النص المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
بسم الله الرحمن الرحيم
ذهب البصريون إلى أن التقدير: ابتدائي بسم الله، فبسم عندهم خبر مبتدأ محذوف 1.
وذهب الكوفيون إلى أنه في تقدير: أبدأ بسم الله 2، والفعل الذي لا يصل إلا بحرف الجر يضعف حذفه وقد جاء ولكنه قليل 3، وأما جعل المجرور خبر مبتدأ محذوف فكثير.
وقد جاء بعض المتأخرين وذهب إلى أنه يجوز أن يكون المجرور متعلقا بفعل تدل عليه الحال، تقديره: أقرأ بهذا (4) 4وأكتب بهذا، على معنى مستعينا به، وقد يحذف الفعل لدلالة الحال عليه.
وهذا لا يصح؟ لأن الحال لا تدل على الفعل حتى يصل بنفسه، لا تقول: بزيد، تريد مر بزيد، وإن كان معك من الحال ما يدل على ذلك، وتقول لمن أشال سوطا، أو أشهر سيفا: زيدا، على معنى: اضرب زيدا. فالحال لا تدل على الفعل حتى يكون
صفحة ٣٧٧
الفعل يصل بنفسه، وكذلك في باب الاشتغال لابد للفعل أن يصل بنفسه، لأن حذف الفعل الواصل بحرف الجر قليل، لأنه ليس بقوة ما يصل بنفسه، ولا يتصرفون لا الضعيف تصرفهم في القوي من الإضمار، لأنهم يقولون: بمن تمر؟ وبمن مررت؟ فيقول المسؤول: بزيد، وهو على تقدير: مررت بزيد، لأن هذا وإن كان محذوفا كأنه ظاهر، لأنه مكنون في السؤال، وليس هذا بمنزلة ما استعملته الأحوال، ولا بمنزلة ما حذف ليفسر.
وأما/ قوله تعالى: (فى تسع آيات إلى فرعون) 1 فقوله "في تسع آيات " خبر (3) لمبتدأ محذوف، أي هذه الآيات في تسع آيات، فقد نزل منزلة قد أرسلت أو ترسل، فجاز حذف الفعل هنا وإن كان لا يصل إلا بحرف الجر، لأنه بمنزلة: بمن مررت؟ فتقول: بزيد، ومع هذا كله لا ينكر حذف الفعل الواصل بحرف الجر، لكنه قليل ولا يحمل عليه ما قدر على غيره.
والباء: معناها الإلصاق 2، وكان أصلها أن تكون مفتوحة لكنها كسرت ليوافق لفظها عملها ووضعها، فعملها الجر ووضعها أن تكون موصولة، وكل حرف موصول فهو خافض، وأما كاف التشبيه فقد توجد اسما، ليس من شرط الاسم أن يكون خافضا، فليست الكاف ملازمة أن تكون من جنس ما تخفض..
وأما لام الجر فكسرت ليفرق بينها وبين لام الابتداء في أربعة مواطن:
أحدها: الأسماء المبنيان، نحو: لهذا زيد.
الثاني: الأسماء المقصورات، نحو: لموسى عمرو.
الثالث: الأسماء المنقوصات للقاضي زيد.
الرابع: عند الإضافة إلى ياء المتكلم، نحو: لكأبي عمرو.
صفحة ٣٧٨
فلما رأوها ملتبسة لو بنيت على الفتح بلام الابتداء كسروها مطلقا إذا دخلت على الظاهر ليجري مجرى واحدا.
اسم: اختلف البصريون والكوفيون فيه:
فذهب البصريون إلى أنه من سما يسمو 1، وأن اللام فيه محذوفة، وهو بمنزلة ابن واست، واستدلوا على ذلك بالجمع والتصغير، قالوا في الجمع: أسماء وفي التصغير سمي، وقالوا: سميت فردوا اللام فيها فدل ذلك على أن اللام هي المحذوفة.
وذهب الكوفيون إلى أنه من الوسم2، وهو العلامة، وأن فيه تقديما وتأخيرا، وأما أسماء وسمي فهو مقلوب، وأصله: وسم ثم أخرت الفاء وجعلت مكان الام، فقالوا: أسماء /فقالوا: سمي
…
. (4)
وقول الكوفيين أقرب من جهة الاشتقاق، وهو مع ذلك ضعيف من جهة القلب.
وقول البصريين أقرب، لأنه ليس عندهم فيه قلب والاسم يظهر مسماة ويصير بحيث تراه فالاشتقاق فيه قريب وإن كان اشتقاق الكوفيين أقرب، إلا إن هذا القرب من ادعاء القلب.
وحذفوا الألف من بسم الله، لأنهم بنوه على الاتصال، ففعلوا ذلك لكثرة الاستعمال 3، والأصل أن تكتب الأوائل على حكم الابتداء، وتكتب الأواخر على حكم الوقف، ألا ترى قوله سبحانه: (سبح اسم ربك، (اقرأ باسم ربك) فهذا كله مكتوب بالألف على الأصل ولم تكتب على الاتصال؛ لأنه لم يكثر فيه الاستعمال.
صفحة ٣٧٩
ومن الكتاب من يمد الباء، كأن تلك المدة عوض من الألف التي يجب أن تكتب. ومنهم من لم يمد.
"الله، أصله: الإله (1) 1فحذفت الهمزة ليختص الاسم به سبحانه؟ فإن لاها يقال في الحق والباطل، وكذلك الإله، وأما الله فمختص به سبحانه وهو المعبود حقا.
ومنهم من ذهب إلى أنه من الوله 2، وهو التحير فالعقول تتحير عن إدراكه سبحانه ثم جعلت الفاء عينا ثم تحركت وقبلها فتحة انقلبت ألفا.
ومنهم من قال: هو من أله 3إذا تحير، وهو أقرب، لأنه ليس عندهم فيه قلب. ويمكن أن يكون من (لاه) 4 يليه إذا استتر، وقالوا تأله الرجل يتأله مشتق من هذا، كما قالوا: بسمل واستعاذ.
وقالوا: يا ألله وادخلوا يا على الألف واللام لأنهم اضطروا إلى النداء ولم يكن إسقاط الألف واللام لأنهما لازمتان الاسم عوض من الهمزة عند من جعل الأصل الإله، ولأن هذا الاسم لا يختص به سبحانه إلا مع الألف واللام.
ومن العرب- وهو الأكثر- من يسقط حرف النداء ويجعل الميم عوضا من حرف النداء، فيقول: اللهم، ولم يجئ في القرآن إلا هكذا. (5)
ولا في السنة إلا هكذا، وهو الأكثر في كلام العرب.
ونظير إسقاط الهمزة وجعل الألف واللام عوضا: الناس، أصله أناس، قال امرؤ القيس:
صفحة ٣٨٠
كبير أناس في بجاد مزمل 1
ويقل حذف الهمزة هنا، لا تقول: ناس إلا قليلا، فإذا دخلت الألف واللام قلت: الناس، ولا تقل الأناس إلا قليلا، قال الشاعر 2:
إن المنايا يطلع ... ن على الأناس الأمنينا
وهذا قليل. الأكثر في الناس مع الألف واللام سقوط الهمزة، والأكثر في الناس
مع عدم الألف واللام ثبوت الهمزة، كأن الألف واللام عوض من الهمزة في الأكثر.
(الرحمن) : اسم خاص به سبحانه لا يقع على غيره، وفعلان يأتي عند الامتلاء، نحو: غضبان وسكران وحيران وكذلك رحمن..
(الرحيم) : مبالغة في راحم، والرحمن على هذا أبلغ من الرحيم ولذلك يقال: رحمن الدنيا والآخرة، ولم يقل هذا في الرحيم، وجعلوا الرحيم تابعا للرحمن؛ لأن الرحمن جرى مجرى الأسماء، والرحيم ليس كذلك، بل هو باق على صفته وجريانه على غيره فلذلك قدم الرحمن على الرحيم.
وجاء أبو القاسم الزمخشري وقال: هو أكثر حروفا من الرحيم، فهو لذلك أبلغ فهو كالشقدف والشقنداف 3.
صفحة ٣٨١
وهذا كله ليس من طريق كلام العرب؟ ألا ترى أن فعل، نحو: حذر أبلغ من حاذر وإن كان أقل منه حروفا، وإنما الأمر على ما ذكرت لك- والله أعلم-.
وهذه الصفات جارية على اسمه تعالى وهو الله، فهذا هو اسمه وما عداه جار عليه؟ لأن له معنى زائدا على الذات، فالرحمن فيه الرحمة، والعليم يدل على العلم والكريم يدل على الكرم والعزيز يدل على العزة، والقاهر يدل على القهر، فهذه صفات. جارية على الاسم، وهو ما ذكرته.
(الحمد لله) : قال سيبويه: هذا لا يستعمل إلا في حقه سبحانه إذا أردت العظمة، فإن أردت بالألف واللام شيئا مخصوصا كما تقول: هذا الثناء على فلان إذا سمعت شخصا يثني عليه، فهذا يكون في غيره سبحانه، فإن أردت معنى العظمة فهو مختص به ولا يقال في غيره. وما تجده لبعض المولدين فهو تعنت وإجراء للشيء على غير ما أجرته العرب.
قال ثعلب: حمدت الرجل إذا شكرت له صنيعه، وقال سيبويه وقالوا:: حمدته جزيته وقضيته حقه.
فهذا يدل على أن الحمد والشكر معناهما واحد في أصل اللغة، إلا إن العرف خصص الحمد بالمدح ولا يكون إلا باللسان، والشكر خصصه بالجزاء، فيقال على ثلاثة أوجه:
تقول: شكرت الرجل إذا شكرته بلسانك.
وتقول: شكرت الرجل إذا خدمته بإعطائك.
وتقول: شكرت الرجل إذا اعتقدت أنه قد أحسن إليك، قال الشاعر1:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
1البيت من شواهد الزمخشري في الكشاف 47/1 ولم يعزه، وأورده السمين الحلبي في الدر المصون 36/1
ولم يعزه، والشاهد فيه قوله يدي ولساني والضمير حيث أفادت هذه الكلمات الثلاث معنى الشكر في معانيه الثلاثة، فاليد كناية عن العطاء، ولساني كنى بها عن الشكر، والضمير كناية عن الاعتقاد.
صفحة ٣٨٢
وقال تعالى: (اعملوا آل داود شكرا) 1 فتراه واقعا على العمل.
فالشكر على هذا أعم من الحمد، لأنه يكون باللسان وغيره والحمد لا يكون إلا باللسان، والحمد أعم من جهة أخرى، لأنك تحمد على ما فعل معك وعلى ما فعل مع غيرك، والشكر إنما هو خاص بما فعل معك، لأن شكرت بمعنى جازيت في العرف. وأصل الحمد والشكر في اللغة أن يكونا لشيء واحد كما ذكرت لك عن سيبويه وثعلب، وهو مبتدأ "لله" هو الخبر، والمجرور إذا وقع خبرا أو صفة أو صلة تعلق بمحذوف لا يظهر. وسيأتي الكلام في قوله تعالى: (فلما رآه مستقرا عنده) 2 إن شاء الله 3.
والأكثر في الحمد الرفع؛ لأنه معرفة، ويجوز النصب، وإذا كان نكرة فالأكثر فيه النصب، وجاء على طريقة الإخبار كأن الشيء قد وقع والمراد به بالإنشاء وهذا مذكور في كتاب سيبويه، إلا أن القراء لم يقرأه إلا بالرفع، لأنه كله يصح.
وهناك قراءة نقلت، وهي شاذة فيها الاتباع، اتباع الدال اللام 4، واتباع اللام للدال 5، ومنها النصب 6في الحمد لله.
"رب العالمين": رب وزنه فعل بكسر العين، والأصل: ربب ثم أدغم وليس أصله فعلا بسكون العين، لأنهم قالوا في الجمع أرباب، وليس الأصل فعلا بفتح العين؛ إذ لو كان كذلك لم يدغم ألا ترى الطلل والشرر لم يدغما، وليس الأصل فعلا بضم العن، لأن هذا يقل في الصفات، وفعل بكسر العين يكثر فيها، قالوا: حذرا وبطرا، وأشرا وعثرا، وهو كثير، ولا ينبغي أن يحمل على الأقل ما قدرت على الأكثر.
صفحة ٣٨٣
وقول من قال: إنه وصف بالمصدر (1) 1، فيه بعد، إذ لو كان كذلك لم يثن ولم يجمع، ومن ثنى مثل هذا في المصادر ثناه على القياس في فعل أفعل، وذلك نحو: كف وأكف، فكونه قد جمع على أرباب يدل على بعد هذا القول.
ويقال: ربه يربه إذا ملكه، ويقال: ربه يربه إذا أصلحه. ويصلح في رب هنا أن يكون معناه الصلاح ومعناه الملك، لأنه سبحانه الذي يملك العالم والذي يصلح العالم.
وقد نقل: "لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن" 2.
فيحتمل الملك ويحتمل الصلاح، ويكون صفة، ويجوز أن يكون بدلا لأنه استعمل
استعمال الأسماء.
والرب بالإضافة مختص به تعالى، وإذا أطلقوه على غيره أطلقوه مقيدا، نحو: رب الدار، ورب الأرض، وما أشبه ذلك، ويطلق عليه تعالى مطلقا ومقيدا ومضافا.
/ (العالمين) : فاعل بفتح العين لا يكون في الصفات ويكون في الأسماء قليلا، وأكثر ما يوجد هذا البناء في الفعل إذا أردت أنه فعل بك مثل ما فعلته به ، نحو: ضاربني زيد وضاربت زيدا، وقاتلته. وقد يأتي على غير ذلك، قالوا: عافاك الله، وداينت زيدا، وهذا قليل.
وإذا صح ما ذكرته فالعالم اسم لا صفة، وهو اسم لكل مخلوق، لأن المخلوق يدل على خالقه، فقد صار علامة تدل عليه سبحانه، فاشتقاقه من هذا (3) 3. وقد قيل: إنه
صفحة ٣٨٤
مشتق من العلم1، لأن من نظر فيه تحصل له العلم بحدوثه وافتقاره إلى موجده، والاشتقاق الأول أقرب.
وقد قيل: إن العالم إنما هو لأهل العلم من الملائكة والثقلين: الجن والإنس، والقول الأول أشهر.
فإن قلت: فكيف جمع بالواو والنون وليس بعلم في الأصل ولا وصف؟
قلت: هو وإن لم يكن وصفا ففيه معنى الوصف، ويمكن عندي أن يكون عالم علما، وتكون علميتة علمية الجنس، ثم نكر ودخلته الألف واللام عند الجمع والتثنية، كما قالوا: الزيدان، وجمع بالواو والنون وإن كان فيه مالا يعقل، غلبوا من يعقل على من لا يعقل، وهذا على من جعله اسما لكل محدث ة وأما من جعله مختصا بأهل العلم فلا سؤال فيه.
وقد تقدم أن الأول هو المشهور، وهو الوقوع على كل محدث عاقلا كان أو غير عاقل.
(مالك يوم الدين) : قرأ عاصم والكسائي (مالك يوم الدين) . 2فيمكن أن (ملك) بمعنى مالك، كما قالوا: حذر بمعنى حاذر، ويكون من الملك بكسر الميم، ويكون قد أضيف إلى يوم الدين بعد ما انتصب يوم الدين نصب المفعول به على جهة الاتساع كما قال:
طباخ ساعات الكرى زاد الكسل 3
صفحة ٣٨٥
على نصب "زاد"، وأما/ من خفض (زاد الكسل) فيكون ساعات ظرفا على أصله، وفصل بين المضاف والمضاف إليه في الشعر، كما قال: 1
............
... ... ... ... لله در اليوم من لامها 2
ويكون الأصل: مالكا يوم الدين، أي في يوم الدين، ثم انتصب على أنه مفعول به على الاتساع كما ذكرت لك.
ولا تتصور الإضافة وهو باق على أصله، لأن الظرف في تقدير حرف الجر، ألا تراه إذا أضمر عاد إليه حرف الجر فكأن حرف الجر موجود.
ولا يفصل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجز إلا باللام خاصة في بابين: باب 3النداء وباب النفي بلا 4.
ويمكن أن يكون ملك من الملك في مالك، لأن فعلا من أمثلة المبالغة.
ويمكن أن يكون ملك من الملك ومالكا من الملك بكسر الميم، فقيل: ملك يوم الدين والمراد ملك أو مالك الناس.
ولا يتصور أن يكون يوم الدين قد نصب نصب المفعول به وملك من الملك، وإنما يتصور هذا إذا كان ملك مبالغة في مالك ث لأن المفعول به تنصبه الصفات كاسم الفاعل وأمثلة المبالغة، وتكون الإضافة على تقدير: ملك أصحاب يوم الدين والذي يظهر- والله أعلم- أن ملك مبالغة في مالك، وتكون القراءتان 5متفقتين، واسم
صفحة ٣٨٦
الفاعل إذا كان بمعنى الماضي وأضيف إلى المعرفة تعرف، وإذا كان بمعنى الحال والاستقبال وأضيف إلى المعرفة كان على وجهين: على التعريف، وعلى التخفيف، وتكون هناك الإضافة على التعريف ة لأنه جار على المعرفة.
وجاء بعض المتأخرين وقال: إن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال والاستقبال فلا تكون إضافته إلا غير معرفة، وتكون غير محضة وإنما تكون للتخفيف 1.
وهذا القول فاسد، والصحيح ما ذكرته أولا، وهو أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال والاستقبال فله إضافتان، إضافة تعريف وإضافة تخفيف 2. والذي يضاف ولا يتعرف أبدا بالإضافة الصفة المشبهة باسم الفاعل خاصة ولا يتعرف إلا بالألف واللام.
وجاء (ملك يوم الدين) على طريقة: نهاره صائم وليله قائم في الاتساع لما كان فيه نسب إليه إما بالفاعلية وإما بالمفعولية على جهة الاتساع.
(الدين) : الجزاء، ووزنه فعل، ويمكن عند سيبويه أن يكون وزنه فعلا وردت الضمة كسرة لمكان الياء. يقال: دنته بما صنع إذا جازيته، ويقال: كما تدين تدان، وكما تجازي تجازي.
ولم يقرأ في السبع إلا بالخفض، وقد قرىء في الشاذ بالنصب 3والرفع على القطع 4، تنصبه بإضمار فعل أو ترفعه بإضمار المبتدأ، ولا يظهر الفعل ولا المبتدأ،
صفحة ٣٨٧
لأن الصفة للمدح والتعظيم، وكذلك (الرحمن الرحيم) قرىء في الشاذ بالرفع والنصب (1) 1على حسبما ذكرت لك. وكذلك (رب العالمين) قرىء في الشاذ بالرفع والنصب، ولم يقرأ في السبع إلا بالخفض .
وقد قرئ (ملك يوم الدين) جعله فعلا 2. والمعنى في هذا كله ملك الخلق يوم الدين، وملك الأمر يوم الدين لكنه جعل الدين هو المملوك على جهة الاتساع.
وقد يمكن أن يكون معنى ملك يوم الدين ومالك يوم الدين على معنى أبرزه وأوجده، والأول أبين.
(إياك نعبد) : قال سيبويه: إيا هو المضمر المنصوب المنفصل، وما يلحقه حروف تجري مجرى الكاف في رويدك ة إذ الضمير مستتر في جميع الأحوال، فجرى إياك من حيث كانت ضمير منصوب مجرى الضمير المستتر في رويدك لما احتيج إلى بيانه بالكاف وبالكاف يقع الفصل بين المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع، وكذلك إيا، لما كانت تقع للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع والغائب والمتكلم والمخاطب إذا كان منصوبا قرنوا إيا بالكاف والهاء والياء ليزيل الإشكال 3، وفيها هنا معنى الاختصاص، أي لا أعبد غيرك، كما حكى عن العرب:
إياك أعني واسمعي يا جاره 4
والمعنى لا أعني غيره.
والتقديم يكون على هذا المعنى في المبتدأ، قال سبحانه: (إنه هو يبدىء ويعيد) 5 أي لا يبدىء غيره، ولا يعيد، أي هو الذي اختص بهذا.
صفحة ٣٨٨
وقد يحمل التقديم أن يكون للتعظيم، وقد يكون للاعتناء، وقد يكون للتصرف، وبيان قوة العامل، وقد يكون للاختصاص، وهذا المعنى يتمحض في النكرة، تقول: شر أهر ذا ناب، أي ما أهر ذا ناب إلا شر، وتقول: شئ ما جاء بك، معناه ما جاء بك إلا شيء. والتقديم هنا لا يكون إلا على هذا المعنى، لأن المبتدأ نكرة ولا يبتدأ بالنكرة إلا في مواضع، منها الاختصاص.
وفي هذا الخروج من الغيبة إلى الخطاب، ولو جرى على أول الكلام لكان أياه نعبد وإياه نستعين، لكنه انتقل من الغيبة إلى الخطاب، وهذا من فصيح كلام العرب، قال امرؤ القيس:
تطاول ليلك يالإثمد ... ونام الخلي ولم ترقد 1
فهذا على الخطاب، ثم قال في البيت الثاني:
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
فانتقل من الخطاب إلى الغيبة، ثم قال في البيت الثالث:
وذلك من نبأ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود 2
/ انتقل إلى المتكلم، ويسمى هذا الالتفات، وهو كثير في القرآن.
قال تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) 3، انتقل من الخطاب إلى الغيبة، وهو كثير في القرآن، وهذا من فصيح كلام العرب كما ذكرت ذلك، ويمكن أن يكون على إياك يا من هذه صفاته، أعبد لأنه لما ذكر الصفات، وهي صفاته تعالى لا يشارك فيها، قالت بعده: إياك يا من هذه صفاته أعبد.
صفحة ٣٨٩
وفي "إياك" قراءات، منها:
هياك أبدل من الهمزة هاء 1.
ومنها: أياك بفتح الهمزة 2.
ومنها: إياك، بكسر الهمزة والتخفيف 3؛ وهذه كلها لم يقرأ بها في السبع.
ومعنى نعبد: نتذلل، يقال طريق معبدة إذا كان يسار عليها كثيرا، والمعنى: مذلل ثم قال جل ذكره: (وإياك نستعين) .
معنى نستعين نطلب العون على عبادتك، وقدمت العبادة على الاستعانة، لأن الاستعانة يتوسل بها إلى العبادة فهي أولى بالتقديم، وكل فعل مضارع أول ماضيه ألف وصل لك أن تكسر حرف المضارع منه عدى الياء فإنها لا تكسر، فتقول: أنا إنطلق، وأنت تنطلق، ونحن ننطلق، ولا تقول هذا في الياء، وكذلك كل فعل مضارع ماضيه على فعل لك أن تكسر أول المضارع منه عدا الياء، وبيان علة ذلك في العربية 4.
(ونستعين) : اعتل لأن ماضيه قد اعتل بالحمل على الثلاثي، وأصله، "نستعون" ثم أعل بنقل حركة العين إلى الفاء وانقلبت الواو للكسرة التي قبلها، وهذا الاعتلال مطرد قياسي في هذا النوع وما جرى مجراه، فإن جاء صحيحا فعلى غير قياس، نحو: استنوق الجمل، واستسيست الشاة، فهذا يحفظ ولا يقاس عليه، وسيأتي الكلام في مصدر نستعين وفي اعتلاله وفي المحذوف بعد إن شاء الله.
صفحة ٣٩٠
/ قوله (إهدنا) : لما قال سبحانه (إياك نعبد) والعبادة تحتاج إلى وجوه أربعة بها تكتمل العبادة:
أحدها: اعتقاد صحيح غير فاسد.
الثاني: أن يكون على مقتضى الشرع، لأن العبادة لا تؤخذ بالعقل.
الثالث: حسن النية فيها فالصدق والإخلاص، قال تعالى: (مخلصين له الدين) .
الرابع: الدوام والبقاء عليها وألا ينتقل ويتغير، وهذه الأربعة لا قدرة لأحد عليها إلا به، فجاء بعد هذا (إياك نستعين ) ومعنى "نستعين" نطلب عونك على العبادة بهذه الوجوه الأربعة. وهذا إنما يكون بهدايته سبحانه،، فمن أجل هذا جاء: (اهدنا) بعد (نستعين) ، فعلى هذا يكون: (اهدنا) بمعنى أرشدنا وبين لنا، ويكون: أو اهدنا! هو بمعنى: ثبتنا. وقد جاء هذا وهذا منقولين عن السلف، ويمكن أن يكون (اهدنا) راجعا لها كلها، أي بين لنا وأرشدنا، وثبتنا- والله أعلم-.
وهدى فعل يتعدى إلى واحد بنفسه وإلى آخر بحرف الجر، وذلك الحرف يكون إلى وهو الأكثر، ويكون اللام، قال تعالى: (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) (1) 1، وقال جل ذكره (قل الله يهدى للحق) (2) 2، وقال سبحانه (إن هذاالقرأن يهدى للتي هي أقوم) (3) 3 ثم حذف حرف الجرفظهرعمل الفعل لأن الفعل يطلبه بالنصب، لأنه جاء بعد عمدته فهو فضلة فإعرابه النصب لكن النصب لم يظهره لأجل الحرف الطالب بالخفض، لأنه يطلب بالإضافة، والخفض مع الإضافة، وكان عمل الحرف أولى بالظهور، لأنه أقرب إلى الاسم من الفعل، ولأن التعليق قد وجد في الأفعال ووجد في الأسماء قليلا، و لم يوجد في الحرف س4، فالمجرور مخفوض في اللفظ منصوب
صفحة ٣٩١
في الموضع، فإذا زال الحرف من اللفظ ظهر عمل الفعل فجاء "اهدنا الصراط "، والأصل إلى الصراط، أو للصراط بمنزلة أمرت الرجال عمرا، وأمرت زيدا الخير.
(الصراط) : هو الطريق، ويذكر ويؤنث، إلا إن التذكير في الصراط أشهر 1، ولم يجئ في القرآن إلا مذكرا، وهو من سرطت الشيء أسرطه إذا ابتلعته لأن الطريق يبتلع من يسير فيه، ألا ترى أنه قد سمي اللقم كأنه يلتقم، والسين إذا وقع بعدها الطاء والغين والقاف والخاء، هذه الأربعة خاصة فإنها يجوز فيها أن تبدل صادا؛ لأن السن غير مطبق، والطاء مطبقة، والسن مهموسة والطاء مجهورة فلما تنافرت أبدلوا من السين حرفا يوافق السين في الهمس ويوافق الطاء في الإطباق 2.
ومن العرب من يشرب الصاد صوت الزاي، لأن الطاء مجهورة والصاد مهموسة فاشربوها صوت لزاي لأن الزاي مجهورة، ومنهم من يبدلها زايا خالصة وذلك قليل، وذكر سيبويه الوجهين الأولين، ولم يذكر إبدالها زايا خالصة لقلة ذلك 3.
وأما إذا وقع بعد السين الطاء والضاد فلا تبدل صادا، نص ذلك سيبويه، والفرق بينهما بين في الكتاب.4
وقد قرىء السراط بالسين، قرأه قنبل وقرأه يعقوب 5 أيضا.
وقرىء بالصاد مشربة صوت الزاي، قرأه حمزة 6، وقرىء بالصاد خالصة، قرأه الباقون.7
صفحة ٣٩٢
أما قلب الصاد زايا خالصة فلم يقرأ بها في السبع وذلك لقلته، وقد روى في هذا الموضع قراءات شاذة.
منها: صراط المستقيم بالإضافة.1
ومنها: صراطا مستقيما.2
ومنها: بصرنا الصراط.3
وهذه كلها خارجة عن السبع فلا يعتني بها.
وحكي في جمع صراط صرط، وهو القياس في فعال المذكر، نحو: كتاب وكتب، وحمار وحمر.
ولا يكون فعل في المعتل اللام ولا في المضعف.
/ (المستقيم) الذي ليس فيه انحراف، وهو على طريقة واحدة، تقول: استقام، الأمر؛ أي ليس فيه عوج، وأصلة مستقوم، فأعلوه بنقل حركة العن إلى القاف فانقلبت الواو ياء، لأن الفعل هنا يعتل وهو يستقيم، واعتل الفعل هنا بالحمل على غير الزائد وهو قام.
وهذا يتبين في كتب العربية.
(صراط الذين) : بدل من الصراط الأول، وأبدل منه ليعلم أن الصراط المستقيم لا يقدر عليه إلا من أنعم الله عليه، ومن وكل إلى نفسه لا يمشي عليه..
(أنعمت عليهم) : (عليهم) : في موضع نصب ل (أنعمت) لأن الفعل قد أخذ عمدته، وجاء بعد ذلك فضله فيلزم أن يكون منصوبا.4
(غير المغضوب عليهم ولا الضالين) : اجمع القراء للسبع على خفض الراء ولم
صفحة ٣٩٣
يقرأ بالفتح إلا في الشاذ، 1وهو نعت للذين على معنى المغضوب عليهم ولا الضالين، ولذلك جيء بلا في ولا الضالين كأنها كررت، فقد صار هذا بمنزلة قولك: مررت برجل لا مسلم ولا كافر.
والمعنى: إن المنعم عليهم خرجوا عن الغضب والضلال، فمن غضب الله عليه فليس بمنعم عليه، وكذلك من ضل ليس بمنعم عليه، ولا إذا دخلت على الصفة أو الحال فلابد فيها من التكرار، وكأنها جواب لمن قال: أكذا أم كذا..
فإذا قلت: مررت برجل لا ساكت ولا متكلم، كأنه جواب لمن قال: أساكتا كان أم كلما، فيقول: لا ساكت ولا متكلم، أي لم يأت في كلامه بفائدة.
وكذلك لا متى لزمت التكرار إنما تلزم التكرار على هذا الوجه، وقد يقال غيره في هذا المعنى، فتقول: مررت برجل غير ساكت وغير متكلم، على معنى: لا ساكت ولا متكلم.2
فإذا صح أن غير في هذا الموطن تقع موقع لا صح أن تأتي بغير وتأتي بلا فتقول:، مررت برجل غير ساكت ولا متكلم، وعليه جاء: غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
وقد نقل في الشاذ: غير المغضوب عليهم وغير الضالين. نقل ذلك عن عمر وعلي وأبي 3، وهي قراءة جيدة إلا إنها لم يقرأ بها في السبع.
فإن قلت: كيف تكون غير نعتا للمعرفة وهي نكرة، لأن إضافتها ليست للتعريف؟
قلت: غير هنا إذا لم تضف إضافة تعريف تجري على النكرات وعلى المعارف
صفحة ٣٩٤
بالألف واللام إذا كان ذلك على طريق الجنس، لأن الجنس عام، ولا يتعين ما يقع عليه فجرى لذلك مجرى النكرة في هذا.
وذهب الزجاج إلى أن (غير المغضوب) هم المنعم عليهم. 1 فقد صار على هذا بهذه الملاحظة غير معرفة، ألا ترى أنك إذا قلت: رأيت الصالح غير الطالح قد تعرف لأنه ماعدا الصالحين، فلأجل هذا وقعت غير صفة للمعرفة بالألف واللام، لأن الثاني ضد الأول فوقع بذلك التعريف. وذكر هذا القول ابن عطية 2عن ابن السراج،3 وكان الأستاذ أبو علي يرد هذا القول، ويقول: قد جاء في كتاب الله عز وجل: (نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) 4وبلا شك أن الثاني ضد الأول، وقد جرى على النكرة فكيف يقول: إن هذا يوجد للتعريف؟.
والصحيح ما ذكرته أولا أن تعريف الجنس ليس بالقوي ة لأنه ليس بمقصود قصده. وقد يعاقب النكرة فيما وضع 5 على معنى واحد، ألا ترى أنك تقول: ما يصلح بالرجل مثلك أن يفعل هذا فيكون على معنى ما يصلح بالرجل الذي هو مثلك أن يفعل هذا، ومعناهما واحد.
وهذا كله إنما يحتاج إليه عند جعل (غير) نعتا ل"الذين" فإن جعلته بدلا فلا يحتاج إلى هذا، لأنه يجوز بدل النكرة من المعرفة والمعرفة من النكرة..
أما النصب وهي قراءة شاذة لم تثبت في السبع 6، والظاهر عندي فيها أنها استثناء
صفحة ٣٩٥
منقطع 1، و"لا" في (ولا الضالين) زائدة كزيادة لا في قولهم: ليس زيد ولا عمرو.. وذهب بعض المتأخرين إلى الحال.. 2 وفيه عندي بعد؛ لأن المعنى أنعمت عليهم في هذه الحال. وهذا معلوم أن المنعم عليهم لا يكون إلا في هذه الحال، إلا أن يقول: هي حال مؤكدة.
ومن ذهب إلى أنه منصوب بإضمار فعل تقديره: أعني 3 غير المغضوب هذا بعد أبين لا يحتاج إلى بيان. معلوم أن المنعم عليهم ليسوا من غضب الله عليهم، وليسوا من ضل، فكيف يقال: أعني هذا.
والأمر بين أن هذا يعني هذا بعيد وخارج عن طريق كلام العرب، وأبين عندي ما فيه أن يكون استثناء منقطعا، وعليهم في موضع رفع، لأنه مفعول بمغضوب لم يذكر فاعله. فيكون مرفوعا كما تقول: مر بزيد والهاء والميم من عليهم تعود إلى الألف واللام فيمن جعلها اسما، ومن جعلها حرفا- وهو الصحيح، لأنك لا تجد اسما لا ظاهرا ولا مضمرا لا متصلا ولا منفصلا علي حرف واحد ساكن - فيكون الضمير عائدا على الذين، لأن معنى المغضوب الذين غضب عليهم، وكذلك قال أبو علي في الإيضاح: إذا أخبرت عن نفسك من ضرب زيد بالألف واللام قلت: الضارب زيدا أنا، ففي كل واحد من ضرب والضارب ذكر يعود إلى الذي 4
والمغضوب عليهم هم اليهود ومن شاكلهم في تعنتهم وتبديلهم الحق مع معرفته،
صفحة ٣٩٦