التحرير والتنوير

ابن عاشور ت. 1393 هجري
131

التحرير والتنوير

الناشر

الدار التونسية للنشر

مكان النشر

تونس

فَإِنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ إِمَّا عُلُومٌ تُقْصَدُ مَعْرِفَتُهَا وَإِمَّا أَحْكَامٌ يُقْصَدُ مِنْهَا الْعَمَلُ بِهَا، فَالْعُلُومُ كَالتَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالنُّبُوءَاتِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ وَالْقِصَصِ، وَالْأَحْكَامُ إِمَّا عَمَلُ الْجَوَارِحِ وَهُوَ الْعِبَادَاتُ وَالْمُعَامَلَاتُ، وَإِمَّا عَمَلُ الْقُلُوبِ أَيِ الْعُقُولِ وَهُوَ تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ وَآدَابُ الشَّرِيعَةِ، وَكُلُّهَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مَعَانِي الْفَاتِحَةِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ أَوِ الِالْتِزَامِ فَ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَشْمَلُ سَائِرَ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي اسْتَحَقَّ اللَّهُ لِأَجْلِهَا حَصْرَ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ مِنِ اخْتِصَاصِ جِنْسِ الْحَمْدِ بِهِ تَعَالَى وَاسْتِحْقَاقِهِ لِذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ كَمَا سَيَأْتِي ورَبِّ الْعالَمِينَ يَشْمَلُ سَائِرَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَالتَّكْوِينِ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهَا، والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَشْمَلُ أُصُولَ التَّشْرِيعِ الرَّاجِعَةَ للرحمة بالمكلفين وَمَالك يَوْمِ الدِّينِ يَشْمَلُ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ، وإِيَّاكَ نَعْبُدُ يَجْمَعُ مَعْنَى الدِّيَانَةِ وَالشَّرِيعَةِ، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَجْمَعُ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي الْأَعْمَالِ. قَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي كِتَابِهِ «حَلُّ الرُّمُوزِ وَمَفَاتِيحُ الْكُنُوزِ»: الطَّرِيقَةُ إِلَى اللَّهِ لَهَا ظَاهِرٌ (أَيْ عَمَلٌ ظَاهِرٌ أَيْ بَدَنِيٌ) وَبَاطِنٌ (أَيْ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ) فَظَاهِرُهَا الشَّرِيعَةُ وَبَاطِنُهَا الْحَقِيقَةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحَقِيقَةِ إِقَامَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُرَادِ مِنَ الْمُكَلَّفِ. وَيَجْمَعُ الشَّرِيعَةَ وَالْحَقِيقَةَ كَلِمَتَانِ هُمَا قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإياك نَعْبُدُ شَرِيعَةٌ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حَقِيقَةٌ، اهـ. واهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يَشْمَلُ الْأَحْوَالَ الْإِنْسَانِيَّةَ وَأَحْكَامَهَا مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ وَآدَابٍ، وصِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يُشِيرُ إِلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ الْمَاضِيَةِ الْفَاضِلَةِ، وَقَوْلُهُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يَشْمَلُ سَائِرَ قِصَصِ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ وَيُشِيرُ إِلَى تفاصيل ضلالالتهم الْمَحْكِيَّةِ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا جَرَمَ يَحْصُلُ مِنْ مَعَانِي الْفَاتِحَةِ- تَصْرِيحًا وَتَضَمُّنًا- عِلْمٌ إِجْمَالِيٌّ بِمَا حَوَاهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْأَغْرَاضِ. وَذَلِكَ يَدْعُو نَفْسَ قَارِئِهَا إِلَى تَطَلُّبِ التَّفْصِيلِ عَلَى حَسَبِ التَّمَكُّنِ وَالْقَابِلِيَّةِ. وَلِأَجْلِ هَذَا فُرِضَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ حرصا على التَّذَكُّر لِمَا فِي مَطَاوِيهَا. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا السَّبْعَ الْمَثَانِي فَهِيَ تَسْمِيَةٌ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ ، فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي سَعِيدِ ابْن الْمُعَلَّى (١) «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ

(١) هُوَ الْحَارِث بن نفيع (مُصَغرًا) الزرقي- بِضَم فَفتح- الْأنْصَارِيّ الْمُتَوفَّى سنة ٧٤ هـ وَتَمام الحَدِيث عَن أبي سعيد بن الْمُعَلَّى قَالَ: «كنت أُصَلِّي فِي الْمَسْجِد فدعاني رَسُول الله فَلم أجبه فَقلت يَا رَسُول الله إِنِّي كنت أُصَلِّي فَقَالَ ألم يقل الله اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ [الْأَنْفَال: ٢٤] ثمَّ قَالَ أَلا أعلمك سُورَة هِيَ أعظم السُّور فِي الْقُرْآن قبل أَن تخرج من الْمَسْجِد، ثمَّ أَخذ بيَدي فَلَمَّا أَرَادَ أَن يخرج قلت لَهُ ألم تقل لأعلمنك سُورَة هِيَ أعظم سُورَة فِي الْقُرْآن فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» إِلَخ.

1 / 134