تلك هي النتيجة، وذلك هو مجال القول، وإنها لنتيجة وصل إليها الغزالي بعد سلسلة من الحجاج على درجة عالية من الاستدلال المحكم المتين، ولكنها كذلك داخل مجالها من القول. إنها نتيجة تلزم لزوما قاطعا عن المقدمة التي وضعها الغزالي؛ إذ ذكر في حديثه أن السعادة التي يبحث لها عن علم وعمل يحققانها هي «السعادة الأخروية»، وهي سعادة قد تقتضي من الساعي إليها ترك اللذات الدنيا واحتمال عنائها، «فإن المدة في احتمال التعب منحصرة ... واللذات الدنيوية منصرمة مقتضية، والعاقل يتيسر عليه ترك القليل نقدا، في طلب أضعافه نسيئة».
وما دامت هذه هي السعادة المقصودة، فما على المفكر أولا إلا أن يثبت الحياة «الأخروية» إثباتا عقليا يفحم به منكريها، حتى إذا ما أيقن القارئ بصحة الفكرة، انطلق منها إلى ما يترتب عليها من علم وعمل يؤديان إليها، فكانت له النتيجة التي أسلفنا ذكرها.
لست أظنني بحاجة إلى التوكيد بأن المقصود بهذه التفرقة بين طريقتين في استخدام لفظتي «علم» و«عمل» ليس هو أن نجعل إحدى الطريقتين أعلى من زميلتها، بل هي تفرقة لمجرد التفرقة، كما أفرق في دنيا المواصلات - مثلا - بين السيارة والطيارة، وكل ما يعنيني من هذه التفرقة هو أن ورود الألفاظ في سياقها القديم، ثم ورودها هي نفسها في سياقها الجديد، قد لا يدل على أن الفكر الجديد هو نفسه الفكر القديم، إلا إذا حللنا المراد بتلك الألفاظ فإذا هذا المراد واحد في الحالتين.
فقد أتصور مفكرا معاصرا يقابل الغزالي في زمنه، ويتصدى لبحث مثل بحثه؛ ليدل معاصريه على «ميزان العمل» المؤدي إلى «السعادة». أقول إنني قد أتصور مفكرا معاصرا يبدأ بداية أخرى غير البداية التي بدأ بها الغزالي ورتب عليها نتائجه، فأولا هو يتفق مع الغزالي في أن «السعادة لا تنال إلا بالعلم والعمل»، لكنه يمضي ليقول إن السعادة التي يقصد إليها هي سعادة الإنسان ها هنا على هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا، وإن هذه السعادة «الدنيوية» التي هي مقصد - لا السعادة «الأخروية» التي كانت هي كل شيء عند الغزالي - إنما تنال بالعلم والعمل، ولكن أي علم وأي عمل؟ ربما وجد هذا المفكر المعاصر أن العلم المقصود هو العلوم الطبيعية بمعناها الحديث من فيزياء وكيمياء وما إليهما، وأن العمل المقصود هو من قبيل ما يجري في المعامل من تجارب من شأنها أن تخلق لنا من الوسائل والأدوات والأطعمة والأشربة والثياب والمساكن والمواصلات ما لم يكن للعصور السابقة عهد بمثلها.
وأحسب أني لو سألت الآن: كيف ننتقل من فكر قديم إلى فكر جديد؟ كان الطريق إلى الجواب واضحا، وهو أن أستخدم الألفاظ - التي هي في الحقيقة دالة على رءوس الموضوعات - استخداما يساير العصر في مفهوماته ومضموناته حتى ولو كانت هي نفسها الألفاظ التي استخدمها الأولون، لكنهم استخدموها بمفهومات ومضمونات مختلفة. •••
وأنتقل إلى مثل آخر، هو فكرة «الحرية».
ولعلي في هذه المرة في غنى عن كثير من الشرح الذي اضطررت إلى ذكره في الفقرة السابقة؛ لأن التناول طريقته واحدة، فلا يكفي أن أجد على صفحات التراث كلمة «الحرية» مذكورة لأصرخ في وجه القائلين بأن «الحرية» مطلب يشغل عصرنا، ساخرا بهم، وزاعما أنهم يستيقظون الآن لما دعونا إليه نحن منذ كذا قرنا من الزمان! فقد تكون اللفظة واحدة ومضمونها مختلفا على ألسنة المعاصرين، عنه على ألسنة الأولين.
والحق أنه لو كان المقصود بالكلمة شيئا واحدا في الحالتين، لعجبنا بدورنا أشد العجب من هؤلاء المعاصرين الحمقى، الذين يجعلون من فكرة «الحرية» هذه مدارا لجزء كبير جدا من نشاطهم الفكري، سواء كان ذلك في مجال الفكر الفلسفي، أو في مجال الفكر السياسي والاجتماعي، وحسبك أن تعرف أن المطابع تخرج عشرات الكتب عاما بعد عام، ليس فيها إلا غوص في فكرة الحرية هذه، بمعناها عندما يوصف بها الفرد الواحد من الناس، ومعناها عندما يوصف بها المواطن - لا الفرد من حيث هو فرد - بل المواطن من حيث هو عضوا في مجتمع واحد تحكمه دولة واحدة، ومعناها عندما ترد في ميدان المعاملات الاقتصادية، وهلم جرا. ولو قرأ قارئ كتابا واحدا لفيلسوف واحد من المعاصرين - وليكن مثلا من الفلاسفة الوجوديين، الذين عنوا أكثر من سواهم بفكرة الحرية - لأدرك عن يقين أن المشكلة ذات أبعاد وأطراف وأعماق لا يحلها أن يقال متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحرارا، بل قد تجد بعد تحليل قليل أن الناس تلدهم أمهاتهم مكبلين لا أحرارا، مكبلين بجهاز نفسي خاص، فيه الغرائز والميول الموروثة والاستعدادات الفطرية، مما لا قبل للفرد أن يكون حرا بإزائها، أما أن يقع بصري على كلمة «حرية» في عبارة هنا أو هناك، ثم أسمع المتحدثين عن هذا العصر يقولون إن أزمة الحرية هي من أعقد الأزمات التي يعانيها المعاصرون، وإن الحرب الدائرة أرحاؤها - باردة وساخنة - إنما هي حرب على التحديد الذي تحدد به فكرة «الحرية» ماذا يكون؟ أقول: أما أن يقع بصري على كلمة «حرية» في عبارة وردت في تراثنا، ثم أسمع هذا الحديث كله وأرى هذا الصراع كله في عصرنا حول «الحرية» وتحديدها وأبعادها، فأقول: صح نومكم يا هؤلاء! لقد حللنا العقدة منذ كذا قرنا من الزمان، فضرب من الخمول الفكري، لو كان ليطول معنا بقاؤه، فلا أظن أن الأمل قريب في نهوضنا نهوضا بالفعل لا بالكلام، وبالفكر الحي لا بالتثاؤب ونحن نيام.
وأعود إلى التراث، فأجد «الحرية» قد شغلت بالفعل فريقا من الفلاسفة والمفكرين، ولكن بأي معنى؟
كان المعتزلة أهم من أثاروا البحث في حرية الإنسان، بحيث حرصوا على أن يجعلوا الإنسان قادرا خالقا لأفعاله، خيرها وشرها على السواء؛ ليكون مسئولا عما يفعل مسئولية تبرر ثوابه أو عقابه يوم الحساب، قائلين إن العدل الإلهي يقتضي ذلك، ومرجع الإنسان في اختياره لأفعاله هو عقله.
صفحة غير معروفة