تفسير العثيمين: من سورة محمد - ط مكتبة الطبري
الناشر
مجمع البحرين
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
مكان النشر
مكتبة الطبري (مصر)
تصانيف
تفسيرُ سُورة مُحَمَّد
* قال الله تعالى:
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (٢) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (٣) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤)﴾ [محمد: ١ - ٤].
التفسير
هذه السورة تُسمَّى سورة القتال، وتُسمَّى سورة محمد؛ وذلك لأنه ذُكِر فيها محمد ﷺ، وذُكِر فيها القتال.
يُبيِّن اللّه تعالى في هذه السورة أن الذين كفروا وصدُّوا عن سبيل الله أضلَّ الله أعمالهم؛ أذهبها سُدًى، والذين كفروا بماذا؟ كفروا بما يجب الإيمان به؛ كفروا باللّه، كفروا برُسُله، كفروا بكتبه، كفروا بملائكته، كفروا باليوم الآخر، كفروا بالقدر، إذا كفروا بأيِّ واحدٍ من هذه الأركان الستة فهم كفَّار، حتى لو آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض فهم كفَّار، قال اللّه ﵎: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾، فالإيمان
14 / 83
كلٌّ لا يتجزَّأ، من كفر بشيء منه فقد كفر به جميعًا، فيكون قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: كفروا بما يجب الإيمان به من الأركان الستة التي بيَّنها النبي ﷺ لجبريل.
هؤلاء الذين كفروا ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ صدوا أي: أعرضوا، أو صرفوا، إذا فسَّرناها بـ أعرضوا صار الفعل لازمًا، وإذا فسَّرناها بـ صرفوا صار الفعل مُتعدِّيًا، فعلى الأول يكون المعنى: أنهم هم أعرضوا عن سبيل اللّه، وعلى الثاني يكونون صرفوا عباد اللّه عن سبيل اللّه.
وهل يمكن أن نحمل الآية على المعنيين جميعًا؟
نعم، يمكن؛ لأن من قواعد التفسير: أن الآية إذا تضمَّنت معنيين لا يُنافي أحدهما الآخر وجب أن تُحمَل على المعنيين جميعًا؛ لأن ذلك أعمُّ وأشمل، وأبرأ للذِّمَّة وأحوط، وعلى هذا يكون هؤلاء الكفار قد أعرضوا بأنفسهم عن سبيل الله، وقد صرفوا أنفسهم عن سبيل اللّه، هؤلاء أضلَّ الله أعمالهم، مهما ظنوا أنهم على صواب فإنهم على خطإ، وهم أخسر الناس أعمالًا، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا﴾، ولما كان القرآن الكريم مثاني تُثنَّى فيه المعاني، فإذا ذُكِر الشيء ذُكِر ما يُقابِلُه، فإذا ذُكِر الحق ذُكِر الباطل، إذا ذُكِر الكافر ذُكِر المؤمن، إذا ذُكِر الثواب ذُكِر العقاب، حتى يبقى الإنسان سائرًا في منهاجه وتصرُّفاته بين الخوف والرجاء.
لما ذكر الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه أنه أضل أعمالهم، قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ الذين آمنوا بماذا؟ آمنوا بما يجب الإيمان به، آمنوا باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
قوله تعالى: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ عملوا الأعمال الصالحات، وما هي الأعمال الصالحات؟ قال العلماء: العمل الصالح هو المبني على شيئين: الأول: الإخلاص لله، والثاني: المتابعة لرسول اللّه ﷺ، وضده: العمل الفاسد، فما لم يُخلَص فيه للّه فهو عملٌ فاسدٌ، وما لم يُتَّبَع فيه رسول اللّه فهو عملٌ فاسدٌ، ودليل ذلك: قول النبي ﷺ فيما رواه عن ربه: "قَالَ اللّهُ تَعَالَى: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيْهِ مَعِيَ غيرِي ترَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"، ما الذي اختلَّ في هذا؟ الإخلاص، وقال النبي ﷺ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"، وفي لفظٍ: "مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ"، ما الذي اختلَّ من هذا؟ المتابعة.
14 / 84
ولا تتحقق المتابعة إلا إذا وافقت العبادةُ الشريعةَ في أمور ستة: السبب، والجنس، والكيفية، والقدْر، والزمان، والمكان.
فإذا تعبَّد الإنسان للّه عبادةً بسببٍ غير مشروعٍ، فالعبادة مردودة مُبتدَعة، يُنكَر على فاعلها أن يفعلها.
مثال ذلك: لو أن الإنسان كلما خرجت منه ريح حمِدَ اللّه، أو كلما تجشَّأ حمِدَ اللّه، فنقول: هذه العبادة غير موافقة للشرع؛ لأنك حمدتَ اللّه على سببٍ لم يجعله النبي ﷺ سببًا للحمد، لو فُرِض أن الإنسان أُصيبَ بانحباس الريح، ثم فتح اللّه له ذلك، فحينئذٍ تكون نعمة متجددة إذا حمد اللّه عليها فإن ذلك صحيح.
في جنسها: لو أن الإنسان ضحَّى يوم عيدٍ بفرسٍ، فإن هذه الأُضحية لا تنفعه، ولا تُجزِئ؛ لماذا؟ لأنها ليست من جنس ما يُضحَّى، مخالفة للشريعة في الجنس، ما الذي يُضحَّى به؟ بهيمة الأنعام؛ الإبل، والبقر، والغنم.
لو أن رجلًا صلى الفجر ثلاث ركعات أو أربع ركعات، قلنا: لا يصح هذا؛ لماذا؟ لأنها مخالفة للشريعة في القدْر.
لو أن أحدًا توضَّأ فغسل رجلَيْه، ثم مسح رأسه، ثم غسل يديه، ثم غسل وجهه، لم يصح وضوؤه؛ لماذا؟ للاختلاف في الكيفية.
لو أن رجلًا صام رمضان في رجب، أراد أن يُقدِّم، وقال: هذا من المسابقة إلى الخيرات؛ هل يُجزِئ؟ لا؛ لماذا؟ لأنه مخالفٌ في الزمن.
ولو ضحَّى يوم عرفة، فالأُضحية لا تُجزِئ؛ لأنها مخالفة في الزمن، ولو ضحَّى يوم عيد الأضحى قبل الصلاة، لم تُجزِئ؛ لأنه مخالف للزمن.
ولو اعتكف الإنسان في بيته بدلًا عن المسجد، لم تصح؛ لأنها مخالفة في المكان.
الرياء: أن يعمل الإنسان العمل لله، لكن يريد أن يمدحه الناس به، هو لا يصلي للناس، ولكن يصلي لله، إنما يريد أن يمدحه الناس، فيقال: هذا رجل مصلٍّ، يُنفق للّه، لكن يريد أن يمدحه الناس بالإنفاق، هذا مُراءٍ.
فما حكم الرياء إذا خالط العبادة؟
نقول: يفسد العبادة، ولا تُقبل منه؛ بل يأثم بها؛ لأنه أشرك باللّه، والشركُ لا يُغفَر ولو كان أصغر، لعموم قول اللّه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: الشرك لا يغفره اللّه ولو كان أصغر، ولكن لا يعني ذلك أن الشرك
14 / 85
الأصغر يُخلَّد صاحبُه في النار، الشرك الأصغر يُعذَّب صاحبُه بقدر ما عمل من الشرك، ثم يكون مآلُه إلى الجنة، الذي يُخلَّد فاعلُه في النار هو الشرك الأكبر، ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾، ومن الشرك: أن يعمل الإنسان العمل للدنيا، يُعلِّم ليأخذ الراتب، يكون إمامًا ليأخذ الراتب، ليس قصده أن يتقرَّب إلى الله بالأذان، ولا أن يتقرَّب إلى اللّه بالإمامة، ولكن من أجل أن يحصل على الراتب، هذا شرك؛ لأنه أراد بعمله الدنيا.
وقد قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ﵀ في "كتاب التوحيد" قال: بابٌ: من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا، وقد قال اللّه تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
هذه النقطة الأخيرة مشكلة؛ لأن كثيرًا من الأئمة، وكثيرًا من المؤذِّنين يقومون بذلك العمل من أجل الراتب، وهذا مُشكِل؛ فهل يعني ذلك أن يتخلَّى عن الأذان والإمامة؟ نقول: نعم، إذا كانت هذه نيَّتُه فليتخلَّى؛ لأن كونه يُصبحُ فقيرًا من المال خيرٌ من كونه يصبح فقيرًا من الإخلاص، ولكننا نقول قبل ذلك: صحِّح النية، انو أنك تتقرَّب إلى اللّه بالأذان وبالإمامة، ولكنك تأخذ ما رُتِّب على ذلك للتقوِّي عليهما، وعلى القيام بهما.
قال ابن تيمية ﵀ في مثل هذا: من أخذ مالًا ليحُجَّ به فلا حرج، ومن حجَّ ليأخذ المال، فليس له في الآخرة من خلاق، وهذا نحتاج إليه فيما يأخذه بعض الناس أيام الحج من الدراهم ليحُجَّ به عن غيره، فإننا نقول له: هل أنت أخذت هذه الدراهم لتحج بها، أو حججتَ لتأخذ الدراهم؟ إن كان الأول فلا حرج؟ لأنه من باب الاستعانة برزق اللّه على طاعة اللّه، وإن كان الثاني، ففيه الحرج؛ لأنه اتخذ الدين وسيلةً للدنيا، والعكس هو الصحيح؛ أن الدنيا هي التي تُتَّخذ وسيلة للدين.
يقول اللّه ﷿: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ﴾ بما هذه اسم موصول تشمل ما نُزِّل على محمد ﷺ من القرآن والسنة.
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ وهذه الجملة تدل على أن ما جاء به الرسول ﵊ حقٌّ، سواءٌ كان طلبًا أم خبرًا، وحينئذٍ نسأل: ما موقفنا من الطلب، وما موقفنا من الخبر؟
موقفنا من الطلب: الطاعة، أن نقول: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾، ونُنفِّذ إن كان أمرًا فعلنا، وإن كان نهيًا تركنا.
14 / 86
وموقفنا من الخبر: التصديق، أن نقول: آمنا وقبِلنا، وصدَّقنا.
ما ثواب هؤلاء الذين آمنوا بما نُزِّل على محمد؟
ثوابهم: قوله: ﴿كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾؛ أي: سيئات أعمالهم، ﴿وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ أي: حالهم وشأنهم، فجمع اللّه لهم بين أمرَيْن: بين إزالة السوء، وحصول الخير؛ إزالة السوء بتكفير السيئات، وحصول الخير بإصلاح الحال.
وقوله ﷿: ﴿كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ يبينه تمامًا قول النبي ﷺ: "الصَّلَوَاتُ الخَمْس، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنهَنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ"، وقوله ﷺ: "العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُما، وَالحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الجَنَّةَ".
قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ هذه الآية تعليلٌ لما قبلها، فمن اتبع الباطل - والعياذ باللّه - حصل له من الضلال بقدر ما يبتدعه من الباطل، فمن عصى اللّه فقد اتبع الباطل، ينقص من إيمانه بقدر معصيته، وينقص من هداه بقدر معصيته؛ لأنه إذا كان اتباع الحق سببًا للخير، فاتباع الباطل سبب للشر.
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثل هذا التبيين والتوضيح ﴿يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾.
ثم قال: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: في ميدان القتال ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ ضَرْب هنا مصدر بمعنى الأمر؛ أي: تضربوا رقابهم.
﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ﴾ في القتل، وأذللتموهم بالقتل، وأضعفتموهم بالقتل، فحينئذٍ شدُّوا الوثاق؛ أي: شدُّوا الوثاق منهم بالأسر، لا تأسِروهم قبل أن تُخثِنوهم بالقتل، أثخنوهم بالقتل حتى لا تقوم لهم قائمة، ثم بعد ذلك ائسِروهم، وإذا أسرتموهم ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ إلى متى؟ ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ نقول: حتى هنا للتعليل؛ أي: لأجل أن تضع الحرب أوزارها.
﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ الجملة هنا تفيد التخيير؛ يعني: إما أن تَمُنُّوا عليهم فتُطلِقوهم، وإما أن تُفادوهم بمال، أو منفعة، أو رجال.
بمال: بأن يُطلَب من الكافر المأسور أن يدفع فداءً، فيقال له: لا نُطلقك إلا أن تأتي بالمال.
أو بمنفعة: نقول: لا نُطلقك حتى تُصلِح الطريق لنا، تكون عاملًا مع العمال، كما فعل المسلمون في أسرى بدر؛ حيث فادَوهم بتعليم أبناء المسلمين الكتابة.
أو برجال: يكون عندهم أسرى منا، فنقول: أعطونا أسرانا نعطيكم أسراكم.
هذا التخيير هل هو تخيير تشهٍّ، أو تخيير مصلحة؟ تخيير مصلحة؟ يعني: لا يحل لمن يلي أمر المسلمين في هذا الشأن أن يتخيَّر إلا ما تقتضيه المصلحة، وهنا نأخذ ضابطًا في هذا المقام:
14 / 87
نقول: إذا كان المقصود بالتخيير للتيسير، فهو تشهٍّ، وإذا كان التخيير بالتصرُّف للغير، فهو مصلحيٌّ، ولي أمر المسلمين يُخيَّر بين هذا وهذا؛ هل هو للتيسير عليه، أو لمصلحة المسلمين؟ لمصلحة المسلمين، فيجب أن يختار ما هو أصلح من المال أو الافتداء.
إذا خيَّرنا وليَّ يتيم بين نوعين من التصرُّف، وقلنا لولي اليتيم أن يفعل كذا أو كذا، فما نوع هذا التخيير؟ يعني: يُخيَّر ولي اليتيم بين أن يفتح مُتَّجَرًا بمال اليتيم، وبين أن يعطيه شخصًا ثقة مُضاربة؛ ما نوع هذا التخيير؟ مصلحيٌّ، لكن لو قلنا لإنسان لزِمَته كفارة يمين: أطعِم عشرة مساكين، أو اكسُ، أو أعتِق رقبة، المقصود: التيسير، فهو تخيير تشهٍّ.
قال اللّه ﷿: ﴿ذَلِكَ﴾ يعني: الحكم ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ لو شاء الله ﷿ لانتصر من الكفار، وكفى المؤمنين القتال، ولكنه بحكمته جعل الأمر سجالًا بين المسلمين والكفار ليبلوا بعضهم ببعض، وإذا نظرنا إلى هذه السنة وجدنا أنها سنة مُضطردة، يبلوا الله الناس بعضهم ببعض، فينصر هؤلاء أحيانًا، وينصر هؤلاء أحيانًا، ولو شاء الله ﷿ لانتصر من الكفار، فأهلكهم وأبادهم جميعًا بكلمة واحدة، لكن هذا يفوت به مصالح كثيرة، منها: حكمة الله ﷿؛ لأن من حكمة اللّه أن تبقى الأرض بين مؤمن وكافر، لو كان الناس كلهم مؤمنين، لم يكن للإيمان تلك القيمة، لكن إذا كان هناك طريقان: طريق كفر، وطريق إيمان هنا يتبيَّن ويتميَّز فضل الإيمان، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لسُدَّ باب الجهاد، لو كان كل الناس مُطيعين انقفل باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه لا منكر، وحينئذٍ لا نهي عن منكر، ولا إخلال بمعروف، وحينئذٍ لا أمر بالمعروف، ولكن من حكمة الله ﷿ أن جعل العباد منهم مؤمن ومنهم كافر ليبلوا بعضهم ببعض: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾.
14 / 88