المنطق
1 - أفاد الفاضل الشارح أن هذه المعاني يمكن أن تحمل على كل واحدة من مراتب النفس الإنسانية بحسب قوتيها
النظرية
والعملية
بين حدي النقصان والكمال
أما النظرية فلأن جودة الترقي من العقل الهيولاني الذي من شأنه الاستعداد المحض باستعمال الحواس إلى العقل بالملكة الذي من شأنه الاستعداد لإدراك المعقولات الأولى أعني البديهيات لا يكون إلا بحسن توفيقه تعالى
وجوده الانتقال من العقل بالملكة إلى العقل بالفعل الذي من شأنه إدراك المعقولات الثانية أعني المكتسبة لا يتأتى إلا بهدايته تعالى إلى سواء الطرق دون مضلاتها
وحصول العقل المستفاد أعني العقود اليقينية التي هي غاية السلوك لا يكون إلا بإلهامه الحق بتحقيقه فإن جميع ما يتقدمها من المقدمات وغيرها لا يفعل في النفس إلا إعدادا ما لقبول ذلك الفيض من مفيضه
وأما العملية فلأن تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع الحقة والنواميس الإلهية إنما يكون بحسن توفيقه تعالى
وتزكية الباطن من الملكات الردية تكون بهدايته تعالى
وتحلية السر بالصور القدسية يكون بإلهامه
وأقول السالك الطالب يرى في بدو سلوكه أن مطالبه إنما تتحصل بسعيه وبكده وبتوفيق الله تعالى إياه في ذلك وهو جعل الأسباب متوافقة في التسبب
صفحة ١١٣
ثم إنه إذا أمعن في السلوك علم أنه لا يقدر على السلوك إلا بهدايته تعالى إلى الطريق السوي
وإذا قارب المنتهى ظهر له أنه ليس فيما يحاول من الكمالات إلا قابلا لما يفيض عليه من الفاعل الأول جل ذكره
فظهر أنه يرى في كل حال من الأحوال الثلاثة أن لله تعالى في ذلك تأثيرا ولنفسه تأثيرا إلا أن ما ينسبه إلى نفسه من التأثير في الحالة الأولى أكثر مما ينسبه إلى الله تعالى
وفي الحالة الثانية قريب منه
وفي الحالة الثالثة أقل منه
وإنما تختلف أراؤه بحسب استكماله قليلا قليلا
فالشيخ عبر
بالتوفيق
والهداية
والإلهام
عن غاية ما يتمناه الطالب من الله تعالى في الأحوال الثلاثة مما يراه سببا لإنجاح مرامه
ثم نبه المتعلم بما افتتح به كتابه على أنه ينبغي له إذا دخل في زمرة الطالبين أن يحمد الله تعالى على ما يتيسر له من التوفيق للخوض في الطلب والسلوك ويسأله ما يرجوه من الهداية والإلهام اليتم له بهما الوصول إلى المنتهى فائزا بمطالبه
2 -
أقول الفروع لأصولها كالجزئيات لكلياتها
مثاله زيد وعمرو للإنسان
والتفصيل لجملته كالأجزاء لكلها
مثاله زحل والمشتري للمتحيرة
صفحة ١١٤
والفروع غير موجودة في الأصل بالفعل بخلاف التفصيل الموجود في الجملة بالفعل وإن لم يكن مذكورا معها بالفعل
وإخراج الفروع إلى الفعل يحتاج إلى تصرف زائد في الأصل وهو المسمى بالتفريع فلذلك قال سهل عليك تفريعها ولم يقل ظهر وبان لك فروعها
3 -
أقول الابتداء بالمنطق واجب لكونه آلة في تعلم سائر العلوم
وأما الطبيعة فهي المبدأ الأول لحركة ما هي فيه أعني الجسم الطبيعي ولسكونه بالذات
والعلم المنسوب إليها هو العلم المسمى بالطبيعيات
لا العلم بالطبيعة نفسها فإنه أحد مسائل العلم المنسوب إلى ما قبلها
ومبادئ الطبيعة من المجردات إنما يكون قبلها في نفس الأمر قبلية بالذات والعلية والشرف
ويكون بعدها بالنسبة إلينا بعدية بالوضع فإنا ندرك المحسوسات بحواسنا أولا ثم المعقولات بعقولنا ثانيا ولذلك قدم المعلم الأول الطبيعيات على العلم بمباديها فالعلم بمبادئ الطبيعة وبما يجري مجراها من الأمور العامة قد يسمى علم ما قبل الطبيعة لأول الاعتبارين وعلم ما بعدها لثانيهما وهو الفلسفة الأولى وله تقدم آخر باعتبار آخر على علم الطبيعة وغيره من العلوم
وذلك لكونه مشتملا على بيان أكثر مباديها الموضوعة فيها والعلم بالمبادئ أقدم من العلم بما له المبادئ
وإنما عني الشيخ بقوله وما قبله
هذا التقدم لا الذي سبق لأن الضمير فيه عائد إلى العلم لا إلى الطبيعة
والفلسفة الأولى لا تسمى ما قبل الطبيعة بل تسمى علم ما قبل الطبيعة
ولو كان الشيخ يعني الاعتبار الأول لقال وما قبلها
وما ذكره الفاضل الشارح
من كون الإلهي متأخرا عن الطبيعي في التعليم بحسب الأغلب إلا أن الشيخ
صفحة ١١٥
لما أثبت الأول وصفاته بما لا يبتنى على الطبيعيات فصار الإلهي متقدما في كتابه هذا بالوجهين فلذلك سماه ب ما قبل الطبيعة
كلام غير محصل لما مر ولأن الشيخ إنما أثبت الأول وصفاته في هذا الكتاب بما أثبتها هو وغيره من الحكماء الإلهيين في سائر الكتب
وإنما خالف ههنا في ترتيب المسائل وخلط أحد العلمين بالآخر حسبما تقتضيه السياقة التي اختارها
صفحة ١١٦
النهج الأول في غرض المنطق
1 - أقوله قوله في غرض المنطق لأن النهج فيه
قوله المراد من المنطق أن يكون عند الإنسان
أقول جمع فيه فائدتين
الأولى بيان ماهية المنطق
والثانية بيان لميته أعني الغرض منه
ولما استلزمت الثانية الأولى من غير انعكاس خصها بالقصد لاشتمال بيانها على البيانين جميعا
فالمنطق آلة قانونية
والغرض منه كونها عند الإنسان
2 -
أقول هذا رسم للمنطق وقد تختلف رسوم الشيء باختلاف الاعتبارات
فمنها ما يكون بحسب ذاته فقط
ومنها ما يكون بحسب ذاته مقيسا إلى غيره كفعله أو فاعله أو غايته أو شيء آخر
مثلا يرسم الكوز
بأنه وعاء صخري أو خزفي وكذا كذا
وهو رسم بحسب ذاته
وبأنه آلة يشرب بها الماء
وهو رسم بالقياس إلى غايته
وكذا في سائر الاعتبارات
والمنطق علم في نفسه
وآلة بالقياس إلى غيره من العلوم ولذلك عبر الشيخ عنه في موضع آخر ب العلم الآلي
صفحة ١١٧
فله بحسب كل واحد من الاعتبارين رسم لكن أخصهما تعلقا ببيان الغرض هو الذي باعتبار قياسه إلى غيره
فرسمه ههنا بذلك الاعتبار
والتنازع فيه هل هو علم أولا ليس مما يقع بين المحصلين لأنه بالاتفاق صناعة متعلقة بالنظر في المعقولات الثانية على وجه يقتضي تحصيل شيء مطلوب مما هو حاصل عند الناظر أو يعين على ذلك
والمعقولات الثانية هي العوارض التي تلحق المعقولات الأولى التي هي حقائق الموجودات وأحكامها المعقولة
فهو علم بمعلوم خاص ولا محالة يكون علما ما وإن لم يكن داخلا
تحت العلم بالمعقولات الأولى التي تتعلق بأعيان الموجودات إذ هو أيضا علم آخر خاص مباين للأول
والقول بأنه آلة للعلوم فلا يكون علما من جملتها ليس بشيء لأنه ليس بآلة لجميعها حتى الأوليات بل بعضها وكثير من العلوم يكون آلة لغيرها
كالنحو للغة
والهندسة للهيأة
والإشكال الذي يورد في هذا الموضع وهو أن يقال لو كان كل علم محتاجا إلى المنطق لكان المنطق محتاجا إلى نفسه أو إلى منطق آخر ينحل به وذلك لتخصيص بعض العلوم بالاحتياج إلى المنطق لا جميعها
والمنطق يشتمل أكثره على اصطلاحات ينبه عليها وأوليات تتذكر وتعد لغيرها ونظريات ليس من شأنها أن يغلط فيها كالهندسيات يبرهن عليها
فجميعها غير محتاج إلى المنطق
فإن احتيج في شيء منه على سبيل الندرة إلى قوانين منطقية فلا يكون ذلك الاحتياج إلا إلى الصنف الأول فلا يدور الاحتياج إليه
وأما قوله آلة قانونية
فالآلة ما يؤثر الفاعل في منفعله القريب منه بتوسطه
صفحة ١١٨
والقانون معرب رومي الأصل وهو كل صورة كلية يتعرف منها أحكام جزئياتها المطابقة لها
والآلة القانونية عرض عام للمنطق وضع موضع الجنس
وباقي الرسم خاصة له
وكلاهما عارضان للمنطق بالقياس إلى غيره
وإنما قال تعصمه مراعاتها لأن المنطقي قد يضل إذا لم يراع المنطق
وأما قوله عن أن يضل في فكره
فالضلال ههنا هو فقدان ما يوصل إلى المطلوب وذلك يكون
إما بأخذ سبب لما لا سبب له
أو بفقد السبب
أو بأخذ غير السبب مكانه فيما له سبب
3 -
أي في رسم هذا العلم وذلك لأن الفكر قد يطلق
على حركة النفس بالقوة التي آلتها مقدم البطن الأوسط من الدماغ المسمى ب الدودة أي حركة كانت إذا كانت تلك الحركة في المعقلات
وأما إذا كانت في المحسوسات فقد تسمى تخيلا
وقد يطلق على معنى أخص من الأول
وهو حركة من جملة الحركات المذكورة تتوجه النفس بها من المطالب مترددة في المعاني الحاضرة عندها طالبة مبادئ تلك المطالب المؤدية إليها إلى أن تجدها ثم ترجع منها نحو المطالب
وقد يطلق على معنى ثالث وهو أخص من الثاني
وهو الحركة الأولى وحدها من غير أن نجعل الرجوع إلى المطالب جزءا منه وإن كان الغرض منها هو الرجوع إلى المطالب
صفحة ١١٩
والأول هو الفكر الذي يعد في خواص نوع الإنسان
والثاني هو الفكر الذي يحتاج فيه وفي جزئيه جميعا إلى علم المنطق
والثالث هو الفكر الذي يستعمل بإزاء الحدس على ما سيأتي ذكره في النمط الثالث
فخصص الشيخ لفظة الفكر ههنا بالمعنى الثاني من المعاني المذكورة
قوله ما يكون عند إجماع الإنسان
يعني به الحركة الأولى المبتدئ بها من المطالب إلى المبادئ والثانية المنتقل بها من المبادئ إلى المطالب جميعا
والإجماع هو الإزماع وهو تصميم العزم
وقوله أن ينتقل عن أمور حاضرة في ذهنه
يعني به الحركة الثانية التي هي الرجوع من المبادئ إلى المطالب
وهذه الحركة وحدها من غير أن تسبقها الأولى قلما تتفق لأنها حركة نحو غاية غير متصورة
وقد نص على ذلك المعلم الأول في باب اكتساب المقدمات من كتاب القياس والحاصل أنه عرف الحركتين جميعا بالثانية منها التي هي أشهر
والفاضل الشارح قد تحير
في تفسير معنى الفكر أولا
وفي تقييده بقوله ههنا ثانيا
وفي الفرق بين ما يكون عند الانتقال المذكور وبين نفس الانتقال ثالثا وحمله مرة على أمر غير الانتقال
ومرة على الانتقال
ثم جعل الحركة الأولى إرادية وسماها فكرا يحتاج فيه إلى المنطق
والثانية طبيعية وسماها حدسا لا يحتاج معه إليه
وكل ذلك خبط يظهر بأدنى تأمل مع ضبط ما قررناه
وإنما قال عن أمور حاضرة
ولم يقل عن علوم وإدراكات
صفحة ١٢٠
لأن الظنون ونحوها قد تكون مبادئ أيضا
وإنما قال عن أمور
ولم يقل عن أمر واحد
لأن المبادئ التي ينتقل عنها إلى المطالب انتقالا صناعيا إنما تكون فوق واحدة وهي
أجزاء الأقوال الشارحة
ومقدمات الحجج
على ما سنبين
قوله متصورة
أو مصدق بها
فالمتصور هو الحاضر مجردا عن الحكم
والمصدق بها هو الحاضر مقارنا له
ويقتسمان جميع ما يحضر الذهن
4 -
أقول الشك المحض الذي لا رجحان معه لأحد طرفي النقيض على الآخر يستلزم عدم الحكم فلا يقارن ما يوجد حكم فيه أعني التصديق
بل يقارن ما يقابله وذلك هو الجهل البسيط
والحكم بالطرف الراجح
إما أن يقارنه الحكم بامتناع المرجوح
أو لا يقارنه بل يقارن تجويزه
والأول هو الجازم
والثاني هو المظنون الصرف
والجازم
إما أن تعتبر مطابقته للخارج
أو لا تعتبر
فإن اعتبرت
فإما أن يكون مطابقا
صفحة ١٢١
أولا يكون
والأول إما أن يمكن للحاكم أن يحكم بخلافه
أو لا يمكن
فإن لم يمكن فهو اليقين ويستجمع ثلاثة أشياء
الجزم
والمطابقة
والثبات
وإن أمكن فهو الجازم المطابق غير الثابت
والجازم غير المطابق هو الجهل المركب
وقد يطلق الظن بإزاء اليقين عليهما وعلى المظنون الصرف لخلوهما
إما عن الثبات وحده
أو عنه وعن المطابقة
أو عنهما وعن الجزم
وحينئذ ينقسم ما تعتبر فيه مطابقة الخارج إلى
يقين
وظن
وأما ما لا يعتبر فيه ذلك وإن كان لا يخلو عن أحد الطرفين
فإما أن يقارن
تسليما
أو إنكارا
والأول ينقسم
إلى مسلم عام أو مطلق يسلمه الجمهور
أو محدود تسلمه طائفة
وإلى خاص يسلمه شخص
إما معلم
أو متعلم
أو متنازع
والثاني يسمى وضعا
فمنه ما تصادر به العلوم وتبتنى عليه المسائل
ومنه ما يضعه القايس الخلفي وإن كان مناقضا لما يعتقده ليثبت به مطلوبه
ومنه ما يلتزمه المجيب الجدلي ويذب عنه
صفحة ١٢٢
ومنه ما يقول به القائل باللسان دون أن يعتقده كقول من يقول لا وجود للحركة مثلا
فإن جميع ذلك يسمى أوضاعا وإن كانت الاعتبارات مختلفة
وقد يكون حكم واحد
تسليما باعتبار
ووضعا باعتبار آخر
مثل ما يلتزمه المجيب بالقياس إليه
وإلى السائل
وقد يتعرى التسليم عن الوضع في مثل ما لا ينازع فيه من المسلمات أو الوضع عن التسليم في مثل ما يوضع في بعض الأقيسة الخلفية
وربما يطلق الوضع باعتبار أعم من ذلك فيقال لكل رأي يقول به قائل أو يفرضه فارض
وبهذا الاعتبار يكون أعم من التسليم وغيره
وما ذهب إليه الفاضل الشارح في تفسيرهما
وهو أن الوضع ما يسلمه الجمهور
والتسليم ما يسلمه شخص واحد
ليس بمتعارف عند أرباب الصناعة
فأقسام التصديقات بالاعتبار المذكور هي
علمي
وظني
ووضعي
وتسليمي
لا غير
ومبدأ البرهان علمي
ومبادئ الجدل والخطابة والسفسطة هي الأقسام الباقية
وأما الشعر فلا تدخل مباديه تحت التصديق إلا بالمجاز ولذلك لم يتعرض الشيخ لها
وإنما أتى الشيخ بحرف العناد في قوله
علميا
أو ظنيا
أو وضعيا
لتباين العلم والظن بالذات ومباينتهما للوضع والتسليم بالاعتبار
صفحة ١٢٣
ولم يأت بحرف العناد في قوله أو وضعا وتسليما لتشاركهما في بعض المواد
وقول الفاضل الشارح
إنما قدم الظن على الوضع والتسليم لتقدم الخطابة على الجدل في النفع
قادح في قسمة الظن بالأقسام الثلاثة الشاملة لما عدا اليقين من مبادئ الصناعات الثلاث إلا أن يحمله على الظن الصرف حتى يستقيم تقديم الظن وإلا بطل التعليل بأقسامه
وإنما قسم الشيخ التصديق بأقسامه ولم يقسم التصور لأن انقسام التصديق إليها انقسام طبيعي ليس بالقياس إلى شيء ولذلك يقتضي تباين الأقيسة المؤلفة منها
بحسب الصناعات المذكورة
وأما التصور فإنه لا ينقسم إلى أقسام كذلك بل ينقسم مثلا إلى
الذاتي
والعرضي
والجنس
والفصل وغيرها انقساما عرضيا وبالقياس إلى شيء فإن الذاتي لشيء قد يكون عرضيا لغيره
بخلاف المادة الخطابية التي لا تصير برهانية ألبتة
وتعليل الفاضل الشارح ذلك بأن التصور لا يقبل
القوة والضعف
والتصديق يقبلهما
فاسد لأن التصور لو لم يقبلهما لكان المتصور بالحد الحقيقي كالمتصور بالرسوم أو الأمثلة
وإنما نشأ غلطه هذا من رأيه الذي ذهب إليه في التصورات أنها لا تكتسب
5 -
أقول يعني أن المطلوب لا يكون معلوما وقت الطلب فإن الحاصل لا يستحصل
فإن قيل إنكم فسرتم الفكر بالحركة من المطالب إلى المبادئ والعود إليها
فكيف يتحرك عما لا يحضر عند المتحرك وبم يعرف أنها هي المطالب إن لم تكن معلومة أصلا
أجيب بأن المطلوب يكون حاضرا من جهة غير حاضر من جهة أخرى
فالجهتان متغايرتان
صفحة ١٢٤
فمن الجهة التي لم يحضر يطلب
ومن الجهة التي حضر يتحرك عنه أولا ويعرف أنه المطلوب آخرا
والسبب في ذلك اختلاف مراتب الإدراك
بالضعف
والقوة
والنقصان
والكمال
فالمطلوب تصوره معلوم بإدراك ناقص مطلوب استكماله
والمطلوب تصديقه معلوم الحدود مطلوب الحكم عليها
6 -
أقول يريد بالانتقال الحركة من المبادئ إلى المطالب
وقد ذكرنا أن المبادئ لكل مطلوب إنما تكون فوق واحدة ولا يحصل من الأشياء الكثيرة شيء واحد إلا بعد صيرورتها علة واحدة لذلك الشيء لأن المعلول الواحد له علة واحدة
والتأليف هو جعل الأشياء الكثيرة شيئا يمكن أن نطلق عليه الواحد بوجه
فالمبادئ تتأدى إلى المطالب بالتأليف وكذلك قد يكون للمبادئ بالنسبة إلى المطالب
والتأليف المراد به في هذا الموضع لا يخلو
من أن يكون لبعض أجزائه عند البعض وضع ما وذلك هو الترتيب
ومن أن يعرض لجميع الأجزاء صورة أو حالة بسببها يقال لها واحد وهي الهيئة وهي متأخر بالذات عن الترتيب كما هو متأخرة عن التأليف
فإذن لا يخلو هذا الانتقال من ترتيب وهيئة للمبادئ التي ينتقل منها إلى المطالب أيضا ترتيب وهيئة على القياس المذكور
7 -
أقول صواب الترتيب في القول الشارح مثلا أن يوضع الجنس أولا ثم يقيد بالفصل
وصواب الهيئة أن يجعل للأجزاء صورة وحدانية يطابق بها صورة المطلوب
وصواب الترتيب في مقدمات القياس
أن تكون الحدود في الوضع والحمل على ما ينبغي
صفحة ١٢٥
وصواب الهيئة أن يكون الربط بينها في
الكيف
والكم
والجهة
على ما ينبغي
وصواب الترتيب في القياس أن تكون أوضاع المقدمات فيه على ما ينبغي
وصواب الهيئة أن يكون من ضرب منتج
والفساد في البابين أن يكون بخلاف ذلك
وقد أسند الإصابة وعدمها إلى الصور وحدها دون المواد لأن المواد الأولى لجميع المطالب هي التصورات
والتصورات الساذجة لا تنسب إلى الصواب والخطأ ما لم تقارن حكما
واستعمال المواد التي لا تناسب المطلوب لا ينفك عن سوء ترتيب وهيئة ألبتة
إما بقياس بعض الأجزاء إلى بعض
وإما بقياسها إلى المطلوب
أما المواد القريبة للأقيسة التي هي المقدمات فقد يقع الفساد فيها أنفسها دون الهيئة والترتيب اللاحقين لها
وذلك لما فيها من الترتيب والهيئة بالنسبة إلى الأفراد الأولى
8 -
أما باعتبار الصور وحدها
فالصواب هو القياس
والشبيه به هو الاستقراء لأنه انتقال من جزئيات إلى كليها كما أن القياس انتقال من كلي إلى جزئياته
والموهم أنه شبيه به هو التمثيل فإن إيراد الجزئي الواحد في التمثيل لإثبات الحكم المشترك يوهم مشاركة سائر الجزئيات له في ذلك حتى يظن أنه استقراء
وأما باعتبار المواد وحدها أعني القريبة فإن المواد الأولى لا توصف بالصواب أو غير الصواب كما مر
والصواب منها هو القضايا الواجب قبولها
والشبيه به من وجه
صفحة ١٢٦
المسلمات
والمقبولات
والمظنونات
ومن وجه آخر المشبهات بالأوليات
والموهم أنه شبيه به المشبهات بالمسلمات
وأما باعتبارهما معا فالصواب هو البرهان
والشبيه به الجدل والخطابة من وجه
والسفسطة من وجه
والموهم أنه شبيه به المشاغبة فإنها تشبه الجدل
كما أن السفسطة تشبه البرهان
والفاضل الشارح عد الجدل والخطابة في الصواب
وجعل الشبيه به المغالطة
والموهم أنه شبيه به المشاغبة
ويلزم على ذلك أن يكون الجدل من جملة الشبيه لأن المشاغبة توهم أنها جدل
9 -
أقول هذا إلى آخره رسم المنطق بحسب ذاته لا بالقياس إلى غيره
فالعلم جنسه والباقي من قبيل الخواص
وإنما أخر هذا الرسم إلى هذا الموضع لأن هذه الخاصة أعني الاشتمال على بيان الانتقالات الجيدة والردية لم تكن بينة
فلما بانت عرفه بها
وقوله يتعلم فيه في بعض النسخ يتعلم منه ضروب الانتقالات
والأول يقتضي حمل الضروب على الضروب الكلية التي هي كالقوانين وبيانها المسائل المنطقية
والثاني يقتضي حملها على جزئياتها المتعلقة بالمواد على ما هي مستعملة في سائر العلوم
وإنما قال علم يتعلم فيه ضروب الانتقالات
ولم يقل علم ضروب الانتقالات
صفحة ١٢٧
لأن المقصود من المنطق بالقصد الأول ليس هو أن تعلم ضروب الانتقالات بل المقصود هو الإصابة في الفكر كما تقدم
والعلم بالضروب إنما صار مقصودا بقصد ثان لأن الإصابة مفتقرة إلى ذلك
والفاضل الشارح أفاد أنه إنما قال للمنطق علم يتعلم منه ضروب الانتقالات
وللطب علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان لأن الجزئيات التي يستعمل المنطق فيها كليات في أنفسها هي العلوم
والجزئيات التي يستعمل الطب فيها أبدان جزئية لنوع الإنسان
وقد يخص العلم بالكليات والمعرفة بالجزئيات
10 -
أقول العلم بماهيات تلك الأمور معقولات أولى وبأحوالها معقولات ثانية وهي كونها ذاتية وعرضية ومحمولة وموضوعة ومتناسبة وغير متناسبة وما يجري مجراها
فالعلم بذلك مقصود ثالث يقصد لأن ضروب الانتقالات تعرف بذلك
11 -
أقول
فالأول هو الضروب المنتجة من القياسات البرهانية والحدود التامة
والثاني ما عداها مما يشتمل على فساد صوري أو مادي من الأقيسة والتعريفات المستعملة في سائر الصناعات ومما لا يستعمل أصلا لظهور فساده
والعجب أن الفاضل الشارح عد الجدل والخطابة في المستقيمة والاستقراء والتمثيل في غيرها
والعمدة في الخطابة التمثيل وفي الجدل الاستقراء على ما يتبين فيهما
صفحة ١٢٨
الفصل الأول إشارة
1 - أقول كل تحقيق أي كل تحصيل أو إثبات علمي
والتأليف أقدم من الترتيب بالذات كما مر
والترتيب أخص من التأليف لا بأن يوجد تأليف من أشياء لها وضع ما عقلا أو حسا من غير ترتيب فإن ذلك لا يمكن بل ربما لا يعتبر فيه الترتيب بل بأن الترتيب المعين يستلزم التأليف المعين والتأليف المعين لا يستلزم الترتيب المعين بل يستلزم ترتيبا ما مما يمكن وقوعه في تلك الأجزاء
مثلا التأليف من اب ج يمكن أن يقع على هذا الترتيب ويمكن أن يقع على ترتيب ب اج وغيره مما يمكن
والمراد أن كل تحقيق متعلق بترتيب يؤدي إليه بل كل تأليف فإنه يحوج إلى تعرف المفردات التي هي مواد الترتيب والتأليف لأن اختصاص الترتيب المعين بالتأدية إلى المطلوب دون ما عداه مما يمكن وقوعه فيها إنما يكون من قبيل تلك المواد ب وأحوالها
وليس المراد من قوله بكل تأليف ما يفهم منه أن كل واحد مما هو تحقيق موصوف بالتعلق بكل واحد من التأليفات المنتجة وغير المنتجة بل المراد منه أن كل تحقيق متعلق بترتيب بل بأي تأليف اتفق أنه كذا وكذا
وإنما قال كذلك ليعلم أن علة الاحتياج إلى تعرف المفردات ليست هي الترتيب بل أعم منه وهو التأليف
صفحة ١٢٩
2 - أي لا من حيث هي معقولات أولى وطبائع لأعيان الموجودات بل من حيث هي معقولات ثانية
فإن البحث عن المعقولات الثانية من حيث هي معقولات ثانية يتعلق بالفلسفة الأولى بل من حيث يتعلق منها إلى غيرها
3 -
أقول التأليف صنفان أول وثان
والأول يقع في الأحوال الشارحة وفي القضايا
وأجزاؤه مفردات تذكر أحوالها الصورية في إيساغوجي
والمادية في قاطيغورياس
والثاني يقع في الحجج وأجزاؤه قضايا هي مفردات بالقياس إليها ومؤلفات بالقياس إلى ما قبلها
وتذكر أحوالها
الصورية في بارار ميناس ويشتمل عليه النهج الثالث والرابع والخامس من هذا الكتاب
والمادية في أثناء مباحث الصناعات الخمسة ويشتمل عليها النهج السادس
صفحة ١٣٠
الفصل الثاني إشارة
1 - أقول للشيء وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في العبارة ووجود في الكتابة
والكتابة تدل على العبارة وهي على المعنى الذهني وهما دلالتان وضعيتان تختلفان باختلاف الأوضاع
وللذهني على الخارجي دلالة طبيعية لا تختلف أصلا فبين اللفظ والمعنى علاقة غير طبيعية فلذلك قال علاقة ما لأن العلاقة الحقيقية هي التي بين المعنى والعين
2 -
الانتقالات الذهنية قد تكون بألفاظ ذهنية وذلك لرسوخ العلاقة المذكورة في الأذهان فلهذا السبب ربما تأدت الأحوال الخاصة بالألفاظ إلى توهم أمثالها في المعاني وتتغير المعاني بتغيرها
والأغلاط التي تعرض بسبب الألفاظ مثل ما يكون باشتراك الاسم مثلا إنما تسري إلى المعاني لاشتمال الألفاظ الذهنية أيضا عليها
3 -
أي نظره في المعاني إنما يكون بالقصد الأول وفي الألفاظ بقصد ثان
ونظره في الألفاظ من حيث ذلك غير مقيد بلغة قوم دون أخرى هو معرفة حال إفرادها وتركيبها واشتراكها وتشكيكها وسائر أحوالها في دلالاتها كدخول السلب على الربط المقتضى للسلب وعكسه المقتضى للعدول وكذلك دخولهما على الجهة ودخول الجهة عليهما
صفحة ١٣١
وبالجملة سائر ما يذكر في شرائط النقيض والمغالطات اللفظية
4 -
يريد به ما يختص باللغة التي يستعملها المنطقي ويتغير به حال المعنى فإنه يلزمه أن يتنبه له وينبه عليه وذلك كدلالة لام التعريف في لغة العرب على استغراق الجنس وعموم الطبيعة ودلالة إنما هو على مساواة حدي القضية ودلالة صيغة السلب الكلي على المعنى المتعارف الذي يجيء بيانه
صفحة ١٣٢