لكن المتطرفين من أهل السنة وأتباع السلف، لم يكونوا ينظرون نظرة الرضا إلى أي فكر دخيل، «فالعلم» عندهم لفظة لا تنصرف إلا إلى معنى واحد، هو العلم الموروث عن النبي عليه السلام، أما ما عدا ذلك فهو إما خارج عن مجال العلم إطلاقا، وإما هو معرفة لا تنفع ولا تستحق التحصيل، لا، بل إن مثل هذه المعرفة الدخيلة التي لا تنفع، قلما يقف أمرها عند هذا الحد السلبي؛ إذ يغلب أن تجاوزه إلى ضرر فعلي؛ لأنها كثيرا ما تميل بحاملها إلى الاستخفاف بالدين ودراسته.
ونعود إلى موقف الغزالي، فهو برغم نظرته الموضوعية التي فرقت بين علوم وعلوم، فلم تجد بأسا في دراسة الرياضة والمنطق من بين فروع الفلسفة؛ لأنها دراسة لا تتعرض في ذاتها بالأمور الدينية نفيا ولا إثباتا، أقول إنه برغم نظرته تلك، فلم يفته أن يحذر من آفات قد تنجم منهما، فقد تعجبنا الدقة العقلية التي نراها في الرياضة والمنطق، واليقين الذي ينتهيان إليه، فنتوهم أن هذا نموذج لجميع أقوال الفلاسفة مهما اختلفت موضوعاتها، وعندئذ نظن اليقين بما ليس من اليقين، بل قد يأخذنا الإعجاب بدقة الفلاسفة كما تتبدى في علومهم الرياضية والمنطقية، ثم يبلغنا عن بعضهم الكفر فنكفر معهم؛ إيمانا منا بأنهم أصحاب حق يقيني ودقة معصومة من الخطأ.
وإنه لمما يلفت النظر أن الغزالي مع أنه أراد أن يحد من إسراف أهل السنة المتطرفين في رفضهم للفلسفة اليونانية بكل أجزائها، بأن يفرق لهم بين الدراسات الصورية اليقينية كالمنطق والرياضة، وبين الدراسات المتصلة بالطبيعة وبالإلهيات فهذه قد تكون مزيجا بين حق وباطل، أقول إن الغزالي برغم موقفه هذا المعتدل المعقول، لم يشأ أن يستخدم كلمة «منطق» في صورتها اللفظية الصريحة، عنوانا لمؤلفاته المنطقية، كأنما أراد لها ألا تلفت النظر بعنوانها، ما دام مثل هذا اللفظ قد امتزج في أذهان المحافظين بالمقت والكراهية، وأخذ يختار لمؤلفاته المنطقية - وهي ليست بالقليلة - أسماء مختلفة، مثل «معيار العلم» و«محك النظر» وما أشبه ذلك (نستثني الجزء الخاص بالمنطق في كتابه «مقاصد الفلاسفة» فها هنا ذكر «المنطق» عنوانا لموضوع دراسته ذكرا صريحا)، أضف إلى ميل الغزالي إلى اجتناب هذا اللفظ في عنوانات مؤلفاته - فلقد بلغت كراهية المحافظين للفلسفة، بما فيها جانب المنطق بصفة خاصة، أن جعلوا دراستها ضربا من الزندقة، وقيل في ذلك: من تمنطق تزندق - أنه (أعني الغزالي) قد حرص في دراساته المنطقية أن يبين بطريق غير مباشر نفع المنطق في الدراسات الفقهية، بأن جعل يسوق أمثلته من الفقه، وذلك واضح في كتابه «المستصفى» الذي جمع فيه ما أراد أن يقوله في أصول الفقه، وقدم للكتاب بمقدمة لخص فيها جوانب المنطقة الأساسية.
ذلك كان موقف الاعتدال من الفلسفة اليونانية عند أئمة الفقه، وأما الموقف الشائع السائد فهو الرأي بأن طرق البراهين الأرسطية كما وردت في منطقة خطر على سلامة العقيدة عند المؤمن. وظهرت مؤلفات بأكملها تصدى فيها مؤلفوها للرد على المنطق الأرسطي خصوصا والفلسفة اليونانية عموما. وللشهرزوري فتوى أفتى بها سائلا سأله عن رأي الدين في الاشتغال بالمنطق تحصيلا وتعليما، وماذا يجب على ولي الأمر فعله بإزاء المشتغلين بالمسائل الفلسفية عموما، فأجاب الشهرزوري قائلا: «إن الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان ... وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، والسلف الصالح، وسائر من يقتدى به من أعلام الأمة وساداتها ... ولقد تمت الشريعة وعلومها، وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها، حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة ... فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم، ويخرجهم عن المدارس، ويبعدهم، ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر عنه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام.»
وكذلك كان موقف أئمة آخرين، فابن تيمية معروف بعداوته للفلسفة والمنطق، وله مؤلفات في الرد عليهما. وتاج الدين السبكي يقف في خصومة الفلسفة موقفا حاسما، وإن يكن قد خفف هجمته بالنسبة إلى المنطق، فلم يحرمه تحريما كاملا، فيكفي أن قد اشتغل به أئمة سابقون كالغزالي. وأما السيوطي فيحرم الاشتغال بالمنطق، قائلا عن نفسه: «كنت في مبادئ الطلب قرأت شيئا في علم المنطق، ثم ألقى الله كراهته في قلبي، وسمعت أن ابن الصلاح الشهرزوري أفتى بتحريمه، فتركته لذلك؛ فعوضني الله تعالى عنه علم الحديث الذي هو أشرف العلوم» (راجع مقالة بقلم المستشرق جولد تسيهر بعنوان «موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل» ضمن بحوث ترجمها الدكتور عبد الرحمن بدوي لطائفة من المستشرقين، وجمعها في كتاب عنوانه: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية).
فإذا كانت الفلسفة عامة والمنطق خاصة يؤخذان دليلا على النظرة العقلية الخالصة، جاز لنا القول إنه حين نقلت الثقافة اليونانية لتكون أداة في محاربة التيار اللاعقلي الذي لقي عند جماهير الناس أصداء الرضا، وحين التقط المثقفون هذه الأداة ليستخدموها في دفاعهم عن العقيدة الإسلامية في وجوه من أرادوا تحريفها وتجريحها، فإن هؤلاء المثقفين أنفسهم - كما أسلفنا القول - سرعان ما انشقوا على أنفسهم بإزاء العقل ومناهجه وأحكامه، وخرج منهم رجال الفقه، ليهاجموا الفلسفة والمنطق هذا الهجوم العنيف، تاركين علماء الكلام وحدهم في الميدان، أو قل تاركين فريقا واحدا من علماء الكلام، هم المعتزلة الذين ثبتت في ميادين العقل أقدامهم لم يتحولوا ؛ وذلك لأن من المتكلمين - كالأشاعرة - من استكثر أن يترك العقل وحده حكما في الميدان، فقالوا: نجعل للإيمان الصرف قسطا وللعقل قسطا.
القسم الثاني
الفصل السادس
ضرورة التحول
(أ) من فكر قديم إلى فكر جديد
صفحة غير معروفة