قال: وإذ قد تبين أن الاسطقسات لا يكون بعضها عن بعض بالخروج والتميز، وكانت الاسطقسات على ما تزعم الفرقة الثانية ذوات أشكال، فلا يخلو أن تكون استحالة بعضها إلى بعض وتكوين بعضها من بعض على حد وجهين: اما بتبديل أشكالها وانتقالها من بعضها إلى بعض، مثلما تقبل القطعة الواحدة من الشمع أشكالا مختلفة. واما على جهة انحلال الأشكال إلى المثلثات التي تركب منها ذلك الشكل على ما قاله أفلاطون، فإن كان بتبدل واستحالة بعضها إلى بعض لزم هذا القول أن يقول أن الاسطقسات مركبة من أجزاء لا تقبل التجزئة، وهي الأجزاء ذوات الأشكال، فإنه ان تجزأت هذه الأجزاء لزم أن يكون جزء الاسطقس ليس هو اسطقسا ولا من أسطقس، وذلك انه ليس يمكن في الشكل الذي يضعونه للنار، أعني المخروط، أن ينحل إلى أشكال مخروطة ولا في الشكل الكري أن تنحل أيضا جميع أجزائه إلى أشكال كرية. ومثل هذا يعرض في الأرض وفي سائر الاسطقسات. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن جزء الأرض أرضا ولا جزء النار نارا. وبالجملة فيلزم هذا الرأي سائر المحالات التي تلزم من شكل الاسطقسات وهي التي يعددها بعد. وأما ان كان تكون بعضها من بعض على جهة انحلال السطوح إلى المثلثات التي منها تركبت تلك الأشكال فأول ما يلزم قائل هذا القول ألا تكون كل الاسطقسات بعضها من بعض، وذلك أن المثلثات التي ينحل إليها المكعب هي غير المثلثات المتساوية الأضلاع التي يتركب منها الشكل المخروط وباقي الأشكال المذكورة الخمسة. وكذلك يضع أصحاب هذا الرأي الأرض وحدها لا تستحيل إلى شيء من الاسطقسات ولا يستحيل إليها شيء منها، وذلك أنه إن كانت المثلثات لا يستحيل بعضها إلى بعض ولم تكن طبيعتها واحدة فبالواجب أن يعرض للأرض ذلك. وما يسلمونه من أن الأرض لا تتغير حفظا لوضعها هو مخالف للحسن والعيان، فانا نرى الأرض وسائر الاسطقسات يستحيل بعضها إلى بعض. فهؤلاء القوم يدعون أن الأشياء المحسوسة أوائل وعلل لا يشهد بها الحس والعيان بل يردها ويكذبها، والسبب في ذلك أنهم لا يطلبون في هذه الأشياء العلل المناسبة لها بل انقادوا إلى آراء واهنة ورثوها ممن كان قبلهم، وذلك أنه واجب أن تكون المبادئ للأمور الطبيعية أمورا طبيعية ومبادئ الأمور الالهية أمورا الهية ومبادئ الأمور التعاليمية أمورا تعاليمية. وبالجملة فإنما يجب أن تكون المبادئ والأسباب المطلوبة في ذلك الجرم مناسبة وخاصة كما قيل في كتاب البرهان. قال: فأما هؤلاء القوم، ويشير به إلى أفلاطون، فلمحبتهم في التعاليم جعلوا للأشياء الطبيعية أوائل تعاليمية. ولحبهم في هذا القول وطلب نصرته عرض لهم ما يعرض لكل من يروم أن ينصر رأيه وان كان كاذبا بأي وجه اتفق له، فإن هؤلاء من شأنهم أن يسلموا الآراء الكاذبة الشنيعة تحفظا من أبطال وضعهم وأن يطرحوا أشياء كثيرة مما يظهر للحس. وبالجملة فيرومون أن يطابقوا المحسوسات بآرائهم لا أن يطابقوا آرائهم بالمحسوسات. وذلك أنه ينبغي أن يقضي على أوائل جميع الأشياء من تمامها غايتها، والتمام في الأمور الطبيعية والصناعية هو الأمور [41 ظ: ع] المحسوسة، ولذلك كان الواجب أن يقضي على الأوائل ويصح من الأمور الظاهرة للحس، لا أن يقضي على الأمور الظاهرة للحس ويصح من العلل والأسباب التي توضع، كما عرض لهؤلاء أن يدفعوا الأمور الظاهرة بالحس وينسبون ما يظهر من ذلك بالحس إلى أغاليط. فهذه جملة ما يقوله في تعريف وجه غلط هؤلاء القوم، والجهة التي منها عرضت لهم المحالات التي تلزمهم. ثم إنه يشرع في تعديد المحالات التي تلزمهم فقال: إن أول ما يلزمهم أن تكون الأرض هي الأسطقس وحدها، وذلك أنها إذا كانت لا تنحل ولا تستحيل إلى شيء آخر فهي الأسطقس بالحقيقة، إذ كان من خاصة الأسطقس انه لا ينحل إلى شيء آخر. ومحال ثان آخر وهو أن يلزمهم، إذا استحالت الاسطقسات بعضها إلى بعض لانحلال المثلثات من الاسطقس الفاسد وتركيبها في الاسطقس المتكون، ان يبقى هنالك من تولد الماء والهواء مثلثات فضلا، وذلك أنه لما كان الهواء يتولد من ثلاثة مثلثات والماء من عشرين مثلثا، لزم أن يبقى بين تولد الهواء من الماء أربعة مثلثات فضلا. فإن قال قائل أن هذه المثلثات الأربعة يتولد منها نار لزم ألا يتكون من الماء هواء الا ويتكون معه نار من الهواء نفسه، وذلك خلاف ما يحس. ومحال ثالث أنه يعرض لقائل هذا القول أن يكون الجسم من غير جسم، ⎤وإذا كان الجسم من سطوح كان ضرورة غير جسم، وإذا كان غير جسم⎡ لزم ضرورة أن يكون هنالك خلاء متقدم عليه كما قيل فيما تقدم. الفصل الثالث: ولما فرغ من المحالات التي تخص من ركب الاجسام البسيطة من السطوح، أخذ يذكر المحالات اللازمة لمن يشكل الاسطقسات بأشكال مسدودة ويجعل فصولها الذاتية في الشكل فقال: إن مما يلزم هؤلاء أنهم لا يصيرون كل جرم قابل للتجزئة، وذلك نقيض ما يضعه صاحب التعاليم مع ما عليه هذه العلوم من الصحة ووثاقة البراهين، وإنما يجحدون انقسام الأجسام إلى غير نهاية ودائما لئلا يفسد وضعهم في ذلك، لأنهم إذا صيروا لكل اسطقس شكلا من الأشكال التي لا يمكن أن ينقسم ذلك الشكل إلى امثاله، مثل المخروط الذي قد يمكن ألا تنقسم جميع أجزائه إلى مخاريط متشابهة أو الشكل الكري فإنه لا ينقسم إلى أشكال كرية أصلا، وصيروا بعض الاسطقسات بهذه الصفة، لزمهم أحد أمرين: إما أن يضعوا النار ليست تنقسم بما هي نار إلى أجزاء نارية مشابهة لها إذ كان الشكل المخروط ليس ينقسم إلى أشكال مخروطة مشابهة له فلا يكون بنفسه أصلا، أو يسلموا انها تنقسم إلا أنه ليس يكون لها شكل مخروط فيلزمهم ان لا يكون جزء النار نارا، فهم لا ينفكون من أحد هذين المحالين: اما أن يجحدوا قسمة الأجسام واما أن يضعوا أن غير النار ليس نارا. فهذه أحد المحالات اللازمة للذين يجعلون فصول الاسطقسات الجوهرية في الأشكال سواء اعتقدوا أنها مركبة من السطوح أو لم يعتقدوا ذلك. وقد يلزمهم محال آخر وذلك أن من الأشكال ما إذا ركبت بعضها على بعض ملأت المكان ولم يبق هنالك مكان ولا فراغ، ومنها ما إذا ركبت بعضها مع بعض لم تملأ المكان ولزم أن يبقى فيها خلاء وفراغ. وهذان الصنفان موجودان في الأشكال السطحية والأشكال الجمدية، وذلك أن الأشكال السطحية المتساوية الأضلاع والزوايا التي تملأ السطح هي ثلاثة فقط: الشكل المثلث والمربع والمسدس. واما المخمس وسائر الأشكال المستوية الأضلاع والزوايا فليس تملأ السطح. واما المجسمة المالئة المستوية الأضلاع والزوايا فهي اثنان فقط الشكل المخروط والشكل المكعب. وانما كانت الأشكال السطحية لا تملأ الموضع منها الا تلك الثلاثة فقط، لأنه إذا توهمنا نقطة في سطح قد تقاطع عليها خطان مستقيمان حدثت هنالك أربع زوايا قائمة. وإذا كان ذلك كذلك فالذي يملأ السطح من الأشكال المركبة يجب ضرورة أن تكون زواياه. أربع زوايا قائمة، واما مساوية لأربع زوايا قائمة. فإذا ركبت هنالك أربع مربعات تلتقي زواياها الأربع على تلك النقطة المفروضة [Picture] [ 42 و: ع] في السطح، أعني أن تكون تلك النقطة مشتركة للأربع زوايا ورأسه لها ملأت سطح المربعات ضرورة، لأن كل زاوية من زوايا المربع قائمة. وكذلك إذا جعلت مشتركة لزاوية مثلثات ستة متساوية الأضلاع والزوايا لأن زاوية كل مثلث منها هي ثلثا قائمة فيكون مجموع الستة زوايا مساوية لأربع زوايا قائمة فتملأ السطح ضرورة. كذلك المسدس يملأ السطح إذا جعلت النقطة في السطح رأسا لثلاث مسدسات متساويات الأضلاع والزوايا، لأن كل زاوية منها تكون مثل قائمة وثلث، فيكون مجموع الثلاثة منها مساوية لأربع زوايا قائمة وهي المالئة السطح. واما المخمس والمسبع وسائر الأشكال المتساوية الأضلاع والزوايا فليس يمكن فيها أن تملأ السطح إذ كان الذي يجتمع من زواياها اما أقل من أربع زوايا قائمة واما أكثر. مثال ذلك المخمس فإنه لما كانت زاويته قائمة وخمس فإن توهمنا النقطة المفروضة في السطح رأسا لثلاث زوايا قائمة وثلاث أخماس قائمة فلا تملأ السطح ضرورة، وإذا فرضناها أربع زادت على أربع زوايا قائمة المالئة للسطح بأربع اخماس زاوية قائمة. وكذلك ليس يمكن الخمسة مثلثات المتساوية الأضلاع والزوايا أن تملأ السطح إذ كان الذي يجتمع منها أقل من أربع زوايا قائمة. وأما الأشكال المجسمة المتساوية الأضلاع والزوايا فانما كانت الاثنان منها ما كانت تملأ الموضع فقط دون الثلاثة الباقية، لأنه متى توهمنا نقطة في الهواء قد تقاطع عليها ثلاثة خطوط في الطول والعرض والعمق كل واحد منها قائم على صاحبه على زاوية قائمة، حدثت هنالك ثمانية زوايا مجسمة كل واحدة منها ثلث زواية قائمة وهي زاوية المكعب. فما كان من زاوية الاشكال المجسمة يجتمع منها إذا جعلت تلك النقطة رأسا لها ثمانية زوايا اما زاوية المكعب أو ما هو مساو لها ملأت الموضع ضرورة. وإذا اعتبر ذلك بهذه الطريق لم يلف من الأشكال الخمسة المشهورة ما تملأ الموضع إلا الاثنان فقط، وهما اللذان ذكرنا، وذلك أنه متى جعلنا تلك النقطة الخاصة لثمانية مكعبات ملأت الموضع ضرورة وكذلك متى جعلتا خاصة لاثني عشر مخروطا لأن زاوية ستة مخاريط منها مساوية لزوايا أربع مكعبات، وذلك أن زاوية المخروط المجسمة هي من زاويتين قائمتين وزاوية المكعب هي من ثلاث زوايا قائمة، وذلك أن نسبة زاوية المخروط إلى الأربع زوايا مكعبة هي بعينها نسبة زوايا المثلث المتساوي الأضلاع والزوايا إلى الأربع زوايا قائمة إذ كانت زاوية المثلث ثلثي قائمة. وإذا اعتبرنا بهذه الطريق باقي الأشكال الثلاثة، أعني ذا العشرين قاعدة أو ذا الاثني عشر قاعدة أو ذا تسع قواعد، لم توجد زواياها تملأ الموضع بل توجد اما أزيد واما أنقص. مثال ذلك أن زاوية المجسم ذي الخ قاعدة هي من ثلاث قوائم وثلث، وثلاث قوائم وثلث ليس يمكن أن يجتمع منها اثنا عشر قائمة التي هي أربع زوايا المكعب، وذلك أنا ان جعلنا هذه الزاوية، أعني زاوية ذا الاربع قاعدة على عدد زوايا المكعب زادت عليها قائمة وثلث، وان جعلناها ثلاثة اجتمع منها عشرة قوائم فنقصت عن زاوية المكعب بقائمتين، وكذلك يبين الأمر في ذلك في ذي التسع قواعد وذي الاثني عشر قاعدة بهذه الطريق بعينها. وإذا كان هذا هكذا لزم الذين يشكلون الاسطقسات بأشكال ذاتية أن يكون هنالك شكلان مجسمان من الأشكال المتساوية الأضلاع والزوايا مما شأنه أن يملأ الموضع، لأن الاسطقسات أربعة. وقد تبين في كتاب أوقدليس أنه ليس هنالك شكل من جسم [ 42 ظ: ع ] مجسم سادس سوى الأشكال الخمسة فضلا أن توجد بالشرط الموصوف، أعني أن تملأ الموضع. فهذا هو أحد المحالات التي ألزمهم أرسطو وهو من الأمور التي ليس عليها خفك حقا لمن كان عنده أدنى ارتياض بالهندسة. ولما أبطل أن ⎤ يكون ⎡للاسطقسات أشكال، أخذ يبين أن من نفس جوهرها وبما هي أسطقسات يظهر أنه لا يجوز أن يكون لها أشكال جوهرية فابتدأ وقال: إن الدليل على أنه ليس لها أشكال تخصها أنا نراها مشكلة بشكل الحاوي لها وتماسه من جميع نواحيه، وبخاصة الماء والهواء. وإذا كان ذلك كذلك فليس لها شكل يخصها لأنه لو كان لها شكل يخصها لكانت تفسد بفساده، ونحن نرى الهواء والماء يبقى كل واحد منهما ماء وهواء مع أنه يتشكل بأشكال مختلفة. وإذا كان هذا بينا من أمر الاسطقسات فهي بالقوة جميع الأشكال، وذلك واجب من أمرها، إذ كانت اسطقساتها، فإنه لو كان لها شكل يخصها لما قبلت الأشكال المتفننة كالحال في الهيولي التي لما كانت قابلة لجميع الصور لم يكن لها في نفسها صورة تخصها. فإن بالشبه الذي بين طبيعة هذه الاجرام وطبيعة الهيولي كانت هذه الاجرام اسطقسات جميع المركبات، وبذلك امكن أن يستحيل بعضها إلى بعض. وقد تبين من هذا أن من قبل انها مادة الاشكال والصور انه واجب الا يكون لها شكل يخصها. ودليل آخر وهو أنه لو كان لها أشكال تخصها لما أمكن أن يتولد عنها لحم ولا عظم، وبالجملة جسم متشابه الأجزاء متصل، فان الأشكال إذا تركبت ليس يحدث عنها جسم متصل ماعدا الشكلين اللذين ذكرنا، ولا يحدث أيضا من تركيب السطوح جسم متصل، وإنما يحدث الجسم المتصل من الامتزاج والاختلاط. فلو كانت الاسطقسات ذوات أشكال، لما أمكن أن يحدث منها جسم متصل، ولو لم يحدث جسم متصل لم يكن هنالك كون. قال: ولذلك ان نظرنا طرفي أقاويلهم، وفحص عنها فحصا بليغا، تبين أنهم يفنون بتلك الأقاويل الكون، وانهم كلما حرصوا [على] اثباته ازدادوا عنه بعدا. ولما أبطل أن يكون للاسطقسات أشكال ذاتية شرع في ابطال الأقاويل والدلائل التي منها صيروا لواحد واحد من الاسطقسات شكلا يخصه فقال: إن أشكال الاسطقسات التي يسلكونها ليست بالجملة موافقة لقواها ولا لكيفياتها ولا لحركاتها، كما ظن الذين شكلوها بالأشكال واستدلوا بذلك على أنها ذوات أشكال، وذلك أن منهم من قال أن النار لما كانت سريعة الحركة مسخنة محرقة وجب أن يكون شكلها فلكيا، ومنهم من قال أنه لما كانت بهذه الصفة وجب أن يكون شكلها مخروطا لأن هذين الشكلين زعموا أنهما أسرع حركة من غيرهما من الأشكال لأنهما لا يشغلان ولا يملآن من الموضع إلا شيئا يسيرا جدا. قالوا وهما الشكلان اللذان يليقان بالتسخين، وذلك أن الشكل الكري من جهة ما هو مقعر كانت [له] زاوية واحدة والشكل المخروط له زاوية حادة. قالوا والنار انما تحرك بزاويتها. فهذه هي الحجج التي احتج بها من صير شكل النار مخروطة أو كرية، ولما كانوا قد أثبتوا للنار بالجملة الشكل من سرعة حركتها وقلة ثباتها واحراقها، أخذ يناقض واحدة واحدة من هذه الدلالات فابتدأ بمعاندة [من] أوجب الشكل لها من جهة سرعة الحركة فقال: إنه لو كانت النار انما وجب لها أحد هذين الشكلين من أجل سرعة حركتها لكانت حركتها على استدارة، لأن السرعة لهذين الشكلين إنما توجد إذا تحركا على جهة الاستدارة، ثم عاند وجود هذا الشكل لها من جهة قلة ثباتها فقال: لو كان السبب في قلة الثبات للنار أحد هذين الشكلين إذ كانا يملآن من الأرض موضعا يسيرا، وكان السبب في وجود الثبات للأرض الشكل المكعب للزم أن تكون النار والأرض إذا كانتا في مواضعهما الطبيعية ذوات أشكال مكعبة، وإذا كانتا خارجتان من مواضعهما ذوات أشكال فلكية، فانا نرى الأرض والنار وسائر الاسطقسات [ 43 و: ع] تتحرك إذا كانت في مواضعها الطبيعية وتسكن إذا صارت في مواضعها، وكلما قربت من مواضعها اشتدت حركتها ولما عاند وجود أحد هذين الشكلين للنار من جهة سرعة الحركة ومن جهة قلة الثبات، أخذ يعاند وجودها لها من جهة الاحراق فقال : إنه لو كانت النار انما تحرق وتسكن من أجل الزاوية التي فيها لوجب أن تكون الاسطقسات كلها مسخنة محرقة لأنها كلها ذوات زوايا، مثل الشكل المثمن وذي الخ قاعدة، وإنما كان يجب أن تختلف الاسطقسات في الاحراق بالأقل والأكثر ووجود الاسطقسات كلها محرقة كذب وباطل. ودليل آخر وهو أنه لو كانت الأجسام انما تحرق بما هي ذوات زوايا غير منقسمة لوجب أن تكون الأجسام المساحية محرقة لأن فيها على رأيهم زاوية غير منقسمة. والا فليرونا لم كانت الأجسام الطبيعية تحرق والأجسام التعاليمية لا تحرق فإنهم لم يقدروا أن يأتوا في ذلك بفرق بين. ودليل آخر أيضا وهو أنه لو كانت النار مخروطة أو فلكية لوجب أن يكون الشيء الذي تفرقه وتفصله إلى أجزاء نارية يفصله إلى مخروطات أو أفلاك وذلك غير موجود وشنيع. وذلك أنه إن كان الأمر هكذا كان الشكل بما هو شكل انما ينفصل وينقسم إلى أمثال شكله، فيجب من ذلك أن يكون السكين كل ما نقطعه إنما نقطعه إلى سكاكين والمنشار كل ما ننشره إنما نفصله إلى مناشير وذلك مستحيل: قال: ومن العجب أنهم يشكلون النار بهذا الشكل من قبل انها تفصل وتفرق وهي تجمع أكثر مما تفصل وتفرق، وذلك انما شأنها أن تجمع الأشياء المتجانسة وتفرق غير المتجانسة، ففعلها بالذات إنما هو الجمع وفعلها بالعرض هو التفريق. فإن كان التفريق سببه الشكل فما هو سبب الجمع الذي هو لها بالذات فانه كان واجبا عليهم أن يأتوا في ذلك بقول مقنع. وهو يلزمهم توبيخا آخر وذلك أنه إذا صار الحار ضدا للبارد والرطب لليابس، وكانت جواهر هذه في الأشكال وفصولها، وجب أن يكون شكل الحار يضاد شكل البارد وليس يضاد شكل شكله. قال: ولذلك لم يعرض واحد منهم لتشكيل البارد، وقد كان يلحق عليهم اما ان يصيروا لجميع الكيفيات أشكالا واما ألا يصيروا لواحد منها شكلا البتة. قال: ومنهم من اجتهد أن يقول في هذه القوة التي هي البرودة، يشير بذلك إلى أفلاطون، فقال فيها ضد ما هي عليه. وذلك أنه إذا قال أن البارد هو الشيء العظيم الجزء، لأنه لا يغوص وينفذ في المجاري لكن يلجلج ويسدد. وإذا كان ذلك كذلك وجب أن تكون النار هي الشيء الصغير الجزء لأنه يغوص وينفذ في المجاري لموضع لطافته وصغره. وإذا كانت طبائع البارد والحار في هذين المعنيين كان التضاد الموجود منهما إنما هو من قبل الصغر والكبر لا من قبل الشكل، كما راموا بهذا القول. وذلك أنه ان كانت الأجزاء الكبار والصغار شكلها واحد كأنك قلت مخروطا أو فلكا، وجب أن يكون المخروط الأكبر ليس بنار والأصغر نارا، فلا يكون الشكل علة الاحراق كما قالوا. فقد تبين من هذا القول أنه ليست فصول الاسطقسات في الشكل ولا لها بالجملة أشكال تخصها. وإذا كانت فصولها إنما هي انفعالاتها، مثل الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة، وفي أفعالها مثل الاحراق والتسخين والتبريد والترطيب، وفي قواها الجوهرية مثل الخفة والثقل، فقد نرى أنا متى أحطنا علما بهذه الأشياء منها انا عرفنا كل واحد من الاسطقسات بما يخصه، فاما الثقل والخفة فنقول فيها في المقالة التي تتلو هذه المقالة، واما سائر الفصول الاخر فنقول فيها في كتاب الكون والفساد. كملت المقالة الثالثة بعون الله تعالى [43 ظ: ع ]
صفحة ٣٣٧