وفي مارس سنة 1882 أقيل رءوف باشا فقام مقامه جيكلر باشا فأنفذ يوسف باشا الشلالي لمحاربة المتمهدي، فجنحت به السفينة عند كلوا فتركه رجاله وفروا، فلما علم المكاشف بذلك تشدد وخرج برجاله على سنار ومديرها حسين بك شكري فدخلها، وقتل بعض حاميتها وتجارها فحاصر المدير ورجاله في المديرية، فبلغ ذلك جيكلر باشا فأنفذ لإنقاذهم صالح بك في خمسمائة جندي، فجاءوا المدينة ودخلوها ورفعوا الحصار عن المديرية فتقهقر الدراويش إلى كركوج وراء سنار، فخرجت عليهم الجنود المصرية من أبي حراز ومعهم 500 مقاتل من عرب الشكرية بقيادة أميرهم عوض الكريم باشا أبي سن، فلقيهم العصاة في المسلمية وأرجعوهم على أعقابهم بعد أن قتلوا منهم جمعا كبيرا، فخرج جيكلر باشا على العصاة بنفسه فغلبهم في أبي حراز وفي موقعة بالقرب من سنار ثم عاد إلى الخرطوم، وكان قد وصلها عبد القادر باشا حكمدارا بدلا من رءوف باشا (في 11مايو سنة 1882).
وكان الشلالي باشا قد أعد حملة في كاوا للخروج على المهدي في جبل قدير فسار بحرا في ستة آلاف مقاتل حتى أتى فشودة في مايو فسار برا وأقام مدة على جبل في منتصف المسافة بين فشودة وجبل قدير، ثم استأنف المسير في السهول والجبال حتى دنا من العدو في 7 يونيو، وكانوا فئة ضعيفة جائعة، ولكن الشلالي استخف بمهمته ولم يحسن التحصين فهاجموه بغتة وكسروه شر كسرة وأخذوا كل ما كان معه من المؤن والذخيرة ولم يبقوا إلا على القليل من رجاله، وكان ذلك النصر أعظم ما ناله المتمهدي إلى ذلك الحين فاتخذ السودانيون نصرة هذا مع قلة رجاله دليلا على صدق دعوته، وكان قد طاف كردوفان قبل أن صرح بدعوته واشتهر بين أهلها بالتقوى والكرامة والغيرة على الدين، فجاء نصره هذا مصداقا لما في أذهانهم، فتقاطروا إليه بالمال والرجال من أقاصي كردوفان، وعظم أمره في عين الحكومة فأخذ عبد القادر باشا في تحصين الخرطوم، وفرض لمن يقتل الدراويش جنيهين عن كل درويش و18 جنيها عن كل أمير وبعث إلى الدراويش أن يثوبوا إلى الطاعة ووعدهم خيرا، وأخذ من الجهة الثانية يجمع الجند فاستقدم فرقا من حاميات القلابات وسنهيت وجيرا وجند غيرهم فاجتمع لديه 12 ألف مقاتل، وأمد حامية الأبيض بألف.
وفي أثناء ذلك هجم المكاشف على شات وافتتحها، وقتل حاميتها وحاول فتح الدويم فلم يستطع، وكان المهدي لا يزال في جبل قدير لا يبدي حراكا، أما قواده فكانوا يسيرون برجالهم يفتحون البلاد في جهات كردوفان، فحاربوا الحامية المصرية في أماكن مختلفة وهددوا بارا وكشجيل والبركة وغيرها، ثم سار المهدي برجاله إلى الأبيض عاصمة كردوفان، وفيها محمد سعيد باشا، فلما علم بقدوم العصاة جمع جنده من الجهات وحصن المدينة، وفي أوائل سبتمبر سنة 1882 أصبح المتمهدي برجاله على مقربة من الأبيض فكتب إلى محمد سعيد باشا يدعوه إلى التسليم، فجمع الباشا رجال مجلسه وشاورهم في الأمر فأقروا على شنق الرسل، وأن لا يبعثوا جوابا، ولكن أهل الأبيض كانوا على دعوة المهدي سرا، وهم الذين دعوه إلى فتحها وفي مقدمتهم إلياس باشا أعظم تجار كردوفان وحاكمها السابق، فانضموا إلى العصاة في تلك الليلة هم وبعض الحامية، وبقي محمد سعيد باشا في نحو عشرة آلاف من الجند الباشبوزوق، وأما جيش المتمهدي فكان جرارا فيه 6000 تحمل البنادق التي غنموها من الجنود المصرية بالمواقع الماضية، وأما سائر قواته فتبلغ ستين ألفا، ويقول سلاتين باشا في كتابه «النار والسيف في السودان»: إن حملة البنادق لم تأت معه الأبيض بل بقيت في قدير.
وفي 8 سبتمبر هجم العصاة على الأبيض فارتدوا خاسرين، وقد غنم الجند المصري 63 راية من جملتها راية المتمهدي نفسه واسمها «راية عزرائيل»، وقتلوا منهم نحو عشرة آلاف، وفي جملتهم محمد أخو المهدي، ويوسف أخو عبد الله التعايشي، ولم يقتل من الحامية إلا 300، فعظم ذلك على المتمهدي وأدرك خطر الهجوم على الأسوار الحصينة وعول من ذلك الحين أن لا يهاجم سورا، وإنما يفتح البلاد بالتضييق عليها بالحصار حتى يضنيها الجوع وتعمد إلى التسليم، ثم جاء العصاة مدد فاشتد أزرهم فشددوا الحصار على الأبيض وعلى بارا، وكان في بارا نور عنقرة أحد أمراء العرب وكان مواليا للحكومة، ولكنه رأى مقامه حرجا وتحقق الفشل، فكتب إلى المهدي سرا أنه إذا أرسل إليه أميرا من أكابر أمرائه سلم له، فأرسل إليه ولد النجومي فخرج نور عنقرة مع محمد الخير وكان يلقب سر سواري؛ أي قائد الخيالة، وسلما لولد النجومي فقبلهما وانقضت سنة 1882 والحصار شديد على الأبيض وبارا والعصاة يتكاثرون في سنار وغيرها.
وكان المهدي قد أرسل فرقا من رجاله لنشر دعوته في دارفور وبحر الغزال فانتشرت الثورة هناك، ولكنهم لم يغتنموا سنة 1882 إلا بعضا من بلادها، وفي أوائل سنة 1883 فتحوا دارا في 5 يناير واضطرت الأبيض إلى التسليم من الجوع في 19 منه، فدخلت كردوفان في حوزة الدراويش، وغنموا منها شيئا كثيرا من المؤن والذخائر والأسلحة والأموال، وصار المتمهدي من ذلك الحين حاكما على كردوفان، وقبض على سعيد باشا ورجاله، وبعد أسرهم مدة اكتشف على تقرير بعثوا به سرا إلى الخرطوم وأمر بقتلهم.
شكل 10-2: طبيب المهدي.
وكان عبد القادر باشا قد سار بنفسه وجنده لقمع العصاة في جهات سنار، فوشى به بعضهم في مصر، فاستقدمته الحكومة إليها على حين غفلة وعينت مكانه علاء الدين باشا وكان قبلا في مصوع، وعهدت بقيادة الجند الذي كان في سنار إلى حسين باشا، وأرسلت حملة جديدة لاسترجاع كردوفان، وعهدت بقيادتها إلى ضابط إنكليزي اسمه الكولونيل هيكس ثم سمي هيكس باشا.
وكان المهدي لما فتح الأبيض ودانت له كردوفان وآمن به معظم أهل السودان أخذ ينظم حكومته على غير نظام الحكومة.
وأهم أقسام الإدارة على أبسط وجوهها ثلاثة: الجند والمال والقضاء، فجعل على الجند خليفته عبد الله التعايشي قائدا عاما لجماعة الدراويش يدير حركاتهم، وأنشأ إدارة سماها بيت المال وفيه تحفظ الأموال: كالعشور، والغنائم، والفطرة، والزكاة، والغرامات التي يضربونها على شارب المسكر أو السارق. وعهد بإدارة بيت المال إلى صديق له اسمه أحمد ولد سليمان. أما القضاء فأقام عليه رجلا اسمه أحمد ولد علي كان قاضيا في دارفور وسماه قاضي الإسلام، وكان محمد أحمد منذ أوائل ظهوره قد عين خلفاءه وجعلهم أربعة، مثل: الخلفاء الراشدين، يتولون الأمر بعده الواحد بعد الآخر، أولهم عبد الله التعايشي، والثاني علي ولد الحلو، والثالث محمد الشريف، والرابع محمد السنوسي، ولكن هذا رفض الخلافة.
وعلم المتمهدي أن الحكومة المصرية ستحمل عليه بكل قوتها لاستخراج كردوفان من يديه فأخذ يحث الناس على الجهاد ويحقر الدنيا في أعينهم ويحبب الآخرة إليهم وهم، يفدون إليه زرافات وقبائل يتبركون به، وقد آمنوا بدعوته بعد أن ذاقوا الراحة والاستقلال على يده؛ فتخلصوا من الضرائب ونجوا من الباشبزوق واستبدادهم، فاعتقدوا أنه المهدي المنتظر الذي جاء «ليملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما»، ومما ساعدهم على هذا الاعتقاد تظاهر هذا الرجل بالتقوى والزهد، فلم يكن يلبس غير السراويل والجبة فوقها منطقة من خوص يقضي نهاره في الصلاة ونشر المنشورات يحث بها الناس على ترك الدنيا والتمسك بالآخرة، ويضع لهم القوانين والأحكام، ومن أمثلة ذلك منشور نشره من الأبيض سنة 1301ه وقعت لنا نسخة منه ننشرها مثالا لتعاليمه، وهاك نصها بالحرف الواحد، على علاتها اللغوية:
صفحة غير معروفة