على أن الأستاذ أحمد أمين بك يرى رأيا آخر في كلام الشهرستاني؛ فهو يقول في كتابه «فجر الإسلام» ما نصه: «لاحظ بعض المستشرقين أن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك، وقبله لاحظ هذا المعنى بعض المؤلفين الأقدمين من المسلمين، فقد جاء في «الملل والنحل» للشهرستاني عند الكلام على الحكماء: «الصنف الثاني حكماء العرب وهم شرذمة قليلة، وأكثر حكمهم فلتات الطبع وخطرات الفكر.
إن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، والمقاربة بين الأمتين مقصورة على اعتبار خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات، والغالب عليهم الفطرة والطبع، وإن الروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد؛ حيث كانت المقاربة مقصورة على اعتبار كيفية الأشياء والحكم بأحكام الطبائع، والغالب عليهم الاجتهاد والجهد.»»
7
ولست أرى أن كلام الشهرستاني بسبب من عجز العقل العربي عن النظر إلى الأشياء نظرة شاملة، بل قد يكون على عكس ذلك.
فإن الذي يفهم من نصوص الشهرستاني هو أن العرب والهند يميلون إلى الأحكام الكلية والأمور العقلية والمجردات، وهم ينزعون إلى الروحانيات، بخلاف الروم والفرس الميالين إلى الأمور الجزئية، وإلى تتبع آثار الطبائع والأمزجة وما يقع عليه الحس من الأجسام والجسمانيات، ولعل قول الشهرستاني: «إن أكثر حكم العرب فلتات الطبع وخطرات الفكر»، وقوله: «والغالب عليهم الفطرة والطبع»، كل ذلك لا يخرج عما يقوله الجاحظ في كتاب «البيان والتبيين»: «إلا أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكير ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم، وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام.»
8
ولا يريد الجاحظ بمقاله إلا أن يصف العرب بسرعة الذكاء وحدة الذهن وإصابة الرأي فيما يحتاج غيرهم فيه إلى أناة وطول تفكير واستعانة وبحث.
هذا ويوشك أن يكون التخالف بين مقال صاعد ومقال الشهرستاني في أمر الفلسفة عند العرب يرجع إلى عدم اتفاقهما على المراد بالفلسفة التي يتكلمان عنها، فصاعد يريد بالفلسفة النظر العقلي الموجه إلى تعرف الحقائق على أسلوب علمي، وهو يذكر ما يذكره من علوم العرب كعلم لسانها، وعلم الأخبار، ومعرفة السير والأمصار، ثم يذكر معرفتهم لمطالع النجوم ومغاربها، وأنواء الكواكب وأمطارها، فيقول: «على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة، لا على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدرب في العلوم.»
9
فلم يكن عند العرب علم على طريق تعلم الحقائق والتدرب في العلوم مطلقا، لا ما يسمى بالفلسفة ولا غيره.
صفحة غير معروفة