تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)

جرجي زيدان ت. 1331 هجري
123

تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)

تصانيف

فلما أفضت الولاية إلى إسماعيل سنة 1863 تبدلت الأحوال لأنه كان على غير رأي سلفه في أمر الوطنيين، وقد بذل قصارى جهده في استقدام الأجانب إلى بلاده بما أنشأه من وسائل الرفاه وتسهيل التجارة، وكان مع ذلك يعنى بتعليم الوطنيين وإرسال الإرساليات إلى أوروبا، فازداد المصريون معرفة لحقوقهم. ولكن الخديوي إسماعيل كان يرى من حسن السياسة أن يضغط عليهم، ويقيد أفكارهم ويطلق العنان للأجانب على اختلاف أجناسهم وخصوصا الشراكسة، فكظم المصريون ما في نفوسهم أعواما، على أنهم ظلوا يتهامسون به فيما بينهم، ولم يكن حديثهم حيثما اجتمعوا إلا التشاكي مما يقاسونه من الضغط مع خروج معظم مصالح البلاد من أيديهم إلى الأجانب.

وكان أكثرهم تشكيا جماعة الجهادية لظهور الإجحاف فيهم أكثر مما بسواهم لأن القوة العسكرية كانت مؤلفة من المصريين والشراكسة وغيرهم، ولم يكن المصريون ينالون من الرتب إلا إمارة الآلايات فما دونها بخلاف الشراكسة، فقد كانت الألوية والفرقاء منهم والسلطة والنفوذ في أيديهم، وكلما شاهدوا من المصريين تذمرا زادوهم تضييقا، فإذا اقتضت الأحوال تجنيد حملة إلى السودان أو غيرها من بلاد الشقاء جندوا إليها المصريين، وبقي الشراكسة يتمتعون بنفوذهم ورفاهيتهم في القاهرة والإسكندرية، فلم يكن ذلك إلا ليزيد الوطنيين حقدا أو غيظا، ولما لم يستطيعوا التصريح بشكواهم جهارا ألفوا الجمعيات السرية يهمسون فيها بما في ضمائرهم سرا.

ثم أفضت الخديوية المصرية إلى المغفور له الخديوي توفيق باشا، وكان رحمه الله محبا للوطن المصري راغبا في ترقية أبنائه؛ لأنه تربى تربية وطنية محضة، وكان حر الضمير فنظر في شكوى الوطنيين فرفع الضغط عنهم واعترف بما لهم، وهي فضيلة جديرة بكل حاكم، ولكنها جاءت المصريين إذ ذاك على غير استعداد، فبينما هم تحت الضغط الشديد والنار كامنة في صدورهم إذ رفع الضغط بغتة، فاتقدت نيران الثورة وانتشرت في سائر أنحاء القطر.

هذا هو الطور الأول من النهضة السياسية الحديثة، والعامل فيه كما رأيت إطلاق الحرية فجأة بعد طول الضغط، وقد قام بها الجند وجاراهم الأهالي، وأكثر هؤلاء لا يدركون ماذا يعملون وإن كانوا يرجون بذلك التخلص من امتياز الأجانب، وكان زعماء الجند أكثرهم من غير المتعلمين فلم يحسنوا التصرف في تلك الحركة، فبعد أن كانت نهضة وطنية سياسية تحولت إلى ثورة عسكرية آلت إلى الاحتلال الإنكليزي وأمره معلوم.

فلما ذهبت دهشة الحرب انتبه عقلاء الأمة فوجدوا أنفسهم قد نجوا من شر، ووقعوا في شرين؛ لاعتقادهم أنهم سفكوا دماءهم، وبذلوا أموالهم للتخلص من شر الشراكسة وهم يختلفون عنهم جنسا ويشتركون معهم في الدين، فإذا هم قد دخلوا في سيطرة دولة أجنبية تختلف عنهم جنسا ودينا، ونبغ على أثر تلك الثورة جماعة من رجال الفكر والحرية عملا بسنة العمران على أثر كل حركة أهلية، وكان بعضهم قد مالئوا عرابي وحوكموا ونفوا، ثم عادوا وقد زادتهم الغربة خبرة وعبرة، ورأوا الاحتلال قد توطدت دعائمه فرضخوا له، وهم يعللون أنفسهم بجلائه قياما بالوعد، على أن بعضهم يئس من الجلاء فتقرب من عميد الاحتلال واستعان به على خدمة مصالح الأمة، والبعض الآخر خدمها بنشر المبادئ الاجتماعية لترقية النفوس وتربية الأخلاق الحسنة، وعمل آخرون على بث المبادئ الإصلاحية في نفوس المسلمين ومحاربة البدع ونحوها مما يباعد بين المسلمين وسواهم.

أما الأمة على إجمالها فما زالت تئن تحت نير الاحتلال، وتتشكى همسا في الأندية الخصوصية أو المجالس العائلية لا يسمع لها صوت، والصحافة مقيدة يومئذ بقانون المطبوعات، إلا من كتب في جريدة إفرنجية لا سلطة للقانون عليها، وكان أكثر الأجانب تظاهرا بتقبيح الاحتلال الفرنساويون.

ولما توفي المرحوم توفيق باشا وخلفه سمو الخديوي الحالي تجددت آمال الأمة بانقلاب سياسي يرفع ذلك النير عن رقابهم، وطبيعي أن يكون الجناب العالي أكثر الناس رغبة في الجلاء، ولم يخف ذلك على المصريين فزادوا تعلقا بعرشه، وأحس الإنكليز بذلك فاستيقظوا، وساعدتهم الأحوال على البقاء فبالغوا في استخدام نفوذهم، وأساء بعضهم معاملة المصريين فازدادوا كرها للاحتلال وتعلقا بالخديوي كأولاد يستغيثون بوالدهم من غريب نزل في دارهم يحاول امتلاكها، ولنفس هذا السبب توجهت الآمال إلى الآستانة، وأكثر المصريون من ذكر الخليفة وسيادته على المسلمين وقلما كانوا يفعلون ذلك من قبل.

النهضة المدرسية

واقتضت سياسة إنكلترا في أثناء ذلك إطلاق حرية المطبوعات، ونبغ جماعة من الكتاب والمحررين تدرجوا في استقلال الفكر إلى نشر مساوئ الاحتلال، فحدثت نهضة سياسية صحافية انقسمت الصحف فيها إلى حزبين: حزب يعرف بجرائد الاحتلال يمتدح أعمال المحتلين، وحزب يعرف بالجرائد الوطنية ينتقدها، وعميد إنكلترا يطلع على ما يقولون ولا يكلفهم السكوت، وكانت الجرائد الوطنية تعبر عن إحساس الوطنيين، وتطعن في جرائد الاحتلال، لا يخرجون من ذلك عن المناقشة، وقل فيهم من جاهر بطلب الجلاء، ونشأ في أثناء ذلك طبقة من الشبان تخرجوا في المدارس المصرية وتفقهوا في أوروبا، وتشرب بعضهم كره إنكلترا من معاشرة الفرنساويين، وفرنسا من ذلك الحين خصم إنكلترا تساعد كل من يقوم عليها. وزعماء هذه الطبقة من الناشئة المصرية طلبة الحقوق؛ لما يتعوده طلاب هذا الفن من استقلال الفكر، والرضوخ للصواب، والتمسك بأهداب الحق، فتألف من الناشئة المصرية حزب جاهر بمقاومة الاحتلال، وانضم إليه سائر طلبة المدارس العالية، وهم في الغالب من أبناء الخاصة، ويعدون بالآلاف منتشرون في أنحاء القطر المصري، فبثوا تلك الأفكار في أهلهم وجيرانهم وهم سواد الأمة، فتكاثر الناقمون على الاحتلال، وهي نهضة سياسية مدرسية تختلف عن التي تقدمتها بقوة الحجة والاقتدار على المطالبة بالإقناع، وهي الطائفة التي نصرت مصطفى كامل وهو من طلبة الحقوق. (2) مصطفي كامل (2-1) ترجمة حاله

ولد في القاهرة من أبوين مصريين في 14 أوغسطس سنة 1874، وكان والده علي أفندي محمد مهندسا من جهة الصليبة، اشتهر بين معارفه وجيرانه بطيب العنصر، وحسن الخلق، ووالدته من جهة المحجر بالقاهرة، ولما بلغ السادسة من عمره أتاه والده بمدرس لقنه القراءة والكتابة، ثم أدخله مدرسة عباس باشا الأول، وقبل إتمام دروسه الابتدائية توفي والده، فانتقل إلى مدرسة القربية وعمره 12 سنة فأتم دروسه الابتدائية فيها، وظهر ذكاؤه بامتيازه على سائر الرفاق، فنال جائزة الامتحان الأولى بين يدي المغفور له الخديوي السابق سنة 1887، ثم انتقل إلى المدرسة التجهيزية فقضى فيها أربع سنين نال في نهايتها شهادة البكالوريا، وكان من النابغين، واشتهر باستقلال الفكر وصراحة القول من ذلك الحين، وانتبه المرحوم علي باشا مبارك ناظر المعارف يومئذ لفصاحته وقوة عارضته، فقال له مرة: «إنك أمرؤ القيس، وستصير عظيما.» وأخبرنا أحد رفاقه في تلك المدرسة أن المرحوم علي باشا مبارك اختصه بجنيه يتناوله كل شهر مدة إقامته في المدرسة ودون اسمه في كشف ماهيات المعلمين، واضطر مصطفى لنقش خاتم يختم به الكشف على اصطلاحهم، وهو أول عهده بالأختام.

صفحة غير معروفة