191

البحر المحيط في التفسير

محقق

صدقي محمد جميل

الناشر

دار الفكر

الإصدار

١٤٢٠ هـ

مكان النشر

بيروت

اللَّهُ تَعَالَى الْمَثَلَ بِالْمُسْتَوْقِدِ وَالصَّيِّبِ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لا بال لها، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، إِذِ اشْتَمَلَتْ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ مِنْ صِفَةِ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِوَفَاءِ الْعَهْدِ إِنَّمَا هُوَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَلَى الْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «١»، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ، وَكُلُّهُمْ كَانُوا فِي إيذائه ﷺ مُتَوَافِقِينَ. وَقَدْ نَصَّ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا ذِكْرَ ثَلَاثِ طَوَائِفَ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، قَالَهُ الْقَفَّالُ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، وَأَنَّ الْبَعُوضَةَ تَحْيَا مَا جَاعَتْ، فَإِذَا شَبِعَتْ وَامْتَلَأَتْ مَاتَتْ. كَذَلِكَ مَثَلُ أهل الدنيا إذا امتلأوا مِنْهَا كَانَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ، وَقِيلَ: ضَرَبَ ذَلِكَ تَعَالَى مَثَلًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَذْكُرَ مَا قَلَّ مِنْهَا أَوْ كثير لِيُجَازِيَ عَلَيْهَا ثَوَابًا أَوْ عقابا، وإلا ظهر فِي سَبَبِ النُّزُولِ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ، إِذْ قَدْ جَرَى قَبْلَ ذِكْرِ الْمَثَلِ بِالْمُسْتَوْقِدِ وَالصَّيِّبِ، وَنَزَلَ التَّمْثِيلُ بِالْعَنْكَبُوتِ وَالذُّبَابِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَهَلَةُ وَأَهْلُ الْعِنَادِ، وَاسْتَغْرَبُوا مَا لَيْسَ بِمُسْتَغْرَبٍ وَلَا مُنْكَرٍ، إِذِ التَّمْثِيلُ يَكْشِفُ الْمَعْنَى وَيُوَضِّحُ الْمَطْلُوبَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي فَائِدَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا «٢»، وَالْعَاقِلُ إِذَا سَمِعَ التَّمْثِيلَ اسْتَبَانَ لَهُ بِهِ الْحَقُّ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ الْأَمْثَالَ بِالْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ وَالْأَجْنَاسِ وَالْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ، وَلِسَانُ الْعَرَبِ مَلْآنُ مِنْ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي لَأَلْقَى مِنْ ذَوِي الضِّغْنِ مِنْهُمُ ... وَمَا أَصْبَحَتْ تَشْكُو مِنَ الْوَجْدِ سَاهِرَهُ
كَمَا لَقِيَتْ ذَاتُ الصَّفَا مِنْ حَلِيفِهَا ... وَمَا انْفَكَّتِ الْأَمْثَالُ فِي النَّاسِ سَائِرَهُ
فَذَكَرَ قِصَّةَ ذَاتِ الصَّفَا، وَهِيَ حَيَّةٌ كَانَتْ قَدْ قُتِلَتْ قُرَابَةَ حَلِيفِهَا، فَتَوَاثَقَا بِاللَّهِ على أنها تدي ذَلِكَ الْقَتِيلِ وَلَا تُؤْذِيهَا، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي ذَلِكَ الشِّعْرِ. وَالْأَمْثَالُ مَضْرُوبَةٌ فِي الْإِنْجِيلِ بِالْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ كَالنُّخَالَةِ وَالدُّودِ وَالزَّنَابِيرِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَرَأْتُ أَمْثَالًا فِي الزَّبُورِ. فَإِنْكَارُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ جَهَالَةٌ مُفْرِطَةٌ أَوْ مُكَابَرَةٌ وَاضِحَةٌ، وَمَسَاقُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُصَدَّرَةٌ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى التَّوْكِيدِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَحْيِي بِيَاءَيْنِ، وَالْمَاضِي: اسْتَحْيَا، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَاسْتَفْعَلَ هُنَا جَاءَ لِلْإِغْنَاءِ عَنِ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ: كَاسْتَنْكَفَ، واستأثر، واستبد، واستعبر،

(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ١٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٧.

1 / 194