وبنى محمد علي في الإسكندرية دار صناعة أتى إليها بالسفن والدوارع من مرسيليا والبندقية، وأقام فيها مدرسة جاء إليها بالأساتذة من فرنسا وإنكلترا، وبنى حول الإسكندرية حصنا منيعا وحصونا أخرى في أماكن أخرى.
شكل 1-6: جند محمد علي النظامي الجديد يجلدون رجلا بين يدي الكاشف. (4-4) الإصلاح التجاري
ولما أصلح الزراعة وكثرت حاصلات البلاد وجه التفاته إلى تنشيط التجارة، فأراد إنشاء مينا أمين تأوي إليه السفن التجارية، فلم تعجبه رشيد ولا دمياط لخشونة مرساهما، فاختار الإسكندرية فاحتفر ترعتها الموصلة بينها وبين النيل ودعاها ترعة المحمودية نسبة إلى السلطان محمود الثاني، فكثر نقل البضائع فيها بين الإسكندرية وداخل القطر، فاكتسبت الإسكندرية بذلك أهمية كبرى وتقاطر إليها التجار من أماكن مختلفة من أوروبا وغيرها، وأقيمت فيها البنايات الكبيرة على النمط الإفرنجي، ووجدت فيها الفنادق والنزل للغرباء، وأصلح مرفأ بولاق وغيره، ووسع للأجانب في الاستيطان والاتجار، فاتسعت التجارة وكثرت العلائق وعاد كل ذلك بالنفع الجزيل. وتوطيدا لأعماله هذه أنشأ مجلسا تجاريا مؤلفا من الوطنيين والأجانب للحكم في القضايا التجارية. (4-5) الإصلاحات الصناعية
أما الإصلاحات الصناعية فكثيرة، ولكن لم يبق منها إلى الآن إلا آثار بالية، مع ما توخاه رحمه الله من إنشاء المعامل واستجلاب الصناع من أقطار أوروبا؛ فإنه أنشأ في هذا القطر معامل عديدة لمعالجة القطن والنيلة واصطناع الطرابيش التونسية، والورق، والغزل، وأنواع الأقمشة من الحرير، والكتان، والقطن، والصوف في سائر جهات القطر، ومعمل الأسلحة على أنواعها وغيرها. أما سبب حبوط معظم تلك المعامل فعائد إلى عدم وجود معادن الفحم الحجري في القطر المصري. (4-6) الإصلاحات الصحية
رأى ذلك الرجل العظيم أن البلاد في احتياج كلي لهذه الإصلاحات؛ لانتشار التدجيل والتطبيب بالكتابة والحجابة وما شاكل، فاستقدم أحد مشاهير الأطباء الفرنساويين واسمه الدكتور كلوت (ثم صار كلوت بك، وإليه ينسب شارع كلوت بك في القاهرة) فأنشأ المدارس الطبية، والمستشفيات، وفي مقدمتها المدرسة الطبية في قصر العيني (وكان هذا القصر قبلا مسكنا لإبراهيم بك الكبير من أمراء المماليك) يدرس فيها الطب والجراحة، ومدرسة أخرى في فن التوليد، ومستشفى كبيرا في أبي زعبل قرب المطرية، وأنشأ مجلسا صحيا ومدرسة بيطرية، ورتب مستشفيات وأطباء للعساكر وأخرى للأهالي، وعين أطباء لمراقبة الأحوال الصحية في المديريات. (4-7) الإصلاحات العلمية
أما الإصلاحات العلمية فلا تقل أهمية عما تقدم؛ لأنه ألف مجلسا للمعارف العمومية قصد به تعليم خدمة الحكومة الملكيين والجهاديين ما يؤهلهم للقيام بمهام أعمالهم، وفتح مدارس كثيرة لتعليم الشبان من أهل البلاد، وبعث بعضا منهم إلى أوروبا لإتقان الدروس على مثال الإرساليات العلمية بعد ذلك، وأنشأ المطبعة الأهلية في بولاق وأمر بترجمة كثير من الكتب المفيدة، وأنشأ الجريدة المصرية الرسمية (الوقائع المصرية) وديوان المهندسخانة وغير ذلك. (5) صفاته ومناقبه
كان محمد علي متوسط القامة عالي الجبهة أصلعها، بارز القوس الحاجبي، أسود العينين غايرهما، صغير الفم باسمه، كبير الأنف متناسب الملامح مع هيبة ووداعة، أبيض اللحية كثيفها مع استدارة وسعة، جميل اليدين، منتصب القامة، جميل الهيئة، ثابت الخطوات منتظمها، سريع الحركة، إذا مشى يجعل يديه متصالبتين وراء ظهره غالبا على الخصوص إذا مشى في داره مفكرا في أمر، وكذلك كان يفعل بونابرت، وقلما كان يفاخر باللباس، فكان لباسه غالبا على زي المماليك، وعلى رأسه الطربوش الجهادي، ثم أبدله بالعمامة فزادته هيبة ووقارا، وأبدل اللباس العسكري بلباس واسع بسيط لا يمتاز به عن بعض أتباعه.
وكان يكره التفاخر بالحاشية، فلم يكن على بابه إلا رجل واحد يخفره، وإذا استوى في مجلسه لا يتقلد السلاح إنما يجلس وفي يده حقة العطوس والمسبحة يتلاهى بها، وكان يحب ألعاب البلياردو والداما، ولا يأنف من مجالسة صغار الضباط، وأما جلساؤه العاديون فالقناصل وكبار السياح، وكانوا يحبونه ويجلون قدره، ويلقبونه بمبيد المماليك أو مصلح الديار المصرية، وكان سليم القلب مع دهاء وسياسة، سريع التأثر، لا يعرف الكظم، فكثيرا ما كان ينقاد بدسائس المفسدين، وكان كريم النفس سخي العطاء، وفي بعض الأحوال مسرفا، وكان يتفاخر بعصاميته ويرتاح للتكلم عن سابق حياته، وكان محبا للاطلاع ولا سيما على الأخبار السياسية، وكان يعتبر الجرائد وتأثيرها في الهيئة الاجتماعية فكانوا يترجمونها له فيطالعها بتمعن.
أما هواجسه السياسية فكانت تقلق راحته فلا ينام إلا يسيرا، وقلما يرتاح في نومه، ولا ينفك متقلبا من جانب إلى آخر، فكان يجعل عند فراشه اثنين من خدمته يتناوبان اليقظة لتغطيته إذا انكشف عنه الغطاء من التقلب، ويقال إن من جملة دواعي أرقه الشهقة المرتجفة التي كانت تتردد إليه كثيرا، وكان قد أصيب بها في حملته على الوهابيين على إثر رعب شديد، على أن ذلك الأرق لم يكن ليضعف شيئا من سرعة حركته، فكان يستيقظ نحو الساعة الرابعة من الصباح ويقضي نهاره في المشاغل المختلفة بين مفاوضة مع ذوي شوراه أو مراقبة استعراضات العساكر أو استطلاع أمور أخرى تتعلق بمصالح الأمة، وكان بارعا في الحساب بغير تعلم؛ لأنه شرع بتعلم القراءة والكتابة وهو في الخامسة والأربعين من عمره، ويقال إنه ابتدأ بتعلم أحرف الهجاء على أحد خدمة حريمه، والكتابة على أحد المشائخ، وهذا مما يزيده شرفا وفخرا ويبرهن على ما فطر عليه من قوة الإدراك والحذاقة والمقدرة على المهام السياسية، وكان صارم المعاملة مع حس ورقة وحسن الأسلوب، وكان متمسكا بالإسلام مع احترام التعاليم الأخرى، ولا سيما التعاليم المسيحية، فكان يقرب أصحابها منه ويعهد إليهم أهم أعماله.
ويقال بالإجمال: إنه كان لرعيته أبا حنونا وصديقا مخلصا، ولذوي قرباه نصيرا مسعفا، ولأولاده أبا حقيقيا؛ ولذلك تراه بعد أن أصيب بفقد أكثرهم غلب عليه الحزن حتى أثر في صحته تأثيرا رافقه إلى اللحد. أما حبه للرعية فلا يحتاج إلى دليل، فهذه الديار المصرية عموما إذا قصرت ألسنة أهلها عن تعداد مآثره، ينطق جمادها بمزيد فضله، هذه الترع والجسور والبنايات والشوارع والجنائن، هذه المطابع والمدارس، هذه النظامات الجهادية والملكية والقضائية، هذه الزراعة والفلاحة، هذه شبه جزيرة العرب تردد ما لاقته من نجدته، وقد كان محترما لدى رعيته وذويه، ومن الأجانب البعيدين منه وطنا ودينا ومشربا، وكثيرا ما تقربوا إليه بالنياشين والهدايا إقرارا بفضله على العالم عموما بتمهيد سبل التجارة بين أوروبا والهند على الخصوص.
صفحة غير معروفة