بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
رب يسر ولا تعسر
الحمد لله العلي العظيم العزيز الحكيم الذي فطرنا باقتداره وطورنا باختياره ووب صورنا في أحسن تقويم ومن علينا بالعقل السليم وهدانا إلى الصراط المستقيم وقض لنا من السادة الأعيان المؤيدين بواضح البرهان المعصومين من كل صغير وكبير من اللمم والعصيان سفرة من خاصة الأخيار المرسلين الأبرار المشهود لهم بخالصة ذكرى الدار ليفصلوا بين الحرام والحلال والترك والامتثال واختصنا منهم بخاتم النبيين وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وعلى آلهم الطيبين الطاهرين من عهد آدم إلى يوم الدين
أما بعد فإنني قد استخرت الله تعالى في إملاء شرح بعض آيات رغب في إملائها بعض الطلبة المحتاطين على الدين غيرة منهم على أعراض النبيين لأن لاح في ضمنها بعض عتاب لهم في بعض فقرات لا تغض من
صفحة ٢٣
أقدارهم ولا تنقص من كمالهم ولا تقدح في عصمتهم وكريم أحوالهم بما من الله به من فضله على من يشاء من عباده وذلك لما سلط الله على سادات المرسلين من غثاء الفرق المضلين من أوباش المعطلة الضالين وأراذل اليهود والنصارى ومقلدة المؤرخين والقصاص المجازفين الجاهلين بحقيقة النبوة وما يجوز على أنبياء الله تعالى وما يستحيل وما يجب على الكافة من تعزيرهم وتوقيرهم وتدقيق النظر في استخراج مناقبهم على أتم الكمال وأعمه فتراهم يتركون ما أوجب الله عليهم من التفقة في آي القرآن من توحيد بارئهم وتنزيهه عن النقائص ووصفه تعالى بما يجب له من صفات الكمال والجلال ووصف أنبيائه بالصدق والعصمة والتنزيه من الخطأ والخطل وكذلك ما جاؤوا به من وظائف العبادات وما أخبروا به من المغيبات والمواعظ بالوعد والوعيد والنظر في الفرق بين الحلال والحرام والمشتبهات إلى غير ذلك مما لا تحويه الرقوم ولا تحيط به ثاقبات الفهوم وما عسى أن أقول فيما قال الله تعالى فيه ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله الآية وقوله تعالى ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض او كلم به الموتى الآية وقوله تعالى {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا} الآية إلى غير ذلك فترى بهائم قد صرف الله قلوبهم وطبع عليها بطابع النفاق ينكبون عن هذه الواضحات من الحكم البالغة والبراهين الصادعة ويقصدون إلى أقوال وأفعال لهم
صفحة ٢٤
يتخيلونها مثالب في حقهم فيهلكون ويهلكون من حيث لا يشعرون
فلنذكر الآن ما نذكر منها لكونهم يستعملون ذكرها لتحصيل أغراض لهم فاسدة ثم نعطف على ما بقي منها فيما بعد إن شاء الله تعالى
فمنها قصة داوود عليه السلام مع زوج أوريا وقصة سليمان عليه السلام مع زوجة جرادة وما كان من قصة الجسد والكرسي وقصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز في الهم والمراودة وقصة نبينا عليه الصلاة والسلام مع زيد بن حارثة وزينب بنت جحش بن أمية فيتأولونها تأويل من حل من عنقه ريقة الشريعة ويئس من رحمة الله ثم ينسبون بعض هذه الأقوال إلى كبار الصحابة والتابعين ليموهوا بها على العوام لئلا يردوها عليهم ويقدحوا فيها ثم تراهم يترددون في نقل تلك الخرافات بالتكرار على أوجه مختلفة تورعا في نقل الرواية تورع الكلب الذي يرفع رجله عند البول وفمه في أعماق الجيفة ثم قد قيض الله لتلك الحكايات في هذا الوقت المنكوب شرذمة من المقلدة المنتمين إلى الإرادة والقصاص المدعين في غرائب العلم وبواطن المعاني المنتمين إلى الوعظ والتذكير فتراهم ينتقلون من المزابل إلى المنابر فيطرحون الكلام في وظائف التوحيد ومزعجات الوعد والوعيد وأقسام أهل الدارين في الدرجات والدركات ويخوضون في أحوال الأنبياء عليهم السلام ويتمندلون بأعراضهم على رؤوس العوام والطغام ولا مشفق على دين
صفحة ٢٥
الله تعالى ولا محتاط على أغمار المقلدة ولا زاجر ذا سلطان حتى كأننا ملة أخرى ولا نغار على ذمهم ولا نرقب في أعراضهم إلا ولا ذمة
وغرض هؤلاء الفسقة في سرد تلك الحكايات المورطة قائلها وناقلها في سخط الله تعالى أن يهونوا الفسوق والمعاصي على بله العوام ويتسللوا إلى الفجور بالنساء بذكرها لوذا حتى ترى المرأة تخرج من مجلس الواعظ إلى منزله فتسأله على التفصيل فيزيدها أقبح مما أسمعها في الجمهور يقول لها هذا أمر ما سلم منه عظماء المرسلين فكيف نحن فلا يزال يهون عليها ما كان يصعب من قبل ف {إنا لله وإنا إليه راجعون} {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}
صفحة ٢٦
ذكر ما اختلقوه في قصة داوود عليه السلام
فمن شنيع تخرصهم في قصته عليه السلام مع امرأة أوريا وقلة مراعاتهم مع من جعله الله تعالى خليفة في الأرض وشدد ملكه وآتاه الحكمة و
فصل
الخطاب وسخر له الجبال يسبحن معه والطير وألان له الحديد فمما اختلقوه عليه أن قالوا
إنه أشرف يوما من كوة كانت في محرابه فرأى امرأة تغتسل في حجرتها فأعجبه حسنها ولين جانبها ورخامة دلها فشغفه حبها فالتفتت إليه فأسبلت شعرها على جسدها لتستتر منه فزاده ذلك شغفا بها ثم أرسل إليها يسألها من بعلها فأخبرته أنه أوريا فأرسل إليه فسأله أن ينزل له عنها بطلاقها فأبى فأمره بالخروج إلى الغزو وأرسل إلى صاحب الجيش أن يغزيه ويقدمه للقتال في كل مأزق ففعل صاحب الجيش به ذلك مرات حتى قتل فلما بلغ داوود عليه السلام أنه قتل أرسل إليها ليتزوجها فأسعفته فتزوجها وكان له مئة امرأة إلا واحدة فأتم بها المئة فأرسل الله إليه إذ ذاك الملائكة فاختصموا عنده فأفتاهم بما يؤول دركه عليه فخصموه ثم قال أحدهما للآخر قم فقد حكم الرجل على نفسه وصعدا إلى السماء وهو ينظر إليهما فتفطن إذ ذاك أنهم ملائكة وأنه فتن وأخطأ فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب
صفحة ٢٧
فهذه من أقوالهم أقل شناعة وبشاعة مما سواها من الأقوال في كتب القصص والتواريخ وبعض التفاسير الفاسدة
فصل
</span></span>
والذي ينبغي أن يعول عليه في هذه القصة وما يضاهيها من القصص ما جاء به الكتاب العزيز أو ما صح عن الرسول عليه السلام من الخبر وما سوى ذلك فيطرح هو ومختلقه وراويه إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
فصل
فأما قصة داوود عليه السلام فهي مذكورة على الكمال مفصلة في قوله تعالى {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} إلى قوله {وخر راكعا وأناب}
قال تعالى {وهل أتاك نبأ الخصم}
اعلم رحمك الله أن استفهام الله تعالى لخلقه لا يجوز الآية يحمل على حقيقة الاستفهام لوجوب احاطة علمه تعالى بجميع المعلومات على أتم التفصيل فلم يبق إلا أن يكون الاستفهام هنا بمعنى التقرير والتنبيه لنبيه عليه السلام ليتهيأ لقبول الخطاب وليتفهم ما يلقى إليه من غرائب العلم وعجائب الكائنات وأما إفراد الخصم وهما خصمان فالعرب تسمي الواحد بالجمع والجمع بالواحد على وجه ما فنقول
صفحة ٢٨
خصما للواحد والجمع كما تقول ضيفا للواحد والجمع وقال الله تعالى {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه} فسماهم باسم الواحد ونعتهم بالجمع في قوله {المكرمين} وكذلك {إذ دخلوا عليه}
ومعنى {تسوروا المحراب} أتوه من أعاليه ولم يأتوه من بابه ولذلك فزع منهم فإنه خاف أن يكونوا لصوصا أو يكون بعض رعيته ثاروا عليه والمحراب في اللسان صدر المجلس وأحسن ما فيه ولذلك سمي محراب المسجد محرابا وقبل المحراب الغرفة وفي فزعه منهم وكانوا ملائكة دليل على أنه ليس من شرط النبوة أن يعرف النبي كل من يأتيه من الملائكة حتى يعرف به وفيه أيضا دليل على أن الملائكة يتصورون على صور الآدميين بأمر ربهم وقدرته لا بقدرتهم وفي تصورهم كذلك عريض من القول لسنا الآن له لكن الذي يصح منها وجهان
إما انهم ينسلخون من أبعاضهم
او تنعدم من أجسامهم بالإمساك عن خلق الأعراض فيها ما شاء الله وتبقى ما شاء ثم يعيدهم إلى مقامهم كما كانوا قيل فإنه ليس من شرط الحي العالم أن تكثر أجزاؤه ولا أن تقل فإن العالم منه جزء فرد
وأما قوله {لا تخف خصمان} ولم يكونا خصمين على الحقيقة ولا بغى بعضهم على بعض ولا أتفق لهما مما ذكراه شيء ففيه دليل
صفحة ٢٩
على أن الكذب أنما يقبح شرعا فمن أمره الله تعالى أن يخبر بما وقع وبما لم يقع فأخبر به فهو مطيع ممتثل فاعل الحسن ولذلك جاز لهم أن يقولوا للمعصوم {فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط} والشطط الجور مع علمهم بأن المعصوم يحكم بالحق ولا يجور في الحكم فتخرج لهم هذه الأقوال إذ هم ملائكة وسفرة معصومون مخرج أقوال يوسف عليه السلام إذ أمر مناديه فنادى {أيتها العير إنكم لسارقون} وما كانوا بسارقين وقوله عليه السلام لإخوته {أنتم شر مكانا} ولم يكونوا كذلك وأخذ أخاهم على حكمهم لا على حكم الملك وما كان له أن يأخذه في دين الملك فإن الملك كان يقتل السارق ولا في دين إخوته في شريعتهم فإنهم كانوا يستعبدون السارق وأخوه لم يكن سارقا
وجاء في الأخبار أنه كان ينقر في الصواع ويقول إن صواعي هذا يخبرني بكذا وكذا والصواع لا يخبر حتى قال له بنيامين أخوه أيها الملك سل صواعك يخبرك أحي أخي يوسف أم ميت
فنقر في الصواع فقال هو حي وإنك لتراه وتلقاه إلى غير ذلك فأقام الله تعالى عذره في كل ما أخبر عنه وفعله بقوله كذلك كدنا
صفحة ٣٠
ليوسف) ومعناه بذلك أمرناه وأردنا منه
وارتفع الاعتراض على أنه ما أخبر الملائكة عليهم السلام لداوود عليه السلام إنما كان على جهة التجوز وضرب المثال بأخوة الإيمان إذ ليس في الملائكة ولادة وإذا لم يكن ولادة فلا أخوة نسب
وتسمية النساء نعاجا لتأنيثهن وضعفهن و {أكفلنيها} كناية عن نكاحها {وعزني في الخطاب} بمعنى غلبني وهذا آخر خطاب الخصم فقال له داوود عليه السلام {لقد ظلمك} ثم قيد الظلم بسؤال النعجة إذ قال لهم {إن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} وهذا آخر خطابه للخصم
فصل
</span>
اعلموا أحسن الله إرشادنا وإياكم أن كل من تكلم في هذه القصة بما صح في حق داوود عليه السلام وبما لم يصح إنما بنوه على أس هذه الخمس كلمات التي هي {أكفلنيها} {وعزني في الخطاب} و {لقد ظلمك} و {ليبغي بعضهم على بعض} {وقليل ما هم} وهي بحمد
صفحة ٣١
الله تخرج له على مذهب أهل الحق بأجمل ما ينبغي له وأكمله والله المستعان
فأول ما ينبغي أن نقدم قبل الخوض في هذه المسائل وما يضاهيها ثلاث مقدمات
إحداها ما صح من إجماع الأمة قاطبة على عصمة الأنبياء من الكبائر
والثانية أن كل محظور كبيرة على قول من قال بذلك من أئمة السنة وهو الصحيح لاتحاده في الحظر وإنما يتصور كبير وأكبر بالتحريض على تركها وتأكيد الوعيد على فعل بعضها دون بعض
والثالثة شرح هذه الأقوال وما يضاهيها من القصص الموعود بها على مذهب من قال بتنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الصغائر وأنهم لا يواقعون صغيرة من الذنوب ولا كبيرة وأن غاية أقوالهم وأفعالهم التي وقع فيها العتاب من الله تعالى لمن عاتبه منهم أن يكون على فعل مباح كان غيره من المباحات أولى منه في حق مناصبهم السنية
وسنبين ذلك في سياق الكلام إن شاء الله تعالى
فصل
</span>
فأما قولة داوود عليه السلام {أكفلنيها} فهذا بمعنى أنزل لي عنها بطلاق وأتزوجها بعدك وهذا من القول المأذون في فعله وتركه ومباح أن يقول الرجل لأخيه أو صديقه انزل لي عن زوجك بإضمار إن شئت وهذا بمثابة من يقول لصاحبه أو أخيه بع مني أمتك إن شئت وهذا قول مباح ليس بمحظور في الشرع ولا مكروه ومن ادعى حظره أو كراهته في الشرع فعليه الدليل ولا دليل له عليه كيف وقد جاء في
صفحة ٣٢
الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما واخى بين سعد بن الربيع وبين عبد الرحمن بن عوف قال له الأنصاري لي كذا وكذا من المال أشاطرك فيه ولي زوجان أنزل لك عن إحداهما فقال له عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك أرني طريق السوق
ووجه الاستدلال بهذا الحديث قوله بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أنزل لك عن إحداهما فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا القول ولم ينكره عليه وهو لا يقر على منكر وهو المعلم الأكبر صلوات الله عليه وتسليمه فلم يبق إلا الإباحة لكن تركها بمعنى الأولى والأحرى في كمال منصب النبوة كان أولى وأتم
وأما قوله {وعزني في الخطاب} أي غلبني فنزلت له عنها فهو غلب الحشمة لا غلب القهر لعظم منزلة السائل في قلب المسؤول ولا غلب الحس بالقهر المنهي عنه فإنه ظلم منهي عنه شرعا تتحاشى عنه الأنبياء عليهم السلام كما تقدم
فإن قيل كان داوود عليه السلام خليفة وصاحب سيف والمطلوب منه رعية ومن شأن الرعية هيبة الملوك والمبادرة لقضاء حوائجهم لكونهم قاهرين لهم فيقضون حوائجهم باللين خوفا من العنف والإكراه وفي سؤال داوود عليه السلام حمل على المسؤول من هذا الباب
قلنا صحيح ما اعترضت به إلا أن هذا الحمل على المسؤول لا يتصور إلا فيمن عهد منه الظلم والغصب من الأمراء وأما من عهد نه العدل والإحسان كخلفاء الصحابة والتابعين لهم بإحسان فلا يتصور ذلك في حقهم إذا منعوا المباحات وإذا لم يتصور ذلك في حقهم مع عدم العصمة فما ظنك بالمعصومين المنزهين عن الخطايا تنزيه الوجوب كما تقدم فبطل اعتراض هذه القولة في حق داوود عليه السلام في هذا الباب
صفحة ٣٣
وأما قوله للخصم {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} ففيه اعتراض من وجه آخر نتخلص منه ونرجع إلى ما نحن بسبيله
قالوا كيف يكون داوود عليه السلام من خلف الله في أرضه ويقطع على الظلم بقول الواحد قبل أن يسمع قول الآخر
فالجواب عن هذا يتصور من وجهين
أحدهما أنه سمع من الآخر حجة لا تخلصه فقال للأول {لقد ظلمك} أو صدقه الآخر في قوله فقال للأول {لقد ظلمك}
والثاني أن يقول {لقد ظلمك} بإضمار إن كان حقا ما تقول وهذا سائغ وأما أن يقول له {لقد ظلمك} من غير أن يسمع حجة الآخر فهذا لا نسوغه في حق عاقل منصف فكيف في حق من آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب
ألا ترى موقف يعقوب عليه السلام لما جاءه بنوه عشيا يبكون وهم جماعة فقالوا ما قالوا فقال {بل سولت لكم أنفسكم أمرا} ولم يقبل أقوالهم ولا دموعهم بغير دليل فكيف يقبل داوود عليه السلام قول الخصم من غير حجة حتى يقول له {لقد ظلمك} هذا لا يصح في حقه وأما قوله للخصم {لقد ظلمك} فعنى به بخسك وغبنك في قول كان غيره من المباحات أولى بك منه وحد الظلم في اللسان وضع الشيء في غير موضعه وقد قدمنا أن قول قائل لغيره أكفلني زوجك ليس بظلم منهي عنه شرعا فلم يبق إلا ما ذكرناه في حقه
وأما قوله {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض}
صفحة ٣٤
فيخرج البغي مخرج الظلم حرفا بحرف فإنه إذا ساغ في اللسان والمعتاد أن يسمى مالك الكثير إذا طلب من المقل قليله ظالما فلا غرو أن يسمى باغيا
ولو أن رجلا كان له عبدان مطيعان له مستقيمان غاية ما يمكنهما من وجوه الاستقامة فأحسن إلى أحدهما وأعطاه ووسع عليه ورفه معيشته ولم يحسن للآخر بعين ما ألزمه الله مما يتعين للعبيد على السادة لسمى العقلاء هذا السيد ظالما باغيا من حيث إنه أحسن لأحدهما ولم يحسن مع الآخر مع تساويهما في الطاعة والنصيحة والسيد مع هذا التخصيص بالإحسان لأحدهما لم يأت في الشرع بمحظور ولا بمكروه بل كل ما فعل معهما مباح له
فهذا وجه من وجوه التخلص من هذه الأقوال وأنها مباحة لقائلها وفاعل ما وقع منها من غير أن يلحقه ذم من الشرع ولا ثلب
وأما قوله {وقليل ما هم} فمقصوده الأكابر الأفراد من المحسنين المؤثرين فإنهم يحسنون في المباحات كإحسانهم في المشروعات فيتعاونون في العشرة ويتناصفون في الخلطة كما قال تعالى {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}
ثم قال {وقليل ما هم} فإنهم الكبريت الأحمر وهذا آخر خطابه للملائكة
فصل
والذي يكمل به هذا التفسير ويعضده نكتة شريفة وذلك أن الله تعالى أخبر بما وقع بين داوود عليه السلام وبين الخصم من محاورة ومراجعة
صفحة ٣٥
وأن ذكر التكفل والعزة في الخطاب كلامهما وما أخبر به تعالى عن قول قائل فليس هو في الإلزام كالذي يخبر به عن نفسه وحكمه فمن أخبر تعالى أنه ظلم وغلب وبغى في المشروعات فهو ظالم غالب باغ شرعا ومن أخبر تعالى أنه قال ظلمت وبغيت أو قال ظلم زيد وغلب وبغى فقد يخبر عن حقيقة شرعية وعن مجازية عادية كما تقدم في مثال السيد والعبد
وقد ثبت أن هذه الأقوال التي وقعت بين داوود عليه السلام وبين خصمه من المجازية العادية وإذا كان ذلك لم يثبت بها حكم شرعي وإذا لم يثبت حكم لم تثبت طاعة ولا معصية
قال تعالى {وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}
هذا الظن منه يحتمل أن يكون علما ويحتمل أن يكون ظنا على معنى الظن الذي هو التردد في الشك مع الميل إلى أحد الطرفين
فإن كان بمعنى العلم فهو أنه لما علم أن الخصمين ملكان وأنه المقصود بالمثال وأنه فتن أي اختبر وامتحن ببعض المباحات فعوتب إذ لم يصبر فيها صبر المؤثرين حتى قال ما قال وفعل ما فعل فخر راكعا يعني ساجدا فإن الركوع والسجود يسمى كل واحد منهما باسم الثاني {وأناب} أي تاب من ذلك ظاهرا وباطنا فأخبر تعالى أنه غفر له ذلك أي درأ عنه الطلب فيما رأى هو أنه ذنب في حقه فترك الأولى كما تقدم
وإن كان حكمه على حكم الظن فيكون أنه غلب ظنه على أن الذي وقع منه فتنة يتعلق فيها طلب إذ لله تعالى في صريح العقل أن يطلب ما شاء ويترك ما شاء فأخبر تعالى أنه لا طلب عليه في ذلك
صفحة ٣٦
شرح قصة سليمان عليه السلام
في آية الفتنة الكرسي والجسد
قال تعالى {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب} ذكر أصحاب المقالات في أشبه أقوالهم في هذه القصة أن سليمان عليه السلام كانت له امرأة من كرائمه اسمها جرادة وكان أبوها ملكا من ملوك الجزائر البحرية وكان كافرا فمنهم من قال إنه خطبها إليه وتزوجها ومنهم من قال إنه سباها عنفا وكان لها جمال بارع فكان يحبها ويقدمها على جميع نسائه وكانت عند أبيها تعبد صنما فلما فقدت ذلك عنده اكترثت وحزنت وتغير حسنها فسألها عن حالها فأخبرته أن ذلك من وحشتها
صفحة ٣٧
لأبيها ورغبت إليه أن يصنع لها الجن تمثال أبيها حتى تنظر إليه وتتشفى بعض الشفاء مما تجد من وحشتها لأبيها ففعل ذلك لها فكانت تدخل هي وجواريها في بيت التمثال وتسجد له وتعبده هي وجواريها خفية من سليمان عليه السلام ففعلت ذلك أربعين يوما فسلبه الله ملكه أربعين يوما
وقيل أيضا إنه كان لها أخ وكان بينه وبين رجل من بني إسرائيل خصومة فسألته أن يحكم لأخيها على خصمه فأنعم لها بذلك
وهاتان القصتان على خلل فيهما أسلم من سواهما في حق سليمان عليه السلام فإنه يتصور الحق فيهما على وجوه سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى
قالوا وكان عقبى أمره معها في هذه القصة أنه كان إذا دخل الخلاء وضع عندها الخاتم تنزيها له أن يدخل به الخلاء لما تضمن من أسماء الله تعالى فلما أراد الله تعالى سلب ملكه تمثل لها على صورة سليمان عليه السلام شيطان يسمى صخرا وأراها أنه خارج من الخلاء فأعطته الخاتم فطار به ورماه في البحر فخرج سليمان عليه السلام فطلب منها الخاتم فأخبرته بما كان من أمره فعلم أنه قد فتن من أجلها فخرج على وجهه إلى الصحراء يبكي ويرغب وينيب
ثم إن الشيطان تصور على صورة جسد سليمان عليه السلام وقعد على كرسيه الذي كان يقعد عليه لفصل القضاء بين الناس وهو معنى قوله {وألقينا على كرسيه جسدا} أي جسدا مثل جسد سليمان عليه السلام وبقي يخلفه على كرسيه ويعبث ببني إسرائيل غاية العبث بأحكام فاسدة وأوامر جائرة أربعين يوما حتى وجد سليمان عليه السلام خاتمه في
صفحة ٣٨
بطن حوت كان قد التقمه حين ألقاه صخر في البحر فلما فطن الشيطان بذلك فر على وجهه فجاء سليمان عليه السلام فأخبروه بما فعل الشيطان بعده فأمر الجن بطلبه فجاؤوا به فأمر أن يعمل له بيت منقوب في حجر صلد وجعله فيه وأطبق عليه بحجر آخر وألقاه في البحر فبقي فيه إلى يوم البعث
وهذا أسلم ما قالوه في قصته عليه السلام وزاد فيها الفجرة أن الشيطان كان يقع على نساء سليمان عليه السلام وهن حيض ولذا تفطنوا أنه لم يكن سليمان وحاشى وكلا من هذه الوصمة الخسيسة أن يفعلها الله تعالى مع أنبيائه عليهم السلام وكيف والأمة مجمعة على أنه ما زنت امرأة نبي قط كانت مؤمنة او كافرة وخيانة امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام إنما كانت في إظهارهما الإيمان وإخفائهما الكفر لا غير وكل ما ذكروه في هذه القصة تجوز له على أوجه سنذكرها بعد إن شاء الله تعالى سوى هذه القولة الخبيثة
وأما قصة التمثال الذي صنع لها وما قيل أنه حكم لأخيها فيتصور فيها الجواز من وجهين
أحدهما أن يكون صنع التمثال مباحا له كما كان مباحا لعيسى عليه السلام قال تعالى {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني} فصح من هذه الآية أن عيسى عليه السلام كان يصور التماثيل بإذن الله وكذلك سليمان عليه السلام إذا صح أنه لم يحرم عليه فعله في شرعه والأظهر فيه أنه لم يحرم بدليل قوله تعالى
صفحة ٣٩
{يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل} والتماثيل قد تكون على صور الأناسي قال امرؤ القيس
(ويا رب يوم قد لهوت وليلة ... بآنسة كأنها خط تمثال)
وأما إن عبدت هي صنما من غير أن يشعر به سليمان عليه السلام فلا بأس عليه في ذلك فإن الأنبياء عليهم السلام عنوا بالظواهر وأمر البواطن إلى الله تعالى وقد كان المنافقون يصلون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعبدون الأصنام في بيوتهم خفية منه جاء في الصحيح عنه عليه السلام أنه قال (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) الحديث ... ... ... إلى قوله (وحسابهم على الله) يعني فيما أبطنوه
وأما قولهم إنها طلبت منه أن يحكم لأخيها على خصمه فقال لها نعم فيجوز له أن يقولها وهو يضمر في نفسه إذا كان الحق له لا عليه ثم طيب نفسها ب نعم لكون النساء تطيب أنفسهن بمثل هذه المشتبهات لضعف عقولهن وجهلهن بالحقائق ولا يجوز في حقه سوى هذا بدليل أنه لو أضمر في نفسه أن يحكم له والحكم عليه لوقع في كبيرة محرمة وهي أن ينوي أن يحكم بالجور وحاشاه من ذلك وهو لا يجوز عليه ذلك كما تقدم
وأما كون الشيطان يخلفه على كرسيه ويحكم بالباطل فليس على نبي
صفحة ٤٠
الله عليه السلام لو صح في ذلك دقيق ولا جليل من الإثم وهذا بمثاب عيسى عليه السلام حين عبد من دون الله كما جاء في الصحيح عنه عليه السلام قال فيأتون عيسى ولم يذكر ذنبا فيقول لست هناكم وقد عبدت أنا وأمي من دون الله فامتنع عنها حياء من الله
ومع ذلك فالخبر باطل من وجه آخر وهو أنه لو جاز أن يخلف النبي شيطان على صورته ويستنبط في شريعته أحكاما فاسدة لكان ذلك إخلالا بالنبوة إذ كان يتخيل الناس ذلك في سائر أحكام الأنبياء حتى لا يتميز حكم النبي من حكم الشيطان فيشكل الأمر على المكلفين ولا يتقون أمر بعد وهذا بمثابة تقدير خرق العادة على أيدي الكذابين في ادعاء النبوة وهذه الألقية في هذه القصة من دسائس البراهمة في إبطال النبوات والله أعلم
وأما ما يليق بسليمان عليه السلام في باب الأولى والمباح في هذه القصة فهو أنه ما كان يقول لامرأته في طلب الحكومة لأخيها نعم حتى يتبين له الحق أو يتبين لها ما أضمر فيقول لها نعم إذا وجب له الحق فيها فإنه لا يحكم بجور ولا يجوز عليه ذلك
وأما صنعه لها التمثال على الوجه الذي تقدم فما عليه في ذلك ذنب ولا عتب ولو كان أيضا صنعه محرما لما صنعه لها أصلا فإن صنع التمثال
صفحة ٤١
من الكبائر التي أتى فيها الوعيد الكثير في الحديث المشهور في الثلاثة الأصناف الذين تلتقطهم أعناق النار في المحشر
ومنهم من قال إنما وقع العتاب عليه من جهة اشتغاله بعرض الخيل عليه حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العشاء وهذا أيضا إذا صح فليس له في تركها كسب ولا علقة طلب فإنه ناس والناسي لا طلب عليه فيما نسيه بالإجماع قال تعالى مخبرا عن موسى عليه السلام أنه قال {لا تؤاخذني بما نسيت} وجاء عنه عليه السلام أنه قال إنما أنا بشر كما تنسون
ومنهم من قال إنما كانت وهلته لما ورد به الخبر في قوله لأطيفن الليلة بمئة امرأة تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل ونسي فأطاف بهن ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان قال النبي عليه السلام لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان أرجى لحاجته
صفحة ٤٢