وثانيهما: أن القدرة وإن كانت مطلقة إلا أن تحقق الإيجاد وفعلية الوجود يستحيل معه التغير، فإن الشيء لا يتغير عما وقع عليه بالضرورة وهذا مثل الإنسان في فعله الاختياري فإن الفعل اختياري للإنسان ما لم يصدر عنه فإذا صدر كان ضروري الثبوت غير اختياري له، ومرجع هذا الوجه إلى نفي إطلاق الملكية وعدم جواز بعض التصرفات بعد خروج الزمام ببعض آخر كما قالت اليهود: يد الله مغلولة: فأشار سبحانه إلى الجواب عن الأول بقوله: ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير أي فلا يعجز عن إقامة ما هو خير من الفائت أو إقامة ما هو مثل الفائت مقامه وأشار إلى الجواب عن الثاني بقوله: ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، أي أن ملك السموات والأرض لله سبحانه فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وليس لغيره شيء من الملك حتى يوجب ذلك انسداد باب من أبواب تصرفه سبحانه، أو يكون مانعا دون تصرف من تصرفاته، فلا يملك شيء شيئا، لا ابتداء ولا بتمليكه تعالى، فإن التمليك الذي يملكه غيره ليس كتمليك بعضنا بعضا شيئا بنحو يبطل ملك الأول ويحصل ملك الثاني، بل هو مالك في عين ما يملك غيره ما يملك، فإذا نظرنا إلى حقيقة الأمر كان الملك المطلق والتصرف المطلق له وحدة، وإذا نظرنا إلى ما ملكنا بملكه من دون استقلال كان هو الولي لنا وإذا نظرنا إلى ما تفضل علينا من ظاهر الاستقلال - وهو في الحقيقة فقر في صورة الغنى، وتبعية في صورة الاستقلال - لم يمكن لنا أيضا أن ندبر أمورنا من دون إعانته ونصره كان هو النصير لنا.
وهذا الذي ذكرناه هو الذي يقتضيه الحصر الظاهر من قوله تعالى: "إن الله له ملك السموات والأرض فقوله تعالى: ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض"، مرتب على ترتيب ما يتوهم من الاعتراضين، ومن الشاهد على كونهما اعتراضين اثنين الفصل بين الجملتين من غير وصل، وقوله تعالى: وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، مشتمل على أمرين هما كالمتممين للجواب أي وإن لم تنظروا إلى ملكه المطلق بل نظرتم إلى ما عندكم من الملك الموهوب فحيث كان ملكا موهوبا من غير انفصال واستقلال فهو وحده وليكم، فله أن يتصرف فيكم وفي ما عندكم ما شاء من التصرف، وإن لم تنظروا إلى عدم استقلالكم في الملك بل نظرتم إلى ظاهر ما عندكم من الملك والاستقلال وانجمدتم على ذلك فحسب، فإنكم ترون أن ما عندكم من القدرة والملك والاستقلال لا تتم وحدها، ولا تجعل مقاصدكم مطيعة لكم خاضعة لقصودكم وإرادتكم وحدها بل لا بد معها من إعانة الله ونصره فهو النصير لكم فله أن يتصرف من هذا الطريق فله سبحانه التصرف في أمركم من أي سبيل سلكتم هذا، وقوله: وما لكم من دون الله، جيء فيه بالظاهر موضع المضمر نظرا إلى كون الجملة بمنزلة المستقل من الكلام لتمامية الجواب دونه.
فقد ظهر مما مر: أولا، أن النسخ لا يختص بالأحكام الشرعية بل يعم التكوينيات أيضا.
وثانيا: أن النسخ لا يتحقق من غير طرفين ناسخ ومنسوخ.
وثالثا: أن الناسخ يشتمل على ما في المنسوخ من كمال أو مصلحة.
ورابعا: أن الناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته وإنما يرتفع التناقض بينهما من جهة اشتمال كليهما على المصلحة المشتركة فإذا توفي نبي وبعث نبي آخر وهما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر كان ذلك جريانا على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة والموت والرزق والأجل وما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب اختلاف الأعصار وتكامل الأفراد من الإنسان، وإذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملا على مصلحة الدين وكل من الحكمين أطبق على مصلحة الوقت، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة وليس للمسلمين بعد عدة ولا عدة.
وحكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الإسلام وأعد فيهم ما استطاعوا من قوة وركز الرعب في قلوب الكفار والمشركين.
صفحة ١٤٥