179

تفسير ابن كثير

محقق

سامي بن محمد السلامة

الناشر

دار طيبة للنشر والتوزيع

رقم الإصدار

الثانية

سنة النشر

١٤٢٠ هجري

تصانيف

التفسير
عَبْلَةَ: "الحمدُ لُله" بِضَمِّ الدَّالِ وَاللَّامِ إِتْبَاعًا لِلثَّانِي الْأَوَّلَ وَلَهُ شَوَاهِدُ لَكِنَّهُ شَاذٌّ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ: "الحمدِ لِله" بِكَسْرِ الدَّالِّ إِتْبَاعًا لِلْأَوَّلِ الثَّانِيَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ الشُّكْرُ لِلَّهِ خَالِصًا دُونَ سَائِرِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، وَدُونَ كُلِّ مَا بَرَأَ مِنْ خَلْقِهِ، بِمَا أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا الْعَدَدُ، وَلَا يُحِيطُ بِعَدَدِهَا غَيْرُهُ أَحَدٌ، فِي تَصْحِيحِ الْآلَاتِ لِطَاعَتِهِ، وَتَمْكِينِ جَوَارِحِ أَجْسَامِ الْمُكَلَّفِينَ لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، مَعَ مَا بَسَطَ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ مِنَ الرِّزْقِ، وغذَّاهم بِهِ مِنْ نَعِيمِ الْعَيْشِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَمَعَ مَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ، مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى دَوَامِ الْخُلُودِ فِي دَارِ الْمُقَامِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَلِرَبِّنَا الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا.
[وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ ثَنَاءٌ أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي ضِمْنِهِ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُولُوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾] (١) .
قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، "ثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْحُسْنَى (٢)، وَقَوْلُهُ: الشُّكْرُ لِلَّهِ ثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ وَأَيَادِيهِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي رَدِّ ذَلِكَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ يُوقِعُونَ كُلًّا مِنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ مَكَانَ (٣) الْآخَرِ.
[وَقَدْ نَقَلَ السُّلَمِيُّ هَذَا الْمَذْهَبَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ وَابْنِ عَطَاءٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ كَلِمَةُ كُلِّ شَاكِرٍ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ لِابْنِ جَرِيرٍ بِصِحَّةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ شُكْرًا (٤)] (٥) .
وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتُهِرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْحَمْدَ هُوَ الثَّنَاءُ بِالْقَوْلِ عَلَى الْمَحْمُودِ بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْمُتَعَدِّيَةِ، وَيَكُونُ بِالْجَنَانِ وَاللِّسَانِ وَالْأَرْكَانِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً ... يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرُ الْمُحَجَّبَا
وَلَكِنَّهُمُ (٦) اخْتَلَفُوا: أَيُّهُمَا أَعَمُّ، الْحَمْدُ أَوِ الشُّكْرُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ مِنْ حَيْثُ مَا يَقَعَانِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، تَقُولُ: حَمدته لِفُرُوسِيَّتِهِ وَحَمِدْتُهُ لِكَرَمِهِ. وَهُوَ أَخَصُّ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ حَيْثُ مَا يَقَعَانِ عَلَيْهِ (٧)، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ (٨) وَالنِّيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَخَصُّ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ، لَا يُقَالُ: شَكَرْتُهُ لِفُرُوسِيَّتِهِ، وَتَقُولُ: شَكَرْتُهُ عَلَى كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيَّ. هَذَا حَاصِلُ مَا حَرَّرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّاد الْجَوْهَرِيُّ: الْحَمْدُ نَقِيضُ الذَّمِّ، تقول: حَمِدت الرجل أحمده حمدًا

(١) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(٢) في جـ، ط، أ، و: "بأسمائه الحسنى وصفاته العلى".
(٣) في جـ: "موضع".
(٤) تفسير القرطبي (١/١٣٤) .
(٥) زيادة من جـ، ط، أ، و.
(٦) في جـ، ط، ب، أ، و: "لكن".
(٧) في جـ، ط، ب، أ، و: "به".
(٨) في طـ، ب: "والفعل".

1 / 128