166

البحر المحيط في التفسير

محقق

صدقي محمد جميل

الناشر

دار الفكر

رقم الإصدار

١٤٢٠ هـ

مكان النشر

بيروت

الْعُبُودِيَّةِ، وَرَفْعِ مَحَلِّهِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ تَعَالَى، وَاسْمُ الْعَبْدِ عَامٌّ وَخَاصٌّ، وَهَذَا مِنَ الْخَاصِّ:
لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
وَمَنْ قَرَأَ: عَلَى عِبَادِنَا بِالْجَمْعِ، فَقِيلَ: يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وأمته، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَصَارَ نَظِيرَ قوله تعالى: أن يقولوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا «١»، لِأَنَّ جَدْوَى الْمُنْزِلِ وَالْهِدَايَةَ الْحَاصِلَةَ بِهِ مِنِ امْتِثَالِ التَّكَالِيفِ، وَالْمَوْعُودِ عَلَى ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمَتْبُوعُونَ وَالتُّبَّاعُ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْمَجَازِ يُجْعَلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يُبَاشِرِ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا بِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ بَاشَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْوَحْيَ، وَالْكُتُبَ وَالرَّسُولُ أَوَّلُ مَقْصُودٍ بِذَلِكَ، وَأَسْبَقُ دَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ مُعَانِدُوهُ بِالتَّحَدِّي فِي كِتَابِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ خِطَابًا لِمُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ بَعْضِهِمْ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ «٢» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُفْرَدِ الْجَمْعُ. وَتُبَيِّنُهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ «٣»، فِي قِرَاءَةِ مَنْ أَفْرَدَ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ لِلْجِنْسِ.
فَأْتُوا بِسُورَةٍ: طَلَبَ مِنْهُمُ الْإِتْيَانَ بِمُطْلَقِ سُورَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّتِي أَقَلُّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ، فَلَمْ يَقْتَرِحْ عَلَيْهِمُ الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ طويلة فتعنتوا فِي ذَلِكَ، بَلْ سَهَّلَ عَلَيْهِمْ وَأَرَاحَ عَلَيْهِمْ بِطَلَبِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مَا، وَهَذَا هُوَ غَايَةُ التَّبْكِيتِ وَالتَّخْجِيلِ لَهُمْ. فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ وَلَا مُعَاضِدُوكُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَكَيْفَ تَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِكُمْ؟ وَكَيْفَ يَلْحَقُكُمْ فِي ذَلِكَ ارْتِيَابٌ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟
وَقَدْ تَعَرَّضَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا لِذِكْرِ فَائِدَةِ تَفْصِيلِ الْقُرْآنِ وَتَقْطِيعِهِ سُوَرًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فَوَائِدِ التَّفْصِيلِ وَالتَّسْوِيرِ. مِنْ مِثْلِهِ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى مَا، أَوْ عَلَى عَبْدِنَا، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَرُجْحَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِارْتِيَابَ أَوَّلًا إِنَّمَا جِيءَ بِهِ مُنْصَبًّا عَلَى الْمُنَزَّلِ لَا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّيْبُ فِي الْمُنَزَّلِ رَيْبًا فِي الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ، فَكَانَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي نظير هذه

(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٥٦.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٩١.
(٣) سورة ص: ٣٨/ ٤٥.

1 / 169