228

تفسير ابن كثير

محقق

سامي بن محمد السلامة

الناشر

دار طيبة للنشر والتوزيع

الإصدار

الثانية

سنة النشر

١٤٢٠ هجري

تصانيف

التفسير
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ الْمُنَافِقُ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخَادِعًا، وَهُوَ لَا يُظْهِرُ بِلِسَانِهِ خِلَافَ مَا هُوَ لَهُ مُعْتَقِدٌ إِلَّا تَقِيَّةً؟
قِيلَ: لَا تَمْتَنِعُ (١) الْعَرَبُ أَنْ تُسَمِّيَ مَنْ أَعْطَى بِلِسَانِهِ غَيْرَ الَّذِي فِي ضَمِيرِهِ تَقِيَّةً، لِيَنْجُوَ مِمَّا هُوَ لَهُ خَائِفٌ، مُخَادِعًا، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، سُمِّيَ مُخَادِعًا لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ (٢) بِلِسَانِهِ تَقِيَّةً، مِمَّا تَخَلَّصَ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ (٣) وَالْعَذَابِ الْعَاجِلِ، وَهُوَ لِغَيْرِ مَا أَظْهَرَ، مُسْتَبْطِنٌ، وَذَلِكَ مِنْ فعلِه -وَإِنْ كَانَ خِدَاعًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا-فَهُوَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ خَادِعٌ، لِأَنَّهُ يُظْهِر لَهَا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ بِهَا أنَّه يُعْطِيهَا أُمْنِيَّتَهَا، ويُسقيها كَأْسَ (٤) سُرُورِهَا، وَهُوَ مُوَرِّدُهَا حِيَاضَ عَطَبِهَا، ومُجرّعها بِهَا كَأْسَ عَذَابِهَا، ومُزيرُها (٥) مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ مَا لَا قبَلَ لَهَا بِهِ، فَذَلِكَ خَدِيعَتُهُ نَفْسَهُ، ظَنًّا مِنْهُ -مَعَ إِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا فِي أَمْرِ مَعَادِهَا-أَنَّهُ إِلَيْهَا مُحْسِنٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ إِعْلَامًا مِنْهُ عِبَادَه الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِإِسَاءَتِهِمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِي إسْخَاطهم (٦) عَلَيْهَا رَبَّهُمْ بِكُفْرِهِمْ، وَشَكِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، غَيْرَ شَاعِرِينَ وَلَا دَارِينَ، وَلَكِنَّهُمْ عَلَى عَمْيَاءَ مَنْ أَمْرِهِمْ مُقِيمُونَ (٧) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ قَالَ: يُظْهِرُونَ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" يُرِيدُونَ أَنْ يَحْرِزُوا بِذَلِكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ (٨) .
وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ نَعْتُ الْمُنَافِقِ عِنْدَ كَثِيرٍ: خَنعُ الْأَخْلَاقِ يُصَدِّقُ بِلِسَانِهِ وَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَيُخَالِفُ بِعَمَلِهِ، يُصْبِحُ عَلَى حَالٍ وَيُمْسِي عَلَى غَيْرِهِ، وَيُمْسِي عَلَى حَالٍ ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفأ السَّفِينَةِ كُلَّمَا هبَّت رِيحٌ هَبَّ مَعَهَا.
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)﴾
قَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ قَالَ: شَكٌّ، ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ قَالَ: شَكًّا.
وَقَالَ [مُحَمَّدُ] (٩) بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمة، أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [فِي قَوْلِهِ] (١٠) ﴿: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ قال: شك.

(١) في جـ: "لا تمنع".
(٢) في أ، و: "ما أظهره".
(٣) في أ: "السبي".
(٤) في جـ: "بكأس".
(٥) في أ: "ويزيدها".
(٦) في جـ: "بإسخاطهم".
(٧) تفسير الطبري (١/٢٧٣) .
(٨) تفسير ابن أبي حاتم (١/٤٦) .
(٩) زيادة من و.
(١٠) زيادة من جـ.

1 / 178