ولكن القمار لا صديق له، فحفني يخسر عشر ليال ويكسب ليلة، وإذا كان جميع اللاعبين الذين ذكرتهم والذين لم أذكر يتبادلون أمكنتهم على المائدة فهناك دائما اثنان لا يكاد يغيب أحد منهما عن اللعب، رشدي المهدي وحفني الوسيمي؛ أما رشدي المهدي فتلك هي وظيفته في الحياة ولا وظيفة له غيرها، وأما حفني فلأنه لم يكن يجد شيئا يعمله إلا اللعب، وربما لو وجد متعة أخرى لترك المائدة سعيدا، فهو لا يعرف التحمس لشيء حتى ولا للقمار الذي أجمع التاريخ على أن من يصاب به فلا فكاك له منه. ولكن حفني شيء آخر غير الناس، لا يخلص لشيء ولا يتشبث بأي عادة مما يتعود الناس عليه. دخن بعض الوقت ثم ترك التدخين، وشرب الخمر ويشربها ولكنه لا يشربها إلا ليشارك الشاربين، فهو لا يذكر أنه جلس منفردا وطلب كأس خمر، وإذا مر به الشهر أو الشهران لم يجلس إلى شاربين لم يشرب هو قطرة واحدة. وهكذا شأنه مع القمار يذهب كل ليلة ليلعب فإذا وجد متعة أخرى انقطع تماما عن اللعب. هو لا يتمسك بشيء أبدا ولا يسمح لشيء أن يتمسك به. ماذا تراه يفعل إذا تزوج؟ تلك تجربة ستكون فريدة وعجيبة أيضا، أيمكن أن يفكر مثله في الزواج؟ من يدري؟
وهكذا باع حفني أرضه كلها، وكان مثال المقامر في بيعه، فكل ما كان يفعله أن يوقع حيث يطلب منه الحاج علي أن يوقع، لا يرى إلى اسم البائع ولا يعنيه أن يرى إليه، بحسبه أن يرى المبلغ معدا في يد الحاج علي حتى يوقع عجلا متسرعا، ويطوي الحاج علي العقد في تؤدة وذكاء وخبرة نادرة ويضعه في جيبه ويقول: عد معي يا سعادة البيك. - يا حاج علي ألم تعد أنت؟ - نعم، وإنما لا بد أن تعد أنت أيضا. - يا حاج علي أنت تعلم كم أثق فيك. - ولكن أنا يا سعادة البيك لا أثق في نفسي، عد مائة مائتين ...
ويتكرر هذا المشهد في كل مرة لا ينقص كلمة ولا يزيد، ولا يختلف في مرة عن الأخرى إلا في رقم المبالغ الذي راح يتضاءل يوما بعد يوم، شهرا بعد شهر. •••
دعا رشدي المهدي إلى عشاء بمنزله، وكان حفني بين المدعوين، وهناك وجد حفني دنيا جديدة تطالعه من الحياة لأول مرة وهو الذي خبر من هذه الحياة ما لم يخبره إلا القلة النادرون.
الباشاوات هناك وقد خلعوا رتبة الباشوية، بل خلعوا رتبة الإنسانية وارتدوا حيوانات حمر الوجوه من الرغبة والإثارة. والعظماء بلا عظمة، والنساء بلا ملابس، والمقامرة بالعرض لا بالمال، وبالشرف لا بالنفوذ. ورشدي منتعش النفس يضحك دائما ويعقد الصفقات بين المرأة والرجل وهو سعيد غاية السعادة هنئ في قمة الهناءة.
ويعجب حفني أن رشدي لم يفقد شيئا من احترام المجتمع، بل إن كل هؤلاء يقدم له الاحترام والتبجيل والإعزاز، ولا يعنى حفني بما في داخل النفوس، وإنما بحسبه ما يراه في ظاهر الوجوه وفي الأيدي الممتدة بالمال من ناحية وبالإجلال والتعظيم من ناحية أخرى للشخص نفسه الذي يتاجر في الشرف، ولم يعرف حفني أن هذا الذي يتاجر بالشرف لا بد أن يتاجر معه بشيء آخر هو الذي يهيئ له كل هذا الإجلال. إنه كما يتاجر في شرفه وشرف النساء، يتاجر في سمعة الرجال والعظماء من الرجال. وكلما ازداد الرجل عظمة ازداد حرصا على سمعته، ولكن أي حرص لا يستطيع أن يقف أمام رشدي. يا لها من تجارة! يا لها من تجارة!
ما هذا الحب الذي يحظى رشدي به من أصدقاء له! بل ما هذا الاحترام وما هذا الإجلال؟! إنها مهنة تصور حفني أن يكون رصيدها أي شيء إلا الاحترام. قد يجني العامل فيها مالا أو صداقات أو قدرة على الشفاعة، أما أن ينال الاحترام أيضا فهذا ما لم يتصور حفني أن المهنة ترتد على صاحبها به. لقد كان لفظها يختلط في نفسه بالمهانة والاحتقار وكل ما هو ذليل في الحياة؛ فقد عرف محترفيها من أسفل الطبقات، ولم يعرف من محترفيها في الطبقات العليا إلا رشدي. القواعد في هذه الطبقات مختلفة، والوسائل ليست هي الوسائل، والصفقات تعقد دون تصريح، والأجور يتم تسلمها دون إبانة، ولكن الهدف واحد، والغاية لم تتغير، وهنا في هذه الطبقة الأسماء تطلق على مسميات أخرى؛ فالفتاة أو المرأة موضوع الصفقة صديقة لا عاهرة، والأجر هدية وليس أجرا. ولكن الفتاة أو المرأة تذهب إلى المخدع على أية حال، والهدية تصل واسطة التعارف، ولا يسمى قوادا ولا تسمى الهدية أجرا، فكل شيء هنا محصن بسياج الشرف، وأي عيب أن يحيي صديق صديقا؟ وأي بأس في هذا المجتمع الساقط أن تحب المرأة رجلا فتقضي ليلة في مخدعه؟ وأي لوم في أن يقبل شخص في مثل مكانة رشدي ابن الأكرمين هدية من شخص آخر هو أيضا ابن أكرمين؟ منذ هذه السهرة أصبح عبد الفتاح صدقي أكثر الناس تقربا إلى حفني، ولم يكن هذا غريبا، فقد كانت سنه ومكانته تمنعانه أن يصل إلى المرأة عن طريق آخر غير طريق حفني. وقد رأى عبد الفتاح إقبال النساء على حفني وحبهن له، وخير له أن يتعرف بالمرأة عن طريق حفني أخي حلمي وغير القواد من أن يتعرف بها عن طريق رشدي فيصبح الأمر رسميا، وإن كانت الرسمية متسترة بأسماء بريئة. والظاهر عند عبد الفتاح وأمثاله أهم من الواقع. وحفني يمثل له الشخص الأمثل ليقدمه إلى من يحب، فجمال حفني يقتنص من النساء أشدهن مراسا وأعظمهن فتكا. ومكانة حفني الاجتماعية وما هو معروف عن غناه وما ليس معروفا عن فقره، كل هذا يجعل صداقة العظماء به أمرا طبيعيا لا غرابة فيه، ولو لم يكن لأسرته من المكانة إلا اسم أخيه بطل ثورة 19 وسجين الإنجليز لكان حسبه وحسب أسرته مكانة ورفعة.
وهكذا توطدت العلائق بين عبد الفتاح رجل البورصة الذي يحيط دائما بكل ظروف الصفقة قبل أن يقدم عليها، وبين حفني الذي وجد فيه شخصا غاية في الذكاء وسرعة الخاطر مع مقدرة فائقة على التمتع بالحياة، جدها وهزلها. وأصبح بيت عبد الفتاح مثابة لحفني، ولم يجد عبد الفتاح في ذلك بأسا؛ فحفني يصغره بسنوات عديدة ولا خوف على زوجته منه، وزوجته سيدة فاضلة شريفة أنجبت بنتيها وانتهى ما بينها وبين الأنوثة منذ مجيء آمال البنت الصغرى منذ ما يقرب من خمسة عشر عاما. وكانت البنت الكبرى سناء في السابعة عشرة حين تعرف على الأسرة حفني، ولم يكن حفني يتعامل مع هذه الأعمار في مألوف حياته. فلا حرج على عبد الفتاح إذن أن يستقبل بيته حفني في أي وقت، وقد استطاع حفني بالموهبة التي منحتها له السماء أن يكون محبوبا من السيدة كريمة المدبولي ومن ابنتيها جميعا سناء وآمال. وقد سعد حفني بهذه الأسرة، فقد كان عمله في الصباح قليلا، فما عليه إلا أن يكتب كلمتين ويلقي بهما إلى المجلة، ثم يصبح فارغا لا هم له إلا أن ينام في القيلولة بضع ساعات يقوم بعدها ليجد الفراغ ينتظره حتى يبدأ السهر المتكاسل، الذي يأبى أن يبدأ قبل العاشرة، إن يكن قمارا فقمار، أو يكن حفلة فحفلة.
فماذا هو صانع في الصباح؟
وماذا هو صانع بعد نومة القيلولة إلى مشارف العاشرة؟
صفحة غير معروفة