بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما}. والصلاة والسلام على النبي الكريم محمد، الذي خاطبه رب الجلال بقوله: {طه مآ أنزلنا عليك القرءان لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى}.
وبعد، فإنه لم يحظ كتاب من الكتب السماوية ولا البشرية بما حظي به القرآن الكريم من عناية: حفظا، وتدبرا، وتفسيرا... حتى عز على الباحث عد التصانيف التي ألفت في القرآن وعلومه، واستحال على العالم حصر التفاسير التي عنيت بشرح آيه وسوره.
وتفسير الشيخ سعيد بن أحمد الكندي (1207ه/1792م)، يعد من بين هذه المشاركات المباركة في حركة التفسير، غير أنه لم يكتب له أن يطبع أو يعرف لدى الأوساط العلمية، لظروف نجهلها. إلى أن من الله تعالى بأهل الفضل، فوفروا لنا نسخة مخطوطة يتيمة من هذا التفسير القيم؛ فاستعنا بالله على الشروع في إعداده للطبع، آملين أن يكون لبنة في المكتبة الإسلامية بعامة، ونموذجا لجهود الإباضية في مجال التفسير بخاصة.
ملاحظات حول الأسلوب والمنهج والمضمون
1- سهولة أسلوب التفسير وبساطته، بحيث يفهمه كل من له معرفة ولو يسيرة باللغة العربية.
2- العرض المحبك للعبارات، مما يسهل على القارئ تتبع المعاني.
3- إحكام منهج العرض، واطراده في جميع الكتاب.
4- خلوه من الاختلافات اللغوية والفقهية والكلامية؛ مما يجعله مرجعا للخاصة والعامة.
5- اقترابه من نوع التفسير الهدائي، رغم تقدمه في العصر.
6- كونه تفسيرا كاملا غير منقوص ولا مخروم.
صفحة ١
7- اعتماده المقصد التربوي كلما وجد لذلك سبيلا، فرغم كونه تفسيرا مختصرا، إلا أنه لا يخلو من اللفتات التربوية التي تفيد الفرد والمجتمع؛ فهو يتوسع أحيانا في تفسير بعض الآيات بمباحث مهمة في مجال التربية والتوجيه. مثال ذلك:
... «{الذين إذا أصابتهم مصيبة} مكروه، {قالوا إنا لله} إقرار له بالملك، ولا يسخط عليه ما يفعله في ملكه، {وإنا إليه راجعون} إقرار على أنفسنا وما خولناه بالفناء، وأن الأمور كلها راجعة إليه، وليس الصبر بالاسترجاع باللسان بل بالقلب بتصور ما خلق لأجله، وأنه راجع إلى ربه، وبذكر نعم الله عليه فيرى أن ما بقي عليه أضعاف ما استرده منه فيهون على نفسه ويستسلم له».
مصادر الكتاب
أشار المصنف في نهاية تفسيره إلى الكتب التي اعتمدها، بقوله: «وقد نسخته من كتاب يسمى “مدارك التنزيل” (¬1) ، وكتاب “معالم التنزيل” (¬2) ، ومن كتاب “أنوار التنزيل وأسرار التأويل” المعروف ب“البيضاوي” (¬3) ، ومن كتاب “جوامع الجامع” (¬4) ، وكلها من تفاسير القوم، وزدت فيه أشياء من كتب أصحابنا، وشيئا من عندي، ما أرجوه أنه خارج على معاني الصواب، وحذفت منها ما حذفت طلبا للإيجاز».
وهذه الفقرة رغم اختصارها تدل على الأمانة العلمية التي تحلى بها الشيخ الكندي رحمه الله، فهو لم ينسب العمل إليه، وقد وضح لنا منهجه في تفسيره بدقة.
طريقته في الاختصار
¬__________
(¬1) - ... لأبي بركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي الحنفي.
(¬2) - ... لأبي محمد حسين بن مسعود الفراء، أو ابن الفراء، البغوي الملقب بمحيي السنة.
(¬3) - ... لناصر الدين، أبي الخير عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشافعي.
(¬4) - ... لأمين الدين، أبي علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي.
صفحة ٢
1- لا يتعرض المصنف لبعض الجوانب التي كثيرا ما يوردها المفسرون. فبتتبع الكتاب يتضح لنا أنه لا يغوص في أوجه القراءات والتخريجات اللغوية، والبلاغية، والنحوية، والكلامية، التي كثيرا ما لا يفهمها العامة من الناس.
2- أحيانا يعزف عن الاختصار إلى التطويل في بعض مسائل تزكية النفس، مما يقربه من التفسير الصوفي، في محتواه ولغته.
... وكمثال على استعماله للمصطلحات الصوفية ما ذكره في تفسير قوله تعالى: {له الأسماء الحسنى} [الحشر: 24]: «لأنها دالة على محاسن المعاني، فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لتنكشف له أسرارها، فتحتها معان مدفونة لا تنكشف إلا للموقنين».
تفسير الكندي وعلاقته بالفكر الإباضي
نتبين من خلال تفسير الكندي روح الفكر الإباضي، فنجد مؤلفنا في الآيات التي تتعلق بالآراء العقدية عند الإباضية يبرز رأيه بوضوح، ويدع المصدر الذي اعتمده جانبا، مثال ذلك:
- مسألة القضاء والقدر: يقول البيضاوي في تفسير الآية الثانية من سورة التغابن: «{فمنكم كافر} مقدر كفره، موجه إليه ما يحمله عليه، {ومنكم مؤمن} مقدر إيمانه، موفق لما يدعوه اليه» (¬1) .
ويقول الشيخ الكندي: «{فمنكم كافر} مقدر كفره، ناه عما يحمله عليه، {ومنكم مؤمن} مقدر إيمانه، آمر بما يدعوه اليه». فهنا يظهر رأي الإباضية بوضوح في قضية الجبر أو الاختيار.
- مسألة رؤية الله عز وجل: يقول البيضاوي في تفسير الآية 23 من سورة القيامة: «{إلى ربها ناظرة} تراه مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه...»إلخ (¬2) .
ويقول الكندي فيها: «{إلى ربها ناظرة} منتظرة ثوابه».
وصف النسخة المعتمدة
¬__________
(¬1) - ... البيضاوي: تفسير، ج4/ ص204.
(¬2) - ... البيضاوي: تفسير، ج4 / ص 233.
صفحة ٣
- - الورقة الأولى غير مرقمة، وتحمل التمليكة، منها كلمات منمحية.
- - الناسخ: سيف بن مالك بن سيف اليعربي وغيره، حيث يقول الناسخ: «ونسخته لنفسي بخط يدي وبخط غيري».
- - تاريخ النسخ والمكان: غير مذكورين. غير أن المالك الأخير للنسخة، وضع تاريخ شرائه الكتاب وهو: يوم 27 ربيع الأول 1278ه؛ ولا شك أن بين هذا التاريخ وتاريخ النسخ زمن غير قليل حتى ينتقل الكتاب من ناسخه سيف بن مالك ربما بعد موته إلى حفيد المؤلف: قيس بن سليمان الكندي، ثم يموت هذا ليشتريه من ترائكه: سيف بن أحمد بن سليمان الكندي. وهذا يدفعنا إلى القول إن هذه النسخة التي بين أيدينا قريبة جدا من عهد المؤلف الذي توفي سنة 1207ه.
- - أصل النسخة: بخط المصنف، حيث يقول الناسخ: «هذا ما أردت نسخه، ووجدته مكتوبا بخط الشيخ سعيد بن أحمد الكندي».
- - الخط مشرقي صعب المراس، ورديء في كثير من الأحيان.
- - عدد الأوراق: 341 ورقة، أي 682 صفحة.
- - عدد الأسطر في الصفحة: متذبذب بين 28 و 31 سطرا.
- - عدد الكلمات في السطر: متذبذب بين 12 و 20 كلمة.
- - المقاس: 24 سم × 18 سم.
- - التمليكات:
... المالك الأول: الناسخ سيف بن مالك بن سيف اليعربي، لأنه نسخه لنفسه.
... المالك الثاني: حفيد المصنف: قيس بن سليمان بن الشيخ سعيد ابن أحمد الكندي. لأن المالك الأخير قال: «صار ملكا لي بالشراء من ترائك الشيخ الثقة قيس بن سليمان...».
... المالك الثالث: سيف بن أحمد بن سليمان الكندي.
عملنا في التحقيق:
- - عنوان التفسير غير وارد في جميع الكتاب، ولذلك وضعنا العنوان باجتهادنا، ونسبناه إلى مصنفه، فكان كالتالي: «تفسير القرآن الكريم للشيخ سعيد بن أحمد الكندي».
صفحة ٤
- - المخطوط كله مرقم بقلم الرصاص حسب الصفحات، لا حسب الأوراق كما اعتيد في المخطوطات. وقد وضعنا رقم الصفحة في المخطوط بين معقوفين في متن المطبوع؛ مثل: [258].
- - كثيرا ما لا يستطيع الناسخ فهم الأصل الذي نقل منه فيضيف كلمة “لعله” قبل الكلمة التي لم يفهمها في المتن، وقد وضعناها بين قوسين في كل الكتاب: (لعله) (¬1) . وكل ما يحتمل أنه من إضافة الناسخ نضعه بين قوسين، سواء كان كلمة أو جملة، مثال ذلك: «والعدل عن المقصد (لعله القصد)». «أو فاتركم (لعله فاتركهم) في أرض الله».
- - قد يكتب الناسخ نصا في الحاشية ولا يحيل إليه في متن الكتاب، فنجتهد في إدراجه في محله.
- - يبدو أن الناسخ لا يراعي معنى النص فيخطئ في النقل، مما جعلنا نلقى عنتا كبيرا في ضبط النص، وقد نبقى مع كلمة أو عبارة واحدة مدة طويلة نناقشها، ونقلبها على وجوهها، ونرجع إلى مصادر التفسير الأخرى، وقد نظفر ببغيتنا وقد لا نظفر، خاصة إذا كانت العبارة مما انفرد به المصنف، ولم نجد لها مثيلا عند غيره. ومثال ذلك في تفسير آية عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال من سورة الأحزاب نجد عبارة بهذا الرسم: «لا جرم فالما فالما أدى لها والقائم بحقوقها...» وبعد طول بحث تبين أنه يقصد «لا جرم فالمؤدي لها والقائم بحقوقها...».
- - لا نصحح الخطأ في متن الكتاب عموما وإنما نذكر الصواب في الهامش، إلا إذا كان الخطأ واضحا بديهيا، لا شك فيه فإننا نصححه في المتن ونشير إلى الخطإ في الهامش، وخاصة ما يتعلق بالإعجام والهمزات كما سنوضحه. وأما إذا لم نتأكد من المعنى فإننا نحيل إلى الهامش، ونضع الاحتمالات الصائبة الممكنة.
¬__________
(¬1) - ... ينصح القارئ أثناء مطالعته بعدم قراءة (لعله) حتى لا يختل عليه تتبعه للمعنى.
صفحة ٥
- - الإعجام (تنقيط الحروف) في المخطوط متذبذب، فأحيانا يضع النقاط، وكثيرا ما يهملها، فنضعها باجتهادنا حسب ما يقتضيه السياق إذا تأكدنا من المعنى، ونظرا لكثرتها فإننا نصححها في المتن دون أن نشير إلى ذلك في الهامش حتى لا نثقل الكتاب بكثرة الإحالات.
وهذه نماذج من أخطائه في الإعجام والهمزات وغيرهما:
نوع الخطأ ... تفصيل نوع الخطأ ... النموذج ... الصواب
التنقيط ... إهمال التنقيط أصلا ... رسد ... = رشد
إهمال التنقيط في البعض وكتابة البعض ... النواب ... = الثواب
التكتبر ... = التكبير
الخطأ في التنقيط ... يشال ... = يسأل
شايخات ... = سائحات
قلب المعنى رأسا على عقب ... مفاجرهم ... = مفاخرهم
الهمزات (¬1) ... الألف المقصورة والياء ... الهدي ... = الهدى
الألف المقصورة والممدودة ... أسارا ... = أسارى
دنيى ... = دنيا
الألف المقصورة والهمزة ... يتجزى ... = يتجزأ
الهمزة وأحرف العلة ... ساير ... = سائر
التبري ... = التبرؤ
الألف بعد الواو (غير واو الجماعة) ... أرجوا ... = أرجو
واو الجماعة إذا عقبها ضمير متصل يضيف لها ألفا ... ليبلغواهم ... = ليبلغوهم
يحتقروانهم ... = يحتقرونهم
يدعوانهم ... = يدعونهم
همزة الوصل في أول الفعل أحيانا لا يكتبهما ... «ودعوه مخلصين» ... = «وادعوه مخلصين»
لتفت ... = التفت
بتدروا ... = ابتدروا
أمثلة لأخطاء أخرى في الهمزات ... الجزا ... = الجزاء
اطمنانية ... = اطمئنانية
المستهزاء ... = المستهزئ
قراة ... = قراءة
نباء ... = نبأ
لأولياءيه ... = لأوليائه
الجزوء ... = الجزء
أخطاء أخرى (¬2) ... وصل الكلمات أو فكها ... فيحال ... = في حال
عنما ... = عما
التاء والهاء ... مناجات ... = مناجاة
التورات ... = التوراة
¬__________
(¬1) - ... كل ما يتعلق برسم الهمزات نصححه حسب الرسم الإملائي، دون أن نشير إلى ذلك، كما هو متعارف عليه في علم التحقيق.
(¬2) - ... في مثل هذه الأخطاء اعتمدنا الرسم الإملائي دون الإحالة إلى التصحيح في الهامش.
صفحة ٦
الجمع بين عدة أخطاء (¬1) ... نفتاالاض ... = الانقباض
وأخيرا، فهذا مجهود مقل ومستعجل في تحقيق هذا التفسير القيم، ونحن لا ندعي الكمال في اجتهادنا، آملين أن نحصل على نسخ أخرى للمخطوط، فنعيد أو يعيد غيرنا تحقيقه من جديد؛ وهكذا العمل العلمي الدؤوب دوما في ازياد وتصحيح وتنقيح... ولا يضمن التواصل العلمي إلا النقد العلمي البناء، الذي ننتظره بفارغ صبر، شاكرين لكل من يخلص لنا النصح، ولكل من يدعو لنا عن ظهر الغيب.
والله نسأل أن يقيل عثراتنا، وأن يأجر كل من سعى لإخراج هذا التفسير في صورته المكتملة، ونذكر على رأسهم: سعادة المستشار، صاحب الأفضال الظاهرة في مجال العلم والتحقيق:
الذي زودنا بمخطوط الكتاب. وأستاذنا مرشد الجيل فضيلة الدكتور محمد ابن صالح ناصر، الذي كان لنا نعم السند في كل خطوات التحقيق.
كما لا ننسى جهود الإخوة الطلبة: سليمان بابزيز، إسماعيل ابن عيسى، مسعود حامي، قاسم أوبكة وغيرهم ممن ساعدنا في تصفيف النص، ومقارنته...
{ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنآ، أنت مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين}
المحققان ... ...
القرارة يوم 11 جمادى الأولى 1418ه
14 سبتمبر 1998م
[سورة] الفاتحة
¬__________
(¬1) - ... وهذا من أعجب الأخطاء التي وقع فيها الناسخ فقد وضع مكان الفاء قافا، ومكان التاء باء، والألف واللام وهمزة الوصل تتقدم من وسط الكلمة إلى أولها!، وحل اللغز في كلمة كهذه ليس بالأمر الهين.
صفحة ٧
بسم الله الرحمن الرحيم (¬1) [1]
{الحمد لله} أي: فرض حمده على عباده، وحمد الله: هو الثناء عليه بصفاته الحسنى.
{
¬__________
(¬1) - ... كتبت في وجه الورقة الأولى من المخطوط وهي غير مرقمة عبارة تحمل اسم المالك الأول للكتاب ومالكه الثاني، وهي كالتالي:
... «...ت [انمحاء، تقديره: اشتريت] هذا الكتاب بالشراء الصحيح من ترائك الشيخ الثقة: قيس بن سليمان ...يخ [انمحاء تقديره: بن الشيخ] العالم سعيد بن أحمد بن الكندي. وهو الآن ملكي وأنا الأقل [كذا] لله تعالى، ... [انمحاء] بن أحمد بن سليمان الكندي بيدي. تاريخ يوم 27 من شهر ربيع الأول سنة 1278ه».
... وفي ظهر نفس الورقة كتب ما يلي:
... «[ق]وله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} ورد في آيتين متجانستين [في] اللفظ في الأنعام. و“سبحان” معناه: لا تقربوا أي لا تتعرضوا لمال اليتيم. منعهم منع تحريم [و]زجر وتهديد، لقوله في سورة الأنعام: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} فكانت هذه واحدة [مم]ا تلاه عليهم، فقد حرم عليهم الدخول في مال اليتيم إلا بشريطة هي أن ينزلوا بالمنزلة التي حدها [ل]هم، وهي قوله: {إلا بالتي هي أحسن}، أي بالطريقة المستقيمة فيدخلوا أنفسهم في ماله وينبسطوا».
... وهذه العبارة ليست من تفسير الكندي، كما سيتضح لنا في تفسير سورة الأنعام ، (الآية:152)، وفي تفسير سورة الإسراء (الآية: 34). ويبدو أنها من إضافة الناسخ، ويقصد بقوله: «و“سبحان”» سورة الإسراء.
... كما يوجد تحتها بيتان من الشعر، وهما:
... «تبين أخي في الله قولي فإنني ... ... على النصح في ذات الإله مع العتبى
صفحة ٨
... وأهديه صرفا في عموم أولي النهى ... ... كذا في خصوص من عموم أولي القربى» رب العالمين(2)} الرب المالك، وقيل: الخالق، والعالمين جمع عالم، وقيل: الدنيا عالم واحد من ثمانية عشر ألف عالم، وقيل: لا يحصي عدد العالمين أحد إلا الله؛ وقال الله: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} (¬1) .
{الرحمن} “فعلان” من “رحم”، وهو الذي وسعت رحمته كل شيء، وكذا {الرحيم(3)} “فعيل” منه.
{مالك يوم الدين(4)} أي: قاضي يوم الجزاء، وقيل: المالك، والملك: هو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود، ولا يقدر عليه أحد إلا الله. وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه وتعالى من كونه ربا أي مالكا للعالمين، ومنعما للنعم كلها، ومالكا للأمر كله، أي (¬2) يوم الثواب والعقاب، بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله: {الحمد لله} دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه.
{إياك نعبد وإياك نستعين(5)} أي لا نعبد إلا إياك، ولا نشرك في عبادتنا غيرك، {وإياك نستعين} أي: لا نستعين إلا بك، لا بأنفسنا وحولنا وقوتنا، فعمل الأول هو العمل لله، وعمل الثاني هو العمل بالله؛ والعمل لله يوجب تحقيق العبادة، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة. {اهدنا الصراط المستقيم(6)} أي: ثبتنا، وقيل: أي أرشدنا وثبتنا على المنهاج الواضح، وهو طريق الحق وملة الإسلام. {صراط الذين أنعمت عليهم} أي: صراط المسلمين، {غير المغضوب عليهم} من اليهود والمستوجبين لغضب الله، وغضب الله هو عقوبته. {ولا الضالين(7)} من النصارى، أي غير الكافرين والمنافقين؛ والمنعم عليه والمغضوب عليه متضادان لا يستويان. قيل: وأصل الضلال والهلاك والغيبوبة، يقال: ضل الماء في اللبن، إذا هلك وغاب به.
سورة البقرة
قيل: مدنية، وهي مائتان وسبع وثمانون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{
¬__________
(¬1) - ... سورة المدثر: 39.
(¬2) - ... كذا في الأصل ، ولعل الصواب: - «أي».
صفحة ٩
ألم(1)} ونظائرها قيل: إنها أسماء للسور، وقيل: إنها اسم الله الأعظم، وقيل: إنها من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها، كما قال: {آمنا به كل من عند ربنا} (¬1) الله، وقيل غير ذلك.
{ذلك الكتاب} أي ذلك الكتاب الكامل، {لا ريب} لا شك فيه أنه من عند الله وأنه الحق الصدق، وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (¬2) ، فإن الشك ريبة، وإن الصدق اطمئنانية، أي: فإن كون الأمر مسلوك (¬3) فيه كما تقلق (¬4) له النفس ولا تستقر، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له القلوب وتسكن، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (¬5) ، والمعنى: أنه من وضوح دلالته بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه، إذ لا مجال للريبة فيه.
{
¬__________
(¬1) - ... سورة آل عمران: 7. ولعل الصواب حذف كلمة “الله”.
(¬2) - ... رواه الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع، رقم 2442، بسند: حدثنا أبو موسى الأنصاري حدثنا عبد الله بن إدريس حدثنا شعبة عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء السعدي، عن الحسن بن علي، وبزيادة: «فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة». قال وهذا حديث حسن صحيح. ورواه النسائي في آداب القضاة، وفي الأشربة؛ وأحمد في مسند أهل البيت، وفي باقي مسند المكثرين؛ والدارمي في المقدمة والبيوع. انظر: العالمية: موسوعة الحديث.
(¬3) - ... كذا في الأصل، والصواب: «مشكوكا».
(¬4) - ... كتب الناسخ في الهامش: «لعله: بهما تقلق».
(¬5) - ... سورة الرعد: 28.
صفحة ١٠
فيه هدى} وإنما قيل: {هدى للمتقين}، والمتقون: مهتدون به إلا الفاسقون، ولم يقل: هدى للضالين؛ لأنهم فريقان: فريق علم بقاءهم على الضلالة، وفريق علم أن مسيرهم إلى الهدى، وهو هدى لهؤلاء فحسب، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل: هدى للسائرين إلى الهدى، فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا، فقيل: {هدى [2] للمتقين(2)} والمتقي في الشريعة: هو الذي يقي نفسه تعاطي ما تستحق به العذاب، ويقال: اتقى بترسه، أي: جعله حاجزا بين نفسه وبين ما يقصده، فكان التقي يجعل امتثال أوامر الله والاجتناب عما نهاه عنه، حاجزا بينه وبين العذاب، (لعله) (¬1) أي: هو بيان ورشد لأهل التقوى، والتقوى: عبارة عن مقتضى الخوف، مع أن فيه تصدير للسورة التي هي أولى الزهراوين (¬2) ،
¬__________
(¬1) - ... هذه الكلمة كثيرا ما ترد في النص، ويبدو أنها من إضافة الناسخ لما لم يفهمه من نسخة الأم؛ لذلك وضعناها بين قوسين، لأنها ليست من وضع المؤلف.
(¬2) - ... ثبت هذا الاسم من الحديث الشريف، فقد روى أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، رقم 21897 قال: حدثنا وكيع حدثنا بشير بن مهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «تعلموا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة. تعلموا البقرة وآل عمران فإنهما هما الزهراوان يجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تجادلان عن صاحبهما». وروى نحوه أيضا في باقي مسند الأنصار. والدارمي في كتاب فضائل القرآن. العالمية: موسوعة الحديث، مادة البحث: «الزهراوان»..
صفحة ١١
وسنام القرآن (¬1) . بذكر أولياء الله.
والمتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم: وقاء فاتقى، ففاؤها واو ولامها ياء، فإذا بنيت من ذلك “افتعل” قلبت الواو ياء وأدغمتها في التاء الأخرى، فقلت: اتقى. والوقاية فرط الصيانة، وقيل: لا كمال أكمل ما (¬2) للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لعالم: فيم لذتك؟ قال: «في حجة تتحر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا». ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} (¬3) ، والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقاب من فعل أو ترك (¬4) .
{
¬__________
(¬1) - ... روى الترمذي في سننه، رقم 2803 قال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن حكيم بن جبير عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن هي آية الكرسي». قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير وضعفه. رورى نحوه أحمد في مسند البصريين؛ والدارمي في فضائل القرآن. العالمية: موسوعة الحديث، مادة البحث: «سنام القرآن».
(¬2) - ... كذا في الأصل، والصواب: «مما».
(¬3) - ... سورة فصلت: 42.
(¬4) - ... في الأصل: «أو اترك» وهو خطأ.
صفحة ١٢
الذين} هم الذين {يؤمنون} يصدقون {بالغيب} بما غاب عنهم مما أنبأهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر البعث والثواب والعقاب وغير ذلك، فهو بمعنى الغائب. وحقيقة الإيمان في الشرع هو المعرفة بالله وصفاته وبرسله، وبجميع ما جاءت به رسله؛ وكل عارف بشيء فهو مصدق به، لأن الإيمان هو التصديق، والمؤمن هو المصدق، والمصدق هو المقر المعترف بالإسلام. والتصديق من الإيمان الطاعة والعمل لله بما أمر. {ويقيمون الصلاة} يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان؛ أو أريد بإقامتها تعديل أركانها. وقيل: للداعي مصل تشبيها في تخشعه بالراكع الساجد، ويقال: أقام بالأمر، وأقام الأمر، أتى به معطيا حقوقه. {ومما رزقناهم ينفقون(3)} المراد به الزكاة لاقترانه بالصلاة التي هي أختها، أو غيرها من الإنفاق في سبيل الخير لمجيئه مطلقا.
{والذين يؤمنون بما أنزل إليك} يعني: القرآن، {وما أنزل من قبلك} سائر الكتب المنزلة قبله، {وبالآخرة هم يوقنون(4)} الإيقان العلم بانتفاء الشك.
{أولئك على هدى من ربهم} أي منحوه وأعطوه من عنده، وهو اللطف والتوفيق على أعمال البر. {وأولئك هم المفلحون(5)} أي الظافرون بما طلبوا، الناجون عما هربوا، فالفلاح درك البغية، والمفلح والفائز من البغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر.
صفحة ١٣
{ إن الذين كفروا} والكفر سبر (¬1) الحق بالجحود وغيره، والكفر هو التغطية للحق والستر عليه، وإظهار خلافه، كما يقال: «كفر فلان حقه»، إذا أنكره وجحده وغطاه، فالكفر التغطية، فالكفر تغطية الحق، فغطوه وجحدوه. وكفر نعمة الله: جحدها وسترها، والمكفر: المجحود النعمة مع إحسانه، وكافره حقه: جحده، والتكفير في المعاصي كالإحباط [3] في الثواب.
{سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} بهمزتين كوفي[كذا]، و«سواء» بمعنى الاستواء، كأنه قيل: إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه، والإنذار التخويف من عقاب الله، {لا يؤمنون(6)}.
{ختم الله على قلوبهم} قيل: الختم التغطية، لأن في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه تغطية له لئلا يطلع عليه. وقال ابن عباس: «طبع الله على قلوبهم، فلا يعقلون الخير»، يعني أن الله طبع عليها فجعلها حيث لا يخرج منها ما فيها من الكفر، ولا يدخلها ما ليس فيها من الإيمان؛ وحاصل الختم والطبع والرين والحجاب والعمى والصمم والغطاء خلق الظلمة والضيق في صدر العبد عندنا، فلا يؤمن ما دامت تلك الظلمة في قلبه. وقال بعضهم: إن إسناد الختم إلى الله تعالى مجاز، والخاتم في الحقيقة الكافر، إلا أنه تعالى لما كان هو قدره ومكنه أسند إليه الختم.
{
¬__________
(¬1) - ... قال في اللسان: «السبر: التجربة، وسبر الشيء سبرا: حزره وخبره»، ثم قال: «قال المؤرج... السبر: العداوة، قال: وهذا غريب»، ويبدو أن المؤلف يقصد بالسبر المعنى الثاني الغريب، فهو أقرب إلى السياق. ابن منظور: لسان العرب المحيط، قدم له العلامة الشيخ عبد الله العلايلي، أعاد بناء على الحرف الأول من الكلمة: يوسف خياط، نشر دار الجيل، ودار لسان العرب، بيروت، 1408ه/1988م، ج3/85.
صفحة ١٤
وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} البصر: نور العين، وهو ما يبصر به الرائي، كما أن البصيرة نور القلب، وهو ما به يستبصر ويتأمل؛ وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله تعالى، فيهما آلتين (¬1) للإبصار والاستبصار. والغشاوة: الغطاء. والأسماع داخلة في حكم الختم، لا في حكم التغشية. قال أبو منصور: «الكافر لما لم يسمع قول الحق، ولم ينظر في نفسه وغيره من المخلوقات، ليرى آثار الحدث، فيعلم أن لا بد له من صانع، جعل كأن على بصره وسمعه غشاوة، وإن لم يكن ذلك حقيقة». والغشاوة: فعالة من “غشاه”، إذا غطاه.
{ولهم عذاب عظيم(7)} ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من التغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم من العذاب، لا يعلم كنهه إلا الله، والفرق بين العظيم والكبير أن العظيم يقابل الحقير، والكبير يقابل الصغير. والعذاب قيل ما يمنع الإنسان عن مراده، كأنهم منعوا عن مرادهم الحقيقي، إلا أنهم لم يعلموا به، ولذلك قال: {وما يشعرون}، (لعله) لأنهم تركوا التفكر عن (¬2) حقيقة مآلهم فصاروا معذبين في الدنيا والآخرة في المعنى، لأن ما بهم من دنياهم ليس بثابت، فليس بشيء في الحقيقة؛ والمؤمنون بضد ذلك، فهم منعمون في الدنيا والآخرة، لأن ما ينالهم من المكروهات في الدنيا ليس بباق، ولهم الثواب عليه.
{
¬__________
(¬1) - ... كذا في الأصل، ولعل الصواب: «آلتان»، أو: «خلق الله تعالى فيهما آلتين».
(¬2) - ... كذا في الأصل، ولعل الصواب: «في».
صفحة ١٥
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا دينهم لله، وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم؛ ثم ثنى بالكافر قلوبا وألسنة؛ ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة، لأنهم خلطوا (¬1) بالكفر استهزاء وخداعا، ولذا نزل فيهم: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (¬2) . {وما هم بمؤمنين(8)} إنكارا لما ادعوه من الإيمان ونفيه.
{
¬__________
(¬1) - ... كذا في الأصل، ولعل الصواب: «خلطوا الإيمان بالكفر».
(¬2) - ... سورة النساء: 145.
صفحة ١٦
يخادعون الله} يظهرون غير ما في نفوسهم، فالخداع إظهار غير ما في النفس. {والذين [4] آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم} أي وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين لأنفسهم، لأن ضررها يلحقهم، وحاصل خداعهم وهو العذاب في الآخرة يرجع إليهم؛ فكأنهم خدعوا أنفسهم. والنفس ذات الشيء وحقيقته، والخداع من الله في قوله: {وهو خادعهم} (¬1) أي يظهر لهم ويجعل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة؛ وقيل: أصل الخدع الفساد، معناه يفسدون (لعله) ما أظهروا من الإيمان بما أضمروا من الكفر؛ {وهو خادعهم}: (لعله) أي يفسد عليهم (لعله) يعني في الدنيا، لما (لعله) يصيروا إليه من عذاب الآخرة. ثم قيل: للقلب والروح «النفس»، لأن النفس بهما، وللدم نفس، لأن قوامها بالدم، وللماء نفس لفرط حاجتها إليه؛ والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم، والمعنى: لمخادعتهم ذواتهم، لأن الخداع لاصق بهم، لا يعدوهم إلى غيرهم. {وما يشعرون(9)} أن حاصل خداعهم يرجع إليهم، والشعور على الشيء (¬2) علم حس من الشعار وهو ثوب يلي الجسد ، ومشاعر الإنسان حواسه لأنها آلات الشعور، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له.
{
¬__________
(¬1) - ... سورة النساء: 142.
(¬2) - ... كذا في الأصل، ولعل الصواب: «بالشيء».
صفحة ١٧
في قلوبهم مرض} أي شك أو نفاق، لأن الشك تردد بين الأمرين، والمنافق متردد؛ في الحديث: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين» (¬1) ، والمريض متردد بين الحياة والموت، ولأن المرض ضد الصحة، والفساد يقابل الصحة، فصار المرض اسما لكل فساد؛ والشك والنفاق فساد في القلب. {فزادهم الله مرضا} أي ضعفا عن الانتصار، وعجزا على الاقتدار؛ وقيل: المراد به خلق النفاق في حالة البقاء بخلق أمثاله، كما عرف في زيادة الإيمان؛ وقيل: لأن الآيات كانت تنزل تترى آية بعد آية، كلما كفروا بآية ازدادوا كفرا ونفاقا، وذلك معنى قوله: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} (¬2) . {ولهم عذاب أليم} أي مؤلم، يخلص وجعه إلى قلوبهم {بما كانوا يكذبون(10)}، أي بكذبهم في قولهم (¬3) : {آمنا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين}.
{
¬__________
(¬1) - ... رواه مسلم في صحيحه، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، رقم 4990. عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة». وفي رواية: «تكر في هذه مرة وفي هذه مرة». ورواه النسائي في كتاب الإيمان وشرائعه. وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة من عدة طرق؛ والدارمي في كتاب المقدمة. العالمية: موسوعة الحديث، مادة البحث: «مثل المنافق».
(¬2) - ... سورة التوبة: 125.
(¬3) - ... في الأصل: «قلولهم»، وهو خطأ.
صفحة ١٨
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض} الفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به، وضده الصلاح، وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة؛ والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن، لأن في ذلك فسادا في الأرض وانتفاء الاستقامة على أحوال الناس، والزروع والمنافع الدينية والدنيوية. {قالوا: إنما نحن مصلحون(11)} أي إن صفة المصلحين حصلت لنا، وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد، وذلك ظنا منهم وحرصا بلا قيام دليل، ولو قابلوا أحوالهم بالدليل لاستبان لهم فسادها عيانا.
{ألا إنهم هم المفسدون} أنفسهم بالكفر، والناس بالتعويق عن الإيمان، [5] {ولكن لا يشعرون(12)} أي لا يعلمون أنهم مفسدون، لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطال الحق صلاح، قد رد الله ما ادعوه من جملة المصلحين أبلغ ردا (¬1) .
{وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء} نصحوا من وجهين: أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده من الصواب، وجره إلى الفساد، وثانيها (¬2) تبصيرهم لطريق السداد، وكان من جوابهم أن سفهوهم وجهلوهم لتمادي جهلهم، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة. وذكر الناس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة، ومن عداهم كالبهائم، وإنما سفهوهم وهم العقلاء المراجيح لأنهم جمع لجهلهم اعتقدوا (¬3) أن ما هم فيه هو الحق، وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيها. والسفه سخافة العقل، وخفة الحلم؛ وقيل: السفيه خفيف العقل، رقيق الحلم، وقولهم: ثوب سفيه، أي رقيق.
{ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون(13)} إنهم هم السفهاء.
{
¬__________
(¬1) - ... كذا في الأصل، ولعل الصواب: «رد».
(¬2) - ... كذا في الأصل، والأصوب: «وثانيهما».
(¬3) - ... كذا في الأصل، ولعل الصواب: «اعتقادهم»، أو «أنهم اعتقدوا».
صفحة ١٩
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا} بيانا لمذهب المنافقين، {وإذا خلوا إلى شياطينهم} رؤوسهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم، والشيطان: المتمرد العاتي من الجن والإنس، وأصله البعد، يقال: بئر شيطان، أي بعيدة قعر العمق؛ وسمي الشيطان شيطانا لامتداده في الشر وبعده من الخير، {قالوا: إنا معكم} أي مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم، {إنما نحن مستهزئون(14)} توكيد لقوله: {إنا معكم}، وقوله: {إنما نحن مستهزئون} رد للإسلام، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له، والاستهزاء السخرية والاستخفاف، {الله يستهزئ بهم} أي يجازيهم على استهزائهم، فسمى جزاء الاستهزاء باسمه، كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (¬1) ، {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} (¬2) ، فسمى جزاء السيئة سيئة، وجزاء الاعتداء اعتداء، وإن لم يكن الجزاء سيئة والاعتداء (¬3) ؛ وهذا لأن الاستهزاء على الله تعالى لا يجوز من حيث الحقيقة، لأنه من باب العبث وتعالى عنه، ويجوز في المعنى استهزاؤه بهم خذلانه لهم، وترك نصرته إياهم، كما تركوا دينه، ولم يحتلفوا (¬4) به، على معنى المقابلة والمجازاة، لأنهم إذا تركوا دينه فقد اتخذوه هزؤا، وإن لم يستهزئوا بألسنتهم؛ وقيل: معناه إهانتهم لأن المستهزئ غرضه (¬5) بالشيء غرضه إدخال الهوان والحقارة عليه. {
¬__________
(¬1) - ... سورة الشورى: 40.
(¬2) - ... سورة البقرة: 194.
(¬3) - ... كذا في الأصل، والصواب: «ولا اعتداء».
(¬4) - ... كذا في الأصل، ولم نجد هذه الكلمة في كتب اللغة ولعل الصواب: «ولم يحتفلوا به»، أي لم يبالوا، قال ابن منظور في اللسان: «وما حفله، وما حفل به، يحفل حفلا، وما احتفل به، أي ما بالى، والحفل: المبالاة، يقال: ما أحفل بفلان،: أي ما أبالي به». ابن منظور: لسان العرب، ج1/676.
(¬5) - ... كذا في الأصل، والصواب: - «غرضه»، فتكون العبارة: «لأن المستهزئ بالشيء غرضه إدخال الهوان...».
صفحة ٢٠