قال كونغو: «عندما تنزل إلى الشارع سأكون معك.» «هل تعرف ذلك الرجل الذي أتحدث عنه؟ ... ذلك الرجل، إريكو مالاتيستا، هو أعظم رجل في إيطاليا بعد جاريبالدي ... قضى حياته كلها في السجن والمنفى، في مصر، وفي إنجلترا، وفي أمريكا الجنوبية، وفي كل مكان ... إن كان بإمكاني أن أصبح رجلا مثله، لا يهمني ما يفعلونه؛ يمكنهم أن يعدموني، أن يطلقوا النار علي ... لا يهمني ... أنا سعيد للغاية.»
قال إميل ببطء: «ولكن لا بد أن رجلا كهذا مجنون. لا بد أنه مجنون.»
تجرع ماركو آخر رشفة من قهوته. «مهلا. أنت صغير للغاية. ستفهم ... واحد تلو الآخر يجعلوننا نفهم ... وتذكر ما قلته ... ربما سأكون مسنا، ربما سأكون قد مت، لكنه سيأتي اليوم الذي يستيقظ فيه العمال من العبودية ... ستقيمون الإضرابات في الشارع وستهرب الشرطة، وستذهب إلى المصرف حيث يسكب المال على الأرض ولن تنحني لتلتقطه، لا شيء أفضل من ذلك ... إننا نعد أنفسنا في جميع أنحاء العالم. هناك رفاق حتى في الصين ... كانت ضاحيتك الصغيرة في فرنسا هي البداية ... فشلت الاشتراكية. حان الوقت للفوضويين أن يوجهوا الضربة التالية ... وإن فشلنا فسيكون هناك آخرون ...»
تثاءب كونغو، وقال: «أشعر بالنعاس الشديد.»
بالخارج، كان الفجر بلون الليمون يغمر الشوارع الفارغة، حيث كان يقطر من الأفاريز، ومن قضبان سلالم الطوارئ، ومن حواف صناديق القمامة، كاسرا كتل الظل بين الأبنية. كانت مصابيح الشوارع مطفأة. عند الناصية، نظروا إلى شارع برودواي الذي كان ضيقا ومسفوعا كما لو أن نارا قد طالته.
قال ماركو، وصوته متحشرج في حلقه: «لا أرى الفجر مطلقا لدرجة أنني لا أقول لنفسي ربما ... ربما اليوم.» تنحنح وقرع قاعدة عمود إنارة، ثم غادرهما بخطوته المتمايلة، مستنشقا دفقات قوية من الهواء البارد. «أصحيح يا كونغو أنك تريد العودة للعمل في البحر؟» «لم لا؟ أود أن أرى العالم قليلا ...» «سأفتقدك ... وسيكون علي البحث عن غرفة أخرى.» «ستجد صديقا آخر لتشاركه غرفتك.» «ولكن إذا فعلت ذلك فستظل بحارا طوال حياتك.» «وماذا يهم؟ عندما تصبح غنيا وتتزوج سآتي لزيارتك.»
كانا يسيران في الجادة السادسة. دوى صوت قطار سريع فوق رأسيهما مخلفا صلصلة طنين لتتلاشى وسط عوارض السكة الحديدية بعد مروره. «لم لا تبحث عن عمل آخر وتبقى لبعض الوقت؟»
أخرج كونغو سيجارتين منحنيتين من جيب صدر معطفه، وأعطى واحدة لإميل، وأخرج عود ثقاب لإشعال سيجارته، وترك الدخان يخرج بطيئا من أنفه. «لقد سئمت الوضع هنا كما أخبرتك ...» وضع يده أفقيا على تفاحة عنقه، قائلا: «إلى هنا ... ربما سأعود للوطن وأزور فتيات بوردو الصغيرات ... فعلى الأقل لا يرتدي جميعهن البلين ... سأنضم باعتباري متطوعا في البحرية وأرتدي قبعة ذات كرة مزركشة حمراء ... الفتيات يعجبن بذلك. تلك هي الحياة الوحيدة التي أراها ... السكر وإحداث الفوضى يوم دفع الرواتب ورؤية الشرق البعيد.» «وتموت مصابا بالزهري في أحد المستشفيات في سن الثلاثين ...» «وماذا يهم؟ ... إن جسمك يجدد نفسه كل سبع سنوات.»
كانت رائحة الدرج في منزلهما ذي الغرف المفروشة للإيجار كرائحة الملفوف والجعة الفاسدة. صعدا متعثرين ومتثائبين. «إن الانتظار لأمر شاق وكريه ... إنه يجعل أخمصي قدميك يؤلمانك ... انظر، سيكون يوما جيدا؛ يمكنني أن أرى الشمس على حاوية الماء في الجهة المقابلة.»
خلع كونغو حذاءه وجوربه وبنطاله وتكور في السرير كالقط.
صفحة غير معروفة