فليس كعهد الدار يا أم مالك
ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
يريد بالسلاسل حدود الإسلام وموانعه، التي كفت الأيدي الغاشمة، ومنعت من سفك الدماء إلا بحقها، وبمعنى ما تتابع بعضه في أثر بعض، واتصل كقولهم تسلسل الحديث، وقولهم سلاسل الرمل، ومن هذا النوع قول الله عز وجل:
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم ، ومعلوم أن الله لم ينزل من السماء ملابس تلبس، وإنما تأويله - والله أعلم - أنه أنزل المطر فنبت عنه النبات، ثم رعته البهائم فصار صوفا وشعرا ووبرا على أبدانها، ونبت عنه القطن والكتان، واتخذت من ذلك أصناف الملابس، فسمى المطر لباسا إذ كان سبب ذلك، ومن هذا الباب أيضا قوله
صلى الله عليه وسلم : «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا ثلث الليل الأخير، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟» جعلته المجسمة نزولا على الحقيقة، وقد أجمع العارفون على أن الله لا ينتقل؛ لأن الانتقال من صفة المحدثات؛ ولهذا الحديث تأويلان:
أحدهما:
أن معناه: ينزل أمره في كل سحر؛ أي إن الله - تعالى - يأمر ملكا بالنزول إلى سماء الدنيا، وقد تقول العرب: كتب الأمير إلى فلان كتابا وقطع الأمير يد اللص، وضرب السلطان فلانا؛ إذ هي تنسب الفعل إلى من أمر به، كما تنسبه لمن فعله، ويقول العرب: جاء فلان إذا جاء كتابه، ويقولون للرجل: أنت ضربت زيدا وهو لم يضربه، إذا كان قد رضي بذلك وشايع عليه.
وثانيهما:
أن من المعاني المجازية للنزول الإقبال على الشيء بعد الإعراض عنه، والمقاربة بعد المباعدة، فيكون معنى الحديث على هذا أن العبد في هذا الوقت أقرب إلى رحمة الله منه في غيره من الأوقات، وأن الباري - سبحانه - يقبل على عباده بالتحنن والعطف في هذا الوقت بما يلقيه في قلوبهم من التنبيه والتذكير الباعثين لهم على الطاعة والجد في العمل، ومن استعمال العرب النزول في هذا المعنى قول حطان بن المعلى من شعراء «الحماسة»:
أنزلني الدهر على حكمه
صفحة غير معروفة