريس وبرلين وبودابست. وكان طربوشه في حقيبته قد احتفظ به إلى يوم يعود إلى مصر. فلما بلغ عاصمة السلطنة العثمانية وصرح بأنه مصري زمجر في وجهه رجال البوليس التركي وسألوه كيف يكون مصريا يلبس قبعة. لا بد أنه جاسوس. وألقي به في السجن.
فلما دخل السجن وجد صبيين تركيين لا يزيد عمر أكبرهما على اثنتي عشرة سنة. وكانت تهمتهما سياسية ... وقد وجدت سبيلا للمقارنة بين اتهامي بإلقاء قنبلة وأنا في الستين من عمري وبين اتهام صبي في سن الثانية عشرة بقلب نظام الحكم في تركيا. وقلت في حديث النفس وأنا معتقل على الأسفلت في قسم الأزبكية: أنا وهذان الصبيان ضحايا الجهل النشيط في الأستانة والقاهرة على حد تعبير جوتيه.
وأنا في سن الستين الآن أحس أني «قوي القوى كلها» كما كان يقول الفارابي أو ابن سينا عن نفسه. ولذلك أرى من حقي - أو بالأحرى واجبي - أن أضع برنامجا للسنين العشر القادمة.
وعلى ذكر ابن سينا أقول إني أجد له اختيارا ثقافيا يتفق واختياري. فهو يقول في ترجمته بحياته: «فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها. وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج. وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء.»
وابن سينا لا يعني بالطبع أن المعارف لم تزد بعد هذه السن. وإنما هو يعني أن المبادئ والنظريات والآراء والاتجاهات التي استقرت عنده حوالي الثامنة عشرة لم تتغير بعد ذلك. وإنما قصارى ما حدث فيها توسع وتعمق أي نضج. وظني أن هذه هي حال الجميع الذين عنوا بالتربية الذاتية. فإني حين أعود إلى «مقدمة السبرمان» التي ألفتها وأنا حوالي التاسعة عشرة وأتأمل الموضوعات التي عالجتها فيها لا أكاد أجد موضوعا جديدا قد درسته بعد ذلك طوال الأربعين سنة الأخيرة. وإنما قصارى ما حدث لي هو توسع وتعمق أي نضج. أي إني أستطيع أن أؤلف عن كل فصل من فصول «مقدمة السبرمان» كتابا برأسه. ولا أعرف وأنا أوشك أن أبدأ العقد السابع من عمري فكرة جديدة لم أومئ إليها في تلك الرسالة التي طبعت في 1909.
وليس كبيرا أن أطمع في عشر سنوات قادمة؛ فإن الطب العصري يتقدم بسرعة وهو معقد الآمال لأولئك الذين ينشدون من الشيخوخة عنفوانا وريعانا. وإذا لم نجد منه الشباب الذي يتيح العدو والوثب «وإلقاء القنابل» في الستين والسبعين فلا أقل من أن نجد اليقظة والقدرة على الاستمتاع مع بقاء الحواس سليمة. ولذلك أرى أنه لا يجوز لي أن أترك هذه السنين العشر الباقية تتابع جزافا بل سأضع لها برنامجا يزيدني توسعا وتعمقا للحياة على مستواها الوجداني في الشبكة الدماغية العالية.
وفي أثناء الحرب الكبرى الثانية كنت أتوق إلى رؤية نهايتها واستقرارها على سلم. ولكني إلى الآن لم أر الاستقرار وإن كنت قد رأيت النهاية. وهي نهاية مع ذلك تومئ إلى أنها سوف تكون بداية. ذلك أن العالم يسير رويدا نحو «الأزمة الماركسية» في تصادم نظامين يتناقضان. ونحن الآن في طور المهاترة والسباب بين هذين النظامين وعن قريب سنرى التصادم بالقنابل. وسيرى العالم عن قريب هل القرن العشرين هو القرن الأمريكي أو هو القرن الروسي. وأنا متتبع لأطوار هذا الصراع تائق إلى رؤية نتيجته متشائم في انتظار الحرب الكبرى الثالثة. ولكن لا يزال هناك أمل ضعيف بأن العالم يستطيع بالتسويات والتطورات أن يتجنب هذه الحرب. وأنا أقرأ هذه الأيام أخبار الصين وقوانين العمال الجديدة في الولايات المتحدة وتأميم المناجم والأرض الزراعية في بعض أوروبا ... وأيضا أقرأ أخبار التقدم الآلي الصناعي الكيماوي. وأقرن هذه الأخبار وأجمعها في ضوء الأزمة الماركسية التي ينتظر تفاقمها: إنتاج يزيد ويحدث تعطلا يزيد أيضا، ثم رغبة في الحرب لمعالجة هذا التعطل.
وقد جعلتنا هذه الأزمة نعيش فيما يشبه الذبذبة العصبية كلنا في قلق نعاني مضض الانتظار ولا نعرف المصير. ولكن مع هذا القلق أو المضض نحن في انتباه واهتمام. نحن أحياء لا ننساق على غير وجدان بل ندري بجميع العوامل التي تجرنا إلى الهاوية أو تصدنا عنها. ولهذا السبب تعد الجريدة اليومية هذه الأيام من أعظم الوسائل للتثقيف الذاتي لأنها تنبهنا إلى الأخطار القادمة.
وقد كانت لي أطماع في شبابي أود أن أتابعها في شيخوختي. ولم تكن أطماعي مادية فقط. فلم أرهق نفسي في تحقيق أغراض مالية. وقد وصفني أحد الكتاب حديثا بأني مقتر. وهو واهم في هذا الزعم. فإني منذ 1913 إلى الآن لم أشتر سوى فدان واحد وعشرة قراريط. وليس لي رصيد في أي بنك؛ لأني من اليد إلى الفم. بل بلغ ما بعته من ميراثي منذ 1913 إلى الآن - أي في 34 سنة - أكثر مما اشتريت. وليس هذا القدر صغيرا بالمقارنة إلى جملة ميراثي. ولم أبال قط الاقتناء المالي؛ لأن كل همي واهتمامي هو الاقتناء الذاتي أو بالأحرى الاقتناء النفسي.
ولذلك يثب إلى ذهني في أول البرنامج أن أقرأ بعض الكتب أو أعيد قراءة البعض مما ترك في نفسي شكوكا أو شبهات ثقافية. فمن ذلك مثلا كتاب «الغصن الذهبي». فقد قرأت التلخيص الذي يزيد على ألف صفحة ولكني أنوي قراءة الأصل الذي يزيد على عشرين مجلدا. وهذا الكتاب هو كنز للثقافة القديمة حين شرع الإنسان البدائي يتحسس الدنيا ويتعرف إلى حقائقها ويحاول - في تخبط - أن يستخلص منها منطقا مفهوما. وتربيتي ناقصة نقصا عظيما ما لم أقرأ هذه المجلدات كلها. ثم بعد ذلك أنوي قراءة كتاب الموتى أو «طلوع النهار» كما كان يسميه أسلافنا قبل خمسة آلاف سنة. وهو الذي كان يدفن مع الموتى كي يتعلموا منه الإجابات السديدة وقت الحساب في العالم الثاني. وهذا الكتاب هو زاوية منفصلة للبحث الذي يبحثه «الغصن الذهبي».
أما بعد ذلك فإني أنوي دراسة الذرة. ولو احتاج الأمر إلى استئجار مدرس. لأن خطورتها أكبر من أن يهملها رجل مثقف. وفي المستقبل حين تستغل الذرة لخدمة البشر بدلا من قتلهم، سوف يقسم التاريخ البشري قسمين: ما قبل الذرة وما بعدها.
ولكن هناك دراسة أخرى، قد تكون لها علاقة بالذرة، لا تفتأ تهجس بي كما لو كانت وسواسا هي العلاقة بين القوة والمادة أو الله والكون. وظني هنا أني مع سبينوزا. ولكني لما أهتد إلى همزة الوصل بين القوة والمادة. أعني أني لم أبلغ درجة من الفهم في هذه المشكلة أستطيع بها أن أرتفع إلى التعبير اللغوي عنها.
وقد كان يقال إلى وقت قريب، بل لا يزال هناك من يقول إنه ليس هناك حد تقف عنده المعارف البشرية. ولكن هذا خطأ؛ لأن هذا المعارف محدودة في هذا الكون. وظني أننا نعرف في عصرنا الحاضر أكثر من نصفها أو ثلثيها، ولم يبق علينا غير الثلث أو أقل. ونستطيع أن نستبدل بكلمة «معارف» كلمة «حقائق»؛ فإني لا أستطيع أن أعرف ما يقرب من مائة ألف نوع من الحشرات حشرة بعد أخرى. ولكني بتشريح حشرة واحدة أعرف حقيقة الحشرات جميعها. وعلى هذا الأساس نقول إن حقائق هذا الكون محدودة. وبعد جيلين أو ثلاثة أجيال لن يجد البشر ما يكتشفونه منها سواء على الأرض أم في النجوم أم في الحيوان أم في النبات.
ويجب أن تؤدي هذا الحال إلى التشجيع والتفاؤل؛ فإن هذا الكون ليس من السعة أو العمق إلى الحدود الغيبية التي تثبط عن المحاولة والفهم، فهو مكشوف قليل الحقائق وقد أوشكنا أن نعرفها جميعها ولم يبق سوى استغلالها. وهناك بالطبع مظلمون يحاولون أن يستنبطوا الغيبيات السرية من الماديات المكشوفة. ولم أنخدع قط بهم. وهم عندي والباحثون عن الروح بالنقر على المائدة سواء. وظني أن مشكلتهم عاطفية تحتاج إلى التحليل النفسي وليست ذهنية تحتاج إلى المناقشة الوجدانية.
وفي السنين العشر القادمة سوف أتوسع وأتعمق في السيكلوجية والبيولوجية، وأزداد فيهما نضجا. وهما من غرام الشباب الذي لازمني إلى الشيخوخة. ومن أطماعي الثقافية أيضا أن أجعل علاقتي بأرسطوطاليس حية أكثر مما كانت إلى الآن. فإن «عصرية» هذا الرجل عجيبة. ولو أنه كانت له قدرة أفلاطون الأدبية في التعبير لكانت مؤلفاته على لسان العامة قبل الخاصة. ولو أني بلغت من المعرفة بأرسطوطاليس ما بلغته بجوتيه أو برناردشو لعددت هذا فوزا عظيما في حياتي. ولكن هذه أمنية مستحيلة.
وسيكون لي كفاح ثقافي في مصر، فلن أكف عن تأليف الكتب المقلقة مثل «نظرية التطور» أو «حرية الفكر» ... خمائر صغيرة أبعثها في أنحاء الوادي وغيره إلى الأقطار العربية كي أزعزع التقاليد السوداء وأحرق العفن الذي تركته على العقول المطموسة. ومن مسرات حياتي أن أجد أن مؤلفاتي «تسري» في الجسم الاجتماعي على مهل وفي غير عنف فيأخذ التطور مكان الجمود والنزعة الارتقائية مكان الرجعية الجامدة.
وكذلك أرجو أن يكون لي كفاح صحفي للدفاع عن الديمقراطية في مصر. وظني أني لن أرى انتصارا للديمقراطية في السنين العشر القادمة؛ لأن الرجعية والاستبداد في استقرار واستحكام والديمقراطية عزلاء من كل سلاح. بل إن الصراع القائم في أيامنا بين أمريكا وروسيا سوف يعزز الرجعية والاستبداد في مصر؛ لأن جميع الحركات اليسارية قد أصبح الأمريكيون يشتبهون فيها ويحضون على مكافحتها. ولكن هذه الحال يجب أن تدعونا جميعا إلى الدعاية الديمقراطية بل إلى الإلحاح في هذه الدعاية وإلا عم الظلام مصر بأكثر مما كان يعمها قبل سبعين سنة. ولا أظن أني مسرف هنا في التشاؤم. فإن في مصر الآن قوات كبرى تتأهب وتتكاتف لتحطيم الأنظمة الديمقراطية ومكافحة الاتجاهات الديمقراطية في مصر. وهذه الحال يجب أن تزيدنا حماسة وغيرة لمكافحة الاستبداد والرجعية. وأرجو أن يكون لي نصيب يمتعني بهذا الكفاح الذي أطمع في الاشتراك فيه.
وثم مطامع أخرى تكاد لبعدها عن الواقع تقارب الأماني. منها أن أرى أوروبا وأحس رياح البلطيق في شمال ألمانيا وأسأل عن الكلمات الفرعونية التي لا تزال باقية في فنلندا، وأرى المرأة الأوروبية الجديدة: نورا، التي كتب عنها إبسن وأثار بها خيالي قبل أربعين سنة. وأحب أن أقرأ «جورنال دوجنيف» وهو لا يزال ساخنا فور خروجه من المطبعة. وأحب أن أقعد في قهوة في البولفار في باريس وأناقش في السياسة. أناقش وأنا مطمئن إذ لن يقول لي أحد القاعدين: «اسكت، ليس لك حق في المناقشة، الإنجليز أسيادكم.» ثم أقصد إلى غرفتي وأنا ذليل مهين أتبرز الدم والمخاط. كما حدث لي حوالي 1908. وأحب أن أزور تمبكتو في أفريقيا وبكين في الصين. وأحب أن أقف أمام جبل هملايا وأحس خشوع العبادة للكون. أحب أن أرى كل هذا لأن من واجب من يعيش في الدنيا أن يرى الدنيا. ولكن العالم لم ينظم إلى الآن كي يحس أبناؤه أنهم يملكون هذه الدنيا. ووطنيتنا الكبرى مجزأة وقوميتنا البشرية ممزقة، فنحن في أوطان كأنها أحجار لا نخرج منها إلا بإذن وفي فزع، ونحن نلوي ألسنتنا بأصوات مختلفة فنظن أننا مختلفون.
وأخيرا أحب أن يكون من برنامجي قضاء السنوات الخمس الأخيرة من العمر في الريف حيث أصادق الخراف والحمير والبقر والشجر، وأتحدث إلى النجوم وأحيي الشمس في الصباح وأضحك مع الماء يجري بين النبات وآكل الخس والفجل على حرف القناة.
وهنا يستطيع السيكلوجي أن يجد في هذا الشوق إلى الريف «هروبية» كأني قد انهزمت أمام الصعاب المدنية والثقافة العصرية المتقلقلة. وأنا لا أحلل هنا. ولكني لا أحب أن تكون هذه السنوات الخمس الأخيرة من العقد السابع آخر العمر لأني ما زلت أطمع في تجديد البرنامج عشر سنوات أخرى، بل وعشر أخرى. فإن الشباب في الثمانين والتسعين لم يعد أمنية بعيدة إذ هو حقيقة راهنة في مئات من الذين عنوا بثقافة الذهن وثقافة الجسم معا.
من 1947 إلى 1957
الصفحات السابقة وهي كتاب «تربية سلامة موسى» في طبعته الأولى تركتها على أصلها لم أغير فيها منذ كتبتها في 1947.
أما الصفحات التالية فقد كتبتها في سنة 1956 و1957.
عشر سنوات
عشر سنوات مضت منذ كتبت ونشرت الصفحات السابقة. وقد حدثت في هذه المدة أحداث داخلية وخارجية تستحق التدوين لما لها من خطورة وطنية أو عالمية وذكريات سارة أو أليمة.
فأما أحداثنا الداخلية فأكبرها ثورة 1952 وطرد فاروق وإعلان الجمهورية ثم تأميم قناة السويس في 1956 بعد إجلاء الجيش البريطاني عن الوطن.
وأما الأحداث الخارجية فكثيرة. كان أعظمها بلا شك الانقلاب الاشتراكي في الصين. ثم التقدم العلمي في اختراع القنبلة الهيدروجينية، ثم الأقمار الصناعية التي يدور منها اثنان حول الكرة الأرضية، وأنا أكتب الآن هذه الكلمات في نوفمبر من 1957.
بلادنا تغيرت والدنيا تغيرت.
فإننا منذ تبوأ صلاح الدين الأيوبي عرش مصر في 1176 إلى نهاية حكم فاروق في 1952 لم نعرف ملكا أو سلطانا عربيا أو مصريا؛ إذ كانوا كلهم أتراكا أو أكرادا. وقد دمروا مصر تدميرا كاد يكون كاملا.
ولذلك كان خلع فاروق انتصارا للقومية المصرية العربية وليس محض انتقال من النظام الملوكي إلى النظام الجمهوري؛ لأن الانتقال الأكبر كان من الحكم التركي الكردي الذي عاش 776 سنة إلى الحكم المصري العربي الذي سيعيش إلى الأبد بإرادة الشعب. •••
كان فساد الحكم - قبيل خلع الشقي فاروق - قد بلغ أقصاه. وكانت السراي تستخدم كل من شاءت من الموظفين، وخاصة الجواسيس، لتعقب جميع الذين يشتبه في سلوكهم نحوها. وما زلت أذكر أن صديقي محمد خالد الكاتب الناهض المعروف زارني ذات يوم. وقعدنا في مكتبتي وتجاذبنا الحديث عن الفساد العام في الأحزاب والزعماء وجرأة فاروق على العدوان. وتبادلنا كلمات تساءلنا فيها إذا كان فاروق ينوي قتلنا في الشارع؟ وأن من الأصوب ألا نبقى خارج منازلنا إلى ما بعد الغروب. وكان قد شاع عن فاروق أنه يقتل خصومه. ولم يكن أسهل من قتلنا في الظلام على أيدي الجواسيس أو القبض علينا وطرحنا في أحد السجون ثم الادعاء بأننا متنا بالسكتة.
وكانت تهمتنا وقتئذ أننا كنا نريد قلب نظام الحكم من الملوكية إلى الجمهورية. وتقدمت جاسوسة معروفة كانت تختلط بالأدباء وتصادق أديبا «كبيرا» بهذه التهمة لنا - أنا والدكتور مندور - إلى السراي. وقامت النيابة العامة بالتحقيق وأفرجت عنا بعد اعتقالي 15 يوما واعتقال مندور 50 يوما.
ولذلك كان يوم خلع فاروق يوم التهاني تصل إلي عن طريق التليفون وبالمصافحة في الطريق وبالزيارة لبيتنا حين كنا نقدم الشربات للمهنئين. ومما يذكر مع السرور أن ضغط الدم عندي كان على الدوام حوالي 180، ولكن بعد طرد هذا الشقي من مصر انخفض إلى 150. وبقي على ذلك إلى الآن.
وفساد فاروق يعود - كما هو الشأن في جميع الفاسدين - إلى الوسط الفاسد الذي نشأ فيه. فإن تربيته الأولى أيام الطفولة والصبا كانت تتجه نحو حرمانه مما كان يشتهي من طعام؛ لأن أباه المغفل فؤاد كان يعتقد أن هذا الحرمان سوف يصنع منه رجلا يضبط شهواته. ولكن الذي حدث أن فاروق تعلم سرقة الطعام كما تعود خدمه الخاصون به تهريب الطعام إليه. فنشأ على اعوجاج في الأخلاق يقصد إلى مآربه بطرق سرية ملتوية غير صريحة.
ولما مات أبوه انفرج بعد الضيق فأصبح يأكل كما لو كان ثورا. ومن هنا هذا الإفراط في السمن الذي انتهى إليه.
ولما أصبح ملكا وجد أن النظام الحزبي في مصر يتيح له أن يستغل الخلافات والمتناقضات فيضرب حزبا بآخر كي تنتهي السلطة إليه وحده. فإذا كان حزب الوفد يطالب بالحد من سلطانه وهو في الحكم، فإن حزب الأحرار الدستوريين يسلم له - وهو خارج الحكم - بما بخل به عليه حزب الوفد؛ فيطرد الوزارة الوفدية ويأتي بوزارة من الأحرار الدستوريين. أما حكم الدستور ففي التراب.
وكان فاروق يجد - مع الأسف - من يؤيده من السفلة في هذا السلوك الإجرامي نحو الوطن.
ولكن أي وطن؟ إن مصر لم تكن وطنه إلا من حيث الشكل. وكان مكانه منها الإقطاعي يستغل أبناءها. ولم يتعلم قط تاريخها ولم يدرس لغتها ولم يهدف إلى أهدافها، وهذا شأن أسرته كلها منذ أيام محمد علي؛ أي منذ 150 سنة. بل ماذا أقول؟ كان شأنه شأن الحاكمين الأتراك والأكراد منذ صلاح الدين الأيوبي إلى 1952.
وكان الشعب مع الوفد على الدوام إلى سنة 1950.
أما بعد ذلك فقد رسخ في أذهان المفكرين أن الوفد لم يعد الهيئة الثورية التي كانت تكافح استعمار الإنجليز واستبداد السراي كما كانت حاله أيام سعد بل بعد سعد إلى سنة 1950. وكان الوفد - حين يتولى الحكم - يبقى مناضلا لا يساوم ولا يخضع. ولكنه - لهذا السبب نفسه - لم يكن يبقى في الحكم أكثر من سنة أو سنة وشهورا، ثم يطرد، وتأتي في مكانه وزارة يتولى رياستها أحمد زيور أو إسماعيل صدقي أو محمد حسين هيكل أو إبراهيم عبد الهادي أو غيرهم.
وزارة تسلم بكل طلبات السراي وتمجد اسم فاروق وآباءه وجدوده ومآثره وفضائله. حتى لقد قال الشيخ علي عبد الرازق - وكان وقتئذ وزيرا للأوقاف - إن الله يجدد دينه مرة كل مائة سنة، وإن فاروق هو الموكل بتجديد الدين هذه المرة ...
ولم يكن التملق مقصورا على الوزراء؛ فإن أديبا «كبيرا» وصفه في مقال بأنه فيلسوف، كما أن أديبا كبيرا وأستاذا محترما آخر وقف في الجامعة، ومئات الطلبة أمامه يستمعون، وفاروق ينصت لكلماته، وقف يقول له: «وإن سلوكك الشخصي يا مولاي ليصلح أن يكون قدوة لشعبك وللناس.» ولا تنسى كلمة «الشخصي».
وكان المؤلفون يذكرونه في مقدمات كتبهم على أنه «المصلح العظيم».
هكذا أفسد الوزراء والأساتذة فاروق؛ ففسد.
وفي 1950 انتهى الوفد إلى حال من اليأس حملته على أن يقبل ويمارس منطقا جديدا أملاه عليه إقطاعي كبير. خلاصته أن الوفديين لا يبقون في الحكم إلا سنة أو سنة وشهورا؛ لأنهم يعارضون طلبات السراي. أما الأحزاب الأخرى فتبقى أربع وخمس سنوات لأنها تبلي طلبات السراي ولا تعارض. وأنه خير للوفد أنه يلبي هو الآخر طلبات السراي ويكف عن خطة المعارضة التي ورثها من أيام سعد زغلول؛ وذلك كي يبقى في الحكم خمس سنوات.
وأذكر أني قصدت إلى منزل مصطفى النحاس قبيل تأليف الوزارة الوفدية الأخيرة. وكان هناك جمع محتشد يزيد على المائة. فألقى الزعيم - الذي كنا نحترمه - خطبة أطنب فيها في الثناء على فاروق وقال إن حكومة الوفد ستكون صارمة في القضاء على كل حركة يقصد منها إلى المساس بجلالة الملك.
وعم الحاضرين وجوم، ولكن الزعيم لم يكترث لهذا الوجوم. فمضى يشرح ويؤكد المعاني للمحالفة الجديدة بين الوفد والسراي.
وانفض الشعب عن الوفد في أسف ويأس.
وجعل فاروق يرقص ويرفس كما يشاء. وانتهى باختيار أحد حظاياه فجعله وزيرا. وكان هذا الحظي يقعد في ملهى الأوبرج ويصفعه فاروق على قفاه مداعبة ولهوا. وبكت مصر لا لخيبة فاروق وحده بل لخيبة رجالها وزعمائها أيضا.
وما زلت أذكر حادثا عجيبا وقع في 1951. فقد كنت مع أصدقاء في مشاهدة قصة سينمائية وخرجنا حوالي الساعة الحادية عشرة وسرنا في شارع عماد الدين نستروح نسيم المساء. فأشار أحدنا إلى شارع إلى اليمين وقال: هنا ماخور يزوره فاروق في بعض الليالي.
وأثارت هذه العبارة استطلاعنا ودخلنا الشارع. فوجدنا رجال البوليس السري في ملابسهم التنكرية واقفين في الأماكن الاستراتيجية. ووجدنا السيارات. ورأينا البيت تتلألأ منه أنوار المصابيح.
وكان رجال البوليس السري في غاية الكياسة يمنعون ويشيرون في رفق واستحياء. وكثرت تعليقاتنا. وقصد كل منا إلى مسكنه وهو يفكر.
وعندما أتأمل تلك الأحداث المهينة لتاريخنا أجد أن الوفد لم يكن ليجد الفرصة لضرب السراي أكثر مما وجدها في 1950؛ فإن فاروق قبل سنتين كان قد دفع الجيش المصري إلى مقاتلة إسرائيل دون أن يستشير مجلس الوزراء فضلا عن البرلمان. وهذا عمل يكفي وحده لخلع أي ملك في العالم. وأوقعنا بذلك في حرب كان جيشنا فيها لا يزيد على 23 ألف جندي بينما كان جيش إسرائيل يبلغ 65 ألف جندي. وأنا أنقل هذه الأرقام عن جلوب (باشا) الذي لا يمكن أن يتهم بحب مصر.
على أن لفاروق هنا فضلا قد أسداه إلى بلادنا من حيث لا يدري ومن حيث لا يقصد؛ ذلك أن الحرب بيننا وبين إسرائيل قد نبهت الجيش إلى مدى الفساد الذي كان يعم بلادنا. فكانت بداية التفكير والعمل لإنقاذ الوطن من الاستعمار البريطاني والاستبداد الفاروقي. وبدأت الثورة تختمر. •••
وسارت الثورة، التي شرحتها في كتابي «الثورات»، في تدرج: التخلص من السراي، ثم التخلص من الإقطاعيين، ثم التخلص من الإنجليز، ثم البناء والإصلاح. •••
وكان أعظم ما قامت به الثورة - بعد ذلك - هو الإقدام على تأميم قناة السويس في 1956.
وتاريخ هذه القناة لا يقرؤه مصري إلا مع الألم والغيظ؛ فإنه أكبر عملية نصب واحتيال في السياسة العالمية في القرن التاسع عشر.
وأذكر أني في 1947 دعوت في مقال بمجلة «مسامرات الجيب» التي كان يصدرها الأستاذ عمر عبد العزيز إلى تأميم هذه القناة. وقلت في تدليلي وتبريري إن هذه القناة تقع في أرض مصرية، وإن تأميمها من حيث القانون لا يزيد على تأميم الترام في القاهرة. وعدت فكتبت مقالات أخرى في هذا المعنى في مجلات أخرى. ولا أعتقد إلا أن الوفديين كانوا يقرءون مقالاتي هذه في استهزاء وسخرية. ولكن أحد الصحفيين سأل النحاس (باشا) - بإيعاز من الشركة على ما أظن - عن إشاعة التأميم؛ فأجاب بأنه ليس عند الحكومة أية نية للتأميم وأنها تنتظر انتهاء الامتياز حين تستولي عليها أي في 1969 ... كان الوفد قد فقد روح الكفاح.
وأممت القناة في 1956. وأحس الشعب أنه بهذا التأميم لم يسترد هذه القناة فقط بل استرد كرامته.
وقصة الكفاح الذي كافحنا به الدول الثلاث التي أغارت علينا بقواتها في البر والبحر والهواء لا تزال ماثلة في أذهان الجمهور. ولكن شيئا واحدا يجهله الجمهور وهو أن أمريكا التي كانت تبدو كأنها تدافع عنها وتلوم المغيرين ، هذه الدولة طلبنا منها في الأيام الأولى من القتال أن تسعفنا بالقمح لأن ما كان عندنا منه لم يكن ليكفي أكثر من ثلاثة أسابيع؛ فرفضت. وأصررنا على الطلب، فرضيت بشرط أن ندفع الثمن بالدولارات، ولم تكن عندنا دولارات.
وكانت خطة الولايات المتحدة أن تغزونا من الداخل أي تنتظر حتى يعم بيننا قحط يحمل الجائعين على الثورة. وعلى الاستنجاد بالأمريكيين.
هذا هو الذكاء العظيم الذي تفتق عنه ذهن أيزنهاور الذي كان يلوم فرنسا وبريطانيا وإسرائيل؛ لأنهم أغاروا علينا فجعلوا العالم يستنكر خططهم. أما خطته فلن تستنكر. أليس العالم «الحر» حرا في أن يبيع القمح أو لا يبيع؟
وعمدت حكومتنا إلى الدولة السوفيتية الاشتراكية وطلبت منها إسعافنا بالقمح. فلبت الطلب فورا.
ومن ذلك اليوم إلى الآن يشكو أحد وزرائنا لغطا في القلب لفرط ما فزع عندما اعتقد أن الشعب سيجوع وأنه هو المسئول.
إن «الديمقراطية» الغربية كانت تنوي إيجاد مجاعة في بلادنا كي نخضع ولكن الاشتراكية السوفيتية أنقذتنا. فلم نجع، ولم نخضع، ولم ينقلب نظام الحكم، ولم يرجع فاروق، وبقيت جمهوريتنا سليمة. •••
وقصة علاقاتنا مع الدولة السوفيتية من أروع القصص التاريخية، فإنها تحوي ألوانا من النذالة والشهامة، والشرف والدناءة.
والشهامة والشرف في جانب الاتحاد السوفيتي والنذالة والدناءة في جانب الدول الغربية التي تصف نفسها بأنها حرة وبأنها ديمقراطية، ولا تذكر نفسها بأنها دول استعمارية قتلت الألوف من الهنود والمصريين والجزائريين بعد أن نهبت ثرواتهم.
ذلك أننا - عقب ثورة أكتوبر في 1917 - حين استولى البولشفيون على الحكم، قاطعنا دولة الاتحاد السوفيتي بإيعاز بل بإلزام من الإنجليز. وكان يكون معقولا - في عرف السياسة الاستعمارية السائدة وقتئذ - لو أن هذه المقاطعة اقتصرت على التبادل الدبلوماسي. ولكن الإنجليز جعلوا هذه المقاطعة تجارية أيضا. فكانت الدولة السوفيتية إذا احتاجت إلى القطن المصري رفضنا نحن بيعه لها. وعندئذ كان الإنجليز يشترون منا ما يحتاج إليه السوفيتيون ويبيعونه لهم. وفرق الثمن يذهب إلى جيوبهم. وكنا نرضى بهذه الحال ...
وبقينا على نحو ذلك عشرين سنة نرفض بيع قطننا للروس وغير الروس من دولة الاتحاد السوفيتي. وذلك بزعم أن الشيوعية تدخل بلادنا إذا تعاملنا مع السوفيتيين.
إن أقل ما خسرناه في هذه المقاطعة الجنونية يبلغ نحو مائة مليون جنيه كسبها الإنجليز منا بدعوى حمايتنا من الشيوعية. وكان لنا وزراء عمي صم لا يفهمون، أو خونة جبناء يعرفون ويخفون. وكان لفؤاد الملك السابق الجبان اللعين أكبر الأثر في هذه المقاطعة.
وبقينا على تجمد في العلاقات مع الاتحاد السوفيتي إلى يوم الهجوم على قناة السويس في 1956. فرأينا الظلام في الظهر. وجعلت عيوننا ترود الظلام نبحث عن أصدقاء. ووجدناهم، وكان في مقدمتهم الاتحاد السوفيتي، والهند، والصين والدول العربية، أو بعضها.
وهددت دولة الاتحاد السوفيتي الدول الثلاث الغادرة بالصواريخ، إذا لم تكف عن الهجوم وتنسحب. وخضعت هذه الدول وهي ذليلة وخرجنا نحن منتصرين. وكان من أكبر العوامل لانتصارنا أن انضم الشعب إلى الجيش في بورسعيد؛ فلم يظفر الأعداء بالاكتساح السريع لقناة السويس كما كانوا يدبرون.
وانتصر العدل بانتصارنا؛ إذ ثبت أولا أن الدول الناهضة الجديدة مثل الهند والصين والاتحاد السوفيتي تقاطع الاستعمار وتطارده. وثبت ثانيا أن هيئة الأمم - على الرغم من كل نقائصها - تستطيع أحيانا أن تقف في صف العدل والحق ضد الطغيان والاستعمار. بل ثبت أخيرا أن العالم كله قد أصبح على وعي أي وجدان بعضه ببعض، وأنه لم يعد هناك مكان للتسلل في خفية إلى الاستعمار. •••
حين أعرض لأحداث بلادنا فيما بين 1947 و1957 أجدها على اختلاف بارز بين نصفيها. فالنصف الأول إلى 1952 كان انحدارا كاد يكون انهيارا في السياسة والأخلاق. فقد ظهرت حركات رجعية أوشكت على إحالة بلادنا إلى جهنم. كما فسد الجهاز الحكومي وطغى العرش واستخفت الأحزاب بالقيم الأخلاقية بل استهترت. وأصبح الزعماء والساسة الذين كنا نحترمهم لكفاحهم متسلقين يرغبون في الوصول إلى القمم. وهي في الأغلب قمم الثراء والسلطان دون أي حساب للشعب. بل تجاوزت هذه الحال إلى من نسميهم أدباء ومؤلفين وصحفيين كبار؛ فقد ارتشوا إلا الأقلين، عن ضمائرهم وصاروا يؤلفون ويكتبون كما لو كانوا يكتبون إعلانات مأجورة في الصحف بل إعلانات خادعة غاشة لخدمة النذل فاروق.
أما النصف الثاني - أي من بداية الثورة في 23 يوليو من 1952 إلى 1957 - فيمثل نهضة الشعب. وهي نهضة إنشائية بنائية في جميع المرافق ما زلنا ماضين في طريقها الذي لن يكون له آخر. وأنا لذلك كبير التفاؤل بالمستقبل، وخاصة بعد هذا الاتفاق الذي عقدناه بيننا وبين الاتحاد السوفيتي في نوفمبر من 1957 على تصنيع بلادنا، هذا التصنيع الذي أمضيت أكثر من ثلاثين سنة وأنا أنادي به.
ومتى انتشرت المصانع بيننا فإن كثيرا من أزماتنا سيحل، بل هذه الأزمات تحل نفسها عندئذ بلا عمل إرادي من الحكومة. فإن التعطل سيزول، وخاصة تعطل المتعلمين. وسيأخذ الاتجاه العلمي مكان الاتجاه الأدبي. وستزول العقائد التي تعطل التطور النفسي للشعب.
الثقافة العلمية ستكون النتيجة للحضارة الصناعية. ثم تعود هذه الثقافة فتؤثر في هذه الحضارة، ويستمر التفاعل بينهما. •••
إن هذه الكلمات الموجزة التي كتبتها في وصف إحساسي للأحداث الكبرى التي خلفت آثارها في بلادنا في السنوات العشر الماضية كنت أحب أن ألحق بها وصفا آخر للأحداث الكبرى في العالم. ولكن الإيجاز الذي توخيته في الكلام عما حدث في بلادنا يطالبني بإيجاز مثله في شأن الأحداث العالمية.
وربما كان أعظم هذه الأحداث من حيث التنبيه العام لشعوب العالم وإيجاد وعي أي وجدان كوني جديد للإنسان، هو هذا الحدث الذي ما زلنا نعاين تفاصيله كل يوم. أي هذان القمران الصناعيان اللذان أرسلتهما دولة الاتحاد السوفيتي إلى السماوات يدوران حول الأرض.
وإطلاق الصواريخ لا يحتاج من العلم إلى ما تحتاج إليه القنبلة الذرية أو القنبلة الهيدروجينية. وهو فن أكثر مما هو علم. ولكن قيمته المسرحية كبيرة؛ لأنه بمثابة الإنذار للنائمين كي يصحوا أو للغافلين كي يتنبهوا.
وقد اضطرت الصحف إلى أن تلغط بشأن السفر إلى القمر ثم إلى الكواكب عقب إطلاق الصاروخين اللذين انطلق منهما القمران. وأصبحت العامة - قبل الخاصة - تتحدث وتعلق وتفكر. وهذا كله كسب للذكاء البشري سوف تكون له آثاره البعيدة العميقة في المستقبل القريب.
أما الحادث التاريخي العظيم بل الرهيب فهو ظهور الصين الجديدة دولة اشتراكية تقف في صف العدل والخير للبشر ضد الاستعمار والغدر والخيانة في الأمم التي تزعم أنها حرة وديمقراطية. وقد أصبح عدد الاشتراكيين في الاتحاد السوفيتي والصين ودول أوروبا الشرقية نحو 1000 مليون. وهم قوة كبيرة سوف تقضي على سبة البشر الكبرى - أي الاستعمار - في السنوات القريبة القادمة.
هم قوة جديدة. ولكنهم أيضا قوة عجيبة من طراز آخر غير ما عرفه التاريخ. فإن دولة الاتحاد السوفيتي مثلا تعاقب كل من يجرؤ من مواطنيها على الدعوة إلى الحرب بعقوبات قد تصل إلى السجن 25 سنة. وهذا في الوقت الذي يقف فيه الوغد تشرشل في فولتون بالولايات المتحدة ويطلب من حكومتها ضرب السوفيتيين بالقنابل الذرية.
ولو كان تشرشل مواطنا سوفيتيا وألقى هذه الخطبة ضد أمريكا مثلا في موسكو لعوقب بالسجن مدة قد تبلغ 25 سنة. ولكنه أحد المواطنين في بريطانيا دولة الاستعمار والحرب ونهب البترول من العرب وقتل اليمنيين والعمانيين والكنيويين ... إلخ.
ولا أستطيع أن أقول إن الحرب الكبرى الثالثة لن تقع. ولكني أقول إن احتمال وقوعها قد نقص بعد أن فاز الاتحاد السوفيتي باختراع الصواريخ وبعد أن زادت أسلحته الأخرى.
إن قوة الاتحاد السوفيتي هي الضمان الوحيد للسلم في العالم في عصرنا. •••
وأحتاج إلى أن أقول شيئا عما مر بشخصي من الحوادث في السنوات العشر الماضية.
فمنذ حوالي 1946 اتضح للوفديين أني - لما أتسم به من اليسارية - عبء عليهم وأنهم يتهمون برعايتي أو على الأقل بالتسامح معي. ولست أشك أني كنت مقلقا لهم؛ فإنهم لم يستطيعوا قط زحزحتي عن مبادئي الاشتراكية وعن نقدهم لتخلفهم في خدمة العمال، وعن كراهتي للسراي وبغضي للحركات الرجعية التي كثيرا ما حالفوها هم وصانعوها. وقوطعت من الصحف الوفدية. بل أستطيع أن أذكر حادثة تدل على النفاق المستتر الذي كان يمارسه زعماء في الصحافة.
ذلك أن أحد الصحفيين الوفديين الكبار - وهو ليس في مصر الآن - دعاني ذات يوم كي نتقابل للحديث في شأن مهم. فلما التقينا وجدته يعرض علي العمل في جريدته الكبرى بحيث أشرف على الاتجاهات السياسية؛ فلا يكون هناك فيما ينشر ما يخالف الخطط والأهداف الوفدية. وبقينا نحو ساعتين ونحن في نقاش، بل في ترتيب وتنظيم لصفحات جريدته. وبعد أن تعبنا افترقنا على أن نجتمع بعد يوم. ولكن مرت أيام ولم نجتمع ولم يطلبني هذا الصحفي الكبير.
وأحسست الإهمال بل الإهانة . وقصدت إلى موظف كبير بهذه الجريدة - صار وزيرا بعد ذلك - وقصصت عليه ما حدث. فابتسم وهو يقول: إنه - أي صاحب الجريدة - لا يعين موظفا في جريدته إلا بعد استشارة السراي. وإنه بالطبع قد عرض اسمي، فوجد الرفض البات المنتظر. فسكت، وأهمل الموضوع.
وهذا كان شأن كثيرين غيره. كانوا يتظاهرون بمعارضة السراي في استبدادها ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يحرصون على الولاء لها فلا يخالفون لها رأيا بل يستشيرونها.
وتسكعت جملة سنوات في الصحافة بسبب هذه المقاطعة؛ حتى لقد مرت علي شهور لم أكن أكسب منها سوى خمسة جنيهات في الشهر كنت أتناولها ثمنا لمقال في «مسامرات الجيب». ومن ذلك: المقال الذي دعوت فيه إلى تأميم قناة السويس.
وفيما بين 1947 و1952 كان «البوليس السياسي» أو «القلم المخصوص»، كانت كل هذه الهيئات تعربد وتعمل للتخريب في السياسة والصحافة والتفكير. وكانت جميع هذه الهيئات أيضا على اتصال بالسلطات الإنجليزية الاستعمارية بدعوى مكافحة الشيوعية وتبادل المعلومات عن نشاط الشيوعيين.
ولم يكن بعيدا على بعض هؤلاء الجواسيس - بحكم هذا الاتصال وطبيعته - أن يخدموا الإنجليز في خططهم الاستعمارية، بل إن هذا هو ما يرجح ما دام هناك اشتراك وتبادل في المعلومات ...
وطغى هذا البوليس طغيانا عظيما حتى لقد كان «يخطف» مؤلفاتي من مكتبة كادموس بلا أدنى حرج. فكان يدخل أحدهم ويضع يده على عشرة وعشرين مجلدا ويخرج بها دون أن يدفع الثمن بدعوى أنها محرمة. وكانت هذه المكتبة في شارع 26 يوليو (فؤاد سابقا). ولا تزال صاحبتها حية أما المكتبة فقد أقفلت.
والذي يجب أن أعترف به في ألم أن أدباءنا الكبار - إلى بداية الثورة في 1952 - لم يعملوا قط للثورة على الأوضاع الخسيسة التي كان يستند إليها نظام الحكم. فلم يكن بينهم إلا من أيد فاروق أسفل تأييد وأحطه. ولي الحق بأن أفخر بأني لم أكن كذلك. وقد نالوا بهذا التأييد كل ما أرادوا من مال وجاه، حتى لقد عيروني بأني أحسدهم على ما نالوه هم وحرمته أنا من يدي فاروق الملوثتين.
وها أنذا في 1957 أجد الجمهورية التي اتهمت بالدعوة إليها وحبست من أجل ذلك في 1946، وأجد نجاح دعوتي للصناعة وهي دعوة أمضيت فيها أكثر من ثلاثين سنة، وأجد دعوتي للعلم كما أجد الإيمان بنظرية التطور، وأخيرا أجد تهمتي بأني أحب دولة الاتحاد السوفيتي، هذه التهمة قد أصبحت فخرا، بعد إذ عرفنا وعاينا موقفها الأبي الكريم نحونا في هجوم فرنسا وبريطانيا وإسرائيل علينا في 1956. وأجد مصريا صميما على رأس حكومتنا هو جمال عبد الناصر الذي نشأ في عائلة فلاحين وتشمم تربة «خيم».
ولذلك أستطيع أن أقول: إني انتصرت. •••
من وقت لآخر أتساءل: ما هو القصد العام في حياتي الفكرية؟
وأجيب بأن القصد العام - عن وعي أو غير وعي - قد تغير عندي جملة مرات؛ ففي سني شبابي - حين كنت في أوروبا - كان أعظم ما يحفزني إلى الكفاح قصدان، هما: (1)
استقلال بلادنا من هوان السيطرة الإنجليزية. (2)
ثم تحرير المرأة من الحجاب ودعوتها إلى أن تكون لها شخصية مستقلة بالتعلم والعمل والإنتاج والكسب.
كانت هاتان الفكرتان تغمرانني في أوروبا. فلما عدت إلى مصر وجدت أن الوعي الديني أكبر وأعمق من الوعي القومي أو الوطني سواء بين المسلمين أم بين الأقباط. وأحسست عندئذ قصدا آخر هو ضرورة مكافحة الغيبيات بنشر نظرية التطور حتى تأخذ بينة العلم مكان عقيدة الإيمان. وعندئذ يجد الشباب وعيا جديدا هو الوعي للعلوم المادية الذي يساوي بين أبناء الأمة بل أبناء البشر، ويدعو إلى الوفاق بدلا من الشقاق.
وكنت وأنا في لندن قد درست الاشتراكية التي رسمت لي قصدا نبيلا عظيما ليس لمصر فقط بل للعالم كله. وقد كان من المحال أن نفرض نجاح هذه الدعوة التي كان الإنجليز المستعمرون والباشوات الإقطاعيون يتحدون في مقاومتها. ومع ذلك أنشأنا حزبا اشتراكيا في 1921 قتله سعد زغلول . مع أنه لو كان قد تركه لكان وسيلة إلى الدراسات الاقتصادية التي تنحاز في اتجاهها نحو الطبقات الفقيرة في بلادنا. ولكن سعد زغلول كان «باشا». وكان هذا التفكير أبعد ما يكون من ذهنه.
ثم وجدت لي قصدا علميا آخر هو تعميم الصناعة. وظني أني تعلقت بهذا القصد باعتبار الصناعة بديلا من الاشتراكية. أي بديلا يغري الأغنياء. ثم تكون هي - أي الصناعة بعد ذلك - وسيلة لتحقيق الاشتراكية.
ومع أني في كتابي «هؤلاء علموني» قد ذكرت نحو عشرين من الأدباء والعلماء والمفكرين الذين وجهوا نشاطي الذهني وربوا نفسي، فإني لم أذكر معهم كارل ماركس داعية الاشتراكية. والآن أحب أن أعترف أنه ليس في العالم من تأثرت به وتربيت عليه مثل كارل ماركس. وإنما كنت أتفادى من ذكر اسمه خشية الاتهام بالشيوعية.
والآن في 1957 أحس قصدا آخر إزاء الغيوم الذرية التي تخيم على العالم وتهدد البشر بالفناء. هو تعميم السلام ومكافحة دعاة الحرب. وهؤلاء الدعاة هم مائة في المائة استعماريون يهدفون إلى استعباد الشعوب الأفريقيا والأسيوية ونهب ثرواتهم ومنع الحضارة عنهم ولو بالمخاطرة بمستقبل البشر؛ إذ هم ليسوا بشرا، هم ذئاب.
وإني أعمل الآن في صحف «أخبار اليوم» وأؤلف الكتب بغية تحقيق هذه الأهداف.
سن السبعين
أبدأ هذا الأسبوع - 4 يناير 1956 - السنة السبعين من عمري، وهذه السن هي التي ذكرها سليمان الحكيم في التوراة بأنها أقصى ما ينشد الإنسان على الأرض. وهو بالطبع لم يكن يعرف وسائلنا الصحية الوقائية والغذائية وأننا نطمع إلى سن المائة محتفظين بشبابنا وقوتنا.
وأظن أن القارئ يحب أن يعرف إحساساتي وأنا على عتبة السبعين. والحق أني أحب أن أعرفها أنا نفسي. وعندما أتأملها أراني أعود إلى الذكريات في الماضي ثم أراني أؤمل للمستقبل.
وأول ما ألاحظ أن علامات الشيخوخة قد بدت على سطح الجسم أكثر مما بدت في داخله، فإن على وجهي غضونا، كما أن شعري الأسود الجعد قد استحال إلى زغب أبيض ناعم. ولكن بعد ذلك لا أجد من علامات الشيخوخة داخل جسمي سوى القليل الذي لا يؤبه به. بل القليل الذي أرتاح إليه مثل ضعف الشهوات النارية التي كانت وقت اشتعالها تقارب التشنجات. وكذلك يجب أن أسلم بأن الذاكرة قد ضعفت بعض الشيء. ولكن يقوم مقامها استيعاب عام يقارب الحكمة.
ولكني حين أعود إلى السنين الماضية أحس الرضى - إن لم يكن السرور - بأني عشت حياة حافلة بالأفكار العميقة والاقتحامات الذهنية والشهوات العليا. وأني قد احترفت العلم والأدب والفلسفة وألفت الكتب وصرت عضوا مقلقا للمجتمع المصري، مثل ذبابة سقراط، أنبه الغافيلن، وأثير الراكدين، وأقيم الراكعين الخاضعين.
ومما يسرني بشأن حياتي الماضية أن ما كتبته قد حييته وما حييته قد كتبته. وأكثر مما يسرني أني ما زلت أحتفظ بشباب ذهني؛ لأن عادات شبابي لا تزال تلازمني. فأنا أقرا وأقتني الكتب وأستطلع وأستزيد من الثقافة كما كنت أفعل قبل أربعين أو خمسين سنة.
وأحب لذلك أن أعيش نحو عشرين أو ثلاثين سنة أخرى أو أكثر.
وليست العبرة بالطبع أن نزيد الحياة سنين، وإنما هي أن نزيد السنين حياة بأن نتعلم ونعمل ونعرف ونختبر. أجل نختبر المر والحلو ونستنبط منهما حكمة للعيش وزيادة في الفهم.
لقد ذكر التاريخ عن كاتو الروماني أنه شرع يتعلم اللغة الإغريقية في سن الثمانين. وليس في هذا ما يستغرب؛ فإن عادات الدرس التي نتعودها في الشباب تلازمنا إلى سن المائة. وظني أن كاتو تعود الدراسة منذ شبابه فلزمته العادة إلى سن الشيخوخة. فإذا كنت أيها الشاب تلعب الورق وتلهو بألعاب الحظ الأخرى فإنك سوف تفعل ذلك عندما تبلغ السبعين أو الثمانين. أما إذا كنت تحب الدرس وتعشق الثقافة فإنك سوف تبقى على هذه الحال ولو بلغت المائة.
وغرامي بالكتب في سنة 1955 هو غرامي بها في سنة 1905. وطربي بالفكرة النبيلة والكشف العلمي والأمل الجديد في الحضارة هذا العام هو طربي بها جميعا قبل خمسين عاما.
هو أسلوب للحياة اتبعته. فلازمني.
وقد احترفت الصحافة والتأليف، وأدغمتهما. ولذلك أنا في الصحافة أحاول أن أرفع المقال السياسي أو الاجتماعي إلى مقام الأدب. وأن أستنبط العبرة من الأخبار حتى أرفعها إلى مقام الأنباء. وأن أجعل من الصحيفة كتابا ومن الكتاب صحيفة.
وكان من مصادفات حياتي أني عرفت نيتشه في 1909، فاكتسح ذهني اكتساحا. وكنت حوالي العشرين أتقبل الرأي بلا مناقشة. فآمنت بكثير من أقواله وعبدت الكثيرت من عقائده. ومع أني قد شفيت بعد ذلك من هذه الأقوال والعقائد فإني ما زلت أحتفظ بالكثير مما تعلمت منه. وأول ذلك أن أنظر إلى الدنيا بالعقل البكر والقلب البكر وأن أقتحم الأفكار بروح البطل أو الشهيد.
وعرفت الأدب، وعرفت الفلسفة، وعرفت نفسي، من نيتشه. وإلى الآن لا يخلو أدبي من فلسفة، كما لا تخلو فلسفتي من أدب أو علم.
وكثير من الفضوليين العارفين يحسون هنا أني لا أقول كل ما أريد. وكأنهم يسألونني: ما هو إيمانك؟
وجوابي أني أومن بالمسيحية والإسلام واليهودية، وأحب المسيح وأعجب بمحمد، وأستنير بموسى، وأتأمل بولس وأهفو إلى بوذا. وأحس أن كل هؤلاء أقربائي في الروح أحيا معهم على تفاهم وأستلهم منهم المروءة والحق والرحمة والشرف.
وأومن - زيادة على هؤلاء - بحب الطبيعة وجلالة الكون. ولا أنسى المعنى الديني في نظرية التطور وموكب الأحياء التي يتوجها الإنسان. بل إني لأجد هذا المعنى الديني في جمال المرأة، وقداسة الأمومة، وشرف الإنسانية، وأومن بتولستوي وغاندي وفولتير وبيكون.
إن الصورة الوحيدة التي تطل على سريري أراها عند اليقظة في الصباح وقبل النوم في المساء هي صورة تولستوي الإنسان الإنساني.
وبكلمة أخرى أقول: إن بؤرة إيماني هي الإنسانية بمن تحوي من فلاسفة وأنبياء وأدباء وبما تحوي من شجاعة وذكاء ومروءة ورحمة وجمال وشرف.
ولا يمكن أن يكون إيماني ساذجا كله طمأنينة وتسليم. فأنا بعيد عن هذه الحال ولا آسف على ذلك؛ لأنه إذا كان اليقين أروح فإن الشك أشرف كما يقول برتراند روسل. وأنا رجل قد أكسبتني الثقافة النظرة الشاملة للحياة والكون. واعتقادي أنه لا يمكن للإنسان أن تتكون له شخصية دينية سامية ما لم يكن مثقفا قد حقق النظرة الاستيعابية للكون فنظم عقله وقلبه بحيث ينسجمان في حركة الحياة الكونية والآمال الإنسانية، ووصل في كل ذلك إلى رأيه الخاص أو قلقه الخاص. والدين رأي خاص ولا يمكن أن يكون عاما. ويجب أن يبقى قلقا دائما.
وهناك عشرات من الكتب المحورية التي بنيت بها حياتي وشخصيتي. ولكنها كانت بمثابة الأسكلة التي تنصب من الخشب والحديد لتشييد البناء، حتى إذا تم ، هدمت. ولذلك هدمت نيتشه كما هدمت عشرات غيره؛ لأني استغنيت عن الأسكلة بعد أن بنيت بها شخصيتي.
وحين أتأمل شخصيتي وأهدافي أحس أني أؤدي في مصر في القرن العشرين ما كان يؤديه رجال النهضة في أوروبا فيما بين سنة 1400 وسنة 1800. ولذلك أجد قرابة روحية ونشاطا رساليا بيني وبين ليوناردو دافنشي، وفولتير، وديدرو ومن إليهم. ومن هنا دعوتي إلى العقل بدلا من العقيدة، وإلى استقلال الشخصية بدلا من التقاليد.
وربما كان أقرب هؤلاء الناهضين إلى نفسي هو ليوناردو دافنشي؛ فإني مثله في الاعتقاد بأن الذهن الناضج لا يرضيه أن يحد نفسه بحدود الأدب وحده، أو الفلسفة وحدها، أو العلم وحده؛ إذ هو يجمعها كلها ليستقطر منها فلسفة للحياة.
وإذا شئت أيها القارئ، زيادة في التفاصيل فاعرف: (1)
أني أومن بالحقائق؛ ومن هنا تعلقي بالعلم لأنه حقائق. (2)
وإذا كان لا بد من عقيدة فإني أومن بها عندما تكون ثمرة الحقائق العلمية؛ فإني أعتقد مثلا بالمستقبل الاشتراكي للعالم كما لمصر وأعمل له؛ لأن الاقتصاديات العصرية تومئ بذلك. (3)
وأومن بأنه ليس في الدنيا أو الكون أو المجتمع استقرار؛ لأن التطور هو أساس المادة والأحياء والمجتمعات، أي أساس الوجود. وأن الجمود الاجتماعي هو معارضة آثمة من الأشرار لسنن الكون والحياة.
وقد وصلت في تثقيف ذهني إلى أقصى ما يطمح إليه رجل في سني. ومع أنه لا تزال في نفسي اختمارات سوف تنفجر في المستقبل فإن أهدافي الآن عديدة. وهي إحالة مصر من قطر شرقي ضعيف يحيا على التقاليد في أساليب الزراعة والعيش إلى قطر أوروبي يحيا على العلم والصناعة واستقلال الشخصية مع الاتجاه الاشتراكي في تنظيم اقتصادياتنا.
وعندي أن الاشتراكية هي التطبيق العملي لمذهب الإنسانية.
وقد حققنا من الاشتراكية أساسها الأول وهو الجمهورية بدلا من الملوكية. وقمنا بمكافحة الإقطاع وإيجاد المصانع. وأحس لذلك كأن أشياء كثيرة قد أنجزت من وعد حياتي.
والاشتراكية تعني في النهاية أن الشعب فوق كل شيء. بل هو كل شيء. ومن هنا كفاحي الصحفي لإيجاد أسلوب شعبي في الكتابة العربية. وأيضا في جعل الأدب والعلم والثقافة جميعها في متناول الشعب لا تقصر على طبقة خاصة منه.
وقد عاب علي بعضهم أني أكتب عن الملوخية والبامية والفول المدمس. وإنما فعلوا ذلك لبعدهم عن الشعب وتعلقهم بمذاهب قاحلة من الأدب، وأنه يجب أن يترفع عن الحديث عن هذه الأطعمة العامية وأن يتحدث عن «الترف الذهني». وأنا أختلف معهم من حيث إني أعتقد أن الأدب رسالة إنسانية لخدمة المجتمع وإنهاض الإنسان.
وفقراء شعبنا الذين أفقرهم وأجاعهم الاستعمار الأجنبي والاستبداد الوطني لا يحتاجون أن نصف لهم طاقات الورد وبتلات الياسمين.
لا، ليس الجمال غاية الأدب، وإنما غايته هي الإنسانية.
والإنسانية تطالب الأديب الإنساني قبل كل شيء بتوفير الطعام للشعب، ثم بعد ذلك الورد والياسمين ...
وحياتي الماضية في الصحافة والأدب والعلم يمكن أن تعد فشلا أو نجاحا.
فهي فشل يكاد يكون تاما من الناحية المالية لشخصي. فقد احترفت الصحافة منذ 1914 حين أخرجت مجلة المستقبل. وبقيت على هذه الحرفة - مع انقطاعات قهرية تدوم سنوات أو شهورا - إلى هذا العام. واشتغلت في جملة صحف ومجلات وأخرجت «المجلة الجديدة» 14 عاما، وألفت نحو أربعين كتابا.
ومع كل ذلك كنت - كي أعيش - أبيع ما أملك مما ورثت. كما أن وزارة «المعارف» لم تشتر قط بما قيمته مليم واحد من مؤلفاتي ولم تشترك في «المجلة الجديدة» سنة واحدة. وهناك صحفيون زاملوني لا يقل مجموع كسبهم في هذه السنين عن 30 أو 40 ألف جنيه. بل إن بعضهم كانت وزارة «المعارف» تشتري مؤلفا واحدا منه بألف جنيه دفعة واحدة. وكذلك هناك مجلات شهرية أو أسبوعية - دون ما أصدرت أنا من مجلات - بلغ اشتراك هذه الوزارة فيها ما لا يقل عن عشرين ألف أو ثلاثين ألف جنيه. بل إن محطة الإذاعة المصرية عاملتني بما يشبه المقاطعة كأني لست مصريا؛ حتى إني لأستطيع أن أقول إني لم ألق فيها في السنوات العشر الأخيرة أكثر من خمسة أحاديث. بينما غيري قد ألقى فيها نحو 400 أو 500 حديث في هذه المدة.
ومنح كثير من الأدباء جوائز لم أحظ أنا بجزء من مائة منها ... وهذا نجاحهم، وهذا فشلي.
أما نجاحي أنا فمن طراز آخر، هو أني استطعت أن أغير شباب مصر والشرق العربي إلى حد بعيد، وأوحيت إليهم استقلالا وشجاعة واعتمادا على العلم والرأي العصريين. أي جعلتهم يتطورون ويحيون حياة جديدة. وأكسبتهم بصيرة للمستقبل يعرفون بها ما فيه من ميزات وأخطار.
واستطعت أن أستنبط لهم أسلوبا كتابيا عصريا يؤدي - إلى حد ما - ما يحتاجون إليه من فهم. كما أني لم أتأخر عن التنبيه إلى ضرورة الأخذ بالحروف اللاتينية عندما اقتنعت بأن حروفنا العربية الحاضرة تعوق ارتقاءنا العلمي وتحد من ثقافتنا.
ولم أعرف قط البرج العاجي للأدب. وكيف يجوز لأحد أن يحيا في أبراج إذا كان 99 في المائة يحيون في بدرومات من طين؟
ونجاحي مع الشباب يرتبط بفشلي المالي مع الحكومات البائدة؛ ذلك لأني رفضت الانضمام إلى القوات الرجعية بألوانها المختلفة، وهي القوات التي كانت تكافئ أتباعها في سخاء بالمال والعقار وتقاطع خصومها وتكيد لهم. وكان حبسي سنة 1946 بتهمة الدعوة إلى الجمهورية بدلا من الملوكية والدعوة إلى الاشتراكية بدلا من الإقطاع، من أسباب النجاح الذي أفهمه وأنشده. ومن أسباب الفشل الذي يعيرني به شيوخ الأدب الذين ألقوا الخطب والمقالات والقصائد في مدح البغي فاروق، حتى إن أحدهم وصفه بأنه قدوة في الأخلاق يجب على شباب مصر أن يقتدي بها.
وبداية سن السبعين تومئ من قريب إلى نهاية الحياة. ولكني أعتقد أني ما زلت بعيدا عن هذه النهاية بنحو عشرين أو ثلاثين سنة، وسوف أتقبل هذه النهاية في طمأنينة كاملة. ولكني أحب أن أبقى على شهواتي الذهنية الحاضرة وأن أنهم إلى الحياة والمعرفة والفهم كما كنت في ماضي حياتي.
وأحب أخيرا أن أموت كما مات الجاحظ «وعلى صدره كتاب».
السبعون سنة الأولى من عمري
في هذا الشهر - يناير من 1957 - أتممت السبعين سنة الأولى من عمري. وما لم يكن رأس الإنسان مصنوعا من الحجر الصلد فإن في هذه السنين ما يبعث على التفكير والعبرة بشأن الحياة.
بشأن الحياة وليس بشأن الموت ...
وإنى حين أفكر في الموت فإنما أفعل ذلك كي أستنبط وأستخلص منه عزما جديدا لأن أحيا. وذلك لأني أسلم بنهائية الموت. وليست لي أية مطامع غيبية بعده. وكثيرا ما يخطر ببالي لذلك أن إحراق الجثمان خير من دفنه؛ لأن النار التي تلتهم الجسد وتحيله إلى غاز ورماد تؤكد هذه النهائية، أو على الأقل تؤكدها في إحساسنا؛ ولذلك أرجو أن أنتهي إلى هذا المصير ولو في المرمدة الهندية التي بالقاهرة.
وما بقي من عمري سوف أنشد فيه النمو. أي أن أكبر ولا أعمر فقط. أكبر وأنضج.
ومن مدة قريبة قرأت هذا البيت التالي ووقفت عنده أتامل الحال النفسية التي انبعث بها الشاعر إلى تأليفه:
ندمي أن الشباب مضى
لم أبلغه مدى أشره
إنه شاعر سخيف؛ إذ لا بد أنه قال هذه الكلمات وهو في مثل سني الآن، في نهاية السبعين. ولكن أي أشر هذا الذي يندم على أنه لم يحققه؟
أنه يأسف على إنه لم ينزق كما كان يحب.
ولكن أكبر ظني أنه لو كان قد نزق وأشر وانغمس في اللذات الجنسية والكئولية والصبيانية لكان ندمه أكبر. وأقصد هنا الانغماس؛ لأننا نستطيع - حتى بعد السبعين - أن نمارس هذه اللذات في اعتدال. وهي مع ذلك لذات حيوانية لا ترتفع إلى قمة كياننا، إلى الرأس.
ولي هنا اعترافان:
الأول:
أني أهتم بالدنيا ومصير الإنسان أكثر مما أهتم بنفسي.
والثانى:
أن أكبر لذاتي هو اللذة الفلسفية.
ولست أجد السعادة الراكدة في هذه الأشياء الثلاثة، وإنما أجد الكفاح النشيط.
إني أعرف ناسا هانئين راكدين سعداء. ولكن سعادتهم لذلك أشبه بالموت منها بالحياة. وما يحسبونه سعادة هو غفلة ونعاس أو أنانية حيوانية. ولكن السعادة الإنسانية هي أن نهتم بالإنسان والمجتمع، فنقلق، ثم يبعثنا القلق على الكفاح ... ثم تكون سعادة الكفاح.
إننا نولد مرة واحدة من أمهاتنا، وميلادنا هذا يعين لون بشرتنا ومقدار قامتنا ونحو ذلك. ولكن الإنسان الذي يكبر ويسير نحو النضج يحتاج إلى أن يولد قبل السبعين نحو عشر مرات. وهو عندئذ لا «يصل» إلى سن السبعين أو الثمانين وإنما ينمو إليها؛ فإن النمو هو شعار الحياة الحية.
لقد كان أول ميلادي - بعد سن المراهقة - حين عرفت نظرية التطور، فأحسست بها أن عقلي قد كبر وأن نظرتي قد أصبحت تشمل الكون، وأني أحاول الشمول والاستيعاب، وأن لي ديانة تربطنى بأقصى النجوم والكواكب وأحط الديدان والحيوان، وأني مسئول أمام الحياة والإنسانية.
وامتدت أمامي دراسات ما زلت أتابعها بسبب هذه النظرية. وهي دراسات تتعدد وتتنوع وتتناول خميرة العجين وجسيمات الذرة ومنشأ السحر ومستقبل الإنسان.
لقد عرفت برناردشو، وفكرت كثيرا في معنى الشخصية الإنسانية في درامات إبسن، وعرفت الحبيب المجنون نيتشه، وصحوت على الحضارة الأوروبية وهبطت على أسسها في الصناعة والعلم، وأعجبت بجوتيه، واجتررت كثيرا، مع فرويد، أسرار النفس الإنسانية، ودرست الغصن الذهبي، وسحرني دستوفسكى وبقيت في السحر حتى أنهضني منه جوركي.
وكنت كلما اكتشفت واحدا من هؤلاء أحسست بميلاد جديد.
كنت وأنا في سن الأربعين أو الخمسين، عندما كانت الحياة ترهقني بتكاليفها وأعبائها، أهفو إلى الريف وأحلم بالراحة والهناء في سذاجته وأتمنى قضاء السنين الأخيرة من العمر فيه حيث البساطة في كل شيء كما فعل روسو.
ولكني الآن لم أعد أسيغ هذا الحلم، هذا الفرار من أعباء الإنسانية، بل أصبح همي أن أزيد هذه الأعباء بأن أستوعب مشكلات العالم وأدرس ثقافته. وأحس كلما زادت هذه المشكلات وتعقدت أن مسئوليتي قد زادت أيضا. والرجل المثقف الذي ينشد الريف وسذاجته وراحته هو جندي فار من معركة الخير والشر التي يجب أن يعرف مكانه فيها.
وقد كنت أيضا أفكر في هواية ما تخفف من جد الحياة وضغط المسئوليات. بل لقد نصحت الشبان بأن يختاروا إحدى الهوايات ويتعلقوا بها. ولكني أحس الآن أن الهواية فرار آخر من الحياة، وأننا يجب ألا ننشد التسلية وتزجية الوقت بل ننهض بعمل إيجابي كفاحي لخير الإنسانية.
وأصل الرغبة في راحة الريف. واتخاد الهواية، هو أننا ننشد - عن جهل - ما نسميه السعادة، ولكن هذه السعادة تخدر النفس، أما الهموم والاهتمامات فتنبهها. ولن نحس الحياة على أعمقها إلا حين نكافح، بل الكفاح هو الذي يجعلنا نحس أننا أحياء.
ومع ذلك إذا كانت الهواية كفاحا فأنعم بها. ولكن هذه الكلمة عندئذ تخالف معناها المألوف.
وهناك وسائل كثيرة للتربية الذاتية ولكن أعظم هذه الوسائل وأجداها هو الكفاح من أجل الخير في العالم. فأنت تكافح كي تغير حالا قائمة ولكنك أنت أيضا تتغير بهذا الكفاح؛ وذلك لأنك ستحتاج إلى الدرس والتفكير، وستلاقي الصعوبات والعقبات. وقد تنجح أو تخيب، وكل هذا تربية لك وزيادة في عقلك وبصيرتك. إن الماضي ميت.
وأنت حين تكافح تختار المعارف الحية التي تغير الدنيا والأخلاق والآمال. فأنت حين تدرس وتتربى يتجه تفكيرك بالمعارف الحية نحو المستقبل أي نحو التغيير. أما إذا اخترت المعارف الميتة فإن تفكيرك يتجه نحو الماضي، وليس في الماضي مكان للتغيير. إن الماضي ميت.
وهنا الفرق بين كاتب وكاتب، بين أديب وأديب، بين مفكر وغير مفكر.
إن المفكرين المكافحين يفكرون في المستقبل ويخططونه بينما غير المفكرين يكتبون عن الماضي وكأن ليس لهم شأن بالمستقبل، ليس لهم كفاح.
إن الشيخوخة، سن السبعين أو الثمانين، قد تكون بشيرا لك، أيها الشاب، أو نذيرا. فهي بشير إذا كنت قد عودت نفسك - منذ شبابك - العادات الحسنة، الإيجابية والسلبية، وأول هذه العادات الاهتمام بالدنيا والإنسانية والسياسة والثقافة ومستقبل بلادك بل مستقبل الإنسان ... فإذا اهتممت بكل هذه الأشياء السامية فإنك أنت ستسمو بها كما تتربى وتكبر شخصيتك ويحد ذكاؤك. وهذا الاهتمام نفسه سيشغلك عن العادات السيئة التي تفشو كثيرا بين الفارغين التافهين الذين يستهلكون كل يوم عشرات الفناجين من القهوة والشاي ويدخنون إلى حد إفساد الجو حولهم. وقد يتسلون عن فراغهم وسأمهم بالانغماس في الخمور أو نحوها.
لا تكن شابا أجوف، لا تكن شابا تافها. اهتم بالدنيا وبالإنسانية. واهتمامك هذا يربيك ويجعلك شابا وأنت في سن السبعين والثمانين. واجعل من الفلسفة أكبر لذاتك التي تحيا معك إلى يوم وفاتك والتي تفوق كل ما يقوله التافهون عن الملذات الأخرى.
مؤلفاتي التي وجهتني
نحن المؤلفون نؤلف الكتب ونوجه بها الأفكار ثم تعود هي فتؤلفنا وتوجهنا ، والأغلب أن الكتاب الأول الذي ألفناه وشغفنا بإخراجه وتهيأنا له بالتفكير البكر، أو ما ظننا أنه بكر، هذا الكتاب هو الحلقة الأولى من سلسلة للكتب التي نخرجها بعد ذلك وفق البذور التي بذرناها في هذا الكتاب الأول. ثم نحن في تأليف هذه الكتب نحرص على رباطنا بالكتاب الأول. فلا نحيد ولا ننحرف.
لا نحيد ولا ننحرف لسببين:
الأول:
أننا نحرص على ألا نبدو متناقضين، وهذا أخف السببين، بل أتفههما.
والثانى:
أن الأفكار الأولى التي حفزتنا على التأليف الأول تبقى حية تنمو وتكبر، فنتوسع فيها بما لها من خاصة التوسع، وليس لحرصنا على التزامها.
إن الذين قرءوا جان جاك روسو يذكرون كيف أن فكرة الطبيعة فاجأته وهو يمشي على طريق ريفي بين الحقول. فما هو أن وجد شجرة حتى ارتمى تحتها وأخذ يجتر الفكرة: إن الإنسان كان سعيدا في سذاجته وبدائيته، ثم عرف العلم والحضارة فتعس.
الفكرة بسيطة بل مخطأة أيضا، ولكن لها زاوية تستحق التنقيب والبحث. وأخرجها روسو في رسالة قصيرة قرأها الناس ودهشوا بها. ولكن الشيء الذي يلفت نظرنا هنا أن حياة روسو نفسه تأثرت بهذه الرسالة. فإنه بعد تأليفها شرع يتوسع في معانيها ويحيي هذه المعاني في سلوكه وأخلاقه وأفكاره.
هذه الرسالة التي ألفها روسو عادت فألفت حياته هو ووجهته وعينت أهدافه. وكل منا - نحن المؤلفين - له مثل هذا الشأن إذا كان مؤلفا أمينا يقول ما يعتقد وما يتعقل. أما إذا كان مأجورا للدفاع عن مذهب فليس لمؤلفاته تأثير عليه سوى ذلك التأثير الذي يقال عن الكاذب يكرر ويدمن الكذب حتي يصدقه.
حتى القصة يؤلفها الكاتب في الخيال ويعين لبطلها صفات وميزات تعود بعد ذلك فتؤثر في هذا المؤلف نفسه حتى ليتخذ هذه الصفات والميزات لنفسه. ألسنا نرى في قصص تولستوي أبطالا يشبهون تولستوي نفسه؟
قد تقول هنا إن أبطال تولستوي في قصصه يشبهونه في الأخلاق؛ لأن أخلاقه هو كانت كذلك قبل أن يخلقهم. وهذا ممكن ولكنه ليس ضروريا. ولكنه وهو يدون صفاتهم ويفصلها ويعين ميزاتهم، كان يتبنى شخصياتهم ويستلهمها في حياته، ثم أيضا يرتبط بها.
الكتاب الذي أؤلفه هو صديقي الذي أؤثر فيه ويؤثر في.
كان أول ما ألفت كتابا باسم «مقدمة السبرمان» وذلك في 1909 وأنا في لندن أعاني اختمارات ذهنية كثيرة انفجر بعضها في هذا الكتاب. والآن بعد خمسين سنة أجدني لم أتغير عما قلت في ذلك الكتاب. بل كل ما حدث أني توسعت وتعمقت؛ ففي هذا الكتاب إشارات أو فصول موجزة عن: التطور، الاشتراكية، برناردشو، إبسن، الدين والعلم، حرية الفكر، داروين ... إلخ.
وهذه الإشارات أو الفصول قد صارت بعد ذلك مؤلفات ومجلدات أثرت في حياتي وأخصبتها وأدخلتني السجن وأسعدتني بدراسات وألهمتني خططا ما زلت في نتائجها ومناهجها.
وفي 1914 أخرجت أول مجلة أسبوعية في مصر باسم «المستقبل». والاسم نفسه يحوي دلالة لحياتي بعد ذلك؛ فقد كافحت دعاة الفعل الماضي الذين يعوون بشأن التقاليد. كما دعوت إلى العلم الذي نبني به مستقبلنا. وأجد في أحد الأعداد مقالا بعنوان «الله» يحوي أفكارا يمكن أن توصف عند الصديق بالحرية وعند العدو بالإلحاد.
وفي 1916 وجدتني أدعو في جريدة الأخبار إلى إلغاء الطربوش. وكان يحفزني على ذلك إحساس بأنه شارة الاستعمار التركي لمصر.
وكنت في إخراج مجلة المستقبل ودعوتي فيها إلى الاشتراكية وإلى المادية، ثم بعد ذلك في اقتراحي إلغاء الطربوش، مسوقا بالكتاب الصغير الذي ألفته في 1909 بعنوان «مقدمة السبرمان».
وحررت بعد ذلك مجلة الهلال سبع سنوات أخرجت فيها هذه الكتب. وهي جميعها امتداد وتوسع وتعمق لما جاء في مقدمة «السبرمان»: حرية الفكر، العقل الباطن، أحلام الفلاسفة.
ثم عملت في تحرير البلاغ فنشرت فيه مقالات جمعت بعد ذلك كتابا باسم «نظرية التطور وأصل الإنسان».
ومؤلفاتي في السيكلوجية - من «العقل الباطن» إلى ما تلاه من الكتب - هي امتداد لنظرية التطور؛ لأن العقل الباطن هو الحيوان الكامن في الإنسان.
واتجاهي الاشتراكي الحاضر هو امتداد للفصل الموجز الذي خصصته عن الاشتراكية في هذا الكتاب الأول الذي ألفته في 1909. وكنت وقتئذ عضوا بالجمعية الفابية الاشتراكية الإنجليزية.
وقد تشعبت فكرة التطور عندي فأصبحت إيمانا بالارتقاء واتجاها نحو المستقبل وبحثا بل أبحاثا متكررة في معاني الحضارة والثقافة والعلم.
نحن المؤلفين نتجاوب مع مؤلفاتنا نؤثر فيها ونتأثر بها. وهي - كما توجه القراء - توجهنا نحن أيضا. وبالطبع أعني المؤلفات التي تتصل بالأخلاق والحياة العامة والمذاهب والسلوك؛ إذ ليس من المعقول أن مؤلفا يؤلف كتابا في صناعة الصابون أو القيم الصحية في بعض الأغذية تتأثر حياته به. وإن كنت أظن أن اهتمامه بمثل هذه الموضوعات سيربطه - ثقافيا وعلميا - بها طيلة حياته. ولكن العبرة الكبرى بالكتب التي نؤلفها في الأخلاق والمذاهب والسياسة والاجتماع.
وبكلمة أخرى أستطيع أن أقول للقارىء: إذا شئت أن تتعرف إلى مؤلف وتقف على منهجه في الحياة واتجاهه الفلسفي فإنه يكفيك أن تقرأ عناوين مؤلفاته.
ذلك لأن مؤلفاته هي حياته.
ومؤلفاته الأولى على الأخص؛ إذ هي مؤلفاته التي ألفها عفو ميله واتجاهه، وقصد منها إلى البوح والاعتراف عما كان يكظم في نفسه من أفكار.
والأغلب أنه لم يكسب منها بل لعله خسر فيها؛ إذ هو ألفها دون أن يهدف إلى كسب وإنما إلى إشباع شهوة ذهنية.
فيما بين 1909 و1914 ألفت «مقدمة السبرمان» و«نشوء فكرة الله» و«الاشتراكية» وجميعها خسرت فيها بل لم أكد أجمع جنيها كاملا منها كلها. ولكني سعدت بها؛ لأني بحت بالمكتوم في نفسي واسترحت بالبوح.
وليس عجيبا بعد ذلك أن أعظم مؤلفاتي انتشارا وهو كتاب «نظرية التطور وأصل الإنسان»، الذي ألفته منذ ثلاثين سنة، كان أقلها كسبا لي. فقد بعت حقوق الطبع الكاملة فيه بعشرين جنيها فقط، مع أنه الآن في الطبعة الرابعة.
وقد يظن القارئ أني أبتئس بذلك، ولكن العكس هو الصحيح؛ فإني سعيد بانتشاره لأنه يعالج نظرية حبيبة إلى نفسي أحب أن تنغرس مبادئها في قلوب القراء العرب حتى يسترشدوا بها في السياسة والاجتماع والأخلاق ...
هو هزيمة مالية فاضحة ولكنه انتصار ذهني رائع.
وكتاب آخر جرى هذا المجرى هو «تربية سلامة موسى»، فما هو أن خرج من شركة «الكاتب المصري» في 1947 حتى أعلنتني أنها أبطلت مشروعاتها في الطبع والنشر وأنها ستبيع الكتاب بالمزاد ؛ أي تبيعه بقدر ما فيه من ورق يوزن بالأقة. ولم أصب منه غير عشرين أو ثلاثين جنيها، ولكني أعده أحسن مأ ألفت؛ فإنه اعترافات صفيت فيها حسابي مع المجتمع الذي أعيش فيه وسردت حياتي بكل ما تحوي من صفاء أو غبار.
وكثير من مؤلفاتي بعد ذلك - وهي تبلغ أربعين - هي اعترافات؛ فإن «هؤلاء علموني» و«الأدب للشعب» كلاهما يبسط للقارئ ما أعتقد عن تطوري الثقافي. ولكن كثيرا أيضا من مؤلفاتي الأخرى هو تعليمي قصدت منه إلى الشرح والبسط كما فعلت في جميع كتبي عن السيكلوجية.
وهناك كتاب ألفته في 1953 كان يجب أن يؤلف قبل ذلك بنحو ثلاثين سنة هو كتاب «الثورات». وإنما أخرني عن ذلك هذا العرش الأجنبي الملوث على بلادنا ووقوف الاستعمار البريطاني السافل خلفه يؤيده لأنه كان وسيلته إلى استغلالنا. وقد كان موضوعه يختمر في ذهني منذ ألفت «مقدمة السبرمان» في 1909 التي تعد ثورية في الاجتماع والثقافة أكثر مما هي كذلك في السياسة. فقد عرضت فيه للثورات أو لبعضها الخطير التاريخ وأبرزت معانيها وأهدافها.
ومع أني لم أخرج هذا الكتاب إلا في 1953 فإن عامة القراء كانوا يجدون في مؤلفاتي السابقة اتجاهات ثورية في مختلف النشاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وكان الحزب الاشتراكي الذي ألفته - مع حسني العرابي وغيره - ثورة في نظر النيابة العامة التي حققت معنا في 1923 بشأنه. ثم سنت بعد ذلك القوانين - بإيحاء الإنجليز - وحظرت إيجاد مثله في المستقبل.
ويقول السيكلوجيون: إن الابن الأصغر في العائلة كثيرا ما ينشأ ثائرا؛ ذلك لأن مكانه فيها هو مكان الضعف حين يستبد به إخوته الكبار ويحملونه باستبدادهم على التمرد والثورة. وهو حين يشب ويختلط بالمجتمع يتجه فيه اتجاه الثورة؛ إذ يجد في أشخاص المستبدين ذكريات غير واعية من استبداد إخوته الكبار أيام طفولته.
وقد كنت أصغر إخوتي في العائلة، ولا أذكر منذ صباي إلا أني كنت على إعجاب عظيم بعرابي ... وكانت ترجمتي بعد ذلك لكتاب بلنت «التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر» من المسرات التي أسعدتني. أجل ووجهتني؛ فإن كراهتي للعرش أيام فاروق، وهي التي جعلت النيابة العامة تحبسني أسبوعين - بعضها على الأسفلت - في 1946 بدعوى التآمر على إيجاد حكم جمهوري بدلا من الحكم الملوكي، هذه الكراهة كانت تجري في سياق كراهتي لتوفيق الشقي الذي تآمر مع الإنجليز على هزيمة عرابي وتحطيم الحركة الوطنية.
إن ظروفا كثيرة سيكلوجية واجتماعية عملت لتوجيهي الثوري، كما عملت أنا بعد ذلك لهذا التوجيه للقراء. ثم كان بعد ذلك الارتباط بين المؤلف ومؤلفاته. •••
ما هو الذي يحفزني على التأليف؟
اعتقادي أنه اهتمامي بالشعب؛ أي إنه مجموعة من عواطف السخط على الحال القائمة والأمل في حال مرجوة. والسخط يثير علي غضب الكثير من الجهلة الذين لا يفهمون طبيعة الحضارة الغربية وما يكمن فيها من عدوان واستعمار للشعوب الضعيفة التي تعيش على قديمها الرث من التقاليد. ولست أنا من عشاق هذه الحضارة الغربية بدليل أني اشتراكي. فهي حضارة المباراة والاشتراكية حضارة التعاون. ولكن - لأن هذه الحضارة الغربية عدوانية استعمارية - يجب علينا أن نقاومها بأسلحتها. وأعظم هذه الأسلحة هو العلم والصناعة، مع اتجاهنا نحو الاشتراكية.
وعندما أقارن بين مؤلفاتي وبين مؤلفات طه حسين وعباس العقاد أعجب أكبر العجب؛ لأن موضوعاتهما التي تشغلهما تختلف عن الموضوعات التي تشغلني.
فإن لهما أكثر من ثلاثين أو أربعين كتابا في شرح المجتمع العربي في بغداد والمدينة ومكة في القرن الأول للهجرة. ولهما دراسات عن أبطال من العرب ماتوا قبل 1300 أو 1200 سنة. وكأن المجتمع المصري الحديث، وثورات الشعوب، والانقلاب الاقتصادي الذي يفصل بين عصر الإقطاع وعصر الصناعة، وحرية الفكر التي تدعو إلى العقل بدلا من العقيدة، وقيمة العلم، ونظرية التطور، كل هذا وغيره مما يلابسه من الأفكار والاهتمامات لا قيمة لهما في نظرهما لارتقاء شعبنا. وليس لواحد منهما كتاب واحد عن هذه الموضوعات.
ومما يؤسف له أنه قد نشأت لهما «مدرسة» تؤلف عن كل شيء عربي قديم، وليس عن مشكلة مصرية حديثة. والتأليف هنا سهل لا يكاد يحتاج إلى مجهود؛ إذ ليس أسهل من الرجوع إلى الطبري، أو الأغاني، أو ابن الأثير، أو السيرة الحلبية، أو غير هذه الكتب لاستخراج صيغة جديدة لترجمة قديمة. وكثيرا ما تكون هذه الصيغة الجديدة دون السيرة أو الترجمة القديمة.
وكما كان يقول توفيق الحكيم، أو كما كان يمارس الفن - وفق سخافة «الفن للفن» - كذلك أحس وأنا أسمع بعنوان جديد لطه حسين أو عباس العقاد بأنهما يؤلفان للتأليف وليس لهدف اجتماعي يخدم الشعب.
في كل ما ألفت أنا هدفت تصريحا أو إضمارا إلى خدمة الشعب وتوجيهه؛ فإن عناوين مؤلفاتي يكفي ذكرها للبرهان على ذلك. مثل «نظرية التطور» و«حرية الفكر» و«الثورات» و«كيف نربي أنفسنا» و«الأدب للشعب» و«برناردشو» و«طريق المجد للشباب» ... إلخ.
ولو كنت قد وجدت الحرية أيام الحكومات الملوكية السابقة لألفت عن الاشتراكية بما كان يوجه ويرشد.
وسخافة «الفن للفن» جعلت توفيق الحكيم يدعو إلى الموت بدلا من الدعوة إلى الحياة كما هو واضح في درامته «أهل الكهف». •••
والآن عندما أراجع حياتي التأليفية، أحس الأسف أكثر مما أحس الفرح؛ ذلك أنه كان يمكنني أن أنفع بلادي أكثر لو أني كنت على حرية تامة في التأليف. ولكني كنت حين أؤلف أحس التوتر في ضميري وأقف حائرا فترات يظل فيها عقلي حائرا بين أن أكتب ما يجب أو أكتب ما يمكن. وأنتهي إلى «ما يمكن» وأترك ما يجب. أي أترك الحسن إلى ما هو دونه.
وربما كان الأزهر أكبر ما عاق تفكيري الحر. وقد ألفت كتابي: «هؤلاء علموني» ولم أذكر فيه كارل ماركس مع أنه الأول في تنويري وتثقيفي؛ فقد خشيت إن أنا ذكرته أن أتهم بنشر الشيوعية.
وما زلت أذكر مع الغصة أن شيخ الأزهر - أيام حكم إسماعيل صدقي في 1930 - طلب من وزارة المعارف ألا تشترك في «المجلة الجديدة» التي كنت أصدرها وقتئذ وأناهض بها هذا الطاغية الذي ألغى الدستور. وكانت حجة الأزهر أن هذه المجلة تدعو إلى الكفر. ووجد إسماعيل صدقي في هذه التهمة تبريرا لتعطيلها وتخلصا من نقدي له. وفعل مثل ذلك مع اثنتي عشرة مجلة أخرى كنت أصدرها.
وإذا تركنا هذا النقص في حرية الفكر باعتباره أحد الأسباب لتعطيل التأليف الحر في مصر فإنه يبقى علينا أن نقول إن هناك نقصا آخر يساعد على هذا التعطيل هو تقصير دور النشر في القاهرة وبيروت وغيرهما عن خدمة المؤلفين بترويج مؤلفاتهم بالطريق التجارية المألوفة في بيع أية سلعة أخرى. فإن الكتاب في السوق سلعة لا تختلف من غيرها وتحتاج إلى الأساليب التي تروج بها السلع الأخرى في نظامنا التجاري الحاضر. كما أن إخراج الكتاب بالطبع والتغليف لا يزال دون ما يستحق من العناية.
ولهذا لا يزال المؤلفون يستعينون بالصحافة على التأليف. ولا أكاد أعرف مؤلفا عربيا يجد كفاية عيشه من التأليف وحده؛ إذ هو في أغلب الحالات يستعين بعمل آخر. وأقرب الأعمال إلى التأليف هو الصحافة.
ولكن الصحافة للمؤلف تنفع وتضر.
فهي تنفع لأنها تلصق المؤلف بالجمهور وتبرز في وعيه أحداث العالم وتطوراته وتحمله على أن يكون شعبيا في أغلب الحالات. ولكنها تضر من حيث تعويده السرعة بل العجلة في التأليف والرضا بالنتيجة الوقتية دون التمهل والإتقان.
وظني أنه يمكن المؤلفين أن يرصدوا حياتهم أو معظمها للتأليف إذا وجدوا الخدمة المتقنة من الناشرين في الارتقاء بالطبع والإخراج مع النشاط في التوزيع. •••
وأخيرا أحب أن أنبه إلى أن التأليف ليس صناعة أو حرفة وإنما هو حياة؛ ذلك أن موظف الحكومة أو المتجر أو المصنع أو صاحب الدخل من العقار أو الأرض أو الشركة، كل هؤلاء يعملون - إذا عملوا - انتظارا للأجر أو الربح. وليس لعملهم أية علاقة بحياتهم، عملهم ينفصل من حياتهم إذ هو وسيلة للحياة وليس الحياة نفسها.
ولكن المؤلف يحيا في مؤلفاته كما أن مؤلفاته تحيا فيه. فهو مشتغل الفكر دائب التأمل يمارس الحياة وهو يلحظ منها موضوعاته التأليفية. بل إن هذه الموضوعات تغمره وتتدخل في علاقاته العائلية والاجتماعية والاقتصادية.
وحياة التأليف هنا تشبه حياة الفلاحة التي تغمر الفلاح في كل يوم من أيام حياته، بل في كل ساعة؛ فهو لا ينتظر منها الأجر فقط إذ هو يحياها في نخاع عظامه. أي إنه لا يجعل من الفلاحة وسيلة للعيش فقط وإنما هو يحيا حياة الفلاحة والزراعة، حياة الريف التي يجعل منها هدفا أكثر مما يجعل منها وسيلة.
ذكريات من حياة «مي»
قصة «مي» هي عندي ذكرى ثم أسف.
عرفتها في 1914 وكانت حوالي العشرين من عمرها، حلوة الوجه مدللة اللغة والإيماءة، تتثنى كثيرا في خفة وظرف. وكان الدكتور شبلي شميل يحبها ويعاملها كما لو كانت طفلة بحيث كانت تقعد على ساقيه. وكان يؤلف عنها أبياتا ظريفة من الشعر للمداعبة وما هو أكثر من المداعبة.
وكنت أصدر في ذلك الوقت مجلة أسبوعية باسم المستقبل. وكنت أنا وشبلي شميل على نية معينة مبيتة في إصدارها من حيث مكافحة الخرافات الشرقية. ونشرت في أحد أعدادها حديثا مع مي أطريتها فيه إطراء عظيما. وكان القارئ لكلماتي يلمح أكثر مما يرى من الإعجاب الأدبي، ولكني مع ذلك حرصت على أن يكون إعجابي بها أدبيا فقط؛ ولذلك لم أتعمق مي في تلك السنين. وكانت أحاديثي لها اجتماعية أكثر مما كانت سيكلوجية.
وبقيت بعد ذلك أزورها فيجري حديثنا على المستوى الأدبي الرفيع. وكانت مي على ثقافة واسعة في الأدب الفرنسي وعلى اطلاع للأدب الإنجليزي. وكانت تتحدث باللغة الفرنسية في طلاقة وترطن باللغة الإنجليزية في دلال.
وكانت إلى هذه الثقافة النادرة موسيقية على دراية بكبار الموسيقيين. وكان إحساسها الفني دقيقا. وكانت لذلك تختار الفكرة والكلمة بما يطابق أو يجاري الروح الفني. ولم تكن لذلك أيضا تبالي العلوم. ولم أكن أجد بين الكتب التي حفلت مكتبتها بها كتابا واحدا في العلم.
وكان هذا نقصا واضحا في ثقافتها؛ ولذلك كانت حين تؤلف كتابا أو مقالا تكتب بقلبها، بعاطفتها، دون العقل والمنطق. وانعكس فنها على حياتها فعاشت بالعاطفة. بالساعة «التي أنت فيها». دون التفكير في المستقبل. وخاصة هذا المستقبل البعيد حين يذوي الشباب وتحتاج كل فتاة إلى حكمة العقل إذ ما ذهبت عنها حلاوة الوجه. وأهملت الزواج والأمومة إذ كانت لاهية بشبابها تتلألأ أمام أضيافها الكثيرين كل مساء وكل هؤلاء الأضياف من الباشوات الأثرياء أو من الأدباء الأثرياء أو من الأدباء المعدمين. وكلهم كان معجبا وإن اختلفوا في مواضع الإعجاب ...
وكانت مخطئة. وكان خطؤها خطأ الحياة. وكثير من الناس يفهم النجاح على أنه نجاح الحرفة أو الثراء أو الجاه، ولا يفهمه على أنه نجاح الحياة كلها، نجاح الصحة التي نعيش بها إلى يوم الوفاة، ونجاح الفلسفة التي توجهنا في هذه الدنيا، ونجاح الحرفة التي نحصل منها العيش الإنساني، بل كذلك نجاحنا في البناء العائلي والبناء الاجتماعي.
لم تفهم مي ذلك؛ ولذلك ما هو إن تجاوزت الخامسة والأربعين وبدأت خطوط الحلقة الخامسة ترتسم على وجهها، وما هو إن أحست بأن جمهور المعجبين قد شرع يتناقض حتى ركبها الهم والقلق، بل الخوف والرعب من ذهاب جمالها وذبول حلاوتها. والتفتت كثيرا في هذه الفترة من عمرها إلى التأليف والصحافة، وأجادت، ولكنها كانت تعاني صراعا داخليا هو محاولتها الجمع بين أن تكون امرأة جميلة وأديبة عظيمة.
وكانت هذه المحاولة فاشلة منذ البداية وكان يجب عليها أن تتنازل عن عرش الشباب والجمال وترضى قانعة بعرش الأدب والفن. ولكن شق عليها بعد ثلاثين سنة قضتها وقلبها يضحك من نظرات المعجبين بها وكلمات الإطراء التي كانت تنبعث إليها وهي عاطرة لاهثة بعواطف المحبين، شق عليها ألا ترى هذه النظرات ولا تسمع هذه الكلمات.
وبلغت التاسعة والأربعين، وهي سن اليأس عند المرأة التي لم تعرف أن لها ميزة أخرى في الدنيا غير جمالها. وهي سن الحكمة والنضج عند المرأة التي صاغت شخصيتها واختبرت وعرفت. وكان يمكن مي أن تثابر على الآداب والفنون تدرس وتكتب وتؤلف. وكان يمكنها أن تقنع بالتبريز في هذا الميدان بعد إذ رأت أن الميدان الأول قد تزلزل من تحت قدميها.
ولكنها لم تفعل. وابتأست كثيرا وصارعت المحال .
وفي هذا الانتقال الذي تمارسه المرأة قبيل الخمسين تتزعزع الشخصية بعض الشيء. فإذا رافقها مثل هذا الصراع الداخلي الذي كان يتمزق به قلب مي على الشباب الذاهب فإن هذا التزعزع يتفاقم.
وهذا هو ما حدث. فإن مي شرعت تخلط بين الحقائق والأوهام. وكانت تطل من نافذة غرفتها فتجد من يتربصون بها بغية خطفها. وكانت أمها التي كانت تؤنسها قد ماتت؛ فزادت أوهامها وتجسمت حقائق مرعبة تمزق أعصابها وتطغى على عقلها.
وعرف أقرباؤها هذا الحال وخافوا عليها مصيرها المؤلم إذا بقيت وحدها. فأغروها بالسفر إلى لبنان للنزهة والتفرج فلما وصلت حملوها مقيدة إلى مستشفى، أو مارستان، حيث بقيت سنوات، عادت بعدها إلى مصر.
وسمعت بعودتها، فاتفقت مع صديق لي هو الأستاذ أسعد حسني على زيارتها. وكانت صورتها في ذهني لا تزال صورة الفتاة الجميلة الحلوة التي تضحك في تدلل وتتحدث في تأنق عن النزعات والمذاهب الأدبية أو الفلسفية. ودققنا الجرس، فخرجت لنا امرأة مهدمة كأنها في السبعين قد اكتسى رأسها بشعر أبيض مشعث. وكان وجهها مغضنا قد تقاطعت فيه الخطوط، وكان هندامها يبدو مهملا.
وظننت لأول رؤيتها أنها خادمة وانتظرت كي تتنحى وندخل أنا وصديقي، ولكنها لم تتنح. وغمزني صديقي الذي كان قد زارها من قبل وهو يهمس بصوت أعتقد أنها سمعته: «الآنسة! الآنسة!»
وعندئذ سلمت وأنا مثلج من الخجل، ودخلت أجر قدمي وقعدت إزاءها وأنا أفكر في هذه المأساة: أين شبابها؟ أين حلاوتها؟
وكان معظم ما يؤلمني أني أحسست أنها فهمت من ترددي في التسليم عليها عند الباب أني أنكرت شيخوختها ولم أعرف أن مي الجميلة الرشيقة خالدة الشباب، قد استحالت إلى عجوز لم يبق لها من جمالها غير الذكرى.
وقعدنا نتحدث، فروت لنا كيف خطفوها من القاهرة إلى مارستان العصفورية في لبنان، وكيف كانوا يتربصون بها على مقهى قريب في الشارع القريب من منزلها. ثم شرحت لنا ما كابدته من عذاب في هذا المارستان، وجعلت تلومني لأني لم أسأل عنها. وتدفقت دموعها كما لو كانت ميازيب. وجرى بكاؤها في تشنج كأنها كانت تلتذه. ثم هدأت، وأشعلت سجارة وجعلت تدخن وتنفخ دخانها علي مداعبة لأني أكره الدخان، وهنا استولى عليها طرب فشرعت تضحك في إسراف يزيد على إسرافها في البكاء. وكانت تتشنج بالضحك كما كانت تتشنج بالبكاء.
وتكرر هذا منها. ضحك فبكاء، ثم ضحك فبكاء ، مع إسراف في الاثنين.
وسهل علي الوقوف على علتها. هي مانيا؛ أي ذلك الجنون الذي يقع كثير من الانبساطيين ذوي الوجوه المستديرة.
وخرجنا أنا وصديقي أسعد حسني، وافترقنا. وأحسست ضوضاء في رأسي وغيظا في قلبي؛ لأني جرحت كبرياءها وأفهمتها بترددي وصمتي على الباب حين ظهرت أني افتقدت جمالها فلم أجده، وأني شهدت بذلك أن دنيا الشباب التي كانت تستمتع بها وتمرح فيها قد زالت عنها. وارتميت على كرسي في مقهى قريب من بيتها عند ميدان مصطفى كامل وشرعت أفكر. وأحسست كأني أريد أن أصفع وجهي لهذه الجلافة التي بدت مني عند لقائها. ثم نهضت وأنا على نية العودة إليها في اليوم التالي كي أكفر عن زلتي الماضية.
وفي صباح اليوم التالي وعلى غير ميعاد قصدت إليها حوالي الساعة التاسعة من الصباح، ودققت الجرس، وبعد قليل فتحت الباب وكانت متبذلة كأنها لم تكن تنتظر سوى بائع أو بواب يطرق بابها في هذا الوقت. فلما رأتني ارتدت خجلة، ولكني سارعت إليها وعانقتها وقبلتها في حرارة مصطنعة كأني عاشق مفتون. ولم يكن هناك عشق وإنما كانت تغمر قلبي رحمة وكان كمدي على لقاء الأمس قد أثارني إلى هذا اللقاء؛ كي أثبت لها أنها لا تزال كما كانت: مي الجميلة الرشيقة الأديبة التي تجذب القلوب وتفتن العقول.
وما هو أن خليت عنها حتى تراجعت وهي تقول: «مرسي، مرسي يا أستاذ!» وكأنها أحست أن هذه المعانقة لم تكن إلا تفضلا وتصدقا. وقعدنا معا وأنا أحاول أن أتحبب إليها بالكلمة والإيماءة وأرد إليها كرامتها المجروحة. وطربت هي ومرحت ... وعادت تقص علي القصص وتتشنج بالضحك. ثم تذكر آلامها في المارستان فتبكي وتتشنج بالبكاء. وكان بكاؤها أكبر من البكاء، كان دموعا تتدفق ترافقها تشنجات وتنهدات عالية، ثم يغمرها هدوء ترتاح إليه وتعود إلى الحديث.
تفعل ذلك في تكرار وأنا أخفف عنها وأداعبها وأضاحكها. وتركتها بعد عناق حاولت أن أحسن تمثيله. وظني أني أحسنت؛ لأنها حين ودعتني كانت تثب ضاحكة مرحة. وودعتني عند الباب بمثل ما ودعتها به، وتركتها وقد نذرت أني أزورها مرتين كل أسبوع. ودعوتها لإلقاء محاضرة في جمعية الشبان المسيحية فلبت الدعوة. وحضرت وألقت محاضرتها وهي على أحسن ما كانت من الرصانة والتفكير.
ولكن المرض - ألمانيا - لم يكن قد فارقها؛ ففي أحد الأيام كنت أسير بالقرب من البنك الأهلي فرأيتها متبذلة، بل في رثاثة شاذة، وهي تحمل كرنبة كبيرة وتسير بها نحو بيتها. ولم تكن فقيرة إلى هذا الحد؛ إذ كان يمكنها أن تستخدم خادما أو اثنين. ولكن الاختلاط العقلي الذي كانت تعانيه من ألمانيا جعل تصرفها شاذا. وحاولت أن أنزع منها الكرنبة وأسير معها إلى البيت، ولكنها رفضت، وسرت معها على خجل من المارة وأنا أفكر في الحال السيئة التي انحدرت إليها. وفارقتها عند بيتها وقد غمرني حزن وكمد.
ودعتني الظروف إلى الاغتراب عن القاهرة نحو شهر، فلما عدت قرأت نعيها في الصحف، سبعة أو ثمانية سطور في عمود الوفيات هي كل ما بقي عن مي بعد موتها ...
وعرفت بعد ذلك أن مرضها قد تفاقم، وأنها التزمت مسكنها لا تخرج نحو عشرة أيام، وصامت عن الطعام. وكانت قد فقدت كل ما بقي لها من وجدان وتعقل، فكانت تبول وتتبرز في أنحاء المسكن وعلى الفراش وسائر الأثاث، وماتت جوعا وإن لم تحس أنها جائعة.
وقد تتبعت في حياتها مؤلفاتها وكتبت لأحدها مقدمة.
وأسفي عليها أني لم أزد اختلاطي بها وخاصة عقب عودتها حين لم يعد لها أب أو أم يؤنسها؛ لأني أعتقد أنها كان يمكن أن تنقذ من هذه «ألمانيا» التي استولت عليها واستبدت بعقلها حتى سحقته لو أننا كنا قد استطعنا أن نبعث صالونها الأدبي من جديد حتى تعود فتتلألأ وتجمع حولها المعجبين بأدبها وعبقريتها. •••
قلت: إن مي لم تطق انفضاض المعجبين بجمالها عنها. وكان هذا أحد الأسباب - بل لعله السبب الوحيد - لانهيار شخصيتها؛ ذلك لأنها لم تقنع بالتبريز في الأدب، ولو كانت قد قنعت به لوجدت فيه العوض مما فقدت من جمال الجسم عقب الخمسين من عمرها. ولعلها كانت عندئذ تحتفظ بسلامة نفسها وعقلها .
ولكني مع ذلك، حين أتأمل أدب مي، أجده أدب الحلاوة والطرافة في الجملة الناعمة للمعنى الناعم. ولست أجد فيها أدب المذهب والمبدأ والكفاح. هذا الأدب الذي يضني الأديب ويتبعه ولكنه يحييه أي يحيي نفسه.
لم تكن مي تحيا بأدبها. لم تكن مكافحة.
ذلك أنه حين يكون الأديب مكافحا يبقى - مع تعبه وعرقه - مؤملا متفائلا يحيا عن قصد، ويرمي إلى هدف، ويتابع حركة التطور في يقظة واهتمام. وعندئذ يحس أنه حي وكأنه لن يموت. وهذا الإحساس يزيد نفسه سلامة كما يزيد جسمه صحة، بل يطيل عمره.
كانت مي تكتب أحيانا كما لو كانت هاوية فقط تتصيد المعنى الأنيق وتتخير الكلمة الحلوة، وتقنع بذلك.
ولو أنها قد دعت إلى حرية المرأة في مصر أو إلى المذهب الاشتراكي، لوجدت - في الكفاح لهذه الدعوة - ما يملأ نفسها وعقلها معا باهتمامات متجددة. بل كانت تجد من الحوار بين من كانت تسعد بهم وتفخر بإعجابهم أكثر مما كانت تسعد أو تفخر بأولئك الذين أعجبوا بجمال شبابها.
ولكن مي كانت معذورة في إحجامها عن الكفاح؛ إذ كانت تعرف أنها لو دعت إلى تحرير المرأة في مصر وكافحت لتحقيق ذلك، لوجدت نفورا عظيما لأنها لم تكن مصرية ولم تكن مسلمة. ثم كانت تعرف أنها لو دعت إلى الاشتراكية لانفض عنها أصدقاؤها الأثرياء كما كانت الحكومة تتعقبها بالاضطهاد وتطاردها حتى تخرجها من مصر.
إن أدب الكفاح - أي كفاح إنساني - يجعل المؤلف يحس أنه يحمل رسالة مقدسة لا يبالي إلى جنبها ما يقع من كوارث. ولكن مي آثرت - مضطرة - ممارسة أدب الصالون على أدب الكفاح. فلما انطفأ بعض المصابيح في الصالون لم تعرف ما تصنع، فاستسلمت للموت.
صفحة غير معروفة