على الطريقة التي كتب بها تاريخ آداب اللغة الإنجليزية كتب في سنة 1865 كتابه فلسفة الفن وفي سنة 1867 نشر رسائل عن المثل الأعلى في الفن أتبعها بمقالات عن فلسفة الفن الفلمنكي والفن اليوناني ضمت كلها بعد ذلك إلى كتاب فلسفة الفن.
كتب هذا الكتاب على طريقته في كتاب آداب اللغة الإنجليزية، فإلى جانب وصفه الممتع للآثار الفنية المختلفة ترى نظريته الثابتة التي تخضع الفن كما تخضع كل مظاهر الحياة الإنسانية - وكما تخضع الإنسان نفسه - إلى الطريقة العلمية في البحث، طريقة التحليل والمقارنة والاستنباط وإرجاع كل أثر من هذه الآثار إلى البيئة والجنس والعصر التي نشأ فيها صاحب الأثر، وهذا في نظره هو السبب الأساسي لاختلاف كل مدرسة من مدارس الفن عن سواها، فالفن الإيطالي غير الفن الفرنسي وغير الفن الفلمنكي وغير الفن الإنجليزي؛ لأن البيئة الإيطالية تختلف عن كل واحدة من هذه البيئات الأخرى، وإن أمكن أن يوجد شيء من الشبه بين منتجات هذه المدارس المختلفة إذا هي كانت معاصرة بعضها لبعض لما في هذه المعاصرة نفسها من داع لوجود مشابهة قليلة أو كثيرة في التفكير والتصور والنظر بين الفنون المختلفة، وذلك هو سبب الاختلاف بين المذاهب المختلفة في الأمة الواحدة إذا هي اختلفت عصورها، وإن كان في اتفاق البيئة والجنس ما يبعث إليها شبها قويا يصل بينها في الروح والحياة.
وفي أوائل سنة 1870 نشر كتابا ثانيا من أمهات كتبه، ذلك كتابه «في الذكاء»، ولقد ذكر هو في مقدمة هذا الكتاب أنه ثمرة بحث وتفكير عشرين سنة كاملة، والواقع أن بين هذا الكتاب وبين رسالة «المشاعر» التي قدمها ليحوز بها جائزة الفلسفة في سنة 1851 صلة كبرى، ذلك بأنه يرد الذكاء في الإنسان إلى إحساسه ومشاعره، وأن كل حس يؤثر بمحسوساته في مراكز الذكاء في الإنسان تأثيرا هو صاحب الأثر الأكبر في تكوين هذا الذكاء، وفي هذا الكتاب أيضا شرح تين نظرياته، بل لعله في هذا الكتاب وحده قد قرر هذه النظريات على صورة كاملة ظهر فيها مذهبه الجبري بكل قوته ووضوحه.
ظهر لتين كثير غير الكتب التي ذكرنا منها كتابه (مذكرات عن إنجلترا) وكتابه الآخر (مذكرات عن باريس)، وإذا هو كان في الكتاب الأول كاتبا ومحللا على طريقته فهو قد امتاز في الكتاب الثاني بالنكتة المقذعة وبرقة في العبارة مع دقة في الملاحظة ومرارة في التهكم بالناس وبالحياة جعلت كثيرين يتمنون لو أنه وجه نصيبا كبيرا من عنايته إلى هذا النوع من الكتابة.
وتزوج تين في سنة 1868 فلم يغير زواجه شيئا من حياة الجد والعمل التي كان يحياها، على أنه منذ سنة 1870، وعلى أثر الحرب الفرنسية الألمانية، حز في نفسه ألم هزيمة بلاده وتوجه بكله يريد أن يقف على أسباب ضعفها، وكان هذا هو الدافع له إلى وضع كتابه الأكبر (أصول فرنسا الحديثة) الذي عمل فيه منذ سنة 1870 إلى أن مات في 1893 والذي اضطر من أجله أن يتخلى عن مهنة التدريس منذ سنة 1884 لينقطع له انقطاعا تاما، ويبدأ هذا الكتاب بجزأين عن العصر القديم، أي العصر السابق لما قبل الثورة الفرنسية، أما تاريخ الثورة فيتناول ستة أجزاء، ويتناول التاريخ الحديث ثلاثة أجزاء يعقبها جزء واحد وضعه تين كفهرس للكتاب كله، ولقد كان في عزمه أن يضع - في الجزء الذي لم يمهله القدر ليتمه - الصورة الصالحة لنظام العائلة ونظام الجمعية في فرنسا كما يريد العلم لهذا النظام أن يكون، لكنه توفي في الخامس من شهر مارس سنة 1893 وما يزال في الخامسة والستين من عمره.
وكتابه «أصول فرنسا الحديثة» هو عمله الخالد على التاريخ، ولقد سار فيه على نفس الطريقة التي سار عليها في سائر كتبه، وإن يكن الدافع الذي دفعه لكتابته، ألا وهو حب وطنه حبا أذكته هزيمة حرب السبعين وزادته ضراما، قد جعله في كثير من الأحيان يناصر حزبا على حزب وطائفة على طائفة من الأحزاب والطوائف المختلفة التي حكمت فرنسا منذ ذلك العصر القديم الذي كتب هو عنه.
وهو على كراهيته للاستبداد في كل مظاهره وعلى تقديسه للحرية في مختلف صورها، لم يكن يؤمن بالديمقراطية ولا بالمساواة المطلقة التي تترتب عليها، بل كان يحسب فيها هي أيضا لونا من استبداد الجماهير الحمقاء بحكم البلاد لا تقل سوءا عن استبداد الملوك الظلمة الغاشمين، فكلا الاستبدادين قائم على الشهوة العمياء التي تبتغي المصالح الذاتية في شره وسخف والتي لا تفهم المعاني العليا التي يتطلع إليها العلم ولا السنن الثابتة والتي تستنبطها الفلسفة القائمة على هذا العلم.
ويذكر كثيرون أنه كان في هذا كما كان في فلسفته متأثرا بالفلسفة الإنجليزية وبالحياة السياسية الإنجليزية، ولعله كان يميل إلى شيء من الإرستقراطية بطبيعة تفكيره، ولذلك كان كتاب عصره جميعا إنما يذكرونه باسم (مسيو تين)، وذلك امتياز لم يعرف إلا له ولاثنين أو ثلاثة من كبار الكتاب معه، وربما كان صدقا ما يقوله مسيو هريو وزير معارف فرنسا في خطابه عن تين من أنه لو كان إنجليزيا وعاش في إنجلترا لكان حتما أن يلقب وأن يكون (السير هيبوليت)، وهذه النزعة هي التي أدت به ليكتب رسالة مطولة عن الانتخاب المباشر يطعن فيها مر الطعن على هذا النظام، ويرى من السخرية أمر السخرية أن يتساوى في الرأي عن طريقة حكم البلاد ماسح الأحذية وعميدو الكليات ومديرو الجامعات، كما يرى حماقة أن يحكم نصف الأمة زائدا واحدا نصفها الآخر ناقصا واحدا، أو أن يحكم سوادها الطائش المخدوع بترهات المغررين والمضللين صفوة أبنائها وخلاصة ذوي الرأي والعلم فيها حكما أقل أثره أن يبعث التقزز إلى نفوس الصفوة ويضعف من حب كثير منهم للعمل ويضيع بذلك جهودا أقلها خير ألف مرة من جهود السواد وقادته. •••
وعاش تين ومات ومنطقه منطقه ورأيه لم يتغير، وكأنما كان مصداقا حيا لهذه الكلمة: «النبوغ فكرة في الصبا تنفذ في الرجولة»، فمنذ كان تين في مدرسة المعلمين إلى أن مات، كانت غايته في الحياة واحدة وطريقته إلى هذه الغاية واحدة، كانت غايته الحقيقة وكانت طريقه إلى الحقيقة العلم، حقيقة لا هوادة فيها وعلم كذلك لا هوادة فيه، ولهذا كان جديرا حقا بالخلود، وإذا كان كثير من نظرياته قد نقض بعد حياته، فهو في ذلك ليس إلا إنسانا عظيما، هو قد خطا بالعالم في عصره الخطوة التي كان يجب أن يخطوها العالم، فكأنما كان رسولا لتمام هذه الخطوة، أما وقد أتم رسالته وآن للعالم أن يخطو خطوة أخرى، فإن ذلك لن يغض من فضله ولن يغمطه شيئا من حقه، بل هو على العكس من ذلك يزيدنا قدرا له وإعجابا به، وكفى أن يسأل إنسان نفسه: ماذا يكون العلم وماذا تكون الفلسفة لو أن تين لم يوجد؟ ولن يستطيع إنسان أن يجيب على هذا إلا بالاعتراف لتين بفضل عظيم، وهذا الفضل هو الذي جعل فرنسا تحتفل بعيده، وجعل الفرنسيين يفكرون في إقامة تمثال له في باريس وتمثال آخر نصفي في مدرسة المعلمين.
وليم شكسبير
صفحة غير معروفة