وإن أول تلك النصوص وأوثقها بلا ريب هو «القرآن»؛ فإنه خير ما يمكن الاعتماد عليه في تبين الحياة العقلية والحضارة العربية قبل البعثة النبوية. ويليه في المرتبة بعض القصائد الشعرية المروية عن شعراء ما قبل الإسلام أو عن شعراء الإسلام؛ فإنهم قوم نشئوا قبل الإسلام، وتربوا في البيئة العربية التي سبقت الإسلام؛ فهم من نتاج تلك البيئة، وأقوالهم تمثلها تمام التمثيل على الرغم من تأثرهم بالإسلام.
وسأتناول في بحثي هذا ما يتعلق بالحياة العقلية وما إليها، وأصرف النظر عن الخوض في شأن الحضارة العربية قبل الإسلام؛ فإن لهذا مجالا آخر. وسيرى القارئ فيما نورد من الأدلة أن أكثر الكتاب الذين كتبوا عن تلك العصور، والتي أرادوا أن يسموا أهلها بسمة «الجهل» ويطبعوها بطابع «الجاهلية»؛ لم يكونوا منصفين في أحكامهم ، وأن فيما قرروه عنهم جناية على الحقيقة والتاريخ. وإنه لمن السخف أن يسمي ذلك العصر ب «الجاهلية»؛ لأنه بعيد كل البعد عن الجهل، وأن ما ورد في القرآن من ذكر الجاهلية لم يكن مقصودا به إلا الدين وما إليه.
يذهب بعض الباحثين من المستشرقين مثل الفيلسوف المستشرق كارا دي فو في كتابه «مفكرو الإسلام»
2
والبروفسور غولد زيهر في كتابه «العقيدة والشريعة في الإسلام»
3
والبرنس كايتاني في كتابه الضخم «تاريخ سني الإسلام»
4
إلى أن نمو الإسلام وتكوينه كان متأثرا تأثرا عميقا بالأفكار والآراء الهيلينية، وأن نظامه التشريعي متأثر بالفقه التشريعي الروماني، وأن تصوفه وفلسفته ليسا إلا تمثلا لتيارات الأفكار الهندية والأفلاطونية الحديثة، وأن الإسلام قد صهر ذلك كله وأخرج للناس مجموعة أفكار نشرها فيهم على أنها دين جديد ... ويغالي غولد زيهر فيقول: «إن تبشير النبي العربي ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية أو المسيحية التي تأثر بها تأثرا عميقا، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني وطنه ... لقد تأثر بهذه الأفكار تأثرا وصل إلى أعماق نفسه وأدرك بإيحاء قوته التأثيرات الخارجية، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيا إلهيا، فأصبح - بإخلاص - على يقين بأنه أداة لهذا الوحي ...»
5
صفحة غير معروفة