عليه العقلاء في المجتمع الإنساني، من استحسان الحسن والمدح والشكر عليه واستقباح القبيح والذم عليه كما قال تعالى: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي": البقرة - 271، وقال: "بئس الاسم الفسوق": الحجرات - 11، وذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح الإنسان ومفاسده مرعي فيها أصلح ما يعالج به نقص الإنسان فقال تعالى: "إذا دعاكم لما يحييكم": الأنفال - 24، وقال تعالى: "ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون": الصف - 11، وقال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان إلى أن قال وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي": النحل - 90، وقال تعالى: "إن الله لا يأمر بالفحشاء": الأعراف - 28، والآيات في ذلك كثيرة، وفي ذلك إمضاء لطريقة العقلاء في المجتمع، بمعنى أن هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن وقبح ومصلحة ومفسدة وأمر ونهي وثواب وعقاب أو مدح وذم وغير ذلك والأحكام المتعلقة بها كقولهم: الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل، والقبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك ، كما أنها هي الأساس للأحكام العامة العقلائية كذلك الأحكام الشرعية التي شرعها الله تعالى لعباده مرعي فيها ذلك، فمن طريقة العقلاء أن أفعالهم يلزم أن تكون معللة بأغراض ومصالح عقلائية، ومن جملة أفعالهم تشريعاتهم وجعلهم للأحكام والقوانين، ومنها جعل الجزاء ومجازاة الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة إن شاءوا فهذه كلها معللة بالمصالح والأغراض الصالحة، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الأوامر العقلائية ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله، وكل المجازاة إنما تكون بالمسانخة بين الجزاء وأصل العمل في الخيرية والشرية وبمقدار يناسب وكيف يناسب، ومن أحكامهم أن الأمر والنهي وكل حكم تشريعي لا يتوجه إلا إلى المختار دون المضطر والمجبر على الفعل وأيضا إن الجزاء الحسن أو السيىء أعني الثواب والعقاب لا يتعلقان إلا بالفعل الاختياري اللهم إلا فيما كان الخروج عن الاختيار والوقوع في الاضطرار مستندا إلى سوء الاختيار كمن أوقع نفسه في اضطرار المخالفة فإن العقلاء لا يرون عقابه قبيحا، ولا يبالون بقصة اضطراره.
فلو أنه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزاء المطيع بالجنة والعاصي بالنار إلا جزافا في مورد المطيع، وظلما في مورد العاصي، والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء ولزم الترجيح من غير مرجح وهو قبيح عندهم أيضا ولا حجة في قبيح وقد قال تعالى: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل": النساء - 165، وقال تعالى "ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة": الأنفال - 44، فقد اتضح بالبيان السابق أمور: أحدها: أن التشريع ليس مبنيا على أساس الإجبار في الأفعال، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم أولا، وهي متوجهة إلى العباد من حيث إنهم مختارون في الفعل والترك ثانيا، والمكلفون إنما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختيارا.
ثانيها: أن ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الإضلال والخدعة والمكر والإمداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الإنسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألواث النقص والقبح والمنكر، فإن جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الإضلال وشعبه وأنواعه، وليس كل إضلال حتى الإضلال البدوي وعلى سبيل الإغفال بمنسوب إليه ولا لائق بجنابه، بل الثابت له الإضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء اختياره ذلك كما قال تعالى: "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين" الآية: البقرة - 26، وقال: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم": الصف - 5، وقال تعالى: "كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب": المؤمن - 34.
ثالثها: أن القضاء غير متعلق بأفعال العباد من حيث إنها منسوبة إلى الفاعلين بالانتساب الفعلي دون الانتساب الوجودي، وسيجيء لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي وفي الكلام على القضاء والقدر إن شاء الله تعالى.
صفحة ٥٢