والانقلاب على العقبين كناية عن الإعراض، فإن الإنسان - وهو منتصب على عقبيه - إذا انقلب من جهة، إلى جهة انقلب على عقبيه، فجعل كناية عن الإعراض نظير قوله "ومن يولهم يومئذ دبره": الأنفال - 16، وظاهر الآية أنه دفع لما يختلج في صدور المؤمنين: من تغيير القبلة ونسخها، ومن جهة الصلوات التي صلوها إلى القبلة، ما شأنها؟ ويظهر من ذلك أن المراد بالقبلة التي كان رسول الله عليها، هو بيت المقدس الكعبة، فلا دليل على جعل بيت المقدس قبلة مرتين، وجعل الكعبة قبلة مرتين، إذ لو كان المراد من القبلة في الآية الكعبة كان لازم ذلك ما ذكر.
وبالجملة كان من المترقب أن يختلج في صدور المؤمنين: أولا، أنه لما كان من المقدر أن يستقر القبلة بالآخرة على الكعبة فما هو السبب، أولا: في جعل بيت المقدس قبلة؟ فبين سبحانه أن هذه الأحكام والتشريعات ليست إلا لأجل مصالح تعود إلى تربية الناس وتكميلهم، وتمحيص المؤمنين من غيرهم، وتمييز المطيعين من العاصين، والمنقادين من المتمردين، والسبب الداعي إلى جعل القبلة السابقة في حقكم أيضا هذا السبب بعينه، فالمراد بقوله إلا لنعلم من يتبع الرسول، إلا لنميز من يتبعك، والعدول من لفظ الخطاب إلى الغيبة لدخالة صفة الرسالة في هذا التميز، والمراد بجعل القبلة السابقة: جعلها في حق المسلمين، وإن كان المراد أصل جعل بيت المقدس قبلة فالمراد مطلق الرسول، والكلام على رسله من غير التفات، غير أنه بعيد من الكلام بعض البعد.
وثانيا: أن الصلوات التي كان المسلمون صلوها إلى بيت المقدس كيف حالها، وقد صليت إلى غير القبلة؟ والجواب: أن القبلة قبلة ما لم تنسخ، وأن الله سبحانه إذا نسخ حكما رفعه من حين النسخ، لا من أصله، لرأفته ورحمته بالمؤمنين، وهذا ما أشار إليه بقوله: وما كان الله ليضيع إيمانكم، إن الله بالناس لرءوف رحيم.
والفرق بين الرأفة والرحمة، بعد اشتراكهما في أصل المعنى، أن الرأفة يختص بالمبتلى المفتاق، والرحمة أعم.
قوله تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها، الآية تدل على أن رسول الله قبل نزول آية القبلة - وهي هذه الآية - كان يقلب وجهه في آفاق السماء، وأن ذلك كان انتظارا منه، أو توقعا لنزول الوحي في أمر القبلة، لما كان يحب أن يكرمه الله تعالى بقبلة تختص به، لا أنه كان لا يرتضي بيت المقدس قبلة، وحاشا رسول الله من ذلك، كما قال تعالى: فلنولينك قبلة ترضيها، فإن الرضا بشيء لا يوجب السخط بخلافه بل اليهود على ما في الروايات الواردة في شأن نزول الآية كانوا يعيرون المسلمين في تبعية قبلتهم، ويتفاخرون بذلك عليهم، فحزن رسول الله ذلك، فخرج في سواد الليل يقلب وجهه إلى السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه، وكشف همه فنزلت الآية، ولو نزلت على البقاء بالقبلة السابقة لكانت حجة له (صلى الله عليه وآله وسلم) على اليهود، وليس ولم يكن لرسول الله ولا للمسلمين عار في استقبال قبلتهم، إذ ليس للعبد إلا الإطاعة والقبول، لكن نزلت بقبلة جديدة، فقطع تعييرهم وتفاخرهم، مضافا إلى تعيين التكليف، فكانت حجة ورضى.
قوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.
الشطر البعض، وشطر المسجد الحرام هو الكعبة، وفي قوله تعالى شطر المسجد الحرام دون أن يقال: فول وجهك الكعبة، أو يقال: فول وجهك البيت الحرام، محاذاة للحكم في القبلة السابقة، فإنها كانت شطر المسجد الأقصى، وهي الصخرة المعروفة هناك، فبدلت من شطر المسجد الحرام - وهي الكعبة - على أن إضافة الشطر إلى المسجد، وتوصيف المسجد بالحرام يعطي مزايا للحكم، تفوت لو قيل: الكعبة أو البيت الحرام.
صفحة ١٨٩