106
ويظهر أن تاريخ دار العلم - أو دار الحكمة كما تسمى في بعض النصوص - التي شادها المأمون قد اعتوره الغموض؛ فإني لم أجد فيما بين يدي من المصادر الموثوقة شيئا يعرفني بأمرها وتاريخها وأحوالها وما آل إليه أمرها، وينبغي أن ننتظر قليلا حتى نعثر على بعض المخطوطات القديمة التي قد تكشف لنا تلك النواحي المجهولة من تاريخ هذه المؤسسة الجليلة. •••
ولا نحب أن نترك هذه النقطة قبل أن نتحدث عن النشاط الثقافي في مصر والمغرب في العهد الفاطمي؛ فإن ثمة تشابها بين الحركتين؛ فقد حذا الفاطميون في مصر حذو العباسيين في العراق، وعنوا بالثقافة العامة والاهتمام بالكتب وخزائنها. وقد روت لنا المصادر الموثوق بها أنهم أسسوا خزانة كتب في القاهرة زودوها بنفائس المخطوطات وأعلام الكتب والدفاتر ليكسفوا شهرة بغداد ودار كتبها، كما أنهم اتخذوا بعد سنة 358 في قصر الخلافة بالقاهرة خزانة كتب ضخمة وصفت بأنها من أجل خزائن الكتب في الإسلام إن لم تكن أجلها، وأنها كانت مقرا لحركة علمية وثقافة واسعة، وقالوا أيضا إن عدة الخزائن التي كانت برسم الكتب في سائر العلوم بالقصر أربعون خزانة، من جملتها ثمانية عشر ألف كتاب من العلوم القديمة، وأنها كانت تحتوي على عدة رفوف مقطعة بحواجز، وعلى كل حاجز باب مقفل بمفصلات وقفل، وفيها من أصناف الكتب ما يزيد على مائتي ألف كتاب من المجلدات، ويسير من المجردات، فمنها في الفقه على سائر المذاهب والنحو واللغة وكتب الحديث والتواريخ وسير الملوك والنجامة والروحانيات والكيمياء من كل صنف ... ويقال إنه كان فيها نيف وثلاثون نسخة من كتاب العين منها نسخة بخط الخليل، وما ينيف على عشرين نسخة من تاريخ الطبري، ومائة نسخة من الجمهرة لابن دريد ...
107
أما المصاحف والربعات المخطوطة بالذهب والتزاويق والمكتوبة بالأقلام المنسوبة، فشيء لا يحصر، وكان فيها عدد من النساخ والمذهبين والمجلدين والفراشين ومن إليهم.
108
وإن هذه الخزانة مرت بعدة نكبات، أعظمها النكبة التي وقعت بديار مصر في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي (427-487) أيام المجاعة الكبرى التي بيع فيها رغيف الخبز بخمسين دينارا ودام الجوع سبع سنين. ويذكر المسبحي المؤرخ أنه شاهد وهو بمصر في سنة 461ه خمسة وعشرين جملا موقرة كتبا محملة إلى دار الوزير أبي الفرج محمد بن جعفر المغربي وزير المستنصر (؟-478) وقال: فسألت عنها فعرفت أن الوزير أخذها من خزائن القصر، وذكر لي من له خبرة بالكتب أنها تبلغ أكثر من مائة ألف دينار، ونهبت جميعا من داره يوم انهزم ناصر الدولة بن حمدان من مصر في السنة نفسها.. هذا سوى ما كان في خزائن دار العلم بالقاهرة، وسوى ما صار إلى عماد الدولة أبي الفضل بن المحترق بالإسكندرية ثم انتقل بعد مقتله إلى المغرب، وسوى ما ظفرت به ولاته محمولا مع ما صار إليه بالابتياع والغصب في بحر النيل إلى الإسكندرية سنة 461 وما بعدها، من الكتب الجليلة المقدار المعدومة المثل في سائر الأمصار صحة وحسن خط وتجليد وغرابة، التي أخذ جلودها عبيدهم وإماؤهم برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم وأحرق ورقها تأولا منهم أنها خرجت من قصر السلطان أعز الله أنصاره، وأن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم، سوى ما غرق وتلف وحمل إلى سائر الأقطار وبقي منها ما لم يحرق، وسفت عليه الرياح والتراب وصار تلالا باقية إلى اليوم في نواحي آثار تعرف بتلال الكتب ...
والنكبة الثانية العظيمة التي حلت بهذه الخزانة كانت أيام الفتح الأيوبي والقضاء على الدولة الفاطمية؛ فقد نقل المقريزي عن ابن أبي طي أن صلاح الدين الأيوبي بعدما استولى على القصور الملكية الفاطمية أمر ببيع ما في الخزانة، وكانت من عجائب الدنيا، ويقال إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة في القصر، ومن عجائبها أنه كان فيها ألف ومائتا نسخة من تاريخ الطبري إلى غير ذلك،
109
ويقال إنها كنت تشتمل على مائة ألف وستمائة كتاب، وكان فيها من الخطوط المنسوبة أشياء كثيرة، ويؤيد قول ابن أبي طي أن القاضي الفاضل عبد الرحيم لما أنشأ المدرسة الفاضلية بالقاهرة بعد الفتح الأيوبي جعل فيها من كتب القصر مائة ألف كتاب، وباع ابن صورة الدلال - دلال الكتب - منها جملة في مدة أعوام ... ويعلق المقريزي على هذا الخبر بقوله: فلو كانت مائة ألف كلها لما فضل عن القاضي الفاضل شيء. وذكر ابن أبي واصل أن خزانة الكتب كانت تزيد على مائة وعشرين ألف مجلد.
صفحة غير معروفة