فقالت ببساطة: أنا ذاهبة.
فسألتها بضيق: إلى أين؟ - إلى أم علي الداية.
وأشارت إلى بيت يقيم أسفله كواء بلدي. - لماذا؟ - لأقول لها أن تأتي بسرعة. - لماذا؟ - أمي تصرخ في البيت، قالت لي اذهبي إلى أم علي الداية، وقولي لها أن تأتي بسرعة ... - وستعودين بعد ذلك؟
فهزت رأسها بالإيجاب وذهبت. تذكرت بذكر أمها أمي؛ انقبض قلبي، غادرت السلم الأثري عائدا إلى البيت، بكيت بصوت مرتفع وهي طريقة مجربة أدافع بها عن نفسي. توقعت أن تجيئني ولكنها لم تأت، تنقلت بين المطبخ وحجرة النوم فلم أعثر لها على أثر! أين ذهبت الأم؟ ومتى ترجع؟ وضقت بالبيت الخالي، وخطر لي خاطر طيب، أخذت من المطبخ طبقا، ومن حصالتي قرشا، وذهبت من فوري إلى بياع الفول. وجدته نائما على أريكة أمام الدكان مغطيا وجهه بذراعه، اختفت قدر الفول، وأعيدت قوارير الزيت إلى الرف وغسلت الرخامة، اقتربت منه هامسا: يا عم ...
فلم أسمع إلا شخيره، لمست كتفه فرفع ذراعه في انزعاج، وطالعني بعينين حمراوين: يا عم ...
انتبه إلى وجودي وعرفني، فسألني بخشونة: ماذا تريد؟ - بقرش فول بزيت حار. - هه؟ - معي القرش ومعي الطبق.
صرخ في وجهي: أنت مجنون يا ولد، اذهب وإلا كسرت دماغك.
ولما لم أتحرك؛ دفعني بيده دفعة قوية ألقتني متقهقرا على ظهري. نهضت متألما وأنا أقاوم البكاء الذي يلوي شفتي، ويداي قابضتان إحداهما على الطبق والأخرى على القرش. رميته بنظرة غاضبة، فكرت في عودة خائبة يائسة، ولكن أحلام الفروسية عدلت من خطتي، صممت واتخذت قرارا سريعا. وبكل قوة ساعدي رميته بالطبق، طار الطبق فأصاب رأسه. ركضت بسرعة لا ألوي على شيء. وملأني اليقين بأنني قتلته كما قتل الفارس الغول، ولم أتوقف عن الجري إلا على مقربة من الجدار الأثري، نظرت خلفي وأنا ألهث فلم أر أثرا لمطاردة. وقفت حتى تمالكت أنفاسي، ثم ساءلت نفسي ما العمل وقد ضاع الطبق الثاني؟ وشيء يحذرني من العودة المباشرة إلى البيت. وما لبثت أن استسلمت إلى موجة من الاستهانة تحملني إلى حيث تشاء، هي علقة لا أكثر ولا أقل، وسأنالها لدى العودة، فلنؤجل العودة إلى حينها، وها هو القرش في يدي، ويمكن أن أحظى بمتعة لا بأس بها قبل العقاب. قررت أن أتناسى جريمتي، ولكن أين الحاوي؟ وأين صندوق الدنيا؟ فتشت عنهما هنا وهناك بلا ثمرة. أرهقني البحث العقيم، فمضيت إلى السلم الأثري وراء الميعاد. جلست أنتظر وأتخيل اللقاء. تاقت نفسي إلى قبلة أخرى معبقة بشذا الحلوى، واعترفت فيما بيني وبين نفسي بأن الصبية وهبتني مشاعر لم أجرب أطيب منها من قبل. وفيما أنتظر وأحلم ترامى إلي همس من الجهة الخلفية، رقيت في الدرج بحذر، وعند البسطة الأخيرة انبطحت على وجهي لأرى ما وراءها دون أن يلمحني أحد. رأيت خرابة مطوقة بسور عال، وهي آخر ما بقي من بيت المال ومقر قاضي القضاة، وتحت السلم مباشرة جلس رجل وامرأة. هما مصدر الهمس؛ أما هو فأشبه بالمتشردين، وأما هي فغجرية ممن يرعين الأغنام. صوت باطني مريب قال لي بأنهما يجتمعان في «ميعاد» كالذي جاء بي. بذلك تنطق الشفاه والنظرات والأعين، ولكنهما على خبرة مدهشة، ويفعلان أمورا لا يحيط بها الخيال. شد بصري إليهما مشدوها في استطلاع ودهشة ولذة، ولم يخل من انزعاج.
وجلسا أخيرا جنبا إلى جنب، لم يعد يهتم أحدهما بالآخر. وبعد فترة ليست بالقصيرة قال الرجل: النقود.
فقالت بضيق: أنت لا تشبع.
صفحة غير معروفة