التقدم أينما حدث في عالمنا المعاصر خطواته المحتومة هي: علوم فتصنيع فتهذيب للتقنيات يترك للآلة أن تسير الآلة، وحتى إن كانت زراعة فهي زراعة تقوم عليها الآلات، لم يعد التقدم مرهونا «بالعلماء» الفقهاء الذين يقصرون العلم على شروح على النصوص، ثم على حواش تلحق بالشروح، أو الذين يجعلون الفقه «فقها» بما هو مسطور في الكتب، مهما كانت لهذه الكتب مكانتها. تلك ثقافة «الكلمة»، ذلك علم «بالكلام»، وفقه بالقراءة والكتابة، تلك جميعها بضاعة من أجاد أن يقرأ وقد يحسن أن ينضد اللفظ في عقود وموشحات ومطرزات، لكن لا تلك الثقافة ولا ذلكما العلم والفقه بمدير عجلات المصانع، ولا برافع لطائرة جناحا، ودع عنك أن يوجه تقنيات الحرب في ساحات القتال.
أحسب أن سلسلة التحولات «المحتومة» عند ماركس والماركسيين هي كما يلي: رءوس أموال تتراكم، فمصانع تقام بتلك الأموال تعاونها سواعد الرجال ومهاراتهم ، فثورة من هؤلاء الرجال العاملين؛ إذ يرون أنفسهم وجهودهم في ناحية، وثمرات عملهم في ناحية أخرى، فاشتراكية تعطي ملكية أدوات الإنتاج للعاملين، فيكون المالك عندئذ عاملا، والعامل مالكا، فهو تسلسل يجعل التصنيع سابقا والاشتراكية نتيجة لاحقة، لكن ما هكذا جاء ترتيب الأمور؛ إذ رأينا - في جميع الحالات بغير استثناء - أن تجيء الثورة الاشتراكية في بلد ما، من روسيا إلى كافة البلدان التي حررت نفسها في آسيا وإفريقيا، ثم يهم الناس بالعلمنة والتصنيع (أريد بالعلمنة أن يتحول نوع المعرفة السائدة من دراسة للنصوص الأدبية التاريخية إلى إجراء لتجارب العلم).
فالتحول في عصرنا هو نحو أن يكون الناس ذوي علم وصناعة، وسواء بعد ذلك أكانت الخطوة المؤدية إلى هذه النتيجة نظاما فرديا أو نظاما اشتراكيا، فها هي ذي الولايات المتحدة في طرف الفردية، والروسيا في الطرف المقابل، طرف الاشتراكية، لكن كلتيهما سواء في العلمنة والتصنيع؛ وإذن فتلك هي العلامة التي لا علامة سواها لأي بلد يقال إنه قد تحول.
وأعتقد أن الماركسية قد أخطأت خطأ آخر في تنبئها بمجرى الحوادث، فخطأ أول ذكرناه هو ظنها بأن التصنيع أولا ثم الاشتراكية تجيء بعد ذلك لزوما، وقد رأينا العكس هو الصحيح؛ إذ ظهرت اشتراكيات كثيرة في بلدان كثيرة، ثم أعقبتها حركات التصنيع. أما الخطأ الثاني فهو في حسبانها أن التحول «محتوم» أراده الناس أم لم يريدوه. والصحيح - كما نراه في تواضع له ما يسوغه في ضآلة علمنا بأطراف الموضوع وتفصيلاته - هو أن هذا التحول مرهون بأن يختاره الناس لأنفسهم ويريدوه ليعملوا على حدوثه.
يا ليته كان أمرا محتوما كما ظنوا؛ إذن لاستراحت الأمة العربية في تواكلها التقليدي وتراخيها بعد طول مجد وتاريخ. نعم، يا ليته تحول محتوم، لنضمن فعل الإرادة الكونية في أن تنقلنا من «دروشة» النصوص وشروحها وحواشيها، إلى العلم ومخابيره ومعامله، ثم إلى التصنيع بكل تقنياته، لكنه - وا أسفاه - مرهون بإرادة الناس، فما لم نعمل على استحداثه لبثنا حين نحن: نزرع ونقلع - كما يقولون - ثم نجلس تحت ظلال التوت والجميز، نسمع شعرا وزجلا ومواويل، أو نتحضر قليلا فنجلس أمام المذياع - صوتا وصورة - لننصت إلى مواعظ الواعظين، أن نتمسك بما نحن فيه منذ قرون، ووالله لولا خشيتي سوء التأويل، لعارضت شاعرنا أحمد شوقي في قوله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
لأقول له: إنما الأمم في يومنا التقنيات ما اطردت وتغلغلت، فإن همو انعدمت علومهم وصناعتهم وتقنياتهم تخلفوا إلى حيث لا أمل ولا رجاء، اللهم إلا إذا فهمنا الأخلاق بمعنى يجعل منها أن أعرف كيف أضغط على الأزرار ومتى.
لا، لم أعد أشك لحظة في أن هذا هو الطريق، طريق التحول من تخلف إلى عصرية، وهو أن ننتقل من «معرفة» قوامها الكلام، إلى «معرفة» قوامها الآلة التي تصنع. ولقد وضعت كلمة «المعرفة» بين حواصر، لألفت نظر القارئ إلى هذه الكلمة العجيبة، فهي هي موضع الزلل والعثار؛ لأننا نطلقها على ضروب كثيرة من اللغو، ولو استخدمناها استخداما دالا، لقصرناها على المعرفة العلمية العملية. وعلى هذا الأساس، يكون الانتقال المنشود هو حركة من حالة اللامعرفة إلى حالة المعرفة، من حالة اقتصر مثقفوها على «فك الخط» - كما يقال - أعني أنهم اقتصروا على القدرة على القراءة والكتابة - وهل تزيد دراسة النصوص على إلمام بالقراءة؟ - إلى حالة يكون المثقفون فيها هم أنفسهم المصرفون للآلات، ألا فلنعلم جيدا أن الآلة ليست كتلة من الحديد، وإنما هي علم مجسد، ومهارة مركزة، إنها هي الحضارة وهي الثقافة.
واعجبا لقوم - وما أكثرهم في عصرنا - يجعلون من «الثقافة» كيانا قائما برأسه، كأنه ثوب أو مظلة، بحيث يستطيع من شاء أن يستعير الثوب أو يعيره، ويشتري المظلة أو يبيعها، دون أن يتأثر شيء في مجرى الحياة بتلك الإعارة والاستعارة، أو بهذا الشراء والبيع. وا عجبا لقوم - وأعترف أنني ما زلت واحدا منهم للأسف الشديد - ينظرون إلى الثقافة والمثقفين كأنها وكأنهم مهنة ومحترفوها، فقد تسأل أحيانا: ماذا يصنع فلان؟ فيقال لك: إنه مشتغل بالثقافة! على غرار ما يشتغل الناس بغزل الصوف ونسج القماش.
صفحة غير معروفة