وكان الزمان الذي اشتغلنا فيه بذلك ريعان الحداثة، ووجدنا من توفيق الله ما قصر علينا بسببه مدة التفطن لما أورثوه، ثم قابلنا جميع ذلك بالنمط من العلم الذي يسميه اليونانيون «المنطق» - ولا يبعد أن يكون له عند المشرقيين اسم غيره - حرفا حرفا، فوقفنا على ما تقابل وعلى ما عصى، وطلبنا لكل شيء وجهة، فحق ما حق وزاف ما زاف، ولما كان المشتغلون بالعلم شديدي الاعتزاء إلى المشائين من اليونانيين، كرهنا شق العصا ومخالفة الجمهور، فانحزنا إليهم، وتعصبنا للمشائين؛ إذ كانوا أولى فرقهم بالتعصب لهم، وأكملنا ما أرادوه وقصروا فيه ولم يبلغوا أربهم منه، وأغضينا عما تحطبوا فيه وجعلنا له وجها ومخرجا، ونحن بدخلته شاعرون، وعلى ظله واقفون، فإن جاهرنا بمخالفتهم فعن الشيء الذي لم يمكن الصبر عليه، وأما الكثير؛ فقد غطيناه بأغطية التغافل.»
33
وما يكون لنا أن نلتمس وراء ابن سينا مرجعا للحكم في الفلسفة الإسلامية، وجماع حكمه، أن الفلسفة الإسلامية كانت في غالب أمرها قائمة على العصبية لأرسطو وللمشائين، لكن فلاسفة الإسلام على الحقيقة، من أمثال ابن سينا، كانوا يعرفون لأرسطو فضله من غير غفلة عن قصوره أحيانا وخطئه، وكانت تقع لهم علوم من غير أرسطو، بل من غير علوم يونان، وكانت وجهتهم أن يشيدوا هيكلا فلسفيا يقوم على قواعد مما محصه النقد من مقالات أرسطو والمشائين، وترفع أركانه بما عملته أيديهم وما كسبوه من غير اليونانيين.
ومتى درست آثار الفلاسفة الإسلاميين حق دراستها - وذلك يحتاج إلى كد الذهن وطول الصبر، وحسن الاستعداد، وتحصيل الآلة المعينة على تفهم تلك الأساليب - ومتى نشر للباحثين ما لم ينشر من آثار القوم، وهو كثير، فسنعرف عن يقين نصيب الفلسفة الإسلامية من التراث الفلسفي في العالم. (3-2) فلسفة وحكمة
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن فلاسفة الإسلام استعملوا، إلى جانب كلمة «فلسفة» اليونانية وما اشتق منها، كلمة «حكمة» العربية وما أخذ منها، فقالوا: حكمة، وحكيم ، وعلوم حكمية.
ويظهر أن هذا الاستعمال بعيد العهد يتصل بأول نقل للعلوم القديمة في الإسلام، على ما جاء في كتاب «الفهرست»، فقد ورد فيه: «كان خالد بن يزيد بن معاوية (المتوفى سنة 85ه/704م) يسمى حكيم آل مروان، وكان فاضلا في نفسه، وله همة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر، وقد تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، وهذا أول نقل كان في الإسلام.»
34
وقال صاحب «الفهرست» في موضع آخر: «قال محمد بن إسحاق: الذي عني بإخراج كتب القدماء في الصنعة خالد بن يزيد بن معاوية، وكان خطيبا شاعرا فصيحا حازما ذا رأي، وهو أول من ترجم له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء، وكان جوادا، يقال إنه قيل له لقد جعلت أكثر شغلك في طلب الصنعة، فقال خالد: ما أطلب بذلك إلا أن أغني أصحابي وإخواني، إني طمعت في الخلافة فاختزلت دوني، فلم أجد منها عوضا إلا أن أبلغ آخر هذه الصناعة، فلا أحوج أحدا عرفني يوما أو عرفته إلى أن يقف بباب سلطان رغبة أو رهبة.»
35
وفي كتاب «فضل هاشم على عبد شمس» للجاحظ: «وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا، وجيد الرأي أريبا، كثير الأدب حكيما، وكان أول من أعطى التراجمة والفلاسفة، وقرب أهل الحكمة ورؤساء أهل كل صناعة، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآداب والآلات والصناعات.»
صفحة غير معروفة