وكيف كان فالأفاعيل بالنسبة إلى موضوعاتها تنقسم بانقسام أولي إلى قسمين: الأول: الفعل الصادر عن الطبيعة من غير دخل للعلم في صدوره كأفعال النشوء والنمو والتغذي للنبات والحركات للأجسام، ومن هذا القبيل الصحة والمرض وأمثال ذلك فإنها وإن كانت معلومة لنا وقائمة بنا إلا أن تعلق العلم بها لا يؤثر في وجودها وصدورها شيئا وإنما هي مستندة تمام الاستناد إلى فاعلها الطبيعي، والثاني: الفعل الصادر عن الفاعل من حيث إنه معلوم تعلق به العلم كما في الأفعال الإرادية للإنسان وسائر ذوات الشعور من الحيوان، فهذا القسم من الفعل إنما يفعله فاعله من حيث تعلق العلم به وتشخيصه وتمييزه، فالعلم فيه إنما يفيد تعيينه وتمييزه من غيره وهذا التمييز والتعيين إنما يتحقق من جهة انطباق مفهوم يكون كمالا للفاعل انطباقا بواسطة العلم، فإن الفاعل أي فاعل كان إنما يفعل من الفعل ما يكون مقتضى كماله وتمام وجوده فالفعل الصادر عن العلم إنما يحتاج إلى العلم من جهة أن يتميز عند الفاعل ما هو كمال له عن ما ليس بكمال له.
ومن هنا ما نرى أن الأفعال الصادرة عن الملكات كصدور أصوات الحروف منظمة عن الإنسان المتكلم، وكذا الأفعال الصادرة عنها مع اقتضاء ما ومداخلة من الطبيعة كصدور التنفس عن الإنسان، وكذا الأفعال الصادرة عن الإنسان بغلبة الحزن أو الخوف أو غير ذلك كل ذلك لا يحتاج إلى ترو من الفاعل، إذ ليس هناك إلا صورة علمية واحدة منطبقة على الفعل والفاعل لا حالة منتظرة لفعله، فيفعل البتة، وأما الأفعال التي لها صور علمية متعددة تكون هي من جهة بعضها مصداق كمال الإنسان حقيقة أو تخيلا، ومن جهة بعضها غير مصداق لكماله الحقيقي أو التخيلي كما أن الخبز بالنسبة إلى زيد الجائع كذلك فإنه مشبع رافع لجوعه ويمكن أن يكون مال الغير ويمكن أن يكون مسموما ويمكن أن يكون قذرا يتنفر عنه الطبع، وهكذا والإنسان إنما يتروى فيما يتروى لترجيح أحد هذه العناوين في انطباقه على الخبز مثلا، فإذا تعين أحد العناوين وسقطت بقيتها وصار مصداقا لكمال الفاعل لم يلبث الفاعل في فعله أصلا، والقسم الأول: نسميه فعلا اضطراريا كالتأثيرات الطبيعية.
والقسم الثاني: نسميه فعلا إراديا كالمشي والتكلم.
والفعل الإرادي: الصادر عن علم وإرادة ينقسم ثانيا إلى قسمين: فإن ترجيح أحد جانبي الفعل والترك إما مستند إلى نفس الفاعل من غير أن يتأثر عن آخر كالجائع الذي يتروى في أكل خبز موجود عنده حتى رجح أن يبقيه ولا يأكله لأنه كان مال الغير من غير إذن منه في التصرف فانتخب الحفظ واختاره أو رجح الأكل فأكله اختيارا، وإما أن يكون الترجيح والتعيين مستندا إلى تأثير الغير كمن يجبره جبار على فعل بتهديده بقتل أو نحوه ففعله إجبارا من غير أن يكون متعينا بانتخابه واختياره والقسم الأول.
يسمى فعلا اختياريا، والثاني فعلا إجباريا هذا، وأنت تجد بجودة التأمل أن الفعل الإجباري وإن أسندناه إلى إجبار المجبر وأنه هو الذي يجعل أحد الطرفين محالا وممتنعا بواسطة الإجبار فلا يبقى للفاعل إلا طرف واحد، لكن الفعل الإجباري أيضا كالاختياري لا يقع إلا بعد ترجيح الفاعل المجبور جانب الفعل على الترك وإن كان الذي يجبره هو المتسبب إلى الفعل بوجه، لكن الفعل ما لم يترجح بنظر الفاعل وإن كان نظره مستندا بوجه إلى إجبار المجبر وتهديده لم يقع، والوجدان الصحيح شاهد على ذلك، ومن هنا يظهر أن تقسيم الأفعال الإرادية إلى اختيارية وجبرية ليس تقسيما حقيقيا ينوع المقسم إلى نوعين مختلفين بحسب الذات والآثار، فإن الفعل الإرادي إنما يحتاج إلى تعيين وترجيح علمي يعين للفاعل مجرى فعله، وهو في الفعل الاختياري والجبري على حد سواء، وأما أن ترجيح الفاعل في أحدهما مستند إلى رسله وفي آخر إلى آخر فلا يوجب اختلافا نوعيا يؤدي إلى اختلاف الآثار.
ألا ترى أن المستظل تحت حائط إذا شاهد أن الحائط يريد أن ينقض، فخرج خائفا عد فعله هذا اختياريا؟ وأما إذا هدده جبار بأنه لو لم يقم لهدم الحائط عليه، فخرج خائفا عد فعله هذا إجباريا من غير فرق بين الفعلين والترجيحين أصلا غير أن أحد الترجيحين مستند إلى إرادة الجبار.
صفحة ٥٩