وإنما كان أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق؛ لأن المدينة دار الهجرة ومأوى الصحابة، ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد وغيره من شئون الدولة أكثر، ومذهب أهل العراق كان يقصد إلى جعل الفقه وافيا بحاجة الدولة التشريعية، فكان همه أن يجعل الفقه فصولا مرتبة، يسهل الرجوع إليها عند القضاء والاستفتاء، وكان همه أن يكثر التفاريع حتى تقوم بما يعرض ويتجدد من الحوادث.
أبو حنيفة: وذكر الإمام المرغيناني أن رجلا جاء إليه وقال: حلفت ألا أغتسل من هذه الجنابة، فأخذ الإمام بيده وانطلق به، حتى إذا مر على قنطرة نهر فدفعه في الماء فانغمس في الماء ثم خرج، فقال قد طهرت وبررت؛ لأن اليمين كان على منع نفسه عن فعل الغسل ولم يحصل منه فعل، وسأله رجل عمن حلف بطلاق امرأته إن اغتسل من جنابة اليوم، ثم حلف كذلك إن ترك صلاة من هذا اليوم، ثم حلف كذلك إن لم يطأها اليوم. قال: يصلي العصر ثم يطؤها، ثم يؤخر الاغتسال إلى الغروب، فإذا غربت الشمس اغتسل وصلى المغرب ولا يحنث؛ لأنه لم يغتسل في اليوم ولم يترك الصلاة ولا الجماع، وبه قال: سئل عن امرأة صعدت السلم، فقال زوجها: إن صعدت فأنت طالق، وإن نزلت فكذلك، قال: يرفع السلم وهي قائمة عليه ثم يوضع على الأرض، أو ترفع المرأة وتوضع على الأرض، ولا يحنث لأنها ما نزلت ولا طلعت.
وسئل أيضا عن رجل قال لامرأته: إن لبست هذا الثوب فأنت كذا، وإن لم أجامعك فيه فأنت كذا، فتحير علماء الكوفة، فقال يلبسه الزوج ويجامعها فيه، وسئل أيضا عمن حلف بالطلاق ألا يأكل البيض، فجاءت امرأته وفي كمها بيض ولم يعلم به؛ فقال: إن لم آكل ما في كمك فأنت كذا، قال: تحضن البيض تحت الدجاجة، فإذا خرج منه فرخ شواه إذا كبر وأكله، ولا يعتبر القشر والدم لأنهما لا يؤكلان، أو يطبخ الفرخ في قدر ويأكله ويأكل المرقة فلا يحنث في اليمين.
وبه عن أبي بكر محمد بن عبد الله أن الموالي قدموا الكوفة وكان لواحد منهم امرأة فائقة الجمال، فتعلق بها رجل كوفي، وادعى أنها زوجته، واعترفت المرأة أيضا بذلك، وادعى المولى المرأة وعجز عن البينة، فعرضت القضية على الإمام فذهب إلى رحلهم مع ابن أبي ليلى وجماعة، وأمر جماعة من النساء أن يدخلن رحل المولى، فلما قربن عوت عليهن كلابه، فأمر المرأة أن تدخل وحدها، فلما قربت بصبص الكلاب حولها، فقال الإمام: ظهر الحق، فانقادت المرأة للحق واعترفت.
وسئل أيضا عن رجل قال لامرأته وفى يدها قدح من ماء فقال: إن شربته أو صببته أو وضعته أو ناولته إنسانا فأنت كذا، قال ترسل فيه ثوبا فتنشفه.»
158 (ج) بين أهل الرأي وأهل الحديث
لا جرم كان مذهب أهل الرأي مذهب القضاء، وكان أئمته قضاة؛ كأبي يوسف ومحمد.
وقد ورد في «أصول» البزدوي: «وقال محمد - رحمه الله تعالى - في كتاب «أدب القاضي»: «لا يستقيم الحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث، حتى إن من لا يحسن الحديث أو علم الحديث ولا يحسن الرأي، فلا يصلح للقضاء والفتوى.»
159
وقد يشعر هذا بما في مذهب أهل الرأي من الاهتمام بشئون القضاء والفتوى، وفي شرح «تنوير الأبصار» الذي كتب عليه ابن عابدين «حاشيته» المشهورة المسماة «رد المحتار إلى الدر المختار»: «وقد جعل الله الحكم لأصحابه وأتباعه - أي أبي حنيفة - من زمنه إلى هذه الأيام، إلى أن يحكم بمذهبه عيسى عليه السلام.»
صفحة غير معروفة