فإذا دفع الملتزم الضريبة يعطى له حق التصرف في تحصيل المال الذي عجله، وعلى فوائده التي كان يقرر سعرها هو بنفسه كما يريد، وكانت الحكومة تتعهد بمساعدته في التحصيل وتجعل له في مقابل ما ينفقه ويكابده في ذلك التحصيل أراضي غير التي التزمها معفاة من كل ضريبة تعرف بالأواسي. أما الفلاحون فلم يكونوا يملكون أرضا فقط على أن الملتزمين أنفسهم كانت تنزع منهم الالتزامات إذا تصدى لهم من كان أكثر صولة منهم وأشد بطشا، ولا يخفى ما كان ينجم عن هذا التصرف من اختلال الأمن وضياع الحقوق والأتعاب.
فلما استقام الأمر لمحمد علي باشا أمر بمسح كل أراضي مصر المزروعة، ثم قسمها إلى مديريات، والمديريات إلى مراكز أو أقسام، وهذه إلى نواحي، وعين فيها من يقوم بإدارة أمورها وآخرين لجباية الضرائب، وأبطل الالتزامات جملة، ووزع أراضي كل ناحية بين أهالي تلك الناحية نفسها بحيث يصيب كل فلاح قادر على الشغل جانبا من الأرض بقدر جانب الآخر، فبلغ نصيب كل فلاح ثلاثة أفدنة وبعضهم أربعة أو خمسة، وجعل لمشائخ البلاد جانبا من الأرض أعفاه من الضريبة في مقابل نفقات ضيافة جباة الأموال الأميرية الذين كانوا يمرون في بلادهم، وما كانت الحكومة تكلفهم به من المهام، ودعا تلك العطايا «مسموح المشائخ» أو «مسموح المسطبة»، وهي تقابل الأواسي المتقدم ذكرها.
ثم رأى رحمه الله أن الفلاح لا يستطيع من نفسه أمرا كافلا إخراجه مما هو فيه من الضيق الذي تراكم عليه بمرور الأجيال، وكان قد انتهى من أعماله الحربية ولم يعد ثم حاجة إلى بقاء ضباط الجهادية منقطعين إلى وظائفهم العسكرية مع بقاء رواتبهم جارية عليهم في حالة السلم ، وأن ليس من التدبير والحكمة أن يتناولوا معيناتهم وهم عطل من الأعمال، ورأى من الجهة الثانية أن الفلاح يحتاج إلى مرشد يهديه إلى الطرق اللازمة لاستقامة أمره، ووازع يدفعه إلى النهوض بواجباته، وعلم أيضا أن المرء مهما كان صادقا في خدمة الحكومة يشتغل لنفسه أكثر مما يشتغل لغيره، فارتأى أن يعهد بأمر البلاد من حيث الزراعة إلى أولئك الضباط مفوضا إليهم تعميرها وإصلاحها بأنفسهم ففعل، ولم يحرم الفلاح مع ذلك من ثمرة أتعابه، بل جعل لهذه الطريقة التي اعتمدها أصولا وقوانين تقضي بأن لا تعطى الأطيان للمتعهد ما دامت رائجة ومقتدرة على أداء ما عليها من الأموال في أوقاتها. أما الأطيان غير الرائجة فتحال إلى عهدته باختيار أربابها، وهو يتعهد بأداء المال المطلوب للحكومة، وبهذه الواسطة نشطت الزراعة وتحسنت تحسنا عظيما، وما زالت تلك الأراضي في أيدي المتعهدين إلى أيام المغفور له عباس باشا، وهو الذي استردها.
ومن أعماله الإدارية إنشاء الدواوين، ومنها ديوان المعاونة وفائدته النظر فيما يعرض من الدواوين الأخرى والمديريات وسائر الجهات، ثم الديوان الخديوي وكان يقوم بأشغال ديواني الداخلية والخارجية والضابطة، ثم ديوان الأشغال، وديوان المبيعات، وديوان الفردة، ثم أنشأ بعد ذلك ديوان الخارجية خاصة، وديوان العسكرية، ثم الخزانة المالية وما يتعلق بها، وديوان الأوقاف، وديوان المعامل، وديوان التفتيش، والحقانية، والترسخانة، والأبنية، وديوان المدارس، وجميع ذلك أو معظمه عهد بإدارة أعماله إلى مديرين ورؤساء من أبناء هذا القطر السعيد، وكلها ترجع بأحكامها إلى ديوان المعاونة المتقدم ذكره.
ثم أنشأ مجالس للقضاء وما يقتضى لها من القوانين والأحكام، ورتب البريد يحمل على أيدي السعاة برا وبالسفن بحرا، وأنشأ ما يقوم مقام التلغراف الآن من الإشارات بواسطة أبنية مرتفعة ممتدة على خط واحد بين المدن الكبيرة، بين البناء والآخر مسافة تكفي لفهم الإشارة، لا يزال بعض منها قائما أثرا لهمة ذلك الرجل.
وأنشأ لتأييد السلم وتوطيد الأمن فرقة الضابطة، وفرقهم في أنحاء البلاد فأمن الناس غائلات السبل، ولا سيما الأوربيون؛ فإنهم كانوا يقاسون أثناء تجولهم في القطر إهانات ومشاق جسيمة فأصبحت السبل في مأمن، وتسهلت الصلات التجارية على الخصوص بين إنكلترا والهند على طريق البحر الأحمر فاستعاضوا بها عن طريق رأس الرجاء الصالح في أمور كثيرة. (4-2) الإصلاح الزراعي
ولم تقف إصلاحاته عند هذا الحد، ولكنه رأى خصب التربة المصرية وإمكان استخدامها لغير أنواع المزروعات المعروفة بمصر فجاء إليها بالقطن البدار (التقاوي) الأمريكاني، وجاء بنبات النيلة من جهات الهند، وبنبات الأفيون من آسيا الصغرى، وجاء بغير ذلك من أنواع المغروسات المفيدة، وجاء بأناس عالمين بكيفية زراعتها واستغلالها، وأكثر من غرس الحدائق والأشجار في القاهرة وضواحيها تلطيفا لحرارة الهواء واستزادة للغيث، من جملة ذلك مغارس الليمون في شبرا، والحدائق في الروضة، وحديقة الأزبكية فقد كان في مكانها قبل أيامه بركة كبيرة يتصل إليها الماء من النيل أيام فيضانه، وكان الناس يأتون إليها في المواسم والأعياد في قوارب عليها الأنوار وسائر الزخارف، فاحتفر محمد علي حولها ترعة ينصرف إليها الماء فظهرت أرض البركة، فجعل حول هذه الترعة صفوفا من الأشجار تحيط ببقعة كلها غرس طيب، أما الحديقة التي نراها الآن فهي من آثار الخديوي الأسبق إسماعيل باشا.
ومن آثاره الزراعية السدود التي أجراها في أبي قير وترعة الفرعونية وأشتوم الديبة وأشتوم الجميل وغيرها، وأنشأ كثيرا من الجسور والترع ونظر في تطهيرها، وأنشأ الترع الصيفية لإنماء الزراعة الصيفية، وأبدل الخول بالمهندسين في أعمال الري، وبعث كثيرا من أبناء البلاد إلى أوروبا لدرس فن الزراعة وإتقانه ليخدموا بلادهم به.
ومن مشروعاته الخطيرة من هذا القبيل القناطر الخيرية القائمة عند رأس الدلتا، والسبب في بنائها أنه رأى النيل لما يصل إلى رأس الدلتا ينفصل إلى فرعين: وهما فرعا رشيد ودمياط أو الفرع الغربي والشرقي، ورأى أن الغربي أكبرهما ويمر في بقاع معظمها لا يصلح للزراعة فيذهب كثير من مائه هدرا، والشرقي يخترق بقاعا واسعة حسنة التربة فإذا كانت أيام التحاريق لا يبقى من مائه ما يكفي للري، فأراد اتخاذ وسيلة ينتفع بها مما يزيد من ماء الفرع الغربي بإضافته إلى الشرقي. ورأى الصعيد في زمن التحاريق يشح فيه الماء لارتفاع أرضه، وقد لا يرتوي جيدا إلا في زمن الفيضان، فأقر على بناء قناطر على عرض الفرعين عند أول تفرعهما عند رأس الدلتا، وأن يجعل لهذه القناطر أبوابا من الحديد تغلق وتفتح عند الاقتضاء، فإذا أقفل قناطر هذا الفرع انصرف جانب من الماء المنحدر فيه إلى الفرع الآخر فيستطيع صرف المياه كيف شاء، وإذا كان الفيضان قليلا يقفل قناطر الفرعين جملة فيرتفع الماء في الصعيد فيروي أراضيه ثم لا يصرف منه إلا ما يلزم لري الوجه البحري، فإذا كانت أيام التحاريق تفتح القناطر فتفيض المياه والأرض في حاجة إليها، فباشر هذا العمل الخطير، ولم يضع الحجر الأول منه إلا عام 1251ه/1835م، ولم ينثن عن عزمه حتى أتم بناءه بدراية لينان باشا المهندس الفرنساوي؛ غير أن ذلك المشروع لم يأت بالفائدة المطلوبة، ولا سيما بما يتعلق بارتفاع الماء في الصعيد، ولكن الحكومة جعلت همها في السنين الأخيرة إصلاح ما هو فاسد منها وسد ما فيه من الخلل. (4-3) الإصلاح العسكري
كانت القوة العسكرية في مصر لما تولاها محمد علي أخلاطا من الألبانيين (الأرناءوط) والدلاة (المغاربة) والإنكشارية ومن جرى مجراهم، ونظامهم الحربي النظام القديم الذي كان متبعا في الأزمنة السالفة عند الدولة العلية قبل هذا القرن، فرأى رحمه الله أن يدربهم على النظام الفرنساوي الذي اتبعه بونابرت في غزواته وأخذته عنه دول أوروبا، فحاول ذلك مرارا فعظم على جنوده ولا سيما الأرناءوط، وعصوا أوامره فيه؛ لأنهم اعتبروا ذلك بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ولما ألح عليهم ثاروا وتجمهروا إلى القلعة يطلبون الرفق بهم، فرأى من الدراية والحزم أن يعاملهم بالحسنى، فأجابهم إلى ما أرادوا، وأخذ يدخل ذلك النظام أولا بين الجنود الوطنيين؛ لأنهم أقرب إلى الطاعة من الألبانيين ومن شاكلهم، فأسس مدرسة حربية في الخانكاه قرب المطرية تعلم فيها اللغات والحركات العسكرية، وجعل سراي مراد بك في الجيزة مدرسة للفرسان، وأقام فيها أساتذة من الإفرنج، وأنشأ مدرسة للطبجية وجعل في القاهرة معامل لسكب المدافع واصطناع سائر حاجيات الجند، والفضل في تدريب الجند على النظام الجديد راجع لقائد من قواد الفرنساويين اسمه الجنرال «سيف»، ولكنه أسلم ودعا نفسه سليمان باشا، وقد خدم الحكومة المصرية خدمات صادقة في حروبها ببر الشام وغيرها.
صفحة غير معروفة