375

التفسير والمفسرون

الناشر

مكتبة وهبة

مكان النشر

القاهرة

تصانيف

وأخذ علمه منهم، وتتبع آثارهم، واطلع على جمله من أسرارهم، بحيث يحصل له المراس فى العلم والطمأنينة فى المعرفة، وانفتح عينا قلبه، وهجم به العلم على حقائق الأُمور، وباشر روح اليقين، وأنس بما استوحش منه الجاهلون، فله أن يستفيد من القرآن غرائبه، ويستنبط منه نُبذًا من عجائبه، وليس ذلك من كرم الله بغريب، ولا من جوده بعجيب، وليست السعادة وقفًا على قوم دون آخرين، وقد عدُّوا ﵈ جماعة من أصحابهم المتصفين بهذه الصفات من أنفسهم، كما قالوا: سلمان منا أهل البيت، فمَن هذه صفته لا يبعد دخوله فى الراسخين فى العلم، العالمين بالتأويل" (ص ١٢-١٣) .
ثم قال: وأما التفسير المنهى عنه، فقد نزَّله المحقق أيضًا على وجهين:
أحدهما: أن يكون للمفسِّر فى الشئ رأى وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأوَّل القرآن على وفق رأيه وهواه، ليحتج به على تصحيح غرضه ومدَّعاه، فيكون قد فسَّر القرآن برأيه، أى رأيه هو الذى حمله على ذلك التفسير، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه. وهذا كما أنه مع الجهل كأكثر تفاسير المخالفين مثلًا كذلك قد يكون مع العلم، كالذى يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أنه ليس المراد بالآية ذلك، ولكن يُلبِّس على خصمه، ومن هذا ما مرَّ من تأويلات الباطنية، وقد يصدر مثله عمن له غرض صحيح، لكن يطلب له دليلًا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به ذلك، كالذى يدعو مثلًا إلى مجاهدة القلب القاسى فيقول: قال الله تعالى: ﴿اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى﴾ [طه: ٢٤]، ويشير إلى قلبه ويومئ إليه أنه المراد بفرعون. قال ذلك المحقق: وهذا قد يستغله بعض الوعَّاظ فى المقاصد الصحيحة تحسينًا للكلام وترغيبًا للمستمع وهو ممنوع.
ثانيهما: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع والنقل عن الأئمة فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيها من الألفاظ المبهمة والمبدَّلة، وما فيها من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير، وفيما يتعلق بالناسخ والمنسوخ والخاص والعام والرخص والعزائم والمحكم والمتشابه ... إلى غير ذلك من وجوه الآيات المفتقرة إلى السماع إذ مَن بادر إلى استنباط المعانى فيها بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل فى زمرة مَن يفسِّر بالرأى، فلا بد له أولًا من السماع وظاهر التفسير ليتقى مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع التفهم والاستنباط، فإن ظاهر التفسير يجرى مجرى تعليم اللُّغة التى لا بد منها للفهم، ومن هذا القبيل قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ [الإسراء: ٥٩] .. فإن معناه: آبة مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها، والناظر إلى ظاهرة العربية يظن أن المراد أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن

2 / 44