وذهب مراد بيك مع عزوته إلى أعلى الصعيد، وهو متحير من صلابة هؤلاء الصناديد وقوة قلبهم الشديد، وفنونهم العجيبة وشجاعتهم الغريبة، ودخل الجنرال ديزه إلى مدينة المنية، وأقام بها وحصن قلعها وأبراجها، وبدأ يسير ورا مراد بيك مرحلة بعد مرحلة إلى محل يقال له الأهون، وهناك حدثت بينهم وقعة عظيمة، وكان قد تجمع مع مراد بيك جموع كثيرة وطموش غزيرة، فشتتهم ذلك الجنرال في البراري والقفار، ولم يزل ذلك الجنرال يقاتل في إقليم الصعيد حتى أطاعه الشيخ والوليد، وهابته الأسياد والعبيد، وهرب منه مراد بيك إلى مدينة أصوان، ثم إلى بريم، ومن هناك رجع الجنرال ديزه إلى الصعيد، ودبر الإقليم المذكور برأيه السديد، وأمر في بنيان الحصون الرفيعة في جميع تلك المدن المنيعة، ثم إنه جبى الأموال الميرية والمعاليم السلطانية، ورتب الصعيد ومهد ذلك الإقليم غاية التمهيد، وكل مراد بيك من حروب الفرنساويين من بعد حروب عديدة وأهوال شديدة.
وكان حينما بلغ أهالي الحجاز دخول الفرنساوية إلى الديار المصرية فارتجت سكان تلك الأرض وماجت واضطربت وهاجت، فتحرك من الأشراف السيد محمد الجيلاني، وقد جمع سبعة آلاف أماجيد، وحضر بهم إلى الصعيد، واجتمع إليه العربان من أهل تلك البلدان عشرة آلاف من غير خلاف، وظهر أمره واشتهر خبره، فبلغ الجنرال ديزه قدوم ذلك العسكر، فما هابه ولا تفكر، بل إنه كبس عليهم بالليل بكل قوة وشدة وحيل، فما سلم منهم غير القليل، والذي سلم تشتت في البراري والقفار وبليوا بالذل والدمار، ومات في تلك الوقعة السيد محمد الجيلاني؛ إذ كان هو على نفسه جاني؛ لأنه كان يزعم أنه يحذف الرمال والغبار في وجوه الكفار ويعمي منهم الأبصار ويقبض عليهم باليد، فخاب منه الكد والجد، ثم بعد مدة تجمع الذين سلموا، ورجعوا يفسدون في البلاد ويستنهضون بالعباد، فأرسل عليهم الجنرال ديزه شردمة من العسكر فهزموهم في البر الأقفر، وبعد ذلك راق الصعيد من محاربين الفرنساوية، واطمأن حال الرعية، وأحبوا الجنرال ديزه محبة عظيمة؛ لأجل سلوكه وأحكامه المستقيمة، وكان يحب العماير الملاح كريم بالعطاء والسماح، وكان رهطا من الأرهاط العظام، ونظم إقليم الصعيد أحسن نظام.
وقد كان عنده من الأقباط المباشرين يعقوب الصعيدي، وهو رجل شديد البطش مشهورا بالفروسية والهمة القوية، وهو الذي عند سليمان بيك، وكان الذين خدموا من النصارى أولهم الرجل السافرلي المدعو باترو، وهذا الذي كان يدعونه أهل مصر فريد الزمان؛ لما عنده من العلوم والفصاحة والقوة والشجاعة، وكان يعرف في جميع اللغات وفاق بالحسن عن حد الصفات، وكان قد خدم عند الفرنساوية، وانقاد إليه جماعة من الغز المماليك واحتموا به، ثم الرجل الرومي المدعو نقولا قبودان، فهذا المذكور كان خادما عند مراد بيك، ومتروسا على عدة عساكر ومراكب في بلدة الجيزة، وكان شابا موصوفا بالشجاعة، وهذا المذكور كان متسلم المتاريس في عسكر الأروام حين دخلت الفرنساوية إلى بر إمبابة وامتلكوا القاهرة، ولما امتلكت الإفرنج المتاريس ألقى نفسه في بحر النيل وطلع إلى مصر، ثم خدم المشيخة، وأما الذين خدموا الفرنساوية من الإسلام فهم كثيرون في العدد كالمقدمين والقواصة والمترجمين.
ذكر ما حدث بمصر
إنه من بعد أن مكثت الفرنساوية في المملكة المصرية مقدار ثلاثة أشهر، فكان المسلمون يظنون أن تورد لهم الأوامر من الدولة العثمانية بتقريرهم على المملكة حسبما كانوا يشيعون أنهم حضروا إلى مصر بإرادة السلطان سليم، وكانوا يوعدونهم في وزير إلى القلعة السلطانية من طرف الدولة العثمانية، وقد كان يخبر أمير الجيوش بقدوم عبد الله باشا العظم من الشام إلى مصر، وأعد له منزلا لينزل به وأمر بتدبيره وفرشه، وإذ مضت المدة المعينة ولم يحضر أحد؛ فتسبب من قبل ذلك أسباب كثيرة للنفور وإبداع الفتن والشرور؛ من قتل السيد محمد كريم لأنه كان أحد الأشراف، ومن ورود المكاتيب من الأمراء المصريين بالاستنهاض إلى أهل تلك الأقاليم، وكتابات أحمد باشا الجزار إلى البلدان المصرية واستنهاضهم على الفرنساوية، وأن قادم عليهم العساكر العثمانية، ثم قيام أهالي بر دمياط، والحوادث التي بدتها العرب والفلاحين، وعفو الفرنساوية عنهم وعدم القصاص لهم، وقد كان الفرنساوية يخرجون النساء والبنات المسلمات مكشوفات الوجوه في الطرقات، ثم اشتهار شرب الخمر وبيعه إلى العسكر، ثم هدم جوامع ومنارات في بركة اليزبكية؛ لأجل توسيع الطرقات لمشي العربانات.
وكان المسلمون يتنفسون الصعداء من صميم القلوب، ويستعظمون هذه الخطوب، وصاحوا: لقد آن أوان القيام على هؤلاء الليام، فهذا وقت الانتصار إلى الإسلام، فشعر أمير الجيوش بما في ضمايرهم وما أكتموه في سرايرهم، فأبرز أمرا لساير حكام الخطوط بأن كلا منهم يأمر بخلع الأبواب المركبة في الشوارع، وفي يوم واحد خلعت تلك الأبواب العظام، وبعضها أحرقت بالنيران، فركب أمير الجيوش، وأخذ معه المهندسين ومنهم الجنرال كفرال الملقب أبو خشبة؛ لأن كانت رجله الواحدة مقطوعة من ساقه ومصطنع له رجل من خشب، فهذا الجنرال كان أعظم المهندسين في مملكة الفرنساوية، وبدأ أمير الجيوش يجول بهذا الجنرال على ساير الأماكين التي حول دايرة مصر، وغرس على رأس كل مكان بيرقا؛ إشارة لبناية القلع.
فإذا شاهدت الإسلام هذا الاهتمام تحركت للقيام، وبدوا ينادون متبادرين إلى الجامع الأكبر المعروف بجامع الأزهر، وهناك عقدوا المشورة، وأبرزوا ما بالضماير المضمرة، وأرسلوا أحد الفقهاء في شوارع مصر ينبه المسلمين بالمبادرة إلى الجامع الأزهر حيث اجتمع العسكر، وبدأ ذلك الشيخ المذكور يدور وينادي بالجمهور: كل من كان موحدا يأتي لجامع الأزهر؛ لأن اليوم المغازاة بالكفار ونزيل عنا هذا العار ونأخذ منهم الثار، فبادر المسلمون وأقفلت الحوانيت والوكايل لما سمعت صوت القايل، ووصلت الأخبار إلى دبوي الجنرال بأن قامت أهالي البلد من الشيخ إلى الولد، وكان ذلك في عشرة جماد الأول نهار الأحد، فنهض الجنرال المومى إليه والشرار تتطاير من عينيه، ظانا أن هذا القيام عليه، وأن هذا القتال لأجل ما طلب منهم من المال، وسار بثمانية أنفار ليطمن أهل تلك الديار ويفرق تلك الجماهير ويسكن روع الكبير والصغير، ولم يعرف أن ليس ذلك علة المال فقط، بل هي علل كثيرة الشطط وغزيرة النمط، وأحقاد كامنة في جوارح القلوب، وعداوة لا يدركها سوى رب الغيوب، وفيما هو ساير في سوق النحاسين، فبرز إليه أحد الأتراك وضربه بخشبة على خاصرته، فسقط عن ظهر جواده مغشيا، فحملوه أصحابه ورجعوا به إلى جنينة الإفرنج القديمة، وفي وصوله مات هناك وشرب كاس الهلاك.
وكانت العساكر الفرنساوية متفرقين في المدينة، ولعدم معرفتهم باللغة العربية ما يكونوا يدرون ما هي الحادثة في المدينة، فهجمت عليهم تلك الجماهير من كل ناحية، وكانوا يقتلون كل من وجدوه في طريقهم من الإفرنج الفرنساوية والملة النصرانية من المعلمين والرعية، وكان يوما مهولا عظيما وخطبا جسيما، ثم هجمت جماهير الإسلام على طور سينا فقتلوا البعض من الرجال، ونهبوا بيوت النصارى، وأخذوا ما أحبوا من الحاجات، وسبوا النساء والبنات، واحتموا بقوة الرجال داخل دير الطور، وكان يوما مشهور، وكان أوليك الأمم هايجين هيجات وحشية، فتهاربت الفرنساوية إلى البركة اليزبكية، وكان في ذلك الوقت أمير الجيوش في مدينة الجيزة، فحضر لما بلغه تلك الهيجة، وفي دخوله التقى مع ذلك الجمهور فولوا من أمامه، ووصل إلى بركة اليزبكية، وفرق العساكر حول البلد، وأمر أن تضرب من القلعة المدافع والقنابر، وكانت جماهير الإسلام في باب النصر والنحاسية وخان الخليل وخط الأزهر والغورية والفحامين خط المغاربة، وهذه المحلات داخل البلد، وكانت الإسلام قد بنت متاريس في تلك الأماكن المذكورة، فسقط خوف عظيم على الفرنساوية، وذعرهم هذا القيام وداخلتهم الأوهام؛ لمعرفتهم بكثرة الخلايق التي في مصر؛ لأنها كانت تجمع مليونا من الناس ولا لكثرتهم قياس، وضربت الفرنساوية أوليك الجيوش الكثار بالقنابر والمدافع الكبار، فتضايقت الإسلام من كثرة الكلل والقنابر والرصاص المتكاثر، واستقام الحرب ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع كبست الفرنساوية على جامع الأزهر، فهربت الإسلام بالذل والتعكيس، وامتلكوا منهم المتاريس، وأبلوهم بالضرر وملكوا منهم الجامع الأزهر، وسلبوا ما كان فيه من الودايع والذخاير، وابتدوا بعد ذلك يمتلكون مكانا بعد مكان، إلى أن تملكوا أكثر المدينة، واختفت الإسلام في المنازل والجدران، وألقوا سلاحهم وصاحوا: الأمان، وكانت الفرنساوية كل من يرونه بلا سلاح لا يعارضوه، والذي يكون متسلحا يقتلوه.
وحينما نظرت علماء الإسلام أن جيوشهم انكسرت والفرنساوية انتصرت، فساروا إلى أمير الجيوش بعقل مدهوش وقلب مرعوش، وأخذوا يتراموا عليه بقيام العسكر من الجامع ورفع الحرب من كل مكان والمواضع، فبكتهم أمير الجيوش بذلك الفعل الذميم والخطب العظيم، وكانوا يقسمون له بالله أن ليس عندهم من ذلك آثار ولا علم ولا أخبار، بل علة الحال طلب المال، وما قام إلا أوباش الرجال، فأبى أمير الجيوش تصديقهم وأنكر تحقيقهم، ولم يسمح لهم بتخلية الجامع من العساكر، وأحرف وجهه عنهم وهو متعكر الخاطر، فانصرفوا من أمامه وهم باكين وعلى أحوالهم نايحين، وتأسفوا على جامع الكنانة وخراب الديانة، ثم في ذلك النهار أرسلوا له الشيخ محمد الجوهري، وكان في كل حياته ما كان يقابل أحدا من الحكام ولا يعترض إلى أمور العوام، وفي دخوله قال له: ما قابلت حاكما عادلا كان أم ظالما، والآن قد أتيت متوسلا إليك أن تأمر بإخراج العسكر من الجامع الأزهر، وتغفر ذنب هؤلاء القوم الغجر، واتخذني مدى العمر داعيا لك ناشرا فضلك. فانشرح أمير الجيوش من ذلك الخطاب وانعطف وجاب قائلا: إنني عفوت وصفحت عن أحبابك لأجل خطابك، ثم أمر أمير الجيوش برفع العسكر من الجوامع وأطلق المناداة في المدينة بالأمان، وعقد الفحص عن الذين كانوا مجتمعين في المشورة على قيام تلك الأمور المنكرة، فقبض على شيخ العميان الشيخ سعيد، والشيخ الذي نادى في المدينة بجمع ذلك الجيش العديد، وعدة فقهاء وأناس فلتية، وأخذوهم إلى القلعة وأذاقوهم كئوس المنية، وقد كان مات بهذه الوقعة ألفين صلدات، ومن أهالي المدينة ما ينيف عن خمسة آلاف، وقد خسرت الإسلام ولم تربح بهذا القيام سوى الذل والإهانة وافتضاح جامع الديانة.
وكان عندما استعدت أهالي مصر على القيام ضد الفرنساوية كتبوا إلى الشيخ الشواربي شيخ الصعيد يستنجدوه إلى إعانتهم، وعينوا له زمانا ليحضر به بعشاير العربان، وقد أتى في الميعاد إذ كانت الفرنساوية محيطة بالقاهرة، وحين نظروا العربان مقبلة ضربوهم بالمدافع والرصاص، فولوا منهزمين؛ لأن الفلاحين والعربان لم يكونوا يستطيعوا على مقابلة النيران وحرب أوليك الشجعان، ورجعوا بالذل والخسران، وحين سكنت تلك الفتن سار الجنرال ميراد إلى بلدة قليوب، وقبض على ذلك الشيخ وحرق البلد، ثم أرسله إلى أمير الجيوش، فقتله وولى أخاه مكانه.
صفحة غير معروفة