ومن يدري بأن الباب العالي لا يعد أكلة يضعها في فم إنكلترا فتتداخل تداخلا سياسيا أو حربيا لتعوق النمسا عن الاستيلاء على ولاية سالونيكا؟
هل من المستحيل أن تتنازل تركيا لإنكلترا عن حقوق سيادتها في مصر؟
من هنا يظهر أنه من فائدة النمسا أن تجتهد في حل المسألة المصرية حلا أوليا لخوفها من أن تقف هذه المسألة في طريق سياستها المستقبلة.
لقد جرت العادة منذ عهد طويل جدا بالاعتقاد بأن روسيا هي الدولة السائدة في الشرق الأدنى، والعادة طبيعة ثانية، فإنه رغما عن الأدلة الواضحة التي تدل على أن روسيا ليست هي الدولة السائدة (ولو فرضنا أن روسيا هي السائدة، فإن تلك السيادة قد بدأت شمسها بالأفول من زمن بعيد)، فإن الناس لا يزالون معتقدين بالأفكار القديمة فإذا حدث أي حادث مقلق في جنوب أوروبا الشرقي فلا يقولون إلا أن روسيا هي التي سببت ذلك القلق وهي التي أحدثت هذا النزاع.
على أن المتنبه للحوادث السياسية التي تجري في الشرق الأقصى يرى بكل وضوح أن آمال روسيا متجهة نحو غرض واحد ومهما كلفها هذا الغرض من الذهب والنفوس فإنها أبدا تسعى إليه، ولا يخفى أن هذا الغرض هو رغبتها في الحصول على ثغر بين فلاديفوستك وبورآ رثور.
ونحن لا نستطيع أن نتنبأ بنتيجة الحرب الحاضرة بين روسيا واليابان، ولكن مهما تكن نتيجة تلك الحرب فإن روسيا دائما ستكون مشتغلة بتلك النتيجة عن القسطنطينية.
ولنفرض أن روسيا تفوز على اليابان مع ما في هذا الفرض من الاستحالة في الظروف الحاضرة فإن روسيا لن تنال ظفرا يسحق عدوتها ويجعلها تنام مطمئنة زمنا طويلا؛ لأنه لو حدث أن روسيا طردت اليابانيين من سيبريا ومنشوريا، فإن إمبراطورية اليابان تبقى أبدا عدوا قويا يهدد روسيا في الشرق الأقصى مستعدا لأن ينتهز فرصة اشتغالها بمشاغل السياسة الأوروبية ليشعل نار حرب ثانية وينزل بشواطئ منشوريا مرة ثانية لينتقم للهزيمة الأولى.
ولنفرض ثانيا أن اليابان حازت نصرا باهرا وأرغمت روسيا على التقهقر عن شواطئ المحيط الهادي، فإنا لا نحسب أن هذه الهزيمة تضطر روسيا لأن تترك سياستها القديمة التي عمل لأجلها كبار رجالها قرونا طويلة، فإن روسيا لا يمكن لبالها أن يهدأ حتى تكون حدود أملاكها الشرقية بحرا وهذا هو غرض السياسة الروسية الذي اشتغلت به وسعت لأجله من عهد «إيفان الهائل» في القرن السادس عشر؛ لأن في تلك الأمنية التي تسعى للحصول عليها حياتها وبقاءها دولة قوية بين دول أوروبا وممالكها.
إن الهزيمة لا تضر الروس بل تنفعهم لأنهم يعودون فيقوون أنفسهم ويتقون شر هزيمة ثانية، ويتقدمون بكل سكون وهدوء إلى الغاية المقصودة، ولو فني رجال الروس ومالهم فإنهم لا يرضون من الغنيمة بالقفول، ومن يراجع تاريخ روسيا يعلم أنها صنعت كل ما في وسعها لتتقدم على الشواطئ التي لا تجد فيها مقاومة شديدة، ولكنها فشلت مرارا في محاولتها الحصول على القسطنطينية، فإنها بعد أن تفوز على الأتراك بعد حرب عنيفة تنفق فيها أموالها وتقتل فيها رجالها كانت أوروبا تقف في وجهها متحدة فتعود روسيا إلى الوراء لأنها لا تقدر أن تقاوم بمفردها قارة متحدة لأن باقي دول أوروبا كلها كانت تعمل جهد طاقتها على منع روسيا عن القسطنطينية وكيف لروسيا أن تقاوم هذه الدول كافة؟!
وهناك أسباب أخرى تعوق روسيا عن القسطنطينية؛ منها أن روسيا تنتظر بفروغ صبر نصيبها في الغنيمة التركية عند تقسيمها، وهي تسعى إلى تلك الغاية ببطء وتمهل وترو؛ ولذلك فهي لا تنوي الحصول على القسطنطينية لأنها بحصولها على القوقاز الذي قوى نفوذها في بلاد فارس استطاعت القرب من «ما بين النهرين»، وهناك تطلب روسيا نصيبها لأنها لو تقدمت نحو الغرب قليلا فإنها تمس نصيب حليفتها فرنسا وهو سوريا، ولا ينتظر من روسيا أن تعادي فرنسا إلا بعد قرون طويلة؛ لأن فرنسا هي الدولة الوحيدة في أوروبا التي تستطيع أن تفرج كربة روسيا وقت احتياجها للمال، فإن روسيا وإن كانت تجد النفوس التي تزهقها والدم الذي تريقه في سبيل مطامعها، فإنها لا تجد الذهب الذي يسهل لها أعمالها؛ ولذلك فهي تكتفي من فرنسا بآسيا الصغرى، ولكن دول أوروبا لا تسمح لروسيا بأعمال سياسية إلا في جزيرة البلقان على أن روسيا قد فطنت إلى حيلة الدول الأوروبية؛ ولذلك فهي لن تحاول أبدا أن تمد يدها إلى ولايات البلقان وما والاها إلى القسطنطينية لأنها علمت أنها مهما أحرزت من نصر وفوز فإن أوروبا تضطرها دائما إلى التقهقر.
صفحة غير معروفة