45
ولما سارت جيوش المسلمين في فتوحاتهم الواسعة خارج الجزيرة العربية برزت الكتاتيب القرآنية بصورة واضحة، وتعددت في كافة الأرجاء التي حل الفاتحون فيها من عواصم المدن والدساكر والقرى القريبة والنائية،
46
ولا غرو في أن كثرة الفتوح واتساع رقعة المملكة وتحمس الناس الشديد للقرآن قد سبب كل ذلك.
وقد لعب المسلمون الأولون من أهل الحجاز والشام والعراق ومصر دورا كبيرا في إيجاد هذه الكتاتيب حيثما انتقلوا من الديار المفتوحة في خراسان والمشرق والمغرب، ليعلموا أولادهم القرآن وليلقنوا أبناء المسلمين من أهل هاتيك الديار آيات كتاب الله البينات؛ وهكذا وجدت الكتاتيب بكثرة في البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان ودمشق وحلب والإسكندرية وغيرها من العواصم؛ فقد روي عن غياث بن أبي غياث لما كان طفلا في الكتاب أن الصحابي الجليل سفيان بن وهب كان يزور كتابهم، ويلاطف الأطفال ويباركهم ويدعو لهم بالفتوح والبركة.
47
ولما استقل بنو أمية بأمر المسلمين ازدادت عنايتهم بالثقافة زيادة واضحة لتوسع رقعة الملك وحاجة الدولة إلى المتعلمين. وقد نبغ في هذا العصر جمهرة من كبار المعلمين والمؤدبين ذوي المكانة السامية والفضل والقدر الرفيع والشهرة. وقد كانت للأمويين عناية خاصة بتهذيب أبنائهم وأبناء رجالات دولتهم، فكانوا يرسلونهم إلى البادية لتفصح ألسنتهم وتتقوى أجسامهم، متبعين في ذلك السنن الذي كان يفعله آباؤهم قبل الإسلام حين كانوا يرسلون أطفالهم إلى البادية فيرضعونهم فيها وينتقون لهم أشرف المراضع من بنات القبائل الشريفة الفصيحة.
48
قال عبد الملك بن مروان: «... أضر بالوليد حبنا له فلم نوجهه إلى البادية.» ولذلك خرج الوليد لحانة، وكذلك كان أخوه محمد لحانا، على عكس أخويهما هشام ومسلمة؛ فإنهما كانا فصيحين لأنهما خرجا إلى البادية فتفصحا فيها. وقد أساء لحن الوليد إلى نفسه وإلى الأمة إساءة خطيرة؛ قال الجاحظ بعد أن روى حكمة عبد الملك السابقة في ابنه الوليد: لحن الوليد على المنبر فقال الكروس: لا والله إن رأيته على هذه الأعواد قط فأمكنني أن أملأ عيني منه من كثرته في عيني، وجلالته في نفسي، فإذا لحن هذا اللحن الفاحش صار عندي كبعض أعوانه، وصلى الوليد يوما الغداة فقرأ السورة التي تذكر فيها الحاقة فقال: يا ليتها كانت القاضية. فبلغت عمر بن عبد العزيز فقال: أما إنه إن كان قالها إنه لأحد الأحدين. وقالوا: لم يكن في أولاد عبد الملك أفصح من هشام ومسلمة.
49 •••
صفحة غير معروفة