ولو فرضنا أن ألمانيا اتحدت مع الدنمرك وكانت قوتها البحرية تكفي لتنفيذ أغراضها فإنها تغلق باب البلطيق في وجه من لا تحب، فيرى القارئ أن حياد الدنمرك من أنفع الأمور لكل الدول الواقعة حول هذه المملكة الصغيرة، وأقل منافع هذا الحياد أنه يهدئ بال الدنمرك ويجعلها في مأمن من الأخطار التي تتهددها في كل حين، وتتمتع ألمانيا بحرية العبور في البلطيق والخروج منه والدخول إليه، وهذه النعمة لا تنال إلا بحياد الدنمرك، فإنها إن لم تكن حرة محايدة يتيسر لها في أسرع وقت أن تحبس أساطيل ألمانيا في البلطيق أو تحرمها من الدخول إليه. وإذا منحت الدنمرك حيادها وحريتها فإنها تكون حلقة من سلسلة الحياد الأوروبي المركب من لوكسمبرج وهولاندا وبلجيكا وسويسرا. دع ما تستفيده الروسيا وألمانيا وإنكلترا من هذا الحياد لأنه يفصلهن ويعوقهن عن الاحتكاك والالتصاق. وقد اقترح في تلك الأثناء أيضا حياد السويد والنرويج، وقوبل هذا الاقتراح في مجالس هاتين الدولتين بالرضاء والسرور، ولكن الأمر يحتاج إلى رضاء دول أوروبا جمعاء.
وسنظهر للقراء أنه حيث توجد ترعة كقنال السويس ممنوحة حق الحرية والحياد يجب أن تكون المملكة المجاورة لهذا الترعة أيضا حرة محايدة، ويلوح لنا أن المسألة المصرية ابتدأت تعيد نفسها بشكل جديد في أمريكا الوسطى. وذلك بفتح ترعة بناما التي تصل المحيط الأطلنطي بالمحيط الهادي وتريح السفن من السفر حول قارة أمريكا كما أراح قنال السويس السفن من السفر حول أفريقيا. ولا يخفى أن إنفاذ هذا المشروع قد تأجل مرارا كثيرة لحاجة القائمين به إلى المال، ولكن كل هذه الصعوبات المادية قد زالت وسيخرج المشروع من حيز الخيال إلى حيز الحقيقة بعد زمن قصير، ولا نظن أن الاهتمام بفتح هذا القنال من كولون إلى باناما باتخاذ نيكاراجيوا قاعدة للقنال أنفع للعالم من الاهتمام بنتيجة هذا العمل السياسة، فإن أمريكا الوسطى ستصير بعد فتح القنال مركز مسألة سياسية كبرى، وسيكون هذا القنال شرعة الوارد ونجعة الرائد ممن يأتون من الشرق إلى الغرب أو من الغرب إلى الشرق، والمستقبل كفيل بتحقيق ظننا بأنه إن لم يكن هذا القنال أهم نقطة في العالم فإنه لا محالة سيكون من أهم المراكز السياسية. ولا نحتاج إلى القول بأن الدول ستطلب منح هذا القنال حرية الملاحة والمحايدة على أن أوروبا لا ترضى بأن تسلم للولايات المتحدة مفتاح التجارة الأوروبية، وأوروبا لا تصل إلى النتيجة التي ترضاها إلا إذا أبعدت الولايات المتحدة بقدر ما تستطيع عن الأراضي الواقعة حول القنال المشار إليه، وليس لذلك إلا وسيلة واحدة وهي منح الحرية والحياد للممالك التي يمر بها هذا القنال، فليس من المهم حينئذ إذا كانت هذه الممالك هي نيكاراجيوا وكوستاريكا أو كولومبيا. ومن المستحيل أن تمنح تلك الدول استقلالا غير مقيد لأنهن بذلك يستطعن أن يعبثن ما شئن وما شاءت الأهواء، أضف إلى ذلك أن تلك الدول تصير مقرا للمكائد السياسية وملعبا للدسائس الدولية. هذا ولا تستطيع دولة أوروبية حينئذ أن تنال من إحدى هذه الممالك ما تريد؛ لأنها بذلك تعرض نفسها إلى غضب الدول الأخرى وسخطهن، ولا يئول ذلك أخيرا إلا إلى حرب دولية.
وغني عن البيان أن الثورات والحروب التي تشب نارها الآن في ممالك أمريكا الوسطى ليست في الحقيقة إلا شعلة من النار الحقيقية التي ستلتهم كل شيء بعد فتح ترعة بناما، وبعد أن تصير أمريكا الوسطى مجمع الأمم ومحط رحال الشعوب، ونحن لا نشك في أن تلك القلاقل الدولية التي تحدث في الممالك التي أشرنا إليها ليست إلا من أثر مكائد دول أوروبا ودسائسها التي تمهد لنفسها السبيل بما تدبره من الثورات وتشعل نيرانه من الحروب الداخلية، فمثل هذه الجمهوريات الصغرى الواقعة حول قنال بناما كمثل الوارث الجاهل الذي لم يبلغ سن الرشد، ومثل أوروبا كمثل من يلتف حول الوارث من أهل الختل والغش والخداع يملقونه تارة ويدللونه أخرى ويفتأون يداهنونه ويخدعونه حتى يقع في أيديهم فيسلبونه ويتركونه.
على أن هذه الثورات والقلاقل التي تديرها أوروبا في هذه الجمهوريات الصغيرة لن تدوم طويلا؛ لأنها تعود على البلاد وأهلها بالخراب والدمار وتعطيل التجارة، وهذا ما لا يرضي الولايات المتحدة أو غيرها من دول أوروبا الكبرى فتتداخل، وعند ذلك تصير حرية القنال وحياده في خطر شديد، فلا يكون حينئذ لهذه المسألة إلا حل واحد وهو منح الحياد لتلك الجمهوريات وإخراجها عن دائرة السياسة الدولية؛ فتقل المكائد وتتلاشى الدسائس وتتمكن تلك الجمهوريات من التمتع بالنعمة العظيمة التي خول لها مركزها الجغرافي التمتع بها، وبذلك يسود السلام والنجاح ويعم الخير البلاد المجاورة لترعة بناما.
تكلمنا فيما مضى عن طرق الحياد في أوروبا وأمريكا، وسنبحث الآن عن طريقة تحل بها المسألة الأفريقية التي تركت أوهام الساسة حائرة. عندما قام بسمارك في سنة 1888 ونادي بتقسيم أفريقيا، فإن دول أوروبا رأت أنها ستقع في أفريقيا في مثل ما وقعت فيه في آسيا وأمريكا بشأن الاستعمار، واعتبرت بالخسائر التي تحملتها في القرن الثامن عشر، وخشيت أن يجرها تقسيم أفريقيا إلى حروب شعواء تفني مالها ورجالها، فقررت أن تمنح الحرية والحياد جزءا كبيرا من القارة الأفريقية لأجل أن لا تختلف الدول في أمره ويقع النزاع بينها بشأنه، بعد أن ألفت أوروبا أن هذه هي أحسن طريقة لضمان السلام بين ممالكها وأسهل وسيلة للاحتفاظ بمنافع الجميع.
وكانت نتيجة هذا الرأي أن جزءا عظيما من أواسط أفريقيا منح الحرية والحياد وصار في مأمن من مطامع المستعمرين، وهذا الجزء العظيم الذي نشير إليه هو ولاية الكونجو الحرة التي تزيد في المساحة عن أملاك بريطانيا في جنوب أفريقيا، ومن الغريب أن الكونجو لم تمنح الحياد فقط بل سلمت لإحدى ممالك أوروبا الصغرى وهي بلجيكا، ولا يخفى على القارئ أن بلجيكا نفسها ممنوحة الحرية والحياد. ونحن نرى أن حياد الكونجو هو أكبر دليل على ميل أوروبا لتطبيق تلك القاعدة بعد أن رأت أوروبا منافعها، ونحن واثقون من أنه إذا حدث في جنوب أوروبا الشرقي (البلقان) ما يفزع أوروبا ويقلقها فلن يبهت الوزراء ويقف الساسة حائرين كما كانت حالهم في الماضي؛ لأنهم يستطيعون الآن أن يخرجوا ولايات البلقان كلها من دائرة النزاع والخصام الدولي إلى دائرة الحرية والحياد، وبذلك تحل المسألة الشرقية العويصة، بيد أن روسيا قد فازت بجزء عظيم من بلاد فارس، وهي كغيرها عاقدة آمالها بوادي الدجلة والفرات. أما آسيا الصغرى فستكون سبب التخاصم والتنازع بين ألمانيا وإيطاليا وغيرهما من ممالك البلقان. ولكنا نرى أنه لا بد من حدوث أمر قبل أن تحل المسألة الشرقية وهو أن أوروبا سترى ضرورة منح بعض ممالك الشرق الأدنى الحرية والحياد. وأي مملكة أجدر بهذا الحق من مصر؟ أي مملكة أكثر استحقاقا للتمتع بحق الحرية والحياد من وادي النيل؟ وغني عن البيان أن إنكلترا ستكون أول الدول المهتمة بمشروع منح الحرية والحياد، ولو لن يعميها خداع المستعمرين المتطرفين عن حوادث تاريخ أوروبا في الثلاثة قرون الماضية، فإنها تستفيد من حياد مصر فائدة كبرى. وجدير ببريطانيا أن تعلم أن أهم شيء لأية إمبراطورية كبرى هو أن تتنازل عن المستعمرات السريعة الانثلام عن رضى وطيب خاطر قبل أن تجبر وتضطر.
إن مصر لو كانت حرة فإنها بلا ريب تقوم لبريطانيا بأعمال لا تقوم بها في أسرها؛ لأنها تخشى إن سعت في خير إنكلترا وهي في قبضة يدها أن تتهم بالمداهنة وترمي بالتمليق فتمتنع عن صنع الخير وربما يعوقها البغض الذي يحس به العبد نحو سيده، فلا يسعى في خير له أبدا، ويكفينا أن نقول إن كل الساسة علموا منافع الحرية والحياد اللذين تمنحهما الممالك الكبرى للأمم الصغرى عن جود لا عن اضطرار. وهنا نشير إلى مسألة من الأهمية بمكان، وهي أن إنكلترا إذا منحت مصر الحرية والحياد وصادقتها وحالفتها فإنها تستطيع أن تنال أغراضها في الشرق الأدنى بأسهل مما تنال أغراضها فيه ألمانيا والنمسا وإيطاليا.
الخاتمة
تحرير مصر ومستقبل أفريقيا
لقد بلغنا غايتنا من هذا الكتاب، وقبل أن نودع القارئ نود أن نسر له في أذنه كلمتين، فنقول: لقد تناولنا مسائل هذا الكتاب ناظرين إليها من جهة الحقيقة ضاربين صفحا عن الخيال، فكنا نقارن المنفعة بالمضرة، والحسنة بالسيئة، وقد حاولنا جهد طاقتنا أن نظهر للقارئ ما تم لمصر من النجاح والتقدم في الماضي، كما أننا أبنا له مواقع الشك ومواطن الريب في أن استمرار الحال السياسية الحاضرة واتخاذ الطرق التي اتخذت في الماضي للعمل بها في المستقبل يؤديان إلى نجاح مصر في السنين الآتية كما أديا إلى نجاحها في السنين الغابرة، وكنا نكتب للقراء ونحن نعتبرهم سياسيين محنكين ونسينا أنهم بشر، فكان ذلك الاعتبار وهذا النسيان سببا في أننا قررنا حقائق ينفر منها «علماء الأخلاق»، وقد استلزم ذلك أن يكون الكتاب جافا خلوا مما يروح عن القارئ ويروضه، وقلنا إن تلك الحقائق هي أثمن ما لدى السياسيين.
صفحة غير معروفة