ولقد كان للمدرسة النظامية آثار جليلة، وبخاصة حين وقفت أمام الأخطار الهدامة التي كانت تعتور الإسلام من جراء قيام حركات الباطنيين والغلاة من أهل الفرق الإسلامية.
والحق أن الوزير الجليل والمربي المصلح نظام الملك - مؤسس المدرسة النظامية في بغداد، والمدارس الأخرى المتعددة التي شادها في أرجاء المملكة الإسلامية الخاضعة لنفوذ السلاجقة - كان يهدف إلى غرضين اثنين، هما: القضاء على الفرق المناوئة لأهل السنة والجماعة، وإيجاد طبقة من العلماء والإداريين السنيين ليشغلوا مناصب الدولة ووظائفها الروحية والعلمية في جميع أرجاء الدولة التي كان هؤلاء الباطنيون والغلاة قد احتلوها فترة طويلة، ونشروا فيها الدعاوات الطويلة العريضة لمذهبهم ومبادئهم. وقد توصل - رحمه الله - إلى هذين الهدفين وأحيا المذهب السني، كما يتجلى ذلك لمن يقرأ رسالتنا عنه وعن المدرسة النظامية وآثارها في تاريخ التعليم عند العرب.
وقد كنت قمت بهذه الدراسة كلها في كلية الآداب بجامعة الصوربون في باريس بإشراف الأستاذ المستشرق ريجيس بلاشير، وكنت أكون سعيدا جدا لو أنني استطعت إتمام العمل العلمي في جامعة الصوربون، ولكن الحوادث التي وقعت في فرنسة بعد إعلان الحرب العالمية الثانية، واضطرار الجامعة وكلياتها إلى غلق أبوابها في تلك الآونة؛ اضطرتني إلى طلب الانتقال إلى جامعة أخرى بعيدة عن تلك العوامل، فلم أجد إلا جامعة بوردو التي تقبلت العمل مشكورة، وتبنت الرسالة لنيل شهادة الدكتوراه.
ولا يسعني ها هنا إلا أن أشكر الأساتذة المستشرقين الذين أعانوني على العمل وقدموا إلي مساعداتهم وآراءهم الصائبة، وبخاصة الأستاذ البحاثة لويس ماسينيون الأستاذ في كلية فرنسة، والأستاذ العلامة المونسنيور فغالي الأستاذ في جامعة بوردو، والأستاذ المستشرق ريجيس بلاشير الأستاذ في جامعة الصوربون بباريس، الذي كان له فضل الإشراف على العمل والتوجيه المفيد، والأستاذ العلامة جان سوفاجيه الأستاذ في معهد الدراسات العليا بباريس سابقا.
فقد كان لهؤلاء الأساتذة جميعا يد مشكورة وجهد واضح في معونتي على العمل؛ فالله أسأل أن يجزيهم عن العلم بقدر إخلاصهم له، وبخاصة الأستاذ المونسنيور فغالي، المواطن اللبناني الجليل، وأستاذ الآداب والحضارة العربية سابقا في جامعة بوردو؛ فقد قبل أن يتبنى العمل الذي قمت به تحت إشراف الأستاذ بلاشير في الصوربون، وأن يقدمه مشكورا إلى جامعة بوردو، فوافقت على قبوله، وحددت يوما لمناقشة الرسالة مناقشة علنية.
وقد كتب الأستاذ المونسنيور فغالي تقريرا مفصلا عن قيمة هذه الرسالة، وعن جهد صاحبها ومكانته العلمية في العالم العربي ومحيط المستشرقين خلال وجوده في ديار الغرب، ولولا أني أرى في نشره تقريظا ومدحا لنفسي - وأنا من أبعد الناس عن حب التقريظ - لنشرت جزءا من ذلك التقرير، ولكن نفسي تعاف هذه الأمور.
وما التوفيق إلا من عند الله القدير، إنه أفضل معين وأقوى نصير.
باريس 3 أيلول 1939
م. أ. ط.
الفصل الأول
صفحة غير معروفة