فقد تبين بهذا أمران: الأول: أن الإنسان كما أنه مستند الوجود إلى الإرادة الإلهية على حد سائر الذوات الطبيعية وأفعالها الطبيعية فكذلك أفعال الإنسان مستندة الوجود إلى الإرادة الإلهية، فما ذكره المعتزلة من كون الأفعال الإنسانية غير مرتبطة الوجود بالله سبحانه وإنكار القدر ساقط من أصله، وهذا الاستناد حيث إنه استناد وجودي فالخصوصيات الوجودية الموجودة في المعلول دخيلة فيه، فكل معلول مستند إلى علته بحده الوجودي الذي له، فكما أن الفرد من الإنسان إنما يستند إلى العلة الأولى بجميع حدوده الوجودية من أب وأم وزمان ومكان وشكل وكم وكيف وعوامل أخر مادية، فكذلك فعل الإنسان إنما يستند إلى العلة الأولى مأخوذا بجميع خصوصياته الوجودية، فهذا الفعل إذا انتسب إلى العلة الأولى والإرادة الواجبة مثلا لا يخرجه ذلك عما هو عليه ولا يوجب بطلان الإرادة الإنسانية مثلا في التأثير، فإن الإرادة الواجبية إنما تعلقت بالفعل الصادر من الإنسان عن إرادة واختيار، فلو كان هذا الفعل حين التحقق غير إرادي وغير اختياري لزم تخلف إرادته تعالى عن مراده وهو محال، فما ذهب إليه المجبرة من الأشاعرة من أن تعلق الإرادة الإلهية بالأفعال الإرادية يوجب بطلان تأثير الإرادة والاختيار فاسد جدا، فالحق الحقيق بالتصديق أن الأفعال الإنسانية لها نسبة إلى الفاعل ونسبة إلى الواجب وإحدى النسبتين لا توجب بطلان الأخرى لكونهما طوليتين لا عرضيتين.
الثاني: أن الأفعال كما أن لها استنادا إلى عللها التامة وقد عرفت أن هذه النسبة ضرورية وجوبية كسائر الموجودات المنسوبة إلى عللها التامة بالوجوب كذلك لها استنادا إلى بعض أجزاء عللها التامة كالإنسان مثلا، وقد عرفت أن هذه النسبة بالإمكان فكون فعل من الأفعال ضروري الوجود بملاحظة علته التامة الضرورية لا يوجب عدم كون هذا الفعل ممكنا بنظر آخر، إذ النسبتان ثابتتان وهما غير متنافيتين كما مر فما ذكره جمع من الماديين من فلاسفة العصر الحاضر من شمول الجبر لنظام الطبيعة وإنكار الاختيار باطل جدا بل الحق أن الحوادث بالنسبة إلى عللها التامة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادها وأجزاء عللها ممكنة الوجود، وهذا هو الملاك في أعمال الإنسان وأفعاله فبناؤه في جميع مواقف عمله على أساس الرجاء والتربية والتعليم ونحو ذلك، ولا معنى لابتناء الواجبات والضروريات على التربية والتعليم، ولا الركون إلى الرجاء فيها وهو ظاهر.
صفحة ٦١