ولما خابت مساعيهم جعلوا يختلقون على القس داود أقاويل وأراجيف لا أصل لها، فادعى عليه بعضهم أنه تزوج في الحبشة وله ولدان في قيد الحياة، وكان المختلق لهذه الأكذوبة قسيسا حبشيا جاء مصر لضغينة بينه وبين القس داود بسبب ما ذهب القس إلى الحبشة من أجله، وكان في عزم ذلك الحبشي أن يشي به إلى البطريرك، فلما رأى البطريرك قد توفي والشعب قائما على القس داود اختلق عليه تلك الأكذوبة واتهمه بالمداخلة في أمور السياسة في الحبشة مما يشبه خيانة الحكومة المصرية، ولكن حبل الكذب قصير، فما لبثت هذه التقولات زمنا حتى ظهر فسادها ظهور الشمس لذي عينين، وكان عباس باشا قد تغير عليه بسبب ما نسب إليه من المداخلات السياسية فلما تحقق الخبر اعتقد صدق طويته.
وما زال الخلاف والنزاع قائما بهذا الشأن نحو عشرة أشهر انتهت بواسطة وتربيت الأرمن بتعيين القس داود مطرانا على مصر ثم إذا اتضح من أعماله أنه لائق بالبطريركية تقلدها فتنصب مطرانا في 10 برمودة سنة 1569 قبطية 1853م وأخذ من ذلك الحين في مباشرة أعماله وإدارة البطرخانة، وأظهر من الأهلية والهمة والغيرة ما استدر الثناء عليه من القاصي والداني، وأول أمر باشره بعد رسمه مطرانا بناء مدرسة للأقباط بجوار البطرخانة، وهي أول مدرسة أقيمت لهذه الطائفة، فاشترى عدة منازل، وأقام على أنقاضها مدرسة ذاع صيتها وفاح أريجها في سائر الديار المصرية وغيرها.
وكان بناء هذه المدرسة ونجاحها من موجبات إجماع الجميع على محبته حتى انتخبوه بطريركا في ليلة الأحد 11 بئونة سنة 1570 قبطية الموافق 1854م بحضور جميع الأساقفة ما عدا أسقفي أخميم وأبي تيج، ولقبوه أنبا كيرلس الرابع.
فلما أصبح مستقلا في عمله شرع في إخراج مقاصده من حيز الفكر إلى الفعل فأتم بناء المدرسة، وأحضر لها الأساتذة الماهرين، وكان يقبل التلامذة فيها ويصف لهم الكتب والأدوات المدرسية مجانا، وكان يباشر التعليم بنفسه، فلا يمر عليه يوم لا يتفقد فيه حالتها مرة أو غير مرة ، ولزيادة الاعتناء بها اتخذ له محلا فيها، فإذا أتى إليه زائر من الأجانب أو غيره من ذوي المعرفة باللغات والعلوم وطرق التعليم كلفه بزيارة المكاتب، وفحص التلامذة، وإبداء ملاحظته فيما يعود إلى تحسين حالتها وتسهيل طرق التعليم فيها. وكثيرا ما كان يطيل الإقامة في المكتب مصغيا لما يلقيه الأستاذ على الطلبة، ثم يقول مخاطبا التلامذة قبل خروجه: «قد استفدت معكم اليوم فائدة لم أكن أعرفها قبلا.» وكان أحيانا يلقي على التلامذة عبارات أدبية وتاريخية مما يناسب سنهم وإدراكهم، وقد جعل تعليم اللغة القبطية جبريا، وكان يلاحظ سير دروسها بنفسه.
ولما رتب مدرسة الأزبكية وارتاح باله من جهتها ورأى أن بعض الطلبة يأتون إليها من جهات بعيدة مثل حارة السقايين أشفق عليهم وأنشأ مدرسة وكنيسة هناك، ولم يكن بها من قبل كنيسة، وناط المرحوم حنا أفندي القسيس بملاحظتها وتقديم ما يلزم لها من المعدات والأدوات، وكان حنا أفندي هذا من أفاضل القوم الغيورين، ولم يكتف جناب البطريرك بذلك، بل كان يزورها ويفحص حالتها مرة في كل أسبوعين على الأقل، هذا فضلا عن تكليفه معلمها الأول بتعريفه عن حالتها وكيفية سيرها أول فأول.
ولكن مع كل التسهيلات التي أجراها رحمه الله وعدم تكليف الوالدين شيئا لم يزد عدد التلامذة في أيامه بمدرسة الأزبكية على مائة وخمسين تلميذا مع أنه لم يكن بمصر واسطة لتعليم أبناء الأمة القبطية غير هذه المدرسة، وكثيرا ما كان يحمل الوالدين على إحضار أولادهم إلى المدرسة جبرا، ولكنهم مع ذلك كانوا يفضلون وجود أولادهم بمكاتب العرفان القذرة الرديئة الهواء، وكان معظم هؤلاء التلامذة من أبناء وجهاء القوم ومعتبريهم؛ ولذا كان يعاملهم أحسن معاملة ويحث الأساتذة على تربيتهم التربية الحسنة، وبذل الجهد في توسيع عقولهم وتثقيف أذهانهم بالنصائح الأدبية والروايات الحكمية كما كان يفعل هو بنفسه في أكثر الأحيان.
وعهد إلى أحد قسوس كنيسة الأزبكية المسمى القمس تكلا المشهود له بإتقان فن الموسيقى والألحان الكنائسية أن ينتخب من بين تلامذة المدرسة الشمامسة عددا معلوما من ذوي الأصوات الحسنة، وناطه بتعليمهم التراتيل الكنائسية بطريقة مضبوطة، وجعل لهم ملابس مخصوصة على طراز جديد لطيف يلبسونها في أثناء وجودهم في الكنيسة في أيام الآحاد والأعياد والمواسم، فنتج عن هذا التحسين الظاهري فائدتان: إحداهما إظهار مزايا المدارس وترغيب الأهالي في وضع أولادهم بها، والثانية مواظبتهم على الحضور إلى الكنيسة وهم منشرحو الصدر من سماع التراتيل. وهاك ما قاله إبراهيم أفندي الطبيب في كتابه المسمى «مصباح الساري ونزهة القاري» المطبوع في بيروت سنة 1273ه في أثناء كلامه عن مصر ومدارسها، قال:
وفي حارة الأقباط مدرسة عظيمة يعلمون فيها اللسان القبطي القديم والتركي والإيطالي والفرنساوي والإنكليزي والعربي، وهم يقبلون فيها من جميع الطوائف، وينفقون على التلاميذ من مال المدرسة، وهذه بناها البطريرك كيرلس القبطي وأنفق عليها نحو ستمائة ألف قرش، وكل هذا بخلاف ما نعهده في بلادنا من الإكليرس وأوجه الشعب.
ولم يمض زمن حتى خرج من هاتين المدرستين عدة تلامذة، واتفق حدوث مصلحة السكة الحديدية بالديار المصرية فانتظموا في خدمتها وانتشروا في جميع محطاتها، وكانوا يؤدون أعمالهم باللغة الإنكليزية وبعضهم استخدم في البنوكة وعند التجار لمعرفتهم اللغة الطليانية، وقد عرف جناب إسماعيل باشا الخديوي الأسبق مقدار هذه الخدمة الوطنية فاستدعى إليه الأنبا ديمتريوس البطريرك خلف السعيد الذكر الأنبا كيرلس، وأظهر ارتياحه للخدمة الوطنية التي قامت بها المدارس القبطية؛ لأن معظم مستخدمي السكة الحديد المصرية من تلامذتها، وأنعم عليه بألف وخمسمائة فدان ليتساعد بإيراداتها على توسيع نطاق المدارس، ورتب لها أيضا مائتي جنيه مصري سنويا، ولكن هذه منعت عنها فيما بعد بسبب عسر المالية واضطرار الحكومة للاقتصاد.
ووجه نظره إلى تحسين حالة إدارة البطركخانة، فأنشأ لها ديوانا وعين له المستخدمين الأكفاء، وقسم الإدارة إلى قسمين: قسم يختص بالأوقاف والمكاتبات الرسمية وغيرها، وقسم يختص بالأعمال الدينية والشرعية، وخص إبراهيم أفندي خليل بالقسم الأول، وأحد القسوس ومطران مصر بالقسم الثاني، وكلاهما تحت ملاحظاته الشخصية، ورأى أن أعمال الأوقاف جارية بطريقة غير منتظمة، وكان بعضها ضائعا ولم يعرف الضائع منها والموجود، فأمر بإنشاء سجل لحصر جميع الأوقاف به من واقع الحجج، واستخدم لهذا العمل عمالا اشتغلوا به زمنا حتى أتموه على الوجه الذي كان يريده، وأنشأ أيضا مطبعة وبعث يستحضر أدواتها من أوروبا على يد المرحوم الخواجا رفلة عبيد السوري الأرثوذكسي، وقبل إحضارها اختار من أبناء الأمة القبطية أربعة من شبانها النجباء، ورتب لهم رواتب شهرية وملابس سنوية تصرف لهم في أوقاتها من الدار البطركية، وتحصل على أمر من المرحوم سعيد باشا بقبولهم في مطبعة بولاق الأميرية ليعلموا صناعة الطباعة إذ لم يكن في القطر المصري إذ ذاك مطبعة غيرها.
صفحة غير معروفة