بالإمارة إلا قليلًا لَّما استعمله علىّ على البصرة، والحق: أن ابن عباس قد ظهر فيه النبوغ العربى بأكمل معانيه. علمًا، وفصاحة، وسعة اطلاع فى نواح علمية مختلفة، ولا سيما فهمه لكتاب الله تعالى. وخير ما يُقال فيه ما قاله ابن عمر رضى الله عنهما: "ابن عباس أعلم أُمَّة محمد بما نزل على محمد".
* *
*أسباب نبوغه:
ونستطيع أن نُرجِع هذه الشهرة العلمية، وهذا النبوغ الواسع الفيَّاض، إلى أسباب نجملها فيما يلي:
أولًا: دعاء النبى ﷺ له بقوله: "اللَّهم علِّمه الكتاب والحكمة"، وفى رواية أخرى: "اللَّهم فقِّهه فى الدين، وعلِّمه التأويل"، والذى يرجع إلى كتب التفسير بالمأثور، يرى أثر هذه الدعوة النبوية، يتجلى واضحًا فيما صح عن ابن عباس رضى الله عنه.
ثانيًا: نشأته فى بيت النبوة، وملازمته لرسول الله ﷺ من عهد التمييز، فكان يسمع منه الشئ الكثير، ويشهد كثيرًا من الحوادث والظروف التى نزلت فيها آيات القرآن.
ثالثًا: ملازمته لأكابر الصحابة بعد وفاة النبى ﷺ، يأخذ عنهم ويروى لهم، ويعرف منهم مواطن نزول القرآن، وتواريخ التشريع، وأسباب النزول، وبهذا استعاض عما فاته من العلم بموت رسول الله ﷺ، وتحدَّث بهذا ابن عباس عن نفسه فقال: "وجدتُ عامة حديث رسول الله ﷺ عند الأنصار، فإن كنتُ لآتى الرجلَ فأجده نائمًا، لو شئتُ أن يُوقَظ لى لأُوقظ، فأجلس على بابه تسفى على وجهى الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ، وأسأله عما أريد، ثم أنصرف".
رابعًا: حفظه للغة العربية، ومعرفته لغريبها، وآدابها، وخصائصها، وأساليبها، وكثيرًا ما كان يستشهد للمعنى الذى يفهمه من لفظ القرآن بالبيت والأكثر من الشعر العربى.
خامسًا: بلوغه مرتبة الاجتهاد، وعدم تحرجه منه، وشجاعته فى بيان ما يعتقد أنه الحق، دون أن يأبه لملامة لائم ونقد ناقد، ما دام يثق بأن الحق فى جانبه، وكثيرًا ما انتقد عليه ابن عمر جرأته على تفسير القرآن، ولكن لم ترق إليه همة نقده، بل ما لبث أن رجع إلى قوله، واعترف بمبلغ علمه، فقد روى أن رجلًا أتى ابن عمر يسأله عن معنى قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: ٣٠] .. فقال: اذهب إلى ابن عباس ثم تعال أخبرنى، فذهب
1 / 52