ولما تبين له أن في الأجسام المركبة اسطقسات أخذ يطلب أولا من أمرها هل هي متناهية أم غير متناهية. ولما كان الذين يقولون أنها غير متناهية فرقتين: إحداهما فرقة انكساغورش الذين كانوا يقولون أن الاسطقسات هي المتشابهة الأجزاء، وأنها غير متناهية. والفرقة الثانية فرقة ديمقريطس ولوقش الذين كانوا يقولون إن الأسطقسات هي أجزاء لا تتجزأ، وأنها أيضا غير متناهية. ابتدأ أولا بالرد على انكساغورش فقال: إن هذه الفرقة يلزمها الخطأ من وجهين: احدهما وضعهم ان جميع الأجسام اسطقسات. والوجه الثاني وضعهم إياها غير متناهية. أما خطأهم في وضعهم الأجزاء المتشابهة هي الاسطقسات لجميع الأجسام فبين، لأنه يظهر بالحس من أمر هذه المتشابهة انها تنحل إلى غيرها مثل انحلال اللحم والعظم إلى النار والأرض والهواء والماء، وقد قلنا ان الأسطقس لا ينحل إلى شيء آخر، فاذن هذه الأجسام، أعني المتشابهة الأجزاء، ليست اسطقسات. وأما خطأهم في وضعهم إياها غير متناهية فإنه يظهر [ 37 ظ : ع ] من أنه ليس هاهنا سبب يضطرهم إلى وضعها غير متناهية، وذلك أن كل ما نطلب أسبابه من جميع ما يظهر < ما يراد > في المتكونات وفي لواحقها يمكن أن يعطي أسباب ذلك الشيء من جهة ما هي متناهية من غير ضرورة تضطره إلى وضعها غير متناهية، شبه ما عرض لانبادقليس، فإن هذا الرجل يرى < أن > الاسطقسات متناهية وهو، مع هذا، يأتي من قبلها بالعلل والأسباب التي تطلب في المتكونات على أتم الوجوه وأكملها. وليس لهؤلاء أن يقولوا انه لما كانت الكائنات غير متناهية وجب أن تكون الاسطقسات غير متناهية، وذلك أنهم يقرون أنه قد تكون أشياء من أشياء هي غيرها بالنوع، مثل انه قد يكون العظم من غير عظم والوجه من غير وجه. وإذا كان ذلك كذلك فليس يمتنع أن تكون أشياء غير متناهية الفصول من أشياء متناهية الفصول، ولذلك كان الأخلق بهم أن يضعوا المبادئ متناهية من أن يضعوها غير متناهية، وبالجملة فقد يجب أن يكون الحال في مبادئ هذه الصناعة النظرية كالحال في مبادئ سائر الصنائع النظرية، فكما أن صاحب علم التعاليم يضع المبادئ في صناعته من الصنائع التعاليمية متناهية، ثم يروم أن يوفي لها جميع ما يطلب سببه في تلك الصناعة، كذلك يجب أن يكون الأمر في هذه الصناعة. وقد يظهر أنه ليس يمكن أن تكون المتشابهة الأجزاء متناهية مما نقوله: وذلك أن فصول الأجسام المتشابهة الأجزاء هي المحسوسات، وقد تبين في كتاب النفس أن المحسوسات متناهية، إذ كانت محصورة في متضادات متناهية وإذا كان ذلك كذلك ووضعنا أن الاسطقسات هي المتشابهة الأجزاء فالواجب أن تكون متناهية. ولما فرغ من الرد على انكساغورش، وبالجملة على من يقول ان الاسطقسات هي المتشابهة الأجزاء غير المتناهية، عاد إلى ابطال الرأي الثاني وهو رأي ديمقريطس ولوقش فقال: إن هؤلاء يقولون ان الاسطقسات هي أجسام غير متغيرة وغير متناهية. قالوا وكذلك ليس يمكن أن يتولد من الواحد منها كثير، إذ كون الواحد منها غير منقسم، ولا يمكن أيضا من الكثير منها أن يكون واحدا بالحقيقة، أعني متصلا، وذلك أن الاعظام انما تتولد عندهم من هذه الأجزاء على جهة الاجتماع والاتفاق، وكذلك كانوا يرون أنه واجب أن يكون في الأجسام المركبة خلاء منبث. وهو يقول أولا أن هذه الآراء هي أشبه برأي آل فيتاغورش الذين يكونون جميع الأشياء من العدد، وذلك أن هؤلاء ان لم يصرحوا بهذا الاعتقاد في الموجودات فهو لازم ضرورة لهم، وذلك أنه لا فرق بين من يضع أن الأجسام مؤلفة من وحدات لا تنقسم وبين من يضعها من أجرام لا تنقسم في أن الأجسام على كلا الرأيين مركبة من أشياء لا تنقسم، وكذلك يلزم هؤلاء أن تكون الأشياء كلها منفصلة وأن ترتفع طبيعة الكم المتصلة، كما يلزم ذلك الذين يقولون أن جميع الموجودات مركبة من الاعراض. ولما قرر شبه هذين الرأيين وأن اللازم عنهما واحد أتى بالشبهة التي قادتهم إلى القول بأن هذه الأجسام غير المتجزئة هي غير متناهية، وقال أن هؤلاء القوم لأجل أنهم كانوا يعتقدون أن هذه الأجسام غير المتجزئة إنما يخالف بعضها بعضا بالاشكال، وكانت الأشكال عندهم غير متناهية، وجب عندهم أن تكون هذه الاجرام غير متناهية. قال: وهؤلاء القوم مع أنهم يضعون أن فصول هذه المبادئ غير المتجزئة بالأشكال ليس يقولون ما شكل كل واحد منها ولا يضعون لواحد من البسائط الأربعة شكلا خاصا، إذ كانوا يرون أن هذه البسائط الأربعة مركبة من تلك الأجزاء، كما كان يضع لها كثير من القدماء، الا النار فقط، فإنهم كانوا يرون أن الشكل الفلكي خاص بها، لكن لا من جهة أنها مركبة من اسطقسات ذوات أشكال. وكذلك كانوا يرون الأجزاء التي منها تكون الماء مثلا أشكالا غير الأشكال التي للأجزاء التي منها تكونت الأرض، بل انما كانوا يفرقون بين هذه الأجسام البسائط الأربعة بأن بعضها متكون من أجزاء كبار وبعضها من أجزاء صغار، وإنما تتكون هذه الأجسام [ 38 و: ع ] الأربعة عندهم بعضها من بعض بأن ينفصل من الجسم الذي منه الكون الأجزاء التي تكون ذلك الجسم، إن كانت كبارا فكبارا وإن كانت صغارا فصغارا، وتبقى الأجزاء التي تكون الجسم المتكون. مثال ذلك أن الأجزاء الكبار <التي هي> خاصة بالأرض والصغار خاصة بالماء، فإذا انفصلت من الأرض الأجزاء الكبار وبقيت الصغار عادت الأرض ماء، ومتى انفصلت من الماء الأجزاء الصغار وبقيت الكبار عاد الماء أرضا. ولما قرر قول هؤلاء في هذه الاجرام غير المتجزئة، والشبهة التي قادتهم إلى القول بأنها غير متناهية، وجهة اعتقادهم في فصول الأجسام البسائط الأربعة من جهة ما هي مركبة عندهم من هذه الأجزاء غير المنقسمة التي هي اسطقسات لها عندهم، شرع في المحالات اللازمة لهم فقال: إن أول ما يعرض لهم من الخطأ الخطأ الذي يعرض لانكساغورش، وهو أن تكون فصول المحسوسات غير متناهية، وذلك أنه ان كانت فصول الأجسام متناهية فواجب أن تكون فصول هذه الأوائل متناهية. فهذا هو الخطأ المشترك الذي يعرض لهذين الرجلين. وقد يعرض لهؤلاء خاصة أن يبطلوا كثيرا من المبادئ التعاليمية، وكثيرا من معاني المحسوسات في هذا العلم، أعني علم الطباع. اما مبادئ التعاليم التي يعود هذا القول بالابطال عليها فكثيرة، مثل وجود القسمة إلى غير نهاية في الاعظام التي يضعها المهندس أحد أصوله المتسلمة، مثل أن الخط فهو ينقسم بنصفين. وقد فرغ من تقرير هذه الأشياء اللازمة لهذا القول في السماع الطبيعي من هذه الجهة، وسنبين بعد المحالات التي تعرض له من جهة هذا العلم. وذلك أنه على هذا القول ليس يمكن أن يوجد تغير ولا استحالة لا في الكيف ولا في الجوهر ولا في النمو والاضمحلال. قال: وما يضعونه من مخالفة الماء والهواء ومخالفة الأربع بسائط بعضها لبعض لما كان من صغر الأشياء وكبرها التي منها ركبت بزعمهم، ومن كون انفصال هذه الأجزاء بعضها من بعض وانتفاض الصغار من الكبار يعود ببطلان قولهم، وذلك أنه ان كانت اسطقسات الماء والهواء مثلا أجزاء لا تتجزأ، وكان اختلاف الماء والهواء الحال صغر الاجزاء وكبرها، وكان كون أحدهما من الآخر انما يكون بأن تنتفض الأجزاء الصغار من الكبار، وجب ضرورة أن تكون هذه الأجزاء منقسمة، وذلك أن فرض حدها أجزاء غير منقسمة وفرضها كبارا وصغارا يناقض نفسه، فضلا عن فرضها بعضها متكونة عن بعض اما على جهة الاستحالة واما على جهة الانتفاض. وما يعتذر به عنهم تامسطيوس بان يقول انه يشبه أن يقال على رأيهم أن الماء يتكون مثلا من الهواء لا بأن تتميز الأجزاء الصغرى من الكبرى بأن يخرج بعضها من بعض وتنتفض، بل بان تفترق فقط، مثل ما نقول أن ... انما يكون إذا تميزت الاجزاء اللطيفة من ير من الأجزاء الغليظة، فلا معنى لاعتذاره عنهم في ذلك. فان ذلك يلزمهم إذا فرض كون بعضها من بعض بالذات، ولو فرضت على الوجه الآخر للزمه محال آخر ليس بالدون، وذلك أن الأجزاء الصغار التي تفترق، إذ كانت غير متناهية، لو تميز منها ما شاء الله أن يتميز لبقي الباقي منها غير متناه، فلا يعود الهواء ماء أبدا، وذلك كله محال. قال: ويلزمهم، من جهة أنهم يضعون فصول هذه الأجزاء بالأشكال، أن تكون مفارقة وذلك أن الأشكال متناهية، إذ كان كل شكل اما أن يكون مستقيم الخطوط أو مستديرها، وكل أحد من هذين إما أن يكون مسطحا واما أن يكون مجسما، فاما الأشكال المسطحة [ فإنها ] تنحل إلى المثلث وأما الأشكال المجسمة [ فانها ] تنحل إلى المخاريط، وذلك ظاهر في الكرة وغيرها من الأشكال المجسمة المستقيمة الخطوط، وذلك أن الكرة تنقسم إلى ثمانية مخاريط، والمكعب إلى ستة مخاريط، وكذلك واحد واحد من الأشكال الخمسة المجسمة المذكورة في كتاب أوقلديس، وإذ كانت الأشكال تنحل إلى أشكال متناهية كانت متناهية، وإذا كانت متناهية [ 38 ظ: ع ] فالأجسام ذوات الأشكال متناهية ضرورة من جهة ما ⎤فصولها⎡ ( متناهية ) بالشكل. واما قول تامسطيوس ان هذا انما يلزم في الاشكال المنتظمة، أعني المتساوية الاضلاع والزوايا، واما الأشكال غير المنتظمة فإنها غير متناهية، ولهم أن يزعموا أن أشكال هذه الأجزاء هي من غير المنتظمة، فقول لا معنى له، لأنه ان كانت هذه الأجزاء إنما لها أشكال بما هي أجسام طبيعية، أعني أن تكون تتنزل منها منزلة الفصول الذاتية من جهة ما هي اسطقسات، فواجب أن تكون أشكالها أشكالا منتظمة. ولذلك لما اعتقد كثير من القدماء في الاسطقسات الأربعة انها انما هي اسطقسات بما هي ذوات أشكال ادعوا لها اشكالا منتظمة، وهي الخمسة المذكورة في كتاب أوقليدس. قال: واما [ أن ] الأجسام البسيطة يجب أن تكون متناهية فذلك يظهر من أنه واجب ان يكون لكل جسم بسيط حركة بسيطة، ولكل حركة بسيطة جسم بسيط، وإذا كانت الحركة البسيطة بهذه الصفة، وكانت الحركة متناهية، فالأجسام البسيطة ضرورة متناهية، فاما ان الحركات متناهية فذلك يظهر من أن الأماكن متناهية، وقد سلف القول في هذا في أول هذا الكتاب.
المطلب الثالث
صفحة ٣١٣