* بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
* تأملات في المنهج البياني للقرآن
كيف يمكن لنا أن نفهم القرآن؟ وهل ثمة أسلوب خاص بالقرآن يميزه ، بحيث لا يمكن مقاربته بدون استيعابه؟
وهل القرآن كتاب مستغلق اللغة والمفاهيم بحيث يحتاج إلى أهل خبرة واختصاص لجلاء معانيه وسبر أغواره؟ أم هو كتاب موضوع للناس كافة ، بحيث يمكن لكل إنسان أن يقاربه وفق قدراته وإمكاناته الثقافية ، فيرى فيه العامة مآربهم والعلماء تطلعاتهم؟
ومن ثم ما هي قصة المحكم والمتشابه ، والظاهر والباطن ، وغيرها من المصطلحات ذات الارتباط الوثيق بمقاربة القرآن قراءة وتفسيرا؟
وكيف ينطلق القرآن في حديثه عن أشخاص معينين؟
هل هو بمعنى التعيين الذي يتجمد عندهم ، أم هو بمعنى النموذج الأمثل الذي يتمثل فيه المفهوم العام الذي يريد تأكيده في الخط من خلال النموذج؟
صفحة ٥
هذه أسئلة توقف عندها الكثيرون في حركة التفسير ، وأثاروا الكثير من الجدل حولها ، حتى خيل للبعض أن القرآن كتاب رمزي لا يعلمه إلا الفئة التي جعل الله لها الميزة في فهم وحيه ، فأنكروا حجية ظواهره إلا بالرجوع إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وانطلق البعض ليتحدث عن تعدد المعاني للكلمة الواحدة بطريقة عرضية أو طولية ، واستفاد آخرون من الروايات أن القرآن ، في مجمل آياته ، حديث عن أهل البيت بطريقة إيجابية ، وعن أعدائهم بطريقة سلبية ، ليبقى للأحكام وللقضايا العامة وللقصص المتنوعة مقدار معين ...
وهكذا كان التصور العام للقرآن خاضعا للأجواء الخاصة التي تعبد به عن أن يكون الكتاب المبين الذي أنزله الله على الناس ليكون حجة عليهم ، من خلال آياته الواضحة التي تمنحهم الوعي الفكري والروحي والشرعي ، على أساس ما يفهمونه منها ، بحسب القواعد التي تركز الطريقة العامة للفهم العام.
من هنا ، فمن الضروري جلاء هذه المسألة المهمة في الفكر الإسلامي ، لأن أية مسألة تتصل بطبيعة القرآن وسلامته ، من الزيادة والنقصان ، وطريقة فهمه ، ودوره الأصيل في استلهام وحي الله ، هي على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة في وعي الإسلام ، لأن القرآن الكريم هو القاعدة الإسلامية الأساس للمفاهيم ، والأحكام ، والمناهج ، والوسائل ، والغايات ، الأمر الذي يجعل من الارتباك والانحراف والغموض في فهمه ، مسألة سلبية تنسحب على ذلك كله.
ربما كان من البديهي استنطاق القرآن الكريم في حديثه عن نفسه في الآيات التي تؤكد عربيته ، وذلك في الآيات التالية :
( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) [يوسف : 2]. ( كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) [فصلت : 3]. ( قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ) [الزمر : 28]. ( نزل به الروح الأمين* على قلبك لتكون من المنذرين* بلسان عربي مبين ) [الشعراء : 193 195].
صفحة ٦
إن الحديث عن كون القرآن عربيا ، لا ينحصر في المسألة اللغوية ، بل يمتد ليكون عنوانا للمنهج العالم للقواعد التفصيلية ، في أساليب اللغة في البيان والفهم والأجواء ، من حيث الخصائص الفنية التي قد تحمل في داخلها الإيحاء والإيماء واللفتة والإشارة ، مما يتجاوز المدلول الحرفي للكلمات ، على أساس أن الجانب التاريخي للاستعمال قد يضيف إليها الكثير من ظلال المعاني وخصوصيتها التي قد تمنحها جوا جديدا ، وهذا هو الذي اصطلح عليه ب « الفهم العرفي» أو ب « الذوق العرفي ».
وفي ضوء هذا ، قد نلاحظ أن القواعد العربية تجعل قضية الوضوح في الدلالة ، سواء كانت على سبيل الاستعمال الحقيقي أو المجازي ، مسألة أساسية في حركة التفهيم والتفهم ، بحيث يكون الكلام القرآني حجة في إيصال الأفكار والتشريعات إلى الناس ، فلا مجال للتعقيد اللفظي والمعنوي في أساليب الاستعارة أو الكناية أو طريقة التركيب ، بحيث تكون المسافة بين اللازم والملزوم ، أو بين المضمون الحرفي للكلمة والغاية التي يقصدها المتكلم ، بعيدة جدا بما تستلزمه من الجهد الذهني في الربط بين الأشياء ، لأن ذلك يبتعد عن المنهج البياني الذي تفرضه مسألة التفاهم التي ترتكز عليها قضية اللغة في طبيعتها الحركية ، وربما نستوحي ذلك من الآيات التي تؤكد صفة التبيين في الآيات كقوله تعالى : ( لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) [النور : 46]. ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) [الأنعام : 55]. ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ) [النساء : 26].
فإن من الظاهر أن الآيات تتحدث عن الوضوح الذي يستلزم الهدى والهداية واستبانة الطريق المضاد الذي يتحرك فيه المجرمون.
وهكذا لا نجد هناك مجالا للحديث عن القرآن ككتاب رموز
صفحة ٧
ومصطلحات بعيدة في أسلوبها عن السياق العام لأساليب اللغة العربية ، بحيث يقف الناس أمامها حائرين لا يجدون لديهم النور الذي يوضح لهم طبيعة المعاني ، لأنهم يخافون أن يكون المراد من الآية معنى آخر غير المعنى الظاهر منها ، من دون أية قرينة في داخل الكلام ، أو في أجوائه ، مما يلغي الهدف الكبير للقرآن الذي يرتكز على أساس اعتبار الآيات النازلة على الناس طريقا للانفتاح على حركة العقل والتفكير والاهتداء ، ولتحقيق التذكر والتقوى من خلال ذلك ، في عملية الوعي والاستيحاء ، كما جاء في قوله تعالى : ( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) [البقرة : 266]. ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ) [البقرة : 242] ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) [آل عمران : 103]. ( كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) [البقرة : 187] ( ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) [البقرة : 221].
ولهذا كانت مسألة حجية ظواهر القرآن من القضايا البينة الواضحة التي أجمع عليها العلماء من خلال حجية الظواهر كلها.
وإذا كان القرآن يتحدث عن وجود متشابهات فيه ، فإن ذلك لا يعني « الرمز » ، بل يعني الكلام الذي يحتمل أكثر من وجه في مدلوله ، أو الذي يمكن أن تختلف فيه الإيحاءات ، وربما كانت المسألة تتجه نحو الجانب التطبيقي للآيات المتشابهة في أرض الواقع ، لا في الجانب المدلولي بحيث يستغلها الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وإرجاعه إلى الأفكار التي يحركونها في الناس من أجل إبعادهم عن الخط المستقيم.
وبذلك يكون دور الراسخين في العلم من خلال بعض القراءات هو تحديد الخطوط الواقعية التي يتحرك فيها مدلول الآية ، من خلال الأجواء
صفحة ٨
العربية ، في قضية التفهيم والتفاهم. ولسنا هنا في مجال البحث الواسع في مسألة « المتشابه » و « التأويل » ، بل كل ما هناك أننا نريد الإشارة إلى الموضوع في ما نستقر به من ذلك ، وقد ورد عن بعض أئمة أهل البيت عليه السلام ، جوابا عن سؤال حول ما أثاره بعض الناس من أن المقصود بالصلاة والزكاة ونحو هما رجال معينون ، قال : « إن الله لا يخاطب عباده بما لا يفهمون » ، مما يعني أن الآيات القرآنية لا تنطلق في خط التعقيد اللفظي والمعنوي أو الإشارة الرمزية التي لا توحي للناس بالوضوع في الفهم.
أما مسألة « الظاهر » و « الباطن » أو « الظهر » و « البطن » ، فقد أثار العلماء حولها الكثير من الحديث الذي يدور حول المعاني المتعددة التي تمثل بطون القرآن ، على أساس الروايات المتنوعة في ذلك حتى عد له « سبعون بطنا » ، وانطلق الأصوليون في أبحاثهم اللغوية للبحث عن « جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى » ، واستغرقوا في مسألة الإمكان والاستحالة على الطريقة الفلسفية ، على أساس المقولة التي تقول بأن اللفظ قالب للمعنى فلا يمكن أن يتحمل معنيين ، أو المقولة التي تقول بأنه علامة على المعنى ، فلا مانع من أن يكون دليلا على أكثر من معنى ، وقد رأى البعض في حديث « بطون القرآن » أو « الباطن القرآني » دليلا على أن هناك في القرآن شيئا للعامة وشيئا للخاصة ، على مستوى المعنى ، وهذه هي المنطقة « السرية » أو « الخفية » للمعنى القرآني التي لا يتحملها إلا الأمين على الأسرار الخفية للوحي الإلهي.
ولكن القرآن يتحدث عن الناس كلهم ، عند ما يتحدث عن الآيات التي يبينها لهم : لعلهم يتذكرون ، ويتفكرون ، ويعقلون ، فلا يختص بجماعة دون جماعة ، مما يفرض أن الفكرة الظاهرة من القرآن هي الفكرة التي يريد الله للناس أن يحملوها ويتحركوا في تفاصيلها الفكرية والعملية ، مع اختلافهم في طبيعة المستوى الذهني في استيعاب خصائصها ، كغيرها من الكلمات العربية البليغة التي يختلف الناس في فهم مداليلها تبعا لاختلاف ثقافاتهم.
صفحة ٩
وهناك ملاحظة أخرى في المسألة ، وهي أن تعدد المعنى في الاستعمال الواحد ، ليس مألوفا في الطريقة العامة للكلام ، لأنه لا ينسجم مع أسلوب التفاهم ، حتى في الكلمات المشتركة بين أكثر من معنى ، لأن الوضع للمعاني المتعددة لا يفرض استعمالها ، بل يعني حاجة كل واحد منها في إرادته من اللفظ إلى قرينة حالية أو مقالية ، وإذا كان الناس يتحدثون عن « المجمل » ، فإنه يوحي بالإجمال في معرفة المعنى المراد من اللفظ مع احتماله بين أكثر من معنى ، ولذلك فإن المسألة ليست مسألة الإمكان والاستحالة من حيث الذات ، بل هي مسألة المنهل الفني في استعمال الكلام في التفهيم لدى العرب ، فلو أريد هذا اللون من التعدد من الكلام ، لكان بعيدا عن النهج المألوف لديهم من خلال إخلاله بالوضوح ، وابتعاده بذلك عن مستوى البلاغة الذي يتنافى مع الإعجاز الفني الذي يرتفع به القرآن إلى أعلى قمة في الفن البلاغي ؛ هذا من جهة.
ومن جهة أخرى ، ما معنى أن يكون المعنى الباطن مخزونا لدى الراسخين في العلم وما فائدة ذلك؟ فإن كان ذلك من جهة أنهم حجج الله الذين لا بد من أن يقبل قولهم في أسرار الدين ، حتى لو لم يكن ذلك مفهوما من اللفظ ، فإن طبيعة الحجية تفرض ذلك من دون حاجة إلى تضمين القرآن لذلك ، لأن عصمتهم تؤكد صدقهم ، فتؤدي إلى قبول تلك الحقائق الخفية منهم ، وإن كان ذلك من خلال الطبيعة الذاتية للدلالة القرآنية ، فإن المفروض عدم وجود ظهور للقرآن في ذلك.
والسؤال : كيف نفهم ذلك؟
قد يكون من المفيد التحدث في هذا المجال عن نقطة مهمة في تكوين أية فكرة حول القضايا الفكرية الإسلامية ، وهي ضرورة التأكد من صحة الأحاديث المروية عن النبي محمد صل الله عليه وآله وسلم وعن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام ،
صفحة ١٠
من حيث السند والمتن ، بالطريقة التي تتجاوز الشروط المعروفة في حجية الأخبار ، في عملية الاستنباط الاجتهادي للأحكام الشرعية ، لأن تلك الشروط قد تكون مطروحة في دائرة التنجيز والتعذير ، من خلال الآثار الشرعية العملية للمضمون الخبري ، وذلك من خلال النظرية الأصولية العامة التي ترى في حجية الخبر لونا من ألوان التعبد الذي لا معنى له في المضمون الذاتي للخبر ، فلا بد له من الأثر العملي الذي يكون هو الملحوظ في معنى التعبد.
أما القضايا المتصلة بتفاصيل العقيدة ، وبمفردات الوجود ، أو بالخصوصية التفسيرية للقرآن ، فإنها بحاجة إلى القطع أو ما يقترب من القطع ويحقق الاطمئنان ، لأنه ليس خطا للعمل ، بل هو خط للقناعة الفكرية على مستوى الالتزام الداخلي بالمفاهيم المتنوعة التي تحكم الأشياء المطروحة في الواقع ، لئلا يكون الموقف متحركا في إثباتها ، وقد تكون الخطورة في هذه المسألة ، أن الخلل في المسائل العقيدية والمفاهيم العامة هو في الصورة التي تقدمها للإسلام ، أكثر مما يؤدي إليه الخلل في الأحكام الشرعية التي تتصل ببعض جوانب السلوك الفردي والاجتماعي في دائرة خاصة.
ولعل إهمال هذا الجانب ، هو الذي أوقعنا في فوضى المفاهيم المتنوعة المتصلة بالكثير من قضايا العقيدة في تفاصيلها ، وقضايا الكون والحياة ، من خلال الأحاديث الكثيرة التي لم تخضع لتقويم علمي في صحتها وضعفها في قاعدتها العامة.
وفي ضوء ذلك ، قد نحتاج إلى الوقوف أمام الأحاديث الواردة في قضايا التفسير بشكل دقيق ، لأن ، صورة المضمون التفسيري هي صورة القرآن في الوجه الفكري الذي يتقدم إلى الناس في تخطيطه للإنسان وللحياة ، وفي تكوينه للذهنية العامة للمسلم في نظرته إلى الوجود كله ، مما قد يترك تأثيراته السلبية أو الإيجابية لدى الباحثين في حركة الصراع بين الإسلام والكفر ، أو
صفحة ١١
بين الهدى والضلال.
والآن نحن مع الجواب.
قلنا : إننا لا نستطيع تصور مسألة الظاهر والباطن بالطريقة المادية التي تجعل للفظ طبقتين من المعنى ، تماما كما هو ظاهر الشيء وباطنه ، الذي تتعدد فيه العناصر ، وتتنوع فيه الخصائص ، أو كما هو الظهر الذي يمثل جانبا من الجسد يختلف عن الباطن الذي يمثل جانبا آخر ، فهناك حالتان عضويتان متعددتان ، لأن اللفظ حالة صوتية بسيطة توحي بحالة ذهنية مماثلة فيما هو المألوف من الطريقة المألوفة في اللغة العربية ، لذلك لا بد من استنطاق هذا المصطلح على أساس إرادة المعنى الواحد الذي تختلف طريقة فهمه تبعا لاختلاف ثقافة ، الإنسان الذي يعيه في معرفته بخصائص الأشياء ، تماما كما يتصور بعض الناس الشمس ، من خلال شكلها البارز ، بشكل سطحي ، بينما يتصورها بعض آخر ، من خلال عمق تكوينها وطبيعتها وآثارها ، بشكل عميق شامل بالمقدار الذي توصل العلم إلى معرفته ، مما قد يخيل إلينا أن هناك معنيين مختلفين من جهة اختلاف حجم الصورة أو طبيعتها المنطبعة في الوعي الفكري للإنسان ، في الوقت الذي تتمثل فيه القضية في معنى واحد مختلف الجوانب.
وقد تكون المسألة المعنى الجزئي الذي تمثله الآية في مواردها المتحركة في الواقع في عصر النزول ، أو في مواقع النزول ، والمعنى الكلي الذي يطل على كل المفردات التي تختزن مفهومه وخصوصيته الشاملة ، في الماضي والحاضر والمستقبل ، ليكون المعنى الظاهر هو المعنى الجزئي المنفتح على الحاضر ، أما المعنى الباطن ، فهو المعنى المنفتح على الصورة الكلية المفتوحة على المستقبل ، حتى لا يتجمد القرآن في الموارد التي نزل فيها ، بل يمتد ، على مستوى القاعدة الكلية ، إلى كل الموارد المماثلة ، في الحوادث
صفحة ١٢
المتجددة ، في مستقبل الحياة والإنسان.
وهذا هو ما تحدث عنه الإمام محمد الباقر عليه السلام في أكثر من حديث منها : ما رواه الصدوق عن أبيه عن سعد عن البرقي عن محمد بن خالد الأشعري عن إبراهيم بن محمد الأشعري عن ثعلبة بن ميمون عن أبي خالف القماط عن حمران بن أعين ، قال : « سألت أبا جعفر عليه السلام عن ظهر القرآن وبطنه؟ فقال : ظهره الذين نزل فيهم القرآن وبطنه الذين عملوا بأعمالهم يجري فيهم ما نزل في أولئك » (1).
ومنها : ما رواه العياشي في تفسيره ، عن الفضيل بن يسار قال : سألت أبا جعفر محمد الباقر عليه السلام عن هذه الرواية : « ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ، وما فيه حرف إلا ، وله حد ولكل حد مطلع. ما يعني بقوله : لها ظهر وبطن؟ قال : « ظهره وبطنه ، تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما تجري الشمس والقمر ، كلما جاء منه شيء وقع ، قال الله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) [آل عمران : 7] » (2).
ومن الواضح أن الحديث الأول يريد التأكيد على أن الخصوصية التي تمثل مورد الآية تستبطن في داخلها المعنى الكلي العام ، الذي يتجدد عبر الزمن كله كلما تجددت الموارد المماثلة في امتداده ، وهذا ما عبر عنه في حديث آخر ، في أن القرآن يموت إذا نزل في قوم مخصوصين يغيبون في الزمن ، ولكنه يجري مجرى الشمس والقمر والليل والنهار ، لتكون القضية قضية النموذج الذي يجسد الفكرة العامة التي استهدفها النص القرآني ، ونزلت من خلالها الآية ، فليس هناك معنيان للفظ ، بل هناك معنى واحد يتحرك في
صفحة ١٣
خط الزمن ، من الماضي إلى الحاضر ، ليطل على المستقبل في خط الخصوصية التي تتجسد في جميع المراحل والأفراد.
وهناك حديث آخر قد يطل بالمسألة على وجه آخر ، وهو ما رواه الصدوق عن أبيه عن علي بن الحكم عن محمد بن الفضيل عن بشر الوابشي عن جابر بن يزيد الجعفي قال : « سألت أبا جعفر عليه السلام عن شيء من التفسير فأجابني ، ثم سألته عنه ثانية فأجابني بجواب آخر فقلت : جعلت فداك كنت اجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟ فقال يا جابر إن للقرآن بطنا وللبطن بطن ، وله ظهر وللظهر ظهر ، يا جابر : ليس شيء أبعد عن عقول الرجال من تفسير القرآن ، إن الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل متصرف على وجوه » (1).
إن هذا الحديث قد يوحي لأول وهلة بالتعدد في المعنى للكلمة الواحدة من خلال دلالته على تعدد التفسير ، والتأكيد على أن لظاهر الكلمة ظهرا ولباطنها بطنا ، ولكن التدقيق فيه يدل على أنه يريد معالجة الآية في مدلولها لا في كلماتها ، فنحن نلاحظ أن بعض الآيات قد تنطلق في الحديث عن عدة جوانب للفكرة ، بحيث تتكامل في الخط الواحد الذي تتعدد آفاقه وجوانبه ، فقد تجد للمسألة الواحدة جانبا يتصل بالأخلاق ، وجانبا آخر يتصل بالاجتماع ، وثالثا يتصل بالسياسة وهكذا ، مما يجعل من الممكن أن يتحدث عنها الإنسان الباحث من عدة جوانب ، بحيث يبدو الحديث عن كل جانب كما لو كان مدلولا لآية بشكل مستقل. ولعل هذا هو مراد الإمام عليه السلام في اتصال الكلام من خلال وحدة مضمونه ، وتصرفه على وجوه من خلال تعدد جوانبه ، فيمكن للمعنى الذي نزل به القرآن أن يجتذب معنى آخر ، كما يمكن للإيحاءات التي توحي بها الآية أن تجتذب إيحاء آخر.
صفحة ١٤
وفي ضوء ذلك يمكننا الإطلال على مدلول التأويل ، فلا يكون المقصود به إرادة غير المعنى الظاهر من اللفظ ، بل استيحاء معنى من خلال المعنى المقصود من اللفظ ، بحسب الوضع الذي انطلق من خلال الاستعمال ، وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى : ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) [المائدة : 32] « قال : من حرق أو غرق ، قلت : فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ فقال : ذلك تأويلها الأعظم » (1).
فقد لا يكون مراد الإمام عليه السلام من ذلك أن المراد من الحياة هو الهدى ، وأن المراد من الموت هو الضلال ، أو أن يكون الهدى والضلال معنيين إضافيين للحياة والموت بالإضافة إلى معناهما المادي ، بل المراد أن التعمق في قيمة الهدى ، الذي يتحرك فيه الدعاة إلى الله ، لينقلوا الناس إليه من مواقع الضلال ، لا يقل أهمية عن قيمة الحياة التي ينقذها الناس من الموت ، لأن نتائج الهدى في روحية الإنسان وفي مصيره الأبدي تمثل نتائج الحياة الحقيقة ، فهي مسألة استيحائية لا مدلولية ، أو ربما يقرب من مفهوم الموافقة.
ونلتقي في هذا الاتجاه بالحديث المروي عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى : ( فلينظر الإنسان إلى طعامه ) [عبس : 24] « قال : قلت : ما طعامه؟ قال : علمه الذي يأخذه ممن يأخذه » (2).
فإن من الواضح أن العلم لا يمكن أن يكون مدلولا لكلمة الطعام في هذه الآية ، حتى مع تصورنا. أن هناك طعاما للعقل بالإضافة إلى طعام الجسد ، لأن الآيات الأخرى تؤكد أن المراد به الغذاء المادي الذي ينطلق من النبات ، وهي قوله تعالى : ( أنا صببنا الماء صبا* ثم شققنا الأرض شقا* فأنبتنا فيها حبا* وعنبا وقضبا*
صفحة ١٥
وزيتونا ونخلا* وحدائق غلبا* وفاكهة وأبا* متاعا لكم ولأنعامكم ) [عبس : 25 32] ، فإن هذا كله لا ينسجم مع مدلول العلم كما هو واضح ، لكن الإمام عليه السلام أراد أن يستوحي من هذه الكلمة « الطعام » معنى العلم ، باعتبار أن الكلمة ، في إيحاءاتها ، تجتذب الجانب المعنوي للطعام الذي هو نعمة إلهية تزيد أهميتها على النعم الإلهية المادية المغذية للجسد.
من هنا ، نرى ضرورة دراسة هذا الأسلوب الاستيحائي القرآني في التفسير ، لأنه ، الأسلوب الذي يجعل الإنسان ينطلق من الآية إلى عوالم أخرى ، من خلال طبيعة الغايات التي تتحرك إليها ، مما تلتقي به في أكثر من أفق ، في نطاق القواعد الإسلامية والعربية العامة.
وهذا هو الذي يجعلنا ننتقل من الصورة المادية إلى الصورة المعنوية ، ومن التجربة التاريخية للمجتمع الذي نزل القرآن فيه وعالج مشاكله وتحدياته وقضاياه ، إلى التجربة الجديدة التي نواجه فيها تحديات الواقع ومشاكله ، الأمر الذي يجعل للقرآن صفته « الحركية » إلى جانب الصفة التشريعية والتوجيهية والوعظية ونحو ذلك.
وفي ضوء ذلك ، قد نستطيع الوقوف مع الروايات الكثيرة الواردة عن الأئمة عليهم السلام والمفسرة لبعض آيات القرآن بأهل البيت عليه السلام لنجد أن البعض منها كان مختصا بهم « كآية التطهير » و « المودة في القربى » ، بينما كانت الآيات الأخرى منطلقة في الخط العام الذي يمثل أهل البيت عليهم السلام النموذج الأكمل له ، كآية ( الراسخون في العلم ) و ( لكل قوم هاد ) و ( فسئلوا أهل الذكر ) و ( من عنده علم الكتاب )، و ( كونوا مع الصادقين ) و ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ).
وإذا كانت بعض الآيات قد نزلت فيهم ، في مواردها الخاصة ، في أسباب النزول ، فإنها انطلقت لتمتد في الخط العام للقضية المطروحة فيها ،
صفحة ١٦
كما في آية المباهلة التي كان موردها أهل البيت وهم الحسن والحسين عليهما السلام في عنوان ( أبناءنا ) والزهراء عليهما السلام في عنوان ( نساءنا ) والإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام في عنوان ( أنفسنا ) وذلك قوله تعالى : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين ) [آل عمران : 61]. ولكنها رسمت خطا عما للمباهلة في كل الموارد التي يحتاج المسلمون إليها ، وهكذا نجد هذه الفكرة في قوله تعالى : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) [المائدة : 55] ، فإن المعروف المروي بأسانيد متعددة أنها نزلت في الإمام علي عليه السلام ، ولكنها في الوقت نفسه أطلقت الفكرة ، في العناوين الكبرى ، للذين يتولون الولاية للمسلمين ، في طبيعتها العالية التي توحي بها الصفات المذكورة فيها ، ولهذا ذكرت بأسلوب الجمع لا المفرد ، بحيث تشمل الأئمة عليهم السلام من ولده.
وهكذا نلاحظ هذا الأسلوب في قوله تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) [الإنسان : 8 9].
فقد نزلت في علي وفاطمة عليهما السلام ، ولكنها انطلقت من خلالهما ، لترسم الخط العريض للذين يتحركون في هذا الاتجاه ، وبهذه الروح في الإخلاص لله ، والخوف منه والحب له ، والإيثار لعباده من اليتامى والمساكين والأسرى.
وهكذا نجد أن القرآن الكريم لا يتوقف عند الخصوصيات التاريخية التي كانت المنطلق لنزوله ، بل يمتد إلى كل النماذج الحية في الزمن كله ، كما أنه في مفاهيمه العامة يتحرك من أجل أن يشير إلى حركة الواقع ، في قضايا الحق والباطل ، والشرعية واللاشرعية ، ليكون دليلا على خطوط الاستقامة والانحراف في الواقع الإسلامي ، الذي جاء عقب مدة طويلة من وقت نزوله ، ليتحدث عن كل مرحلة جديدة من خلال حديثه عن المرحلة السابقة المماثلة ، وليوجه الناس إلى رموز الحق في المستقبل ، ويبعدهم عن رموز الباطل فيه ،
صفحة ١٧
من خلال توجيهه وإبعاده عن الرموز المماثلة في الماضي ، لأن القرآن يمثل الحقيقة الواسعة التي تشمل الزمن كله وترتفع فوقه.
وفي ضوء ذلك ، فإننا لا نحتاج إلى الخروج عن المألوف من قواعد اللغة العربية في تفسيره ، أو إلى إبعاده عن القضايا العامة ، من أجل التركيز على هذه الحقيقة أو تلك ، أو هذا الرمز الشرعي للحق ، لأن الخطوط العامة المتناثرة فيه ، والنماذج الحية المتحركة في داخله ، يمكن أن توحي لنا بما نريد ، في عالم الدليل والبرهان.
ما تقدم يحدد الإطار المنهي الذي نرتئيه لمقاربة القرآن الكريم ، استنطاقا وفهما. والكتاب الذي بين أيدينا ، ليس إلا ، ثمرة لهذه المقاربة ، وهو خلاصة جهد يرجع إلى أكثر من ربع قرن من الزمن إلى الوراء ، ابتدأ كحلقات تدريس تفسيرية للقرآن الكريم ، متحولا مع الوقت إلى كتاب تفسير ، هو بمثابة مشروع ثقافي إسلامي يضرب بجذوره عميقا في القرآن الكريم مستلهما ومستوحيا مفاهيمه وأحكامه وقيمه ومبادئه ومواعظه وإرشاداته في مختلف المجالات والحقول ذات الصلة الوثيقة بتنظيم وإدارة وتوجيه الحياة الإنسانية بكل أبعادها وتجلياتها ، لا سيما بما ينسجم واستقرارها وسعادتها وتقدمها وتكاملها ، وما هذا كله إلا لأن القرآن هو قاعدة الفكر والعمل للإنسان المسلم حيث يجد فيه مفاهيم العقيدة كأدق ما تكون ، وامتدادات الشريعة في خط الحقيقة الشرعية كأصدق ما تكون ، وانطلاقة الآفاق الفكرية والروحية والحركية في أوسع مداها. وبناء عليه ، فإن القرآن الكريم هو الأساس لتأصيل عقيدة التوحيد ، والنبوة ، واليوم الآخر ، وما يتصل بذلك من الإمامة ، والولاية ، والصفات الإلهية ، وغير ذلك. وبالتالي ، فإن أي خروج عن ظواهر مراده يجب أن لا يكون ، كما أشرنا قبلا ، إلا بدليل قطعي من السنة والعقل ، وبما ينسجم وقواعد اللغة العربية وفنون بلاغتها وفصاحتها.
صفحة ١٨
وإذا كنا نؤكد على أصالة القرآن المنفتح على السنة الثابتة بالحجة التي لا تقبل الشك ، فإن علينا أن نعتبر عناوينه في الجانب التشريعي هي الأساس في وعي السنة في عناوينها التي تمثل التفصيل للعناوين القرآنية لتكون هي الأساس في حركة التشريع في الدراسة الفقهية ، وليس العكس ، لأن السنة لا تغير عنوان الحكم القرآني إلى عنوان آخر ، بل تعمل على تفصيله وتوضيحه بما يرفع غموضه وإجماله إن كان فيه إجمال وغموض.
ويبقى هنا نقطة لا بد من الإشارة إليها ، وهي أن مسألة التفسير تبقى تخضع لثقافة المفسر في وعيه للقضايا التي تحدث بها القرآن ، وللتشريعات التي عالجها ، والإشكالات التي أثارها الآخرون في حركة الصراع بين الكفر والإيمان ، مما واجه القرآن به المسألة على صعيد تقديم الحلول لها فكرا ومنهجا.
وقد حاولت في هذا التفسير أن أعيش القرآن في عقلي وقلبي وحياتي ، في فهم آياته ، واستيحاء أفكاره ، وتحريكه في كل مسيرتنا الإسلامية الصاعدة إلى كل الآفاق الباحثة عن الله في كل مواقع عظمته ، وامتدادات نعمه ، وأسرار أحكامه ، وفي الخط المستقيم المنفتح على كل حركة السعادة في الإنسان.
ورأيت أن من الضروري ، استحياء القرآن في ذلك كله على مستوى النظرية والتطبيق ، لنستهدي به في متاهات الواقع ، ونستضيء به في ظلمات الطريق ، ونطل به على المستقبل في كل قضاياه ، لنشعر بأن القرآن يعالج لنا كل أوضاعنا الحياتية ، فنكون قرآنيين في أفكارنا وحركاتنا ، تماما كما كان المسلمون السابقون ، الذين كان القرآن يتحرك معهم ، فيطل على مشكلاتهم الصعبة ، ليقدم لهم الحلول الصحيحة التي تبعث فيهم السكينة والثبات ، وإذا كنا نعرف أن معالجات القرآن في الماضي انطلقت من خلال سنن الله في الكون والإنسان لا من خلال خصوصية في الزمان والمكان والأشخاص ،
صفحة ١٩
فلذلك نستطيع أن نأخذ بها في الحالات المماثلة ، مما يجعلنا نتحرك بها في الحاضر والمستقبل ، لأن ، سنة الله لا تتبدل ولا تتحول ( فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) [فاطر : 43].
وإذا كانت الجوانب المعنوية تلتقي مع الجوانب المادية في أكثر من معنى ، فإننا يمكن أن نستوحي المعنوي من المادي ، كما نستوحي العام من الخاص إذا كانت الخصوصية لا تمثل شيئا حيويا في الفكرة أو في الحكم أو في الواقع.
وهناك عدة أبحاث حول عناوين القرآن مما يتمثل في علوم القرآن ، نرجو أن نوفق لتقديم بحث مفصل عنها في كتاب جديد.
وهذا الكتاب قد صدر قبل أكثر من عشرين سنة وطبعت أجزاؤه عدة طبعات ، ونفد من الأسواق منذ زمن وكثرت الحاجة إليه من قبل القراء والدارسين ... فعزمنا على إصداره في طبعة جديدة ، بعد أن أعدنا النظر في بعض أبحاثه ، مبدين بعض الملاحظات حولها ، ومناقشين بعض الأفكار الواردة في بعض الدراسات التفسيرية والفكرية ولا سيما ما ورد في تفسير الميزان للعلامة الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي رحمة الله ، الذي هو من أفضل التفاسير الحديثة ثراء وتنوعا فكريا وتفسيريا ، ولذا فقد حاولت درس بعض أبحاثه درسا نقديا بناء على مستوى أسلوب التفسير أو مواد الفكر.
وقد وصلنا بهذه الزيادات إلى أوائل سورة الأعراف ، ومع الابتهال إلى الله ، أرجو من السميع القدير أن يحالفني التوفيق في استكمال تلك الزيادات إلى آخر القرآن في طبعة جديدة. وإنني ، في ختام هذه المقدمة ، أرجو من كل إخواني من القراء والعلماء والمفكرين ، أن يقدموا إلي ما يجدونه من ملاحظات علمية هي خلاصة عمل منهجي نقدي بناء يتوخى البحث عن الحقيقة التفسيرية والفكرية الإسلامية ، بما يفرضه الأدب العلمي والتقوى
صفحة ٢٠
الفكرية ، لأن هناك بعض الأشخاص الذين وضعوا أنفسهم في موقع الناقدين لهذا الكتاب اعتمدوا أساليب التجريح والتشهير وحمل الكلام على خلاف ظاهره ، وتغليب الاحتمال السلبي على الاحتمال الإيجابي ، لأن الهدف ، في ما يبدو ، لم يكن النقد العلمي ، بل الإساءة الشخصية ، وإنني أدعو الله لهذا البعض بالهداية والرشد الفكري والتقوى العلمية مع كل محبتي لهم.
وفي الختام أرجو أن ينفع الله بهذا الكتاب في طبعته الجديدة القراء الكرام ، وينفعني بذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وأن يوفقني لإدراك الحقيقة التفسيرية في التجربة الجديدة القادمة في بقية أجزاء القرآن.
والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل
11 كانون الأول ، 1998 22 شعبان 1419
صفحة ٢١
* بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى
هل هذا كتاب تفسير ، وهل نحن بحاجة إلى تفسير جديد أمام هذا الحشد من التفاسير التي لم تترك جانبا من جوانب المعرفة القرآنية إلا وأفاضت في تحليله وتوسيعه وتعميقه ، من الجوانب اللغوية إلى الجوانب البلاغية والفلسفية والنفسية والاجتماعية ، وغيرها ، حتى انتهى الأمر إلى التفسير العلمي الذي يحاول رواده أن يجعلوا من القرآن مجمعا لكل ما استحدث من اكتشافات ونظريات في شتى ألوان المعرفة ... وانطلق البعض في اتجاه متطرف يجعل من القرآن كتابا مليئا بالأسرار حافلا بالمعميات والألغاز ، مما يوحي للقارىء بأنه أمام كتاب يعتمد على الرموز في كل ما يريد أن يعرفه للناس ؛ وما تزال المحاولات مستمرة في استحداث آفاق جديدة لتفاسير جديدة؟!
والجواب : إننا لم نكتب هذه الأبحاث في البداية كمحاولة تفسيرية جديدة ، بل كانت دروسا قرآنية تلقى على مجموعة من الطلاب المؤمنين المثقفين من أجل خلق وعي قرآني يركز الوعي الإسلامي على قواعد ثابتة لا مجال فيها للاهتزاز وللانحراف ، لأننا نشعر أن الثقافة القرآنية تعتبر العنصر الأساس لأي عمل إسلامي تغييري على صعيد الفكر أو على صعيد الواقع ، باعتبار أن القرآن يمثل في وعينا الإسلامي العقيدي الكتاب الذي ( لا يأتيه
صفحة ٢٣
الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) [فصلت : 42] ، وقد تكفل الله بحفظه من التحريف والزيادة والنقصان ، وذلك قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [الحجر : 9]. وفي ضوء هذا ، فإنه يمثل المصدر المعصوم للتصور الإسلامي الصافي لكل مجالات الحياة التشريعية والفكرية والعملية ، ويحدد لنا المفاهيم الأصلية التي ترتكز عليها الشخصية الإسلامية.
ولا نريد لهذه الكلمة أن توحي بالانتقاص من قيمة السنة كمصدر ثان أساسي للفكر والشريعة الإسلاميين ، فإن الحديث يعتبر الصورة التفصيلية للمفاهيم القرآنية العامة ، فهو الذي يضع النقاط على الحروف ، وهو الذي يحدد للقواعد العامة مسارها الفكري والعملي ، ولكن القرآن يختلف عن ، السنة في أن « سنده » لا يحتاج إلى إثبات علمي يبحث فيه العلماء وثاقة الراوي وأمانته ليحكموا من خلاله بصحته ، لأن سنده قطعي ، بينما نجد أن سند الحديث الذي يثبت لنا أن النبي قال هذا أو فعل هذا ليس بهذه المثابة من القوة ، فلا بد له من إثبات قد يختلف العلماء في أمره كما يختلفون في كل قضية اجتهادية.
ولذلك فإن التأكيد على الاهتمام بالقرآن يعمل على صنع الذهنية القرآنية الصافية التي نستطيع من خلالها أن نكتشف زيف الأحاديث الموضوعة من خلال اكتشاف زيف المفاهيم التي عالجتها عند ما نعرضها على القرآن الكريم انطلاقا من الأحاديث الثابتة عن أئمة أهل البيت عليه السلام التي تقرر أن « كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » (1).
وانطلقت هذه الدروس في خط عملي متحرك يركز على استحياء أجواء
صفحة ٢٤
القرآن من أجل أن نعيش تلك الأجواء في حياتنا الإسلامية الصاعدة ، لأن القرآن ليس كلمات لغوية تتجمد في معناها اللغوي ، بل هي كلمات تتحرك في أجواء روحية وعلمية ، ولهذا فإننا لا نتعامل مع آياته كتعاملنا مع النصوص الأدبية المجردة التي تتحرك مع الفكرة بعيدا عن أجواء الواقع ، بل إننا نشعر أنه حياة تتحرك وتعطي وتوحي وتهدي وتقود إلى الصراط المستقيم.
فقد كانت آياته تتنزل في أجواء حركة الدعوة الإسلامية لتراقب نقاط ضعفها وقوتها في خطوات الداعية وفي تحديات الواقع ، لتضع لها القواعد الحية التي تقوي جوانب الضعف وتحمي القوة من عوامل الانهيار وتوجه الخطوات إلى أهدافها وتواجه تحديات الواقع بإصرار ... وبذلك كانت تتحرك في جو الرسالة لتخلق من خلاله جوا جديدا لها في داخل حركة المجتمع الإسلامي.
وقد نجد في هذه الرؤية للأسلوب القرآني أن علينا أن نفهم القرآن ككتاب رسالة ودعوة ، وذلك من خلال استحضار أجواء الدعوة والرسالة في نفوسنا ، لنعيش حيويته وحركيته وروحانيته الرسالية كما عاشها المسلمون الأولون ، للوصول إلى الهدف الكبير وهو صنع الشخصية القرآنية المنفتحة الواعية التي كان يجسدها الرسول الأعظم في سيرته أصدق تمثيل ، ولذا كانت سيرته رسالة عملية كما كانت أقواله رسالة ، فالتقت في حياته الأسوة والقدوة بجانب الدعوة ، وذلك قوله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر ) [الأحزاب : 21].
* * *
وقد لاحظنا ونحن نتابع القرآن في أسباب نزوله أن هناك نقطتين جديرتين بالاهتمام في عملية الاستيحاء القرآنية :
صفحة ٢٥