فنودي ليحضر إلى أبواب أمير المؤمنين من كان يلقي الخبز كل يوم في دجلة ليكافئه • فحضر رجل وقال أنا كنت ألقى الخبز فقال له الخليفة وما علامة ذلك قال اسمي • مكتوب على كل رغيف وهو محمد بن الحسن الإسكاف فلما ظهر صدقه قال له الخليفة ما حملك على ذلك قال سمعت من الأكابر يقولون ازرع الجميل والق في البحر فلا بد أن يثمر يوما فأردت تجربة هذا المثل فقال له الخليفة لا جرم أثمر زرعك ثم أمر له بخمس ضياع من قرى بغداد تكون له رزقة ولأولاده من بعده • قال راوي هذه الحكاية إن الخير لا يبور أبدا ولكن اين من يتنبه لهذه اللطائف الا من أيقظه الله تعالى كمولانا السلطان خلد الله تعالى أيامه الزاهرة • وجمع له بين خيري الدنيا والأخرة • قال لي الجناب القضاي الفرسي السخاوي أحد بطائن الخير والناصحين لهذه الدولة الشريفة قلت يوما لمولانا السلطان خلد الله أيامه وقد شاهدت عميم صدقاته • وفيض هباته • ومنحه المال لكل أحد بما لا مزيد عليه • يا مولانا السلطان إن المال يدخر لكائنة تقع • أو لحادث يكون • ولما يحتاج إليه من وقت ضيق أو شدة ومولانا السلطان وإن كنت همته الشريفة لا تدرك • وكرمه وسخاؤه لا يحصر • لو ادخر شيئا من هذه الأموال • وأبقى على بعض شيء منها • فربما يقع الاحتياج إليه فما كان جواب مولانا السلطان إلا إن قال أو هذا الذي أفعله بالمال من الإعطاء والهبات هو جودا ويقال له كرم وسخاء أنت أرني مالا وانظر كيف يكون الكرم والنوال والسخاء بالأموال • قال فأسكتني وعلمت أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهذا من باب تلقي المخاطب • بغير ما يترقب • كقوله تعالى يسئلونك ماذا ينفقون قل ما انفقتم من خير فللوالدين والأقربين الآية • كما قيل شعر • أنت تشتكي عندي مزاولة القرى • وقد رأت الضيفان ينحون منزلي •
46ظ
فقلت كأني ما سمعت كلامها • هم الضيف جدي في قراهم وعجلي • وكان مولانا السلطان أظله الله تعالى تحت سحاب نعمه • وروي حدائق الفضل من سيول كرمه • هو الذي أنشد شعر • ملأت يدي من الدنيا مرارا • فما طمع العواذل في اقتصادي • ولا وجبت على زكاة مال • وهل تجب الزكاة على الجواد • فائدة ادخار الأموال ورفعها إلى بيت الأموال والخزائن إنما هو طريق ملوك الطوائف والهند والصين والسند وملك الروم • وأما الملوك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين فلم يكن لهم بيت مال بل كانوا كلما حصل لهم مال من الغنائم والفتوحات وغيرها فرقوه على جندهم ورعاياهم • وكانت الرعايا هم الأجناد والحماة وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يجوع نفسه الشريفة أكثر من ما كان يشبعها لا لأنه ما كان يجد الدنيا لكن بهوانها وذلتها وقلتها عنده ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في صاع من شعير عند يهودي • وكذلك الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان • وعلي • وغيرهم الحسن • وعمر بن عبد العزيز • رضي الله عنهم • والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح البلاد كانت تجيء إليه الأموال • فيفرقها ليومها • وكانت توضع في المسجد على الانطاع فيغرقها • وكذلك المغانم ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر • ولم يكن له صلى الله عليه وسلم بيت مال ولا للخلفاء الراشدين من بعده • وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجد • وروى أبو جاود في السنن أنه عليه الصلاة والسلام صلى العشاء ودخل حجرته وخرج مسرعا وبيده خريقة فيها ذهب فقسمه ثم قال ما ظن آل محمد لو أدركه الموت وهذا عنده • الآل مفخم المتعظم ولو وردت ما ظن آل بالإضافة لكان له وجه وما استفهامية من الوجهين فائدة
47و
أخرى تفريق المال في وجوهه أهون وأيسر من جمعه من أي جهة كانت مع عدم المبالاة لأن في تحصيله أيضا على هذا الوجه تحمل أوزار وآثام ولا بد أن الله تعالى مسائل عبده عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه فيكون أقل الدرج الحساب • ولولا الحساب خاب الاكتساب • وهل سمع في هذا العصر أو قريبا منه أن أحدا من الملوك جاءه مال جزيل من جهة من الجهات فرده وخاف حسابه وعقابه • لكن مولانا السلطان نصر الله الإسلام بوجوده • وغمر المسلمين بصداقته وجوده • كان من بعض ورعه وتعففه عن الشبهات أن رد على الفرنج أكثر من ثلثمائة ألف أفلودي جاءته وورد عليه وردها صفوا • وذلك ما ذكر لي بحضرته الشريفة زاد الله شرفها • وأعلى في قصر الدوام غرفها • الجناب العالي القضائي الولي الصفطي الشافعي عظم الله تعالى شأنه أنه لما من الله تعالى به على الإسلام والمسلمين • وأضاء بمشكاة طلعته الشريفة معالم الدنيا والدين • أخذ في هدم ما بنى من المظالم • ونقض ما أسس على الجود والمأثم • والخلاص من ما تحمله من قبله من المغارم • فمن ذلك أن الملك الأشرف أبا النصر برسبآي تغمده الله تعالى برحمته كان قد جمع أكابر الفرنج المستأمنين بإسكندرية ومصر والمتسببين بالممالك الشريفة الإسلامية وحجر عليهم أن لا يتجروا ببلاد الإسلام • وشوشوا عليهم بهذا السبب وغيره • ثم ألت القضية إلى أن ألزموا بمبلغ ثلثمائة ألف أفلودي وكسور في بطن ما يفسح لهم من التجارة والتسبب ببلاد الإسلام وكتب بذلك عليهم شهادات بشهود عدول وأثبت ذلك على القضاة وكان مستند من تعاطي هذه الأمور أن هذا مال ينفع الله به المسلمين • أو بنصرة جيوش الموحدين • فليدخر لما يحدث من جر منفعة أو دفع مضرة • فلما أشرقت الدنيا بأنوار الدولة الشريفة الملكية الظاهرية وكان علمها الشريف محيطا بأن ذلك كتب بطريق القسر والجبر والإكراه والقهر برزت المراسيم الشريفة
47ظ
بإبطال ما كتب من ذلك لكونه على غير الأساس الشرعي وقال مولانا السلطان نصره الله وأيده وثبت ملكه وخلده • إن كان الله تعالى قدر أن يمهدها قد أمرنا لفوز الدين • وينصرنا على الأعداء المتمردين • فلا حاجة بنا إلى هذا المال الخبيث • وإن كانت والعياذ بالله الأخرى فلا يفيدنا مال ولا رجال • فعلى كل حال لا تذمم مال أهل الذمة • ثم دعا من كتب ذلك عليه ودفع مكاتبته إليه • فلما رأت الفرنج إلى هذه القضية • سارعت إلى تهيئته شيء من الهدية فقدموا شيئا يساوي عشرة آلاف دينار وأكثر فلم يقبل مولانا السلطان خلد الله ملكه من ذلك ما يساوي الدرهم الفرد • ورد ذلك كله عليهم • وهذا الورع لا يكاد يفعله أحد إلا إن كان الجنيد البغدادي • أو إبراهيم بن أدهم • رضي الله عنمها • أو من يداينهما في زهدهما • ولو اتفق أن أحدا استفتى في هذه القضية أحد من العلماء بحل تناول هذا المال واستنبط له دليلا وأقل الأشياء كان يفتي بحل تناول الهدية وهذه نكتة من تورع مولانا السلطان في ادخار المال رغبة ليس له هذا أيضا رغبة في تحصيله من أي جهة كانت بل يتحرى جهات حصوله ويتوقى الشبه • وكانت الملوك السالفة • والسلاطين الماضية • من يد يد يده قد تعودوا أخذ شيء من القضاء في مقابلة ما يولونهم وظيفة القضاء واستمر ذلك عادة وديدنا حتى كأنه صار سنة ورسما معهودا • وإن قوله مخل بقواعد السياسة • واعتاد ذلك من يسعى في طلب القضاة حتى صاروا يتغالون في ذلك • ويتزايدون في رفع الأموال ولا يبالون بكلام الناس • وهذه البدعة السيئة كانت إحدى الحجج التي اعتل بها تمور على ملوك الشام وسلاطينهم • والسبب الباعث له على التوجه إلى بلاد الشام وكان في بعض مراسلاته إليهم أنهم يبيعون وظيفة القضاء ويرتشون على تولية المناصب الدينية ولا يلتفتون إلى من يستحقها بل يعطونها لمن دفع إليهم الذهب سواء كان عالما دينا أو فاسقا جاهلا • ويصيب أيضا العلماء والفقهاء لكونهم لا يتعففون عن ذلك ويقولون
48و
الوظائف بالرشي • ويذلون أنفسهم والعلم الذي من حقه أن يكرم ويرفع محله ويقول وإذا دفعوا في مقابلة وظيفة القضاء والتحكم في دماء الناس وأموالهم مالا فمن أين يأخذون عوضه إلا من أموال اليتامى • والارتشاء على الأحكام • والاستيلاء على الوظائف وقطع أرزاق المستحقين من الفقهاء • وطلبة العلم • والاستطالة على الناس بكل ما تصل إليه يدهم • وبويع المظالم على بلاد الله تعالى وعباده • وإذا فعل ذلك في المنصب الذي هو أعلا مناصب الدين • ووظيفة الأنبياء والمرسلين • وهو القضاء الذي به يميز الحلال عن الحرام • ملوك الناس وعلما وهم الذين هم أعلا الناس فلا عتب على العامة إذا أكل بعضهم بعضا • ثم أن تيمور جعل هذه ذريعة إلى توجهه على بلاد الشام • وإن جميع ملوك المشرق والمغرب ينتقمون على ملوك الشام • وقصر هذه الخصلة الوبيلة • فأما بن عثمان فإن عادتهم أنهم كل سنة يرسلون إلى سائر ممالكهم ويتفحصون عن أمور القضاة بحيث أن قضاتهم ينادون في كل مدينة كل من ظلم من القاضي أو قطع القاضي ممانعته فعليه بالملك العادل ابن عثمان • وإذا ولي بن عثمان قاضيا يقول له على شرط أنه إن ظهر عليك أنك ارتشيت على حكم الله تعالى أو حكمت لغرض بغير الحق أطعمتك لكلابي • إلى أن من الله سبحانه وتعالى على الإسلام والمسلمين بولاية مولانا السلطان جعلها الله ولاية دائمة وبإحياء الشريعة المطهرة قائمة • فأبطل هذه العادة البشعة • وأمات هذه البدعة الشنيعة • وصار أكره الخلق إليه من يدفع مالا في مقابلة ولاية القضاء • وجعل يرسم لمن يتق به ويقول كل من رأيتموه صالحا لوظيفة من الوظائف وخصوصا وظيفة القضاء إلى مصر أعلا مناصب الدين ارفعوا أمره إلينا • ثم أنه في شهور سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة قدم المرحوم القائي علاي16 الدين بن خطيب الناصرية من حلب وسعى أن يتولى وظيفة القضاء بها وبذل في مقابلة ذلك نحوا من ألفي دينار فاستشاطت الخواطر الشريفة بسبب ذلك فقيل يا مولانا
48ظ
صفحة غير معروفة