فأنت ترى من ذلك أن المعنى الذي قصدوا إليه «بالحرية» هو حرية الإنسان في اختياره لأفعاله، وهي حرية تحدد علاقة الإنسان بربه، ولا شأن لها بالروابط التي تصل بين الإنسان والإنسان في هذه الدنيا؛ فهي لا تمس علاقة الناس بالحكومة، هل هم أحرار في إقامتها وفي عزلها، ولا تمس صور التبادل التجاري والاقتصادي، بل ليست هي بذات الشأن في علاقة الوالد بولده ولا الزوج بزوجه، إلا من جهة أن الأفعال التي يختارها الإنسان بإرادته الحرة في كل هذه الميادين، تضعه موضع الحساب يوم الحساب.
وقد انشعبت المعتزلة فرقا كثيرة، وكان موضوع الإرادة الحرة في اختيار الفعل بين الموضوعات التي أدلت كل فرقة منها برأيها فيها: فالواصلية - وهم أتباع واصل بن عطاء - قالوا «بالقدر» ومعناه قدرة الإنسان على خلق أفعاله ليصبح مسئولا عنها؛ إذ لا يجوز في رأيها أن يحتم الله على عباده شيئا ثم يجازيهم عليه.
وأما «النظامية» - وهم أتباع إبراهيم بن سيار النظام - فقد زادوا على القول بقدرة الإنسان على اختياره لأفعاله، خيرها وشرها، قولهم إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، فليست هي مقدورة له، مخالفين بذلك الآخرين الذين قضوا بأنه قادر عليها لكنه لا يفعلها. وكان من إضافات النظام كذلك أن حرية الإنسان في فعله محدودة بقدرته، وأما ما جاوز قدرته فهي من فعل الله، مثال ذلك أن تلقي بحجر فتكون حركته نتيجة قدرتك، لكن إذا بلغت قوة الدفع غايتها، سقط الحجر بحكم طبيعته، أي بفعل الله لأنه هو الذي أنشأ في الحجر طبيعته.
وقصدت جماعة الجهمية لمعارضة المعتزلة في قولهم بحرية الإنسان في خلقه لأفعاله، إذ الإنسان عند الجهمية - نسبة إلى جهم بن صفوان - لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبر في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على غرار ما يخلق في سائر الجمادات، فإذا نسبنا إلى الإنسان أفعاله، كان ذلك على سبيل المجاز، كما تنسب إلى الجمادات أفعالها، حين يقال - مثلا - أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وأما الثواب والعقاب فهما جبر من الله.
وبين هذين الطرفين - المعتزلة والجهمية - جماعة وسط، هي جماعة الأشعرية - أصحاب أبي الحسن الأشعري - فقد فصلت بين الإرادة الإنسانية والفعل الذي يتبعها، فعندما يريد الإنسان فعلا معينا إرادة مخلصة يخلق الله له الفعل؛ وبهذا يكون الفعل مخلوقا لله، ولكنه مخلوق له عند إرادة الإنسان، لا بإرادة الإنسان.
ذلك هو مجال القول عندهم في موضوع الحرية وما يحيط بها من قدرة وفعل ونتائج تترتب على الفعل، وهكذا، ولست أعرف مفكرا عربيا واحدا تصدى للبحث في الحرية الإنسانية بمعانيها التي هي موضوعات البحث اليوم، ولقد كان مألوفا أن يحدث التقابل بين «الحر» و«العبد»، فإذا وجدنا كلاما عن الإنسان الحر، كان ذلك بالقياس إلى الرقيق، فهو حر بمعنى أنه غير مملوك لأحد، وأما حرية هذا الحر ما مداها في أوضاع الحياة الفكرية والعملية، فلا أظن أنها ظفرت بالنظر؛ ولذلك لا أذكر أن الحرية قرنت إلى «الفكر»، ولا كانت حرية الفكر مشكلة تثار، الذي أثير دائما هو موضوع الحرية «الفعل» على النحو الذي بيناه، وقد يكون ذلك لأن مصدر التشريع - من حيث معيار السلوك - نزل وحيا أو ورد سنة عن رسول الله، فكانت مهمة الفكر عندئذ هي تحليل النص، لا خلق الفكرة وابتكارها فيما يختص بالنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في عصرنا هذا الحديث، فلم تكن حرية الفكرة ذات موضوع.
أفيجوز بعد هذا كله أن يسمع سامع عن العصر الراهن أنه منشغل بفكرة الحرية الإنسانية وتحليلها وتحديدها، فيقفز من فوره غاضبا ليقول: هذه فكرة فرغنا نحن منها، ووضعنا لها أصولها وفروعها منذ كذا قرنا من الزمان. إني لأقولها صريحة واضحة: إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإما أن نرفضه ونوصد دونه الأبواب لنعيش تراثنا ... نحن في ذلك أحرار، لكننا لا نملك الحرية في أن نوحد بين الفكرين ... (ب ) المبادئ: حقائق هي أم فروض؟
من الكلمات ما قد امتزج بمشاعر الناس امتزاجا، بحيث باتت تلك الكلمات وكأنما هي المقدسات، التي لا يجوز لكاتب أن يمسها إلا على حذر شديد، فليست هي عند الناس بألفاظ كسائر الألفاظ يستطيع الباحث أن يتحدث عنها حاسبا أنه يتحدث عن رموز باردة مجردة، مهمتها أن تشير وأن تسمي، دون أن يكون لها في ذاتها حياة نابضة حساسة، ليست هي كالألفاظ التي من قبيل قولك: «شجرة» و«نهر» و«جبل»، لا، بل هي إلى الكائنات الحية أقرب، إن مسستها بقلمك فقد مسست بالمشرط جهازا عصبيا شديد الحساسية سريع التأثر والهيجان. ومن هذه الكلمات كلمة «مبادئ»، فقد ألف الناس استخدامها مقرونة بالقيم الخلقية، حتى لأوشك اللفظان أن يكونا مترادفين، إذا قلت عن رجل إنه ذو مبادئ فكأنك قلت عنه إنه على خلق قويم، والعكس صحيح كذلك، أعني أنك إذا رويت عن إنسان بأنه على خلق قويم كانت روايتك منطوية على القول بأنه ثابت على مبادئه. •••
والأجدر بي - قبل أن أمضي في الحديث - أن أوضح هذه المقابلة بين ما هو حقائق من جهة، وما هو فروض من جهة أخرى، فأما الحقائق فهي ما لا حيلة للإنسان فيه، عليه أن يتقبلها لأنها وقائع قيمة هنالك، رضي الإنسان أو كره، ثم يبني عليها إذا شاء، ويستنبط منها النتائج إذا شاء، أما هي نفسها فكيان مستقل عن الإنسان ورغباته وميوله وإرادته، فالمحيطات ماؤها أجاج والأنهار ماؤها عذب، وفي هذه البقعة من جوف الأرض نفط، ولا نفط في تلك، والضوء يسير بسرعة كذا ميلا في الثانية، وينعكس شعاعه على الأسطح المصقولة بزاوية يتناسب مقدارها مع زاوية السقوط، وهكذا وهكذا مما يستطيع كل قارئ أن يذكر من أمثلته ألوفا - تلك هي الحقائق التي يتقبلها الإنسان ولا يصنعها، وفي مستطاعه الإفادة منها إلى أي مدى وسعت قدرته.
وأما الفروض فشأنها آخر؛ لأنها ممكنات يتصورها الإنسان ليستنبط منها النتائج، فإذا قلت لمن أتحدث إليه: افرض أن أ ب ج مثلث متساوي الأضلاع، فماذا تكون الحال بالنسبة إلى زواياه؟ فيجب بعد عملية استنباطية يجريها على هذا الفرض أن زوايا مثلث تساوت أضلاعه يلزم أن تكون هي الأخرى متساوية، وأن هذا الحوار ليتم بيني وبين محدثي دون أن يتحتم علينا إيجاد مثلث من هذا القبيل في عالم الواقع.
صفحة غير معروفة