فلما أمره محمد علي بإعدامه ساقه إلى منزله في دهبية على النيل، وجاء في الصباح التالي إلى السراي، فلما رآه محمد علي سأله عن بوغوص، فأجابه بقوله: «أطال الله بقاء سمو مولاي»، ففهم محمد علي على أنه قتله فلم يعد يذكره قط.
واتفق بعد بضعة أيام أن محمد علي قدم القاهرة لتعهد شئون حكومته فسمع باختلال أحوال الولاية، وكانت التقارير ترد عليه من الكشاف (المديرين) تناقض بعضها بعضا، فشق ذلك عليه وتذكر بوغوص لأنه كان عمدته في حل هذه المشاكل.
فصاح بأعلى صوته قائلا «من لنا ببوغوص الآن! كيف أني قتلته!» وكان رئيس حرسه حاضرا، فامتقع لونه واضطرب، فأدرك محمد علي ذلك، فقال له والغضب ظاهر على وجهه: «ادعه حالا» فخاف الكردي خوفا شديدا، واصطكت ركبتاه فترامى على قدمي الباشا فرفسه محمد علي برجله، ولم يزد على قوله: «ادعه إلي»، فجاءه به وبوغوص يرتعد خوفا ورهبة. أما الباشا فلم يبد ملاحظة ، ولكنه استشاره في حل المشكلة التي وقع فيها فتناول بوغوص الأوراق فتلاها وحل رموزها، واستطلع ما بطن منها وما ظهر، فأصدر محمد علي حكمه فيها طبقا لمشورة بوغوص، ولما انفضت الجلسة وانصرف الكتبة دعاه للطعام معه فتناولاه ولما هم بوغوص بالانصراف، قال له محمد علي: «قد تناولت الخبز والملح معك ونسيت ما مضى، فاذهب إلى الإسكندرية بسلام.» فالتمس بوغوص منه أن يعفو عن رئيس الحرس، فعفا عنه على شرط أن لا يرى وجهه بعد ذلك، فأخذه بوغوص معه وأسكنه في أهله زمنا طويلا ثم أراد النزوع إلى وطنه، فجهزه بمال يكفي لمعيشته بالرخاء والنعيم كل حياته.
وأصبح بوغوص بك من ذلك الحين موضع ثقة محمد علي ومرجع مشورته ولم تبق ثمة حاجة إلى تجديد شروط احتكار كمرك الإسكندرية، وأصبح بوغوص بك من موظفي الحكومة المصرية بلا راتب معين، فكان يستولي على ما أراده من دخل الكمارك بلا حساب على أن محمد علي لم ير منه طمعا ولا إسرافا، فرقاه إلى رتبة فريق مع لقب بك، وأطلق له التصرف في كل أعماله. ولما نظم محمد علي حكومته، وأنشأ فيها النظارات ولاه نظارة الخارجية والتجارة، فقضى في ذلك المنصب نحوا من عشرين سنة ومحمد علي يعتمد عليه اعتمادا تاما في كل ما يتعلق بعلاقاته السياسية والتجارية مع الدول الأخرى، وكانت كل محاصيل القطر المصري تمر تحت يده كأنه ناظر المالية، ونظم له أقلام الحسابات فاكتسب صداقة محمد علي فضلا عن ثقته.
وتوفي بوغوص بك في الإسكندرية أول عام 1844 عن 76 عاما، وكان محمد علي يومئذ في القاهرة فحزن حزنا شديدا، فأصدر أمره أن يحتفلوا بجنازته على نفقة الحكومة، فدفنوه في كنيسة الأرمن الغريغورية في الإسكندرية، ولم يكن من أقاربه في مصر يومئذ إلا نوبار باشا، وكانت سنه 19 سنة فخدمه في أثناء مرضه.
وكان محمد علي لما سافر إلى السودان عام 1839 لتفقد أحوالها سلم إلى بوغوص بك أوراقا مختومة على بياض لاستخدامها فيما يقتضي إصداره من الأوامر أو المنشورات سريعا، فبعد انقضاء مدة الحداد فتحوا صناديقه فوجدوا تلك الأوراق لا تزال كما كانت عليه، ومعها جواهر ومصاغ كان محمد علي قد عهد إليه بها قبل سفره، ويدل ذلك على أمانته وإخلاصه في خدمته.
وكان ربعة مع ميل إلى القصر، قوي البنية، يتقلد العمامة ويلبس القفطان والجبة، لا يختار من ألوان الألبسة إلا المظلمة، ولم يلبس الطربوش قط، ولم يخلف بوغوص أولادا، فورثه أخوه بدروس يوسفيان، وكان يقيم في تريستا ولم يعش بعده إلا قليلا.
الفصل السابع والعشرون
مصطفي رشيد باشا
شكل 27-1: مصطفي رشيد باشا (ولد سنة 1215ه وتوفي سنة 1274ه).
صفحة غير معروفة