وهذا من عجيب أمر القرآن فإن الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة ولا تعقم عن الإنتاج، كلما ضمت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق ثم الآية الثالثة تصدقها وتشهد بها، هذا شأنه وخاصته، وسترى في خلال البيانات في هذا الكتاب نبذا من ذلك، على أن الطريق متروك غير مسلوك ولو أن المفسرين ساروا هذا المسير لظهر لنا إلى اليوم ينابيع من بحاره العذبة وخزائن من أثقاله النفيسة.
فقد اتضح بطلان الإشكال من الجهتين جميعا فإن أمر البلاغة المعجزة لا يدور مدار اللفظ حتى يقال إن الإنسان هو الواضع للكلام فكيف لا يقدر على أبلغ الكلام وأفصحه وهو واضح أو يقال إن أبلغ التركيبات المتصورة تركيب واحد من بينها فكيف يمكن التعبير عن معنى واحد بتركيبات متعددة مختلفة السياق والجميع فائقة قدرة البشر بالغة حد الإعجاز بل المدار هو المعنى المحافظ لجميع جهات الذهن والخارج.
معنى الآية المعجزة في القرآن وما يفسر به حقيقتها
ولا شبهة في دلالة القرآن على ثبوت الآية المعجزة وتحققها بمعنى الأمر الخارق للعادة الدال على تصرف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة ونشأة المادة لا بمعنى الأمر المبطل لضرورة العقل.
وما تمحله بعض المنتسبين إلى العلم من تأويل الآيات الدالة على ذلك توفيقا بينها وبين ما يتراءى من ظواهر الأبحاث الطبيعية "العلمية" اليوم تكلف مردود إليه.
والذي يفيده القرآن الشريف في معنى خارق العادة وإعطاء حقيقته نذكره في فصول من الكلام.
1 - تصديق القرآن لقانون العلية العامة
إن القرآن يثبت للحوادث الطبيعية أسبابا ويصدق قانون العلية العامة كما يثبته ضرورة العقل وتعتمد عليه الأبحاث العلمية والأنظار الاستدلالية، فإن الإنسان مفطور على أن يعتقد لكل حادث مادي علة موجبة من غير تردد وارتياب.
وكذلك العلوم الطبيعية وسائر الأبحاث العلمية تعلل الحوادث والأمور المربوطة بما تجده من أمور أخرى صالحة للتعليل، ولا نعني بالعلة إلا أن يكون هناك أمر واحد أو مجموع أمور إذا تحققت في الطبيعة مثلا تحقق عندها أمر آخر نسميه المعلول بحكم التجارب كدلالة التجربة على أنه كلما تحقق احتراق لزم أن يتحقق هناك قبله علة موجبة له من نار أو حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك، ومن هنا كانت الكلية وعدم التخلف من أحكام العلية والمعلولية ولوازمهما.
وتصديق هذا المعنى ظاهر من القرآن فيما جرى عليه وتكلم فيه من موت وحياة ورزق وحوادث أخرى علوية سماوية أو سفلية أرضية على أظهر وجه، وإن كان يسندها جميعا بالآخرة إلى الله سبحانه لفرض التوحيد.
فالقرآن يحكم بصحة قانون العلية العامة بمعنى أن سببا من الأسباب إذا تحقق مع ما يلزمه ويكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه مترتبا عليه بإذن الله سبحانه وإذا وجد المسبب كشف ذلك عن تحقق سببه لا محالة.
2 - إثبات القرآن ما يخرق العادة
ثم إن القرآن يقتص ويخبر عن جملة من الحوادث والوقائع لا يساعد عليه جريان العادة المشهودة في عالم الطبيعة على نظام العلة والمعلول الموجود، وهذه الحوادث الخارقة للعادة هي الآيات المعجزة التي ينسبها إلى عدة من الأنبياء الكرام كمعجزات نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنها أمور خارقة للعادة المستمرة في نظام الطبيعة.
لكن يجب أن يعلم أن هذه الأمور والحوادث وإن أنكرتها العادة واستبعدتها إلا أنها ليست أمورا مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري كما يبطل قولنا الإيجاب والسلب يجتمعان معا ويرتفعان معا من كل جهة وقولنا الشيء يمكن أن يسلب عن نفسه وقولنا: الواحد ليس نصف الاثنين وأمثال ذلك من الأمور الممتنعة بالذات كيف؟ وعقول جم غفير من المليين منذ أعصار قديمة تقبل ذلك وترتضيه من غير إنكار ورد ولو كانت المعجزات ممتنعة بالذات لم يقبلها عقل عاقل ولم يستدل بها على شيء ولم ينسبها أحد إلى أحد.
صفحة ٣٩